6
ألمس فيه النزاع بين نداء العقل ونداء القلب، بين السكون والحركة، والوفاق والتنافر، الظاهر والباطن، في مشاهد التاريخ الإنساني، بين نظر العلم ونظر التاريخ إلى مشاهد الكون، وقد ذكر تلميذه جرشوي أن الرجل تأثر كثيرا بما أصاب الآمال العظيمة التي عقدها الأحرار على عالم ما بعد الحرب الكبرى الأولى في الفترة التي توسطتها سنة 1930، فالعلاقات بين الشعوب تسير إذ ذاك من سيئ إلى أسوأ، وقضية الحرية بائرة في أكثر البلاد، والأزمة الاقتصادية قد عمت العالم بأسره، فكانت سنوات خوف وجوع، هذا إلى ما عاناه هو شخصيا إذا ذاك من علل الجسم والأعصاب.
7
ولكن كان للرجل من قوة اليقين وعمق الفكرة وسعة الاطلاع على غابر الإنسانية، ما مكنه من التغلب على قنوطه، فتمالك على نفسه، وكان من بين آخر ما كتب «السبيل إلى عالم أفضل».
8 «والمدينة الفاضلة» بين كتب بيكر واسطة العقد، فيه مذهبه في التاريخ أكمل ما يكون مذهب تطبيقا، وفيه أسلوبه أكمل ما كان، وفيه الحيرة والتساؤل كما فيه أسس اليقين والرجاء، وفيه القرن الثامن عشر مستقرا أتم ما يكون الاستقرار بين الماضي والمستقبل، فيه - في الواقع - شيء من كل ما كتب فيه بيكر.
وقد خصص بيكر لمذهبه في التاريخ خطبة الرياسة التي ألقاها في الاجتماع السنوي للجمعية التاريخية الأمريكية (يناير سنة 1932)، واتخذ لخطبته العنوان: «كل إنسان مؤرخ»، بين فيها أن ما يفعله المؤرخ هو ما يفعله الإنسان في تصريف شئونه العادية، فالرجل حين يهم بعمل ما، يستحضر شيئا من الماضي يدمجه في حاضره ليسترشد به، وفي نفس الوقت يدمج أيضا شيئا من المستقبل المتوقع في حاضره، فالحاضر - وهو ما سماه الحاضر الكاذب - يتكون دائما من ماض وحاضر ومستقبل، ونفى في خطبته هذه وجود «معايير» مطلقة، وأكد أن الأحكام دائما إضافية إلى زمانها ومكانها، وقد عاد بيكر للموضوع في نقده لكتاب ويلز المشهور في معالم تاريخ الإنسانية.
9
وكانت أشد مؤلفاته سوادا «حريات جديدة بدلا من حريات قديمة»، «وحرية القول»، «ومبادئ الأحرار، أهي مرحلة جاوزتها الإنسانية» (سنة 1932)،
10
تساءل فيها: أحق أن الحرية انتهى زمانها؟ أحق أن ليس أمام الإنسانية إلا الاختيار بين الحرية والمساواة؟ أحق أننا إن آثرنا المساواة فلا مناص من التسليم بما يجري في بعض البلاد من كبت للحرية في سبيل تحقيق المساواة؟ أحق أن الإنسان لا يأبه - في الواقع - للحرية إن ضمن العيش وترك له أن يتصرف في جده ولهوه طبقا لسنن آبائه ومجتمعه وعشيرته؟
صفحة غير معروفة