وإذا لم تحمل امرأة من رجل معين، فإنها تستبدل به رجلا آخر، وإذا وجد أنها عاقر، فيمكنها أن تصحب أي رجل تشاء، ولكنها تحرم من الشرف الذي يمنح للنساء المتزوجات، سواء في الموائد المشتركة أو في المعبد، ويتم هذا لمنع أي امرأة من أن تجعل نفسها عقيما لكي تمارس الجنس على هواها.
وتشارك النساء في «مدينة الشمس» في الأعمال التي يقوم بها الرجال، وإن كن يكلفن بمهام أخف. ويتدربن على استعمال السلاح تحت إشراف أساتذتهن من المعلمين والمعلمات، وذلك لكي يتمكن «في حالة الضرورة» من مساعدة الرجال في المعارك الدائرة بالقرب من المدينة.
وتؤدي التدريبات العسكرية دورا مهما في حياة سكان «مدينة الشمس»، ولكنهم لا يشتبكون في حروب تستهدف غزو بلاد أخرى. فهم لا يشنون الحرب (التي يخرجون منها دائما منتصرين) إلا إذا تعرضوا للإهانة أو تعرضت مدينتهم للسلب والنهب، وهم كذلك يبادرون إلى مساعدة الأمم التي تعاني من اضطهاد أحد الطغاة، لأنهم يدافعون دائما عن الحرية. وهم على النقيض من مواطني جمهورية أفلاطون، لا يحتقرون الأمم التي تقل عنهم استنارة، وإنما يؤمنون بأن «الأرض كلها سوف تحتذي بهم في الوقت المناسب وتعيش عيشة متفقة مع عاداتهم وتقاليدهم، ولهذا يحرصون دائما على البحث عن الأمم التي تتفوق على غيرها في الفضل والتقدم.»
وتحظى الزراعة منهم بالتقدير العظيم ويتبعون فيها الأساليب العلمية. وعلى الرغم من وجود عدد قليل من ضعاف العقول المنصرفين تماما إلى الأعمال الزراعية، فإن جميع مواطني المدينة يقومون بالعمل في الحقول. وهم يمضون إلى أعمالهم مدججين بالسلاح «رافعين الأعلام زاحفين على أصوات الطبول والأبواق» ... ولا يتركون شبرا واحدا من الأرض بغير حرث، ويستخدمون عربات مزودة بأشرعة تدفعها الرياح حتى ولو كانت تهب في اتجاه عكسي، وذلك بواسطة اختراع عجيب لعجلات تدور داخل عجلات.
وهناك إلى جانب هذا عدد آخر من الاختراعات الطريفة في مدينة الشمس. وتعد يوتوبيا كامبانيلا أول اليوتوبيات التي أعطت دورا قياديا للعلوم الطبيعية، كما أنها هي أول يوتوبيا تلغي عمل العبيد، وتعتبر أن العمل اليدوي، مهما بدا وضيعا، هو واجب مشرف. ومع ذلك فإن الحرية في «مدينة الشمس» قليلة، كما في غيرها من اليوتوبيات. ويمكن أن يحكم على النساء بالموت إذا ثبت أنهن يستعملن أدوات الزينة أو يلبسن أحذية بكعوب عالية، بالإضافة إلى أن الجرائم التي ترتكب في حق حرية الجمهورية، أو تقترف في حق الذات الإلهية أو القضاة الكبار يعاقب عليها كذلك بالإعدام. ومع ذلك كله فإن كامبانيلا، وهذا أمر طبيعي، يلغي السجون كما يحرم التعذيب في مدينته المثالية. (4) فالنتين أندريا (1586-1654م): «مدينة المسيحيين»
نشرت «مدينة المسيحيين» لأندريا في عام 1619م، أي بعد سبعة عشر عاما فقط من كتابة كامبانيلا لمدينة الشمس، ومع هذا فهي أشبه بيوتوبيات الإصلاح الاجتماعي في القرن التاسع عشر، منها بيوتوبيا راهب كالابريا. ويشترك فالنتين أندريا، الباحث والعالم الإنساني الألماني، في أمور كثيرة مع صاحب مصانع القطن والمصلح الكبير روبرت أوين،
53
وربما كان هذا هو السبب في أن مدينته المثالية تبدو أقرب إلى نفوسنا من الأحلام غير الواقعية لمور وكامبانيلا. ولا يكتب أندريا بخيال وأصالة واحد من أصحاب الرؤى، وإنما يناقش المشكلات التي عرفها معرفة حميمة، ولديه حلول مباشرة لها وهو لا يخلو من النبرة الوعظية والتبشيرية التي تميز معظم المصلحين. وقد وضع كتابه على هيئة رسالة موجهة لأولئك الذين يمكن أن يتمنوا اللجوء إلى مدينته المثالية، كما أن أسلوبه أقرب إلى أسلوب كتب التعبئة الروحية والمعنوية منه إلى القصة التي تهدف إلى الهدايا أو التسلية.
ولد أندريا في عام 1586م، وأتاح له شمول تعليمه وكثرة رحلاته أن يطلع اطلاعا واسعا على فكر عصر النهضة وكتابات علمائه وأدبائه. كانت الثورة المعرفية قد تحققت، وتم إلحاق الهزيمة بالمنهج الأرسطي، ولكن مهمة وضع منهج تربوي وتعليمي يحل محله لم تكن قد اكتملت بعد. وقد كرس أندريا معظم حياته لهذه المهمة، بل وضع مخططا لإصلاح النظام التربوي والتعليمي وهو لا يزال طالبا في الجامعة، ثم نشر بعد ذلك عددا من المؤلفات التربوية التي لقيت اهتماما كبيرا واستطاع - بوصفه معلما - أن يضع بعض أفكاره موضع التنفيذ، وأن يرسم أول برنامج للمدرسة الثانوية المنظمة تنظيما جيدا.
بيد أن اهتماماته الواسعة جاوزت مجال التربية والتعليم واتجهت لتخطيط مشروعات عامة للإصلاح الاجتماعي حاول كذلك أن يضعها موضع التنفيذ. ويخبرنا الأستاذ هيلد - الذي صدر ترجمته الإنجليزية ل «مدينة المسيحيين» بمقدمة بالغة الأهمية عن أعمال أندريا وتأثيره - أنه حاول، بعد أن أصبح عميدا وموجها عاما في مدينة «كالف» على نهر «ناجولد»، أن يؤسس نظاما اجتماعيا على غرار النظام الذي وصفه في مدينة المسيحيين: «لقد جعل من جماعة المؤمنين التي تضم رعايا كنيسته نقطة انطلاق أنشطته المتعددة، كما جعل من الأطفال موضوعه ومادته ثم امتدت جهوده إلى الطبقة العاملة في المدينة، سواء كانوا من أتباع كنيسته أو من خارجها. وأسس كذلك جمعية للتكافل الاجتماعي لرعاية عمال النسيج وورش الصباغة ودعمها باكتتابات المتطوعين من رعاياه وأصدقائه.»
صفحة غير معروفة