مقدمة المترجمة
تصدير
مدخل بقلم المؤلفة
1 - يوتوبيات العصر القديم
2 - يوتوبيات عصر النهضة
3 - يوتوبيات الثورة الإنجليزية
4 - يوتوبيات عصر التنوير
5 - يوتوبيات القرن التاسع عشر
6 - اليوتوبيات الحديثة
ببليوغرافيا
صفحة غير معروفة
مقدمة المترجمة
تصدير
مدخل بقلم المؤلفة
1 - يوتوبيات العصر القديم
2 - يوتوبيات عصر النهضة
3 - يوتوبيات الثورة الإنجليزية
4 - يوتوبيات عصر التنوير
5 - يوتوبيات القرن التاسع عشر
6 - اليوتوبيات الحديثة
ببليوغرافيا
صفحة غير معروفة
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
تأليف
ماريا لويزا برنيري
ترجمة
عطيات أبو السعود
مراجعة
عبد الغفار مكاوي
لولا يوتوبيات العصور الأخرى، لظل الناس يعيشون في الكهوف عرايا بؤساء. إن اليوتوبيات هي التي رسمت خطوط المدينة الأولى، ومن الأحلام السخية تأتي الوقائع النافعة. إن اليوتوبيا هي مبدأ كل تقدم، وهي محاولة بلوغ مستقبل أفضل.
أناتول فرانس
صفحة غير معروفة
إن الاشتراكية الحديثة تبدأ مع اليوتوبيا.
كاوتسكي
إن حقلا في ميدلسكس لأفضل من إمارة في يوتوبيا.
لورد ماكولي
ليست هناك يوتوبيا تبلغ من الشر حدا يمنعها من أن تقدم بعض المزايا المؤكدة.
أوجست كونت
ينظر إلى اليوتوبيات بوجه عام على أنها غرائب أدبية أضفت عليها الاحترام أسماء مشهورة، أكثر مما ينظر إليها بوصفها إسهامات جادة في المشكلات السياسية التي أقلقت العصر الذي ظهرت فيه.
ه. ف. رسل
إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا، لا تستحق حتى مجرد النظر إليها، لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية دائما إليه. وعندما ترسو على شاطئه، تتلفت في الأفق، فإذا لمحت بلدا آخر، انطلقت مبحرة إليه. إن التقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع.
أوسكار وايلد
صفحة غير معروفة
لا نريد أن نحيا في يوتوبيا، تلك المروج التي تقع تحت الأرض، ولا على جزيرة سرية يعلم الله وحده أين تكون. بل في هذا العالم نفسه، الذي هو عالمنا أجمعين، هذا المكان الذي نجد فيه سعادتنا في آخر المطاف، أو لا نجد شيئا على الإطلاق.
وليم وردزورث
مقدمة المترجمة
كان توماس مور
Thomas More (1478-1535م) هو أول من صاغ كلمة يوتوبيا أو «أوتوبيا» في نطقها اليوناني. وقد اشتقها من الكلمتين اليونانيتين
Ou
بمعنى «لا» و
Topos
بمعنى «مكان»، وتعني الكلمة في مجموعها «ليس في مكان»، ولكنه أسقط حرف
O
صفحة غير معروفة
وكتب الكلمة باللاتينية لتصبح
Utopia ، ووضعها عنوانا لكتاب له هو أشهر يوتوبيا في العصر الحديث.
واستخدم اللفظ منذ ذلك الحين في كل اللغات الأوروبية، وفي ترجمته العربية أيضا، ليعني نموذجا لمجتمع خيالي مثالي يتحقق فيه الكمال أو يقترب منه، ويتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية، ولا يوجد مجتمع كهذا في بقعة محددة من بقاع الأرض، بل في أماكن وجزر متخيلة، وفي ذهن الكاتب نفسه وخياله قبل كل شيء. وأصبح للكلمة فيما بعد معان كثيرة غير التي استخدمها مور، فصارت تطلق على كل إصلاح سياسي أو أي تصورات خيالية مستقبلية، أو احتمالات علمية وفنية. ولكن تظل اليوتوبيا تصورا فلسفيا ينشد انسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع مجتمعه. فالفكر اليوتوبي معني في الدرجة الأولى بخلق أفكار وتصورات للانسجام الاجتماعي، وهو يصدر عن الخيال الأدبي أو التصور الفلسفي، ويختلف كل الاختلاف عما يسمى في عصرنا بعلوم المستقبل التي تقوم على التخطيط العلمي والرياضي للمستقبل، على أساس الإمكانات الكامنة في الواقع الراهن.
وقد تنوعت النماذج اليوتوبية، فتم التعبير عنها في أشكال أدبية مختلفة، منها المقالة والقصة والرواية والقصيدة، أو في شكل نظريات سياسية تقدم صورة نظام سياسي نموذجي بمؤسساته المختلفة، مع تصور كامل لكل تنظيمات الحياة (كما عند توماس مور) أو في بعض نظريات فلسفة التاريخ (كما عند كوندورسيه).
ويلعب الخيال الدور الأكبر في كل الأشكال والمشروعات اليوتوبية بدءا من جمهورية أفلاطون (وهي النموذج الأول لكل اليوتوبيات)، وانتهاء بروايات الخيال العلمي. ولكن الأفكار والخيالات والأحلام اليوتوبية لم تكن غير استجابات مختلفة للمجتمعات التي نشأت فيها، فكانت تعبيرا عن الرغبة في تغيير الواقع القائم وتجاوزه، والحلم بحياة ومجتمع أفضل وأكثر عدلا، ولذلك لا يمكن فهم التفكير اليوتوبي قديمه وحديثه حتى نضعه في سياق التطور التاريخي والاجتماعي، لنعرف أنه كان صرخة احتجاج على أوضاع وظروف اجتماعية ظالمة وفاسدة. ولم تجد الغالبية العظمى من المشروعات اليوتوبية طريقها إلى التطبيق، والقليل النادر الذي طبق منها كان مآله الإخفاق. ومع ذلك لم يكف الخيال البشري عن الحلم بواقع إنساني أفضل، ولن يتوقف عنه في يوم من الأيام. •••
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن المؤلفة قد ألقت الضوء على جذور التفكير اليوتوبي، وتتبعت رحلته الشاقة والمشوقة بدءا من أفلاطون إلى العصر الحاضر. ومما يزيد من أهميته أن المؤلفة تناولت بعض اليوتوبيات التي كادت تسقط في أعماق النسيان، كما تعرضت لتلك التي لم يلتفت إلى أهميتها في عصرها ولا في العصور اللاحقة. وعلى الرغم من ارتباط الكتاب بظروف تأليفه (أي في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، والانتصار على النازية والفاشية، والكشف عن فظائع الشمولية الستالينية) فإنه لا يزال يحتفظ بقيمته وأهميته في الأدبيات اليوتوبية التي توالت بعد ذلك في صور وأشكال لا حصر لها. •••
ولدت مؤلفة الكتاب ماريا لويزا برنيري بالقرب من فلورنسا بإيطاليا عام 1918م. وبعد مولدها بثماني سنوات فرت مع عائلتها إلى فرنسا، هربا من اضطهاد الفاشية الإيطالية. وهناك قضت أحد عشر عاما، درست خلالها علم نفس الطفل بجامعة السوربون، وظهرت اهتماماتها بالقضايا السياسية والاجتماعية، ثم انتقلت إلى لندن التي عاشت فيها ومارست العمل الصحفي والإذاعي والسياسي، حتى وفاتها المفاجئة عام 1949م. وقد انصب اهتمامها بشكل خاص على مظاهر الثورة الاجتماعية والحركات الفوضوية، ونشرت كتابها عن «العمل في روسيا الستالينية» عام 1944م، كما كتبت أيضا عن الثورة الإسبانية، وإن لم يسعفها الأجل لاستخلاص النتائج التي تمخض عنها الصراع الطويل مع دكتاتورية فرانكو الفاشية، ثم عكفت على إنجاز هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ولكن لم يمهلها القدر لتراه في طبعته الأولى، التي كتب تصديرها أستاذ الفلسفة السياسية والاجتماعية جورج وودكوك. وما زال الكتاب يعاد طبعه حتى الآن، نظرا لأهمية موضوعه ودقة تناوله لأبرز اليوتوبيات، والطبعة التي اعتمدت عليها في هذه الترجمة هي طبعة سنة 1986م.
وقد كان المشروع الأصلي للكتاب هو تقديم أهم النصوص اليوتوبية التي تعد علامات أساسية على طريق الفكر اليوتوبي، غير أن المؤلفة آثرت الجمع بين أكبر قدر ممكن من النصوص وبين التحليل والتفسير والنقد، وهو الشيء الذي لم توفق فيه دائما، إذ أسرفت في كثير من الأحيان في اقتباس النصوص غير المعروفة وغير المتاحة، على حساب التحليل والنقد والتقييم. ويقدم الكتاب نماذج من مجتمعات يوتوبية متنوعة، ربما يتشابه بعضها في جوانب عديدة مع البعض الآخر، وربما تختلف الظروف والرؤى اليوتوبية فيها اختلافا بينا، وتتنوع اجتهادات أصحابها في تقديم الحلول لمشاكل مجتمعاتهم. ولكن العامل المشترك الذي يجمع معظم هذه اليوتوبيات هو طابع الشمولية وإلغاء الفردية وقهر الحرية في مجتمعات يفترض أنها مثالية، في حين أن حرية التفكير والتعبير واحترام الفرد هما أساس المجتمع الأفضل وغاية الإنسان في كل زمان ومكان.
وربما يخرج القارئ في نهاية الكتاب بانطباع يائس عن اليوتوبيا وتحولاتها ومصيرها، غير أن هذا يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن الكتابات اليوتوبية تقع في خطأ فادح عندما تتوهم أنها تقدم لنا تصورات نهائية عن مجتمعات كاملة ومنظمة بشكل آلي، لأنها ستكون بالتأكيد مجتمعات مغلقة وخانقة وخالية من نسمات الحرية. وربما يكون من أهم الدروس المستفادة من هذه الرحلة في أرجاء المجتمعات اليوتوبية أنه ليس هناك مجتمع أو تصور يوتوبي كامل أو تام من كل ناحية، بحيث يمكن تطبيقه على كل المجتمعات وفي كل مكان أو زمان. فلكل عصر متطلباته، ولكل مجتمع احتياجاته المتجددة باستمرار، مما يحتم على الكتاب اليوتوبيين أن يقدموا رؤى وتصورات لمجتمع قابل للتجدد.
وأخيرا لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر إلى أستاذي الدكتور عبد الغفار مكاوي على الجهد الذي بذله في المراجعة الدقيقة، ومساعدته في توضيح ما غمض علي من نصوص، كما أتوجه بالامتنان والتقدير إلى أسرة «عالم المعرفة» ومستشارها الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، على إتاحة الفرصة لخروج هذا العمل إلى النور.
صفحة غير معروفة
عطيات أبو السعود
القاهرة
مايو 1996م
تصدير
بقلم جورج وودكوك
أخذت ماريا لويزا برنيري على عاتقها أن تقدم، في «المدينة الفاضلة عبر التاريخ»، وصفا وتقييما نقديا لأهم الكتابات اليوتوبية (وسيلاحظ القارئ أنها لا تعني بالضرورة أشهرها)، منذ أضفى أفلاطون، في «جمهوريته»، شكلا أدبيا على أحلام العصر الذهبي والمجتمعات المثالية التي لازمت الإنسان بغير شك ، منذ أن بدأت المناقشات الواعية للمشاكل الاجتماعية. وأعتقد أن من الضروري استعادة بعض الوقائع على سبيل الذكرى في بضع كلمات لتفسير الشكل الذي اتخذه الكتاب. ففي عام 1948م، عندما طرحت دار النشر على المؤلفة مشروع جمع مقتطفات من اليوتوبيات الشهيرة، وافقت على أن تتولى عملية الاختيار، ولكنها أكدت أن الخطة الأصلية التي قدمت إليها لم تكن كافية؛ إذ إن اليوتوبيات الشهيرة متاحة بصورة أو أخرى للقراء الحريصين على الاطلاع عليها، وأن ما هو مطلوب حقا لم يكن جمع النصوص فحسب، وإنما هو كتاب يجمع المعلومات والتعليق عليها، فيقدم نماذج مسهبة، ويناقش في نفس الوقت النصوص، ويربط بينها بطريقة توضح تطور الفكر اليوتوبي، وتبين مكانته في تاريخ الأوضاع والأفكار الاجتماعية. ووافقت دار النشر على الفكرة مع تعديلات طفيفة، فشرعت، بدقتها المعهودة، في استقصاء اليوتوبيات المجهولة والمعروفة على حد سواء. وسوف يدرك القارئ مدى نجاحها في هذه المهمة حتى لو ألقى نظرة سريعة على هذا الكتاب وثبت مراجعه، وسوف يرى القارئ أيضا أن بعض اليوتوبيات التي انتشلتها من غياهب النسيان، مثل يوتوبيا جابرييل دي فوانيي
Gabriel De Foigny ، تجمع بين الطرافة الأدبية والأهمية الفكرية باعتبارها تأملات في التيارات الاجتماعية السائدة في عصرها. وفي بعض الحالات التي لم تتوافر فيها ترجمة إنجليزية لهذه اليوتوبيات، اضطرت ماريا لويزا برنيري إلى القيام بترجمتها بنفسها عن اللغة الفرنسية أو الإيطالية، كما حدث في حالة «ملحق رحلة بوجانفيل» لديدرو، و«رحلة إلى إياكاريا» لكابيه. أما فيما يتعلق «بمدينة الشمس» لكامبانيلا، فقد أعدت المؤلفة ترجمة جديدة عن الأصل الإيطالي الذي سبق النسخة اللاتينية ببضع سنوات، واعتمد عليه المترجم الإنجليزي الذي سبق أن ترجمها. وبقدر اطلاعي على الكتب العامة التي صدرت عن اليوتوبيات حتى الآن، أستطيع أن أؤكد أنه ليس بينها كتاب واحد يعدل هذا الكتاب في اتساع نطاقه أو في الجهد الذي بذل فيه لتقديم الموضوع بهذه الصورة الحية الشائقة.
وقد أكدت ماريا لويزا برنيري، في عرضها لليوتوبيات، الطابع التسلطي غير المتسامح لمعظم هذه الرؤى، بحيث إن الاستثناءات مثل يوتوبيات موريس ، وديدرو ودي فوانيي، لا تشكل إلا أقلية ضئيلة جدا. وقد أشارت المؤلفة كذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن الماركسيين، على الرغم من ادعائهم العلمية على النقيض من الاشتراكيين اليوتوبيين، فإن تجاربهم الاجتماعية الفعلية كانت تنتهي من الناحية العلمية إلى التصلب في بنية متحجرة بصفة عامة، بل تبنت كثيرا من الملامح المؤسسية الفردية التي اتسمت بها اليوتوبيات الكلاسيكية. ومن حسن الحظ أن العبر المستخلصة من هذا التطور لم تغب عن أذهان الناس في أيامنا هذه، سواء أكانوا مثقفين أم عمالا. إن رؤى المستقبل المثالي، الذي يتم فيه تنظيم وتحديد كل فعل بعناية فائقة ويدمج في دولة نموذجية، كما هي الحال في مشروعي كابيه وبيلامي اليوتوبيين، هذه الرؤى لم تعد تتمتع بشعبيتها السابقة، ومن المستحيل اليوم أن يحرز أي كتاب منها الشهرة التي حققتها يوتوبيا «التطلع للوراء» لبيلامي في نهاية القرن التاسع عشر. ومن الأمور التي لها دلالتها أن الكتاب الواعين بالشرور الاجتماعية في عصرنا لا يكتبون فحسب يوتوبيات مضادة؛ لتحذير الناس من أخطار التمادي في تنظيم الحياة تنظيما صارما، بل إن كتبهم تتمتع بنفس الشعبية التي تمتعت بها الرؤى الهزيلة التي قدمت قبل عام 1914م عن جنة الاشتراكية.
ومنذ أن وضع كتاب «رحلة مع اليوتوبيا»، صدر كتابان مهمان في هذا الموضوع كان من الممكن بلا شك أن تشير إليهما ماريا لويزا برنيري، لو قدر لها أن تبقى على قيد الحياة. وأحد هذين الكتابين هو «الفرد والماهية» لأولدس هكسلي، وهو رؤية فاجعة للمستقبل، بعد الحرب النووية، عندما يتحول سكان كاليفورنيا إلى عبدة الشيطان، ويقيمون مجتمعا عقيدته الكراهية والحقد. إنه كتاب يحتل مكانته في التراث اليوتوبي، ويؤكد الدرس المستفاد منه لعصرنا الحاضر تأكيدا يفوق في ضراوته اليوتوبيا المضادة السابقة لنفس المؤلف، وهي «عالم طريف شجاع». أما اليوتوبيا المضادة الثانية فهي رؤية «عام 1984» لجورج أورول، وهي رؤية أكثر عنفا من الرؤية السابقة لعالم دمرته السلطة، كما أنها توشك أن تكون هي النتيجة المنطقية لجمهورية أفلاطون، ولكل اليوتوبيات الأخرى المعادية للفردية الإنسانية. وفي رواية «مهبط الطائرات رقم 1» لأورول تتحطم الفردية بصورة نهائية. بل إن التفكير نفسه ينظم فيها تنظيما لم يكن ليتصوره واحد من اليوتوبيين المبكرين. وربما استطعنا أن نتخيل مقدار السعادة التي كان يمكن أن يشعر بها أحد اليوتوبيين المتسلطين في الماضي، وهو يضع يده على أسلوب يمكنه من خلق فكر موحد، لأن كل هذه الأشياء كانت في تلك الأيام بعيدة جدا عن أن تكون موضوع رؤى تأملية مريحة. أما في أيامنا فقد أطبقت علينا الكوابيس، وتجسدت يوتوبيات الماضي من حولنا، وبدأنا ندرك في النهاية أن أكثر هذه المشروعات اليوتوبية إغراء في مظهره لا بد أن يتحول بالضرورة إلى سجن رهيب، ما لم يقم على أساس ثابت ومأمون من الحرية الفردية، كما هي الحال في ذلك الاستثناء الرائع، وهو يوتوبيا وليم موريس «أخبار من لا مكان».
إن أهمية كتاب ماريا لويزا برنيري لا تقتصر على الجانب الأكاديمي وحده. فهو ليس مجرد جمع ونقد لليوتوبيات، ولكنه في واقع الأمر يقدم، بأسلوب مدهش، العلاقة الوثيقة والحتمية التي تربط بين التفكير اليوتوبي والواقع الاجتماعي، كما يحتل مكانه بين الكتب المهمة التي ظهرت في السنوات الأخيرة لكي تحذرنا، من وجهات نظر مختلفة، من المصير المشئوم الذي ينتظر أولئك الذين بلغ بهم الغباء إلى حد وضع ثقتهم في عالم شديد التنظيم والإحكام.
صفحة غير معروفة
مدخل بقلم المؤلفة
إن عصرنا هو عصر التسويات، والحلول الوسطى، والسعي لجعل العالم أقل شرورا. والحالمون من أصحاب الرؤى أصحاب موضع السخرية أو الاحتقار، و«الناس العمليون» هم الذين يحكمون حياتنا. لم نعد نبحث عن حلول جذرية لشرور المجتمع، بل لإصلاحه، ولم نعد نسعى لإلغاء الحروب، بل لتجنبها فترة تمتد سنوات قليلة، إننا لا نحاول إلغاء الجريمة، وإنما نكتفي بإصلاح القوانين الجنائية، ولا نحاول إلغاء المجاعة، بل نسعى لإنشاء مؤسسات خيرية عالمية على نطاق واسع. وعنما يعيش المرء في عصر ينشغل بكل ما هو عملي قابل للتحقق السريع، فربما يكون من المفيد أن يلجأ إلى الأشخاص الذين حلموا باليوتوبيات، ورفضوا أي شيء لا يتلاءم مع مثلهم الأعلى من الكمال.
سوف نشعر بالضعة عندما نقرأ عن الدول والمدن المثالية، لأننا سنتحقق من تواضع طموحاتنا، وفقر رؤانا. لقد دافع زينون عن النزعة العالمية، وعرف أفلاطون المساواة بين الرجال والنساء، ورأى توماس مور بوضوح العلاقة التي ينكرها الناس حتى اليوم بين الفقر والجريمة. وتبنى كامبانيلا، في بداية القرن السابع عشر، الدفاع عن نظام العمل اليومي المكون من أربع ساعات، وتحدث الباحث الألماني أندريا عن العمل الجذاب، واقترح نظاما للتعليم ما زال من الممكن أن يعد اليوم نموذجا يؤخذ به.
سنجد الملكية الخاصة تدان بشدة، والنقود والأجور تعتبر غير أخلاقية وغير عقلانية، والتكافل الإنساني يسلم به بوصفه حقيقة واضحة. وكل هذه الأفكار التي يمكن اعتبارها اليوم أفكارا جريئة، قد طرحها أصحابها بثقة كبيرة دلت على أنها، وإن لم تحظ بقبول عام في حينها، كان الناس على استعداد لفهمها. ونجد في أواخر القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر أفكارا أكثر إثارة وجسارة عن الدين والعلاقات الجنسية، وطبيعة الحكومة والقانون. وقد اعتدنا تصور أن الحركات التقدمية تبدأ مع القرن التاسع عشر، بحيث تصيبنا الدهشة عندما نجد أن انحلال التفكير اليوتوبي قد بدأ في ذلك الحين؛ إذ أصبحت اليوتوبيات، كقاعدة عامة، تتسم بالجبن، وأصبحت الملكية الخاصة والتعامل بالنقود في الغالب أمورا ضرورية. كما أصبح على البشر أن يعتبروا أنفسهم سعداء إذا عملوا ثماني ساعات يوميا، وصار من النادر أن يطرح السؤال عما إذا كان عملهم جذابا. أصبح النساء تحت وصاية الأزواج، والأطفال تحت وصاية الآباء. ولكن قبل أن تصاب اليوتوبيات بعدوى الروح «الواقعية» لعصرنا، كانت قد ازدهرت وتنوعت وازدادت ثراء بدرجة يمكن أن تثير فينا الشك في شرعية مزاعمنا عن تحقيق قدر معين من التقدم الاجتماعي.
وليس معنى هذا أن كل اليوتوبيات كانت ثورية وتقدمية. لقد كانت الغالبية العظمى منها تجمع بين الصفتين، ولكن القليل منها كان ثوريا بشكل كامل. كان الكتاب اليوتوبيون ثوريين عندما دافعوا عن مشاعية السلع في وقت كانت تعد فيه الملكية الخاصة مقدسة، وعن حق كل فرد في الحصول على لقمة العيش في وقت كان يشنق فيه الشحاذون، وكانوا ثوريين عندما دافعوا عن المساواة بين الرجل والمرأة في عصور كانت تعتبر فيها المرأة أفضل قليلا من العبيد، وعن كرامة العمل اليدوي الذي كان ينظر إليه على أنه عمل مهين أو مخز، وعن حق كل طفل في طفولة سعيدة وتعليم جيد، بعد أن كان ذلك الحق مقصورا على أبناء النبلاء والأغنياء. كل هذا ساهم في جعل كلمة يوتوبيا مرادفة للسعادة أو مرتبطة بها، وجعلها شكلا اجتماعيا مرغوبا فيه. وفي هذا المقام تمثل اليوتوبيا حلم الجنس البشري بالسعادة، واشتياقه الخفي للعصر الذهبي، أو لجنته المفقودة كما تصور البعض.
بيد أن هذا الحلم كانت له جوانبه المظلمة. فقد كان هناك عبيد في جمهورية أفلاطون، وفي يوتوبيا مور. وكانت هناك جرائم قتل جماعية للعبيد في أسبرطة ليكورجوس، وحروب، وإجراءات ونظم صارمة، وتعصب ديني، جنبا إلى جنب مع المؤسسات التنويرية إلى حد كبير. هذه الجوانب التي لم يلتفت إليها في الغالب المدافعون عن اليوتوبيات التي كانت تهدف إلى تحقيق الحرية الكاملة.
وهناك اتجاهان رئيسيان يتكشفان في الفكر اليوتوبي عبر العصور: اتجاه يبحث عن سعادة الجنس البشري من خلال الرفاهية المادية، وإذابة فردية الإنسان في المجموع وفي مجد الدولة. واتجاه آخر يتطلب درجة معينة من المادية، لكنه يعتبر أن السعادة هي نتيجة التعبير الحر عن شخصية الإنسان، ويجب ألا يضحي بها لأجل قانون أخلاقي استبدادي أو لمصالح الدولة. وتتطابق هاتان النزعتان مع التصورات المختلفة للتقدم، لأن اليوتوبيات المضادة للنزعة التسلطية تقيس التقدم، كما يرى هربرت ريد: «عن طريق درجة التمايز داخل المجتمع. فإذا كان الفرد وحدة في كتلة المجموع، فإن حياته لا تكون فظة وقصيرة فحسب، بل تكون كذلك حياة متبلدة وآلية. وإذا كان وحدة في ذاته، أي لديه المجال والإمكانية للعمل المستقل، فربما يكون أكثر خضوعا للمصادفة والحظ، ولكنه سيستطيع على الأقل أن ينمو ويعبر عن نفسه. وسوف يمكنه أن يتطور - بالمعنى الحقيقي الوحيد لكلمة التطور - في الوعي بالقوة والحيوية والبهجة.»
ولكن هذا، كما يؤكد أيضا هربرت ريد، ليس تعريفا للتقدم: «فهناك العديد من البشر الذي يجدون الأمان وسط الأعداد الكبيرة، ويجدون السعادة في أن يبقوا مجهولين، والكرامة في العمل الروتيني. إنهم لا يسعون إلى شيء أفضل من أن يكونوا رأسا في قطيع يسوقه راع، أو جنودا تحت إمرة قائد، أو عبيدا تحت سطوة طاغية. والقليلون منهم فقط هم الذين يتطورون بحيث يصبحون الرعاة والرؤساء والقادة لأولئك الذين اختاروا بإرادتهم أن يكونوا تابعين.»
لقد كان هدف اليوتوبيات التسلطية تسليم الشعوب لرعاة أغنام وقادة وطغاة، سواء تحت اسم الحراس (الفيلاركس) أو الساموراي.
وكانت تلك اليوتوبيات تقدمية، بقدر ما أرادت إلغاء عدم المساواة الاقتصادية، لكنها استبدلت بنظام العبودية الاقتصادية القديم نظاما آخر جديدا، فلم يعد الناس عبيدا لأسيادهم أو لأصحاب العمل، بل أصبحوا عبيدا للأمة أو الدولة. وقامت قوة الدولة على السلطة الأخلاقية والعسكرية، كما في جمهورية أفلاطون، أو على الدين كما في مدينة المسيحيين لأندريا، أو على ملكية وسائل الإنتاج والتوزيع كما في معظم يوتيوبيات القرن التاسع عشر. بيد أن النتيجة بقيت دائما واحدة، وهي اضطرار الفرد لاتباع مجموعة من القوانين أو قواعد السلوك الأخلاقي المحدود بشكل مصطنع.
صفحة غير معروفة
إن التناقضات الكامنة في معظم اليوتوبيات ترجع لهذا الأسلوب التسلطي. فقد زعم مؤسسو اليوتوبيات أنهم منحوا الحرية للشعب، ولكن الحرية التي منحوها توقفت عن أن تكون حرية. وكان «ديدرو» هو أحد كتاب اليوتوبيا القلائل الذي أنكر على نفسه حتى الحق في أن يعلن أن لكل فرد أن يفعل ما يريده، غير أن أغلبية مؤسسي اليوتوبيات تشبثوا بأن يبقوا أسيادا في دولهم المتخيلة. فبينما يزعمون أنهم يمنحون الحرية لشعوبهم، تجدهم في نفس الوقت يصدرون مجموعة من القوانين التي يتعين اتباعها بصرامة. فهناك المشرعون للقوانين، والملوك، والقضاة، والكهنة، ورؤساء الجمعيات الوطنية في يوتوبياتهم، ومع ذلك فبعد أن أعلنوا أنهم قد سنوا القوانين، ونظموا شئون الزواج وأمور السجن وإجراءات الإعدام، ظلوا على ادعائهم بأن الشعب حر يفعل ما يريد. ومن الواضح كل الوضوح أن توماسو كامبانيلا تخيل نفسه «الميتافيزيقي الكبير » في مدينة الشمس، وأن بيكون جعل من نفسه الأب الراعي ل «بيت سليمان»، وكابيه نصب نفسه المشرع في جزيرته إيكاريا، وعندما كان لديهم ذكاء توماس مور، كانوا يعبرون عن أشواقهم الخفية بتهكم شديد: «لا يمكنك أن تتخيل كم أنا مبتهج.» هكذا كتب توماس مور لصديقه إرازموس، «ولا كيف تعاظمت ورفعت رأسي عاليا، ودائما ما كنت أتصور نفسي في دور الحاكم الأعلى ليوتوبيا، بل إنني تخيلت نفسي أختال في مشيتي وفوق رأسي تاج من سيقان الذرة، لابسا عباءة راهب فرنسسكاني، وحاملا في يدي سنبلة من الشعير أشبه بصولجان، ومحفوفا بحشد كبير من أبناء شعب أموروت.» وأحيانا يضطر أناس آخرون إلى إبراز تهافت أحلامهم، كما نجد جونزالز
Gonzales
في مسرحية «العاصفة» لشكسبير عندما يقول لرفاقه في دولته المثالية التي أراد تأسيسها على جزيرته:
جونزالز :
أنا الدولة، وسوف أنجز كل شيء عن طريق الأضداد.
لن أسمح بأي نوع من أنواع التجارة،
ولا باستخدام قاض،
والأدب لن يسمح بالاطلاع عليه،
ولن يكون ثمة غنى ولا فقر ولا خدمات،
لا عقود، ولا توريث، ولا حدود للأراضي،
صفحة غير معروفة
لا حرث، ولا كرم، ولا شيء من هذا،
لن يصرح باستخدام المعادن، ولا الذرة، ولا النبيذ ولا الزيت،
لا وظائف، فالناس جميعهم كسالى متعطلون،
والنساء أيضا، وإن كن بريئات ونقيات.
لا سيادة ولا تسلط.
سبستيان :
ومع ذلك يتمنى أن يكون ملكا عليها.
أنطونيو :
إن النهاية الأخيرة لدولته تنسي البداية.
وتقع اليوتوبيات التسلطية في تناقض آخر يكمن في التأكيد على أن قوانينها تتبع نظام الطبيعة، على حين أنها في واقع الأمر قد سنت بشكل تعسفي. فبدلا من أن يحاول كتاب اليوتوبيا اكتشاف قوانين الطبيعة، فضلوا أن يخترعوها أو يعثروا عليها في «سجلات الحكمة القديمة». ذلك أن بعضهم، مثل مابلي
صفحة غير معروفة
Mably
أو مورللي
Morelly ، كان من رأيه أن قوانين الطبيعة هي قوانين أسبرطة، وبدلا من أن يقيموا يوتوبياتهم على تجمعات حية وبشر مثل أولئك الذين يعرفونهم، أقاموها على تصورات مجردة. إن هذا على وجه التحديد هو المسئول عن الجو المفتعل السائد في معظم اليوتوبيات : فالبشر اليوتوبيون مخلوقات من نمط واحد، ولهم رغبات متماثلة وردود أفعال متشابهة، وهم مجردون من العواطف والانفعالات، لأن هذه الأخيرة ستكون تعبيرا عن الفردية وقد انعكس هذا التوحيد في كل جوانب الحياة اليوتوبية، من الملبس إلى جدول المواعيد، ومن السلوك الأخلاقي إلى الاهتمامات العقلية. ويؤكد ه. ج. ويلز أن «كل اليوتوبيات على وجه التقريب - ربما باستثناء أنباء من لا مكان لوليم موريس - يرى فيها المرء أبنية صحيحة ولكن بلا شخصية، ومنشآت متجانسة وكاملة، وحشودا من الناس الذين يتمتعون بالصحة والسعادة ويرتدون الملابس الجميلة، ولكنهم يفتقرون إلى أي تفرد شخصي من أي نوع. وكثيرا ما يشبه هذا المنظر إحدى اللوحات الكبيرة لحفلات الزواج الملكي والبرلمانات والمؤتمرات والتجمعات التي كانت تتم في العصر الفيكتوري، ففي هذه اللوحات لا نرى وجها بشريا، وإنما نرى بدلا من ذلك أن كل شكل منها يحمل ملامح بيضاوية مدونا عليها رقمه في الدليل الرسمي.»
وينطبق الشيء نفسه على التنظيم المصطنع لليوتوبيا؛ فالأمة الموحدة لا بد أن يناظرها بلد موحد أو مدينة موحدة. والعشق التسلطي للتجانس يجعل اليوتوبيين يطمسون الجبال أو الأنهار، بل يجعلهم يتخيلون جزرا كاملة الاستدارة، وكذلك أنهارا كاملة الاستقامة. «في يوتوبيا الدولة القومية (كما يقول لويس ممفورد) لا توجد مناطق طبيعية، والتجمع الطبيعي للبشر في البلدان والقرى والمدن، وهو الذي أكد أرسطو أنه الفارق الأساسي بين الإنسان وبقية الحيوانات، هذا التجمع الطبيعي، لا يسمح به إلا على أساس الخرافة التي تقول إن الدولة هي التي تمنح هذه التجمعات قدرا من سلطتها الشمولية أو - كما يقول - من سيادتها، ومن ثم تسمح لهم بممارسة الحياة المشتركة. ومن سوء حظ هذه الخرافة الجميلة، التي بذلت أجيال من المحامين ورجال الدولة جهودا كبيرة في صنعها، أن المدن قد سبقت الدول في الوجود بوقت طويل - فقد قامت روما على نهر التيبر قبل قيام الإمبراطورية الرومانية بوقت طويل - وهذا التسامح الكريم من قبل الدولة ليس في الواقع إلا منزلة الختم المطبوع على حقيقة منجزة بالفعل (...).
وبدلا من التعرف على المناطق الطبيعية والتجمعات الطبيعية للبشر، أقامت اليوتوبيات ذات النزعة القومية ، بواسطة خطوط المساحين، مملكة معينة أطلقت عليها اسم الإقليم القومي، وجعلت كل سكان هذا الإقليم أعضاء في دولة واحدة، أو مجموعة واحدة غير منقسمة تسمى أمة، ويفترض أن لها الأسبقية، ولها السلطة الأعلى من كل المجموعات الأخرى. ذلك هو التشكيل الاجتماعي الوحيد المتعارف عليه رسميا في اليوتوبيا القومية. والشيء المشترك بين كل سكان هذا الإقليم هو الذي يعتقد أنه هو الأكثر أهمية من جميع الأمور الأخرى التي تربط بين البشر في مجموعات مدنية أو صناعية.»
حافظت الدولة القومية القوية على هذه الوحدة، فألغيت الملكية الخاصة، لا لتحقيق المساواة بين المواطنين فقط أو بسبب تأثيرها الفاسد، بل لأنها (أي الملكية الخاصة) تمثل خطرا على وحدة الدولة. وتحدد الموقف من الأسرة أيضا بالرغبة في المحافظة على وحدة الدولة. وبقيت يوتوبيات كثيرة ضمن التراث الأفلاطوني، فألغت الأسرة والزواج المعقود بين زوج وزوجة، بينما تبعت يوتوبيات أخرى توماس مور، ودافعت عن خصوصية الأسرة والزواج وتربية الأطفال وتعليمهم داخل نطاق الأسرة. وأخذ مجموعة ثالثة بحل وسط، وذلك بالإبقاء على المؤسسات الأسرية، وإن عهدت للدولة بمهمة تعليم الأطفال.
لقد انطلقت اليوتوبيات التي أرادت إلغاء الأسرة من نفس الأسباب التي جعلتها تلغي الملكية. واعتبرت الأسرة عاملا مشجعا على تنمية الغرائز الأنانية، ومن ثم على تفكيك وحدة الجماعة. وفي الجانب الآخر يرى المدافعون عن الأسرة أنها هي عمادة الدولة المستقرة، بل والخلية الأساسية فيها، والحقل الذي يتم فيه التدريب على فضائل الطاعة والولاء للدولة. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بحق أن الأسرة التسلطية التي هي بعيدة كل البعد عن خطر غرس الاتجاهات الفردية في نفوس الأطفال، تعودهم، على العكس من ذلك، على احترام سلطة الأب، وبالتالي سوف يطيعون في النهاية أوامر الدولة بغير اعتراض.
إن الدولة القومية تتطلب بالضرورة طبقة حاكمة، أو فئة تمسك بزمام السلطة المتحكمة في بقية الشعب. وبينما اهتم مؤسسو الدول المثالية اهتماما كبيرا بعدم السماح للملكية أن تفسد الطبقة الحاكمة أو توقع الشقاق بين أعضائها، فإنهم على العموم لم يدركوا أن خطر حب السلطة يفسد الحكام ويفرق بينهم ويوقع الظلم على الشعوب. وكان أفلاطون هو المذنب الرئيسي في هذا الصدد. فقد عهد إلى حراسه بكل السلطة في المدينة، بينما كان بلوتارك على وعي بالمفاسد التي يمكن أن يرتكبها الأسبرطيون، وإن لم يقدم علاجا شافيا منها. وقدم توماس مور تصورا جديدا، وهو تصور الدولة التي تمثل جميع المواطنين، باستثناء قلة من العبيد. لقد كان نظامه من النوع الذي ندعوه بالنظام الديمقراطي، إذ يمكن القول إن ممثلي الشعب هم الذين يمارسون السلطة. ولكن هؤلاء الممثلين يملكون تنفيذ القوانين، أكثر من سلطة وضعها أو صياغتها؛ لأن جميع القوانين الأساسية قد تم وضعها من قبل المشرع. وهكذا شرعت الدولة مجموعة من القوانين التي لم تشارك الجماعة في صنعها. والأكثر من هذا، أن الطبيعة المركزية لتلك الدولة جعلت هذه القوانين ذاتها تسري على كل المواطنين، وعلى كل قسم من أقسام الجماعة دون أن يأخذ المشرعون في اعتبارهم العوامل الشخصية المتنوعة. ولهذا السبب، عارض بعض كتاب اليوتوبيات، مثل جيرارد ونستنلي، الجماعة التي تفوض سلطتها لهيئة مركزية، لأنهم خشوا أن تفقد الجماعة حريتها، وأرادوا أن تبقي الجماعة على استقلال حكومتها. بل إن كلا من جبرييل دي فواني وديدرو قد ذهب إلى أبعد من ذلك بإلغاء الحكومات إلغاء تاما.
إن وجود الدولة يتطلب مجموعتين من قواعد السلوك الأخلاقي؛ لأنها لا تقسم الشعب إلى طبقات فحسب، وإنما تقسم البشرية إلى أمم. فغالبا ما يتطلب الولاء للدولة إنكار مشاعر التكافل والتعاون المتبادل الذي يوجد بشكل طبيعي بين الناس، وتفرض الدولة أنواعا معينة من قواعد السلوك التي تحدد العلاقة بين المواطنين والعبيد أو «البرابرة»، فكل ما هو محرم في العلاقات القائمة بين المواطنين المتساوين، مسموح به تجاه أولئك الذين يعدون كائنات أدنى منزلة. وبينما يتحلى المواطن اليوتوبي بالرقة ودماثة الخلق في تعامله مع من هم في نفس منزلته، فإنه يتسم بالفظاظة في تعامله مع عبيده، إنه يحب السلام في وطنه، ولكنه يشن أبشع الحروب خارج الحدود. وقد سمحت جميع اليوتوبيات، التي حذت حذو أفلاطون، بهذه الثنائية في الإنسان. ووجود هذه الثنائية في المجتمع، كما نعرفه، حقيقة معروفة بصورة كافية، ولكن عدم التخلص منها في «مجتمع كامل» هو الذي يبدو أمرا غريبا. إن النموذج العالمي في جمهورية زينون الذي أعلن أخوة البشر من الأمم كافة، هو نموذج ندر من تبناه من كتاب اليوتوبيا. وتوافق معظم اليوتوبيات على الحرب بوصفها جزءا حتميا من نظامها، والواقع أن الأمر لا بد أن يكون كذلك، لأن وجود الدولة القومية هو الذي يولد الحروب على الدوام.
إن الدولة اليوتوبية التسلطية لا تسمح بوجود أي شخصية تكون من القوة والاستقلال، بحيث تتصور إمكان التغيير أو التمرد. وما دامت المؤسسات اليوتوبية تعتبر كاملة، فمن البديهي أنها لن تكون قابلة للإصلاح. إن الدولة اليوتوبية في جوهرها دولة سكونية، ولا تسمح لمواطنيها بأن يناضلوا أو حتى أن يحلموا بيوتوبيا أفضل.
صفحة غير معروفة
هذا السحق لشخصية الإنسان يتخذ في الغالب سمة شمولية. فالمشرع أو الحكومة هما اللذان يخططان المدن والمنازل؛ وقد أعدت هذه الخطط وفق أكثر المبادئ عقلانية وأفضل معرفة بالتقنية، ولكنها (أي الخطط) ليست هي التعبير العضوي عن الجماعة. إن المنزل، مثله مثل المدينة، قد يصنع من مواد غير حية، ولكن ينبغي أن يجسد روح أولئك الذين بنوه. وبنفس الطريقة ربما تكون الأزياء اليوتوبية أكثر راحة وأكثر جاذبية من الملابس المعتادة، ولكنها لا تسمح للفرد بالتعبير عن فرديته.
والدولة اليوتوبية أشد شراسة في قمعها لحرية الفنان. فالشاعر والرسام والنحات يفترض فيهم أن يكونوا في خدمة الدولة، وأن يتحولوا إلى عملاء الدعاية لها. إن التعبير الفردي محظور عليهم سواء لأسباب جمالية أو أخلاقية، ولكن الهدف الحقيقي هو سحق أي مظهر من مظاهر الحرية. ولا مراء في أن معظم اليوتوبيات ستفشل فشلا ذريعا في «اختبار الفن» الذي اقترحه هربرت ريد: «لقد طرد أفلاطون، كما يعرف الجميع، الشعراء من جمهوريته. ولكن هذه الجمهورية كانت نموذجا مضللا للكمال. ربما استطاع بعض المستبدين أن يحققوها في الواقع، غير أنها لن تؤدي وظيفتها إلا كالآلة، أي بشكل آلي. فالآلات تعمل بشكل آلي لمجرد أنها مصنوعة من مواد ميتة وغير عضوية. ولو أردت أن تعبر عن الفرق بين مجتمع تقدمي وعضوي وحكومة شمولية سكونية، فيمكنك أن تعبر عن هذا بكلمة واحدة: هذه الكلمة هي الفن. ولا يستطيع المجتمع أن يجسد مثل الحرية والتطور العقلي، وهي التي تجعل الحياة في نظر الغالبية منا جديرة بأن نحياها، إلا بشرط السماح للفنان بأن يمارس عمله بحرية.»
إن اليوتوبيات التي تنجح في هذا الاختبار هي تلك التي تعارض مفهوم الدولة المركزية باتحاد فيدرالي للجماعات الحرة، حيث يستطيع الفرد أن يعبر عن شخصيته دون أن يخضع لرقابة قانون مصطنع، وحيث لا تكون الحرية كلمة مجردة، بل تتجلى بشكل عيني في العمل، سواء أكان عمل الرسام أم البناء. هذه اليوتوبيات لا تتعلق بالبناء الميت للتنظيم الاجتماعي، وإنما تتعلق بالمثل التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع الأفضل. أما عن اليوتوبيات المضادة للتسلطية، فهي أقل عددا، وقد مارست نفوذا أقل من اليوتوبيات الأخرى، لأنها لم تقدم خطة جاهزة، بل طرحت أفكارا جريئة غير متزمتة، ولأنها تتطلب من كل منا أن يكون «متفردا»، وليس رأسا في القطيع.
وحين تشير اليوتوبيات إلى الحياة المثالية دون أن تتحول إلى خطة، أي بغير أن تتحول إلى آلة مجردة من الحياة تطبق على مادة حية، عندئذ تستطيع بجدارة أن تصبح هي التحقق الواقعي للتقدم.
الفصل الأول
يوتوبيات العصر القديم
يتميز الفكر الفلسفي والسياسي اليوناني بقدر كبير من الثراء والتنوع، يجعله من أهم المصادر التي ألهمت الكتاب اليوتوبيين طوال العصور. فلقد كان لأساطير العصر الذهبي، وتصورات الدول المثالية الخاصة بالماضي الأسطوري أو المستقبل البعيد، والكتابات النظرية عن فن الحكم، كان لكل هذا تأثير عميق على مؤسسي الدول والمجتمعات المثالية من توماس مور حتى ه. ج. ويلز.
وليس من السهل دائما تحديد أي الأعمال يمكن اعتبارها يوتوبيات، لأن الفرق بين العروض التي تقدم عن الأحداث الخيالية والأحداث التاريخية يكون في بعض الأحيان شديد الدقة. وأفلاطون نفسه، الذي اتجه إليه الكتاب المتأخرون في معظم الأحوال، قد ترك وراءه أعمالا تتضمن أشكالا مختلفة من الفكر اليوتوبي. فكل من طيماوس وكريتياس تصف مجتمعات أسطورية ودولا أو مجتمعات مثالية، والجمهورية تضع أسس مدينة مثالية للمستقبل، بينما تضع القوانين أسس دولة تليها في الأفضلية. ونجد عند أرسطو إطار دستور مثالي، كما نجد وصفا للمؤسسات التي تحكم العديد من الدول اليونانية، ويقدم ديودوروس الصقلي
Diodorus Siculus
1
صفحة غير معروفة
عرضا تاريخيا لمجتمعات مبكرة وأساطير عن العصر الذهبي، كما يقدم زينون دراسة للحكومات وتخطيطا عاما لجمهورية مثالية. وعند سترابون (من 64ق.م.-20م) وبلوتارك (من 46-119م) وصف شديد الدقة للمجتمع القديم في كريت وأسبرطة.
وأقرب الأعمال التي ذكرناها من تعريف الدول المثالية وأعظمها في الوقت نفسه تأثيرا في اليوتوبيات اللاحقة المدينة لها، هي «جمهورية» أفلاطون و«حياة ليكورجوس» لبلوتارك؛ وكلاهما يمثل الاتجاهات التسلطية والشيوعية في الفكر اليوناني، ولكن تأثيرهما في المفكرين المتأخرين قد خففت منه في الغالب أفكار أرسطو الإصلاحية و«البرجوازية الصغيرة»، أو مثل زينون المتحررة والعالمية. ولو كان هدفنا هو تتبع تأثير بلاد الإغريق في الفكر اليوتوبي، بدلا من الاكتفاء بتقديم المخططات العامة للمجتمعات المثالية، لوجب علينا تناول أعمالهما هنا بالدراسة. وربما يبدو من التعسف اختيار جمهورية أفلاطون وترك محاورات أخرى مثل طيماوس وكريتياس والقوانين، ولكن إنتاج أفلاطون، كما لاحظ ألكسندر جراي، يعادل في ضخامته إنتاج شكسبير، ولا مفر من أن تتطلب الحدود التي يفرضها علينا المسح المختصر لتاريخ اليوتوبيا شيئا من التعسف. (1) أفلاطون: «الجمهورية»
كانت الفترة التي كتب فيها أفلاطون «الجمهورية» فترة تدهور في التاريخ اليوناني. فقد انتهت الحرب البلوبونيزية (431-404ق.م. وهي الحرب الأهلية بين أثينا وأسبرطة في المورة.) بالهزيمة الساحقة لأثينا، وضعفت المدن المستقلة التي شاركت فيها بتأثير الصراع الطويل والمنازعات الداخلية. وقد أدى بها التفكك إلى أن تصبح عرضة للغزو الأجنبي، وسمح لدولة أسبرطة العسكرية والتسلطية أن تنتصر عليها. وقد كان أفلاطون في الثالثة والعشرين من عمره عندما وضعت الحرب أوزارها، تاركة أثينا في حالة من الإنهاك السياسي والاقتصادي. ولهذا كان من الطبيعي أن تهتم كتاباته اهتماما شديدا بالقضايا السياسية والاجتماعية، وأن يحاول استخلاص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا وانتصار أسبرطة.
ومن المعروف أن عقل المهزوم غالبا يكون مفتونا بقوة الغزاة الفاتحين، فعندما شرع أفلاطون في بناء مدينته المثالية اتجه إلى أسبرطة واتخذها نموذجا له. وهو بالطبع لم يقلد هذا النموذج تقليد العبيد، ولكن جمهوريته أشبه بالتنظيم التسلطي لأسبرطة منها بالتنظيمات الحرة التي تمتعت بها المدن اليونانية الأخرى في غضون القرون السابقة. وقد وضع أفلاطون في مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية المتطرفة التي تميزت بها الحياة اليونانية، وضع تصوره عن دولة قوية متجانسة وقائمة على مبادئ تسلطية.
وكان السوفسطائيون، الذين وجه لهم أفلاطون هجومه المتواصل والمرير، قد بحثوا عن حل لمواجهة تفكك الحياة اليونانية بطريقة مخالفة لطريقة أفلاطون. وكان العلاج الذي اقترحوه هو المزيد من الحرية لا التقليل منها. فقد رجعوا إلى الإيمان التقليدي بعصر ذهبي عاش فيه البشر في حالة من الحرية التامة والمساواة، وقدموا نظريتهم التي تقول بأن البشر فقدوا تلك الحرية والسعادة، التي هي «حقهم الطبيعي» مع ميلاد التنظيمات السياسية. وقد وصف رودلف روكر
Rudolf Rocker
في كتابه «النزعة القومية والحضارة» هذا المفهوم الاجتماعي بقوله:
كان أعضاء المدرسة السوفسطائية بوجه خاص، هم الذين اعتادوا في نقدهم للشرور الاجتماعية أن يشيروا لحالة طبيعية ماضية، لم يكن الإنسان فيها قد عرف عواقب الظلم الاجتماعي بعد. وهكذا أعلن هيبياس الإليسي
2
أن «القانون قد أصبح طاغية يتحكم في الإنسان، ويحرضه بشكل مستمر على إتيان أفعال غير طبيعية.» وعلى أساس هذا المذهب دعا ألكيداماس وليكوفرون (شاعر وعالم سكندري عاش في منتصف القرن الثالث ق.م.) وغيرهما لإلغاء الامتيازات الاجتماعية، وأدانوا نظام الرق بصفة خاصة باعتبار أنه مناف لطبيعة الإنسان، وأنه نشأ عن تشريعات البشر الذين جعلوا من الظلم فضيلة. ومن أعظم مآثر المدرسة السوفسطائية المفترى عليها أن أعضاءها تخطوا كل الحدود القومية بشكل واع مع المجتمع الكبير للجنس البشري. لقد شعروا بقصور المثل الأعلى الوطني وضيق أفقه الروحي، وعرفوا مع أرستيبوس
صفحة غير معروفة
3
أن «كل الأمكنة متساوية في البعد عن هاديس».
هذه الأفكار تبناها بعد ذلك الكلبيون الذين نظروا إلى تنظيمات الدولة باعتبارها مضادة للنظام الطبيعي للأشياء، واستهجنوا الفروق الطبقية والقومية، كما أخذتها المدرسة الرواقية، التي أسسها زينون الكيتيوني، فرفضت الخضوع للإلزام الخارجي، وتبعت «القانون الداخلي الذي يتجلى في الطبيعة». أما مجتمع زينون المثالي فقد حرص على التخلص من الدول أو التنظيمات السياسية، ولم يبق إلا على الحرية والمساواة الكاملة بين جميع البشر، مع إلغاء الزواج، والمعابد، والمحاكم، والمدارس والنقود. ومع ذلك فلم يخلط زينون بين الحرية والترخص أو عدم المسئولية. لقد اعتقد أن الغريزة الاجتماعية للبشر تمد جذورها في الحياة الجماعية المشتركة، وتجد التعبير عنها في الإحساس بالعدل، وأن الإنسان يجمع بين الحاجة إلى الحرية الشخصية والإحساس بالمسئولية عن أفعاله.
كان أفلاطون يمثل رد الفعل المضاد للاتجاهات الرئيسية للفكر الفلسفي في عصره، إذ آمن بضرورة الإلزام الأخلاقي والخارجي، وبعدم المساواة والسلطة، وبالقوانين الصارمة والتنظيمات الثابتة، وتفوق الإغريق على «البرابرة». وعلى الرغم من أن تأثيره في الفكر الحديث كان أعظم بكثير من تأثير الفلاسفة الآخرين، فإن هناك فترات نادى فيها بعض المفكرين، مثل الرواقيين، ب «الحق الطبيعي» للبشر في الحرية والمساواة الكاملتين.
ومع أن أفلاطون، مثل السوفسطائيين والرواقيين، كان مقتنعا بأن تنظيماته متوافقة مع قانون الطبيعة، فإنه رأى أن الطبيعة قد أوجدت بعض البشر ليكونوا حكاما وبعضهم الآخر ليكونوا محكومين. يقول في الجمهورية:
إن الحقيقة التي أقرتها الطبيعة هي أن المريض، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ينبغي عليه أن ينتظر على باب الطبيب، وأن كل إنسان يحتاج إلى أن يكون محكوما، يجب عليه أن ينتظر على باب القادر على الحكم.
وبعد أن استنكر أفلاطون أن يتولى كل إنسان حكم نفسه، وأقر ضرورة وجود طبقة حاكمة، كان من المنطقي أن يتجه لإقامة حكومة قوية، لا تقتصر قوتها على السلطة التي يمكن أن تمارسها على عامة الشعب، بل تتمثل فضلا عن ذلك في تفوقها الأخلاقي والعقلي ووحدتها الداخلية. ولا يجوز اختيار الحكام أو الحراس في جمهوريته المثالية على أساس نسبهم أو ثروتهم، ولكن على أساس الخصال التي تؤهلهم للقيام بمهمتهم؛ فلا بد أن ينحدروا من سلالة طيبة ، وأن يتمتعوا بصحة جيدة، وأن يكون لهم عقل راجح ويتلقوا تربية حسنة. وها هو ذا سقراط يشرح لجلوكون الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتوافر للحراس: - وهكذا ترى أنه كلما ازدادت أهمية حرفة الحراس تطلبت زمنا وفنا وعناية أعظم. - بلا شك. - ولكن ألا يلزم لهذا الفن أيضا صفات طبيعية فطرية في المحارب؟ - يقينا. - وإذن فعلينا، إن استطعنا أن نختار أولئك الذين تؤهلهم طبيعتهم وقدرتهم الفطرية ليكونوا حراسا للدولة. - هذا واجب علينا دون شك. - الحق أن المهمة لن تكون هينة، ومع ذلك فلنستجمع شجاعتنا، ولنبذل كل ما في طاقتنا. - هذا ضروري. - حسنا. أترى، فيما يتعلق بالحراسة، فروقا بين طبيعة كل أصيل، وبين فتى عريق الولد؟ - ماذا تعني؟ - أعني أن كليهما لا بد أن تتوافر له قوة ملاحظة الأعداء، وسرعة الانقضاض عليهم، والقدرة على العراك إذا ما هوجم. - لا شك أنه بحاجة إلى كل هذه الصفات. - وهو بحاجة إلى الشجاعة أيضا ليجيد القتال. - بلا شك. - ولكن، أيستطيع فرس أو كلب أو أي حيوان أن يكون شجاعا ما لم يكن غضوبا متحمسا؟ ألم تلاحظ أن الحماسة لا تغلب ولا تقهر، وأنها إذا تملكت نفسا فلن تخشى شيئا أو تلين لشيء؟ - لقد لاحظت ذلك بالفعل. - وهكذا ترى بوضوح الصفات المطلوبة في الحارس. - أجل. - وتدرك كذلك أن الصفة النفسية هي الحماسة الفياضة. - نعم. - ولكن من كانت لهم هذه الصفات، ألن يكونوا عدوانيين في سلوكهم، بعضهم نحو بعض، ونحو كل مخلوق آخر؟ - الحق أنه ليس من السهل عليهم أن يتغلبوا على هذا الشعور. - ومع ذلك، فمن المحتم عليهم أن يظهروا الوداعة مع مواطنيهم، والشراسة مع أعدائهم، وإلا ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، دون أن ينتظروا حتى يهلكهم الآخرون. - هذا حق. - ولكن ما العمل؟ وأين لنا أن نجد طبيعة تجمع اللين والشدة؟ إن الوداعة والشراسة لتتنافران وتتناقضان. - أجل، هذا واضح. - ومع ذلك، فلو افتقر الحارس إلى إحداهما، لما عاد صالحا لعمله. على أن الجمع بينهما يبدو محالا ، وهكذا يبدو أن من المستحيل أن نهتدي إلى حارس صالح. - أخشى أن يكون الأمر كذلك. - ماذا تعني؟ - أعني أنه توجد بحق طبائع تجمع بين هذه الصفات المتناقضة، التي بدا الجمع بينها مستحيلا. - وكيف يكون ذلك؟ - إن ذلك ليتبدى في حيوانات متعددة، وبخاصة في ذلك الذي كنا نقارنه بحراسنا. فأنت تعلم ولا شك أن طبيعة الكلاب الأصلية هي أن تكون على أعظم قدر من الوداعة بالنسبة إلى من ألفتهم ومن عرفتهم، وأن تكون على عكس ذلك بالنسبة إلى من لا تعرفهم؟ - أجل، أعلم ذلك. - إذن فحل المشكلة ممكن، ولن نكون مخالفين للطبيعة إذا سعينا إلى الاهتداء إلى حارس تتوافر له هذه الصفات. - ذلك لا يبدو مستحيلا. - ولكن ألا يبدو أن من أردناه حارسا ما زال يفتقر إلى صفة معينة حتى يبلغ الكمال في حراسته، وهي أن يجمع إلى الحماسة الفياضة صفات الفيلسوف؟ - إنني لا أفهم ما تعنيه. - إن الصفة التي أتحدث عنها يمكن الاهتداء إليها لدى الكلب أيضا، وهي صفة تستحق التقدير فيه. - أي صفة تعني؟ - أعني أن الكلب يثور كلما رأى غريبا، وإن لم ينله منه أي أذى، على حين أنه يرحب بمن يعرفه، حتى لو لم يتلق منه خيرا. ألم تلاحظ ذلك من قبل؟ - الحق أنني لم أوجه انتباهي إلى هذا الأمر مطلقا، ولكن من المؤكد أن الكلب يسلك كما تقول. ولا جدال في أن هذه صفة طيبة، بل هي صفة الفيلسوف بحق. - كيف ذلك؟ - ذلك لأنه لا يميز صديقه من عدوه إلا على أساس المعرفة أو عدم المعرفة وحدهما. وأظنك ترى معي أن حيوانا يميز ما يحبه مما يكرهه بمقياس المعرفة والجهل، لا بد أن يكون من محبي المعرفة والعلم. - لا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك. - حسنا، ولا شك أن محبة المعرفة ومحبة الحكمة، أي الفلسفة، شيء واحد؟ - إنهما حقا شيء واحد. - فلنسلم إذن، ونحن على ثقة من صحة ما نقول، بأن وداعة المرء مع أصدقائه ومعارفه تقتضي أن يكون بطبيعته فيلسوفا محبا للحكمة. - أجل، يمكننا أن نؤكد ذلك ونحن مطمئنون. - وإذن، فمن أردناه أن يكون حارسا صالحا لدولتنا، لا بد أن يجمع بين الفلسفة والحماسة، والاندفاع والقوة.
4
إن مسئولية اختيار هؤلاء الحراس ستقع على عدد قليل من الرجال الذين يتميزون بأنهم فلاسفة حقيقيون، ويعرفون الأشخاص المناسبين للطبقة الحاكمة. ولا يشرح أفلاطون بوضوح كيف تنشأ حكومة الفلاسفة هذه، وإنما يكتفي بالقول بأن من الواجب في جمهوريته أن يصبح الفلاسفة ملوكا، وأن يصبح الملوك فلاسفة. وبعد أن يتولى الفلاسفة زمام الحكم تكون مهمتهم الأولى هي اختيار هؤلاء الذين سيصبحون حراسا.
وتشرح هذه الفقرة كيف سيتم ذلك: - وعلى ذلك لا بد أن ننتقي، من بين حراسنا، أشدهم إخلاصا لهذا المبدأ الأساسي، وهو أن يرعى المرء في كل ما يفعل مصلحة الدولة وحدها. وعلينا أن نختبرهم منذ طفولتهم، بأن نعهد إليهم بالأعمال التي تعرضهم لنسيان هذا المبدأ أو تؤدي بهم إلى الخطأ، ثم ننتقي منهم من يظل يتمسك به، ومن يصعب إغراؤه، بينما نستبعد من لم يكن كذلك. أوليس هذا ما ينبغي عمله؟ - بلى. - كذلك ينبغي أن نعرضهم لأعمال مرهقة ومعارك شاقة، ونلاحظ مدى وجود نفس الصفات فيهم. - الحق معك في هذا. - وينبغي أن يمروا بعد ذلك بتجربة ثالثة، هي أن نغريهم بالسلطة والنفوذ، ونلاحظهم وهم يتسابقون فيما بينهم. وكما يقود المرء الحصان القوي وسط الجلبة والضوضاء ليرى إن كان جبانا، فكذلك ينبغي أن نلقي بمحاربينا في صغرهم وسط أشياء مخيفة ثم نغمرهم بالملذات، ونعجم عودهم خلال ذلك باختبار أقسى من ذلك الذي يختبر فيه المرء الذهب بالنار، لنعلم إن كانوا يقاومون المغريات ويظلوا على استقامتهم في كل الظروف، وإن كانوا حراسا صالحين لأنفسهم وللموسيقى التي تعلموا دروسها، وإن كانوا يحتفظون في كل سلوك لهم بما في الموسيقى من إيقاع وتوافق. مثل هؤلاء الحراس هم أنفع الناس لأنفسهم ولوطنهم. فإذا ما وجدنا منهم شخصا اجتاز، دون أن تشوبه شائبة، كل ما وضعناه له من اختبارات متتابعة في طفولته وشبابه ورجولته، فلننصبه حارسا يرعى شئون الدولة، ولنكلله بألقاب الشرف طوال حياته وبعد مماته، ونخلد ذكراه بأفخم القبور والنصب التذكارية. أما من لم يكن منهم كذلك، فسوف نستبعده حتما. تلك يا جلوكون، في صورة عامة ودون الدخول في التفاصيل، هي الوسيلة التي أرى من الواجب اتباعها من أجل اختيار الحكام والحراس. - يبدو لي أيضا أن هذه خير وسيلة تتبع. - ولكن إن شئنا أن نتكلم بدقة، فالأصح أن نطلق اسم الحراس على أولئك الذين يأخذون على عاتقهم أن يفعلوا ما من شأنه ألا يكون لأعداء الدولة في الخارج المقدرة على إلحاق الضرر بها، ولا لأتباعها في الداخل الرغبة في ذلك، وأن نطلق اسم المساعدين أو منفذي قرارات الحكام على الشبان الذين كنا من قبل نسميهم حراسا.
صفحة غير معروفة
5
وما إن يتم اختيار الحراس حتى تخول لهم السلطة التي ستكون أوجب للاحترام كلما آمن الناس بأنها مقدرة من قبل. ومن خلال أسطورة أو «كذبة ضرورية» أو «أكذوبة نبيلة»، كما يسميها أفلاطون، يتحتم إقناع الحكام بأنهم ينتمون لطبقة أسمى، وأنهم ولدوا ليكونوا حكاما، والأهم في ذلك أن يدرب باقي المواطنين على الاعتقاد بأنهم ولدوا ليكونوا محكومين، وأن هذه الفروق الطبقية جزء من نظام إلهي. وبشيء من الخجل الذي يرجع لخوفه من عدم تصديق أكذوبته النبيلة بسهولة، نجد سقراط يعرض أسطورته البارعة على جلوكون: - سأقول لهم، مواصلا هذه الأسطورة، إن من الصحيح أنكم جميعا، يا أهل هذا البلد، إخوة، غير أن الله الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب. لهذا كان هؤلاء أنفسكم. ثم مزج تركيب الحراس بالفضة، وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس. ولما كنتم جميعا قد نبتم من بذرة واحدة، فإن أبناءكم، على الرغم من أنهم يشبهون آباءهم عادة، قد يأتون أحيانا من الفضة لأبوين من ذهب، أو من الذهب لأبوين من الفضة، وكذلك الحال في المعادن الأخرى. لهذا عهد الله إلى الحكام أولا وقبل كل شيء برعاية الأطفال، وبالعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النحاس أو الحديد، فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة ، وأن يعاملوا طبيعتهم بما تستحقه، ويدخلوهم في زمرة الصناع أو العمال، أما إذا أنجب هؤلاء الأخيرون أبناء يمتزج بهم الذهب أو الفضة، فعليهم أن يقدروهم حق قدرهم، ويرفعوهم إلى مرتبة الحراس أو المحاربين، إذ إن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنحاس. والآن فهل تعرف وسيلة لبث الإيمان بهذه الأسطورة في النفوس؟ - لست أعرف أي وسيلة تصلح للجيل الحالي، غير أن في وسع المرء أن يدفع أبناءه إلى تصديقها، ومن بعدهم ذريتهم ورجال المستقبل.
6
وبعد أن يتم اختيار الحراس وتخويلهم السلطة، تبقى مهمة تنظيم حياتهم لضمان أعظم قدر من الوحدة، ويتحقق هذا بأن يطلب منهم أن يشارك بعضهم بعضا في الخيرات والبيوت ووجبات الطعام. أضف إلى هذا أن الحراس لن يعرفوا أي نوع من الجشع أو الشهوة التي يمكن أن تزرع الخلاف بينهم وتصرفهم عن أداء مهمتهم: - إن من الواجب أولا ألا يكون لأي منهم شيء يمتلكه هو وحده، إلا عند الضرورة القصوى، وبعد ذلك ينبغي ألا يكون لواحد منهم منزل أو مسكن لا يدخله غيره. أما الغذاء الضروري لتكوين رياضيين محاربين أقوياء شجعان، فسوف يمدهم منه مواطنوهم، لقاء خدماتهم، بالكميات التي تكفيهم عاما واحدا بالضبط، لا يزيد ولا ينقص. وعليهم أن يتناولوا وجباتهم معا ويعيشوا جماعة كالجنود في ساحة القتال. وأما الذهب والفضة، فسنؤكد لهم أن لديهم في نفوسهم على الدوام ذهبا وفضة وهبهما لهم الله، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ذهب الناس وفضتهم، وأن من العار أن يفسدوا ما يمتلكون من الذهب الإلهي بإضافة الذهب الأرضي إليه، إذ إن ذلك الذهب الذي يتنافس عليه العامة كان مبعثا لشرور لا حصر لها، على حين أن الذهب الذي يكمن في نفوسهم من معدن نقي، وأنهم هم وحدهم، دون بقية المواطنين، الذين ينبغي عليهم ألا يجمعوا مالا أو يمسوا ذهبا، أو أن يئويهم هم والذهب سقف واحد، أو أن يلبسوا حليا تزدان بها أجسامهم، أو أن يشربوا في أكواب من الفضة أو الذهب. ففي هذه الحياة وحدها يكون خلاص نفوسهم وخلاص الأمة. ذلك بأنهم لو تملكوا كالآخرين حقولا وبيوتا وأموالا، لتحولوا من حراس إلى تجار وزراع، ومن حماة للمدينة إلى طغاة وأعداء لها، ولقضوا حياتهم مبغضين ومبغضين، خادعين ومخدوعين.
7
وسوف تحكم المدينة على أفضل وجه عندما يتفق العدد «الأكبر من الناس على إطلاق كلمات «ملكي» أو «ليس ملكي» على نفس الشيء. ويجب أن تكون هناك مشاركة في اللذة والألم، لأن «الفردية في هذه المشاعر قوة عاملة على التفكك». ومن الواجب أن تكون هذه الوحدة قوية بين الحراس بصفة خاصة، ولهذا السبب يلزم أن تكون هناك مشاعية في الزوجات والأطفال، حتى يعتقد المواطن أن كل شخص يقابله هو أخ له أو أخت، أو أب أو أم، أو ابن أو ابنة، أو حفيد أو جد. هذا القانون سيجعلهم حراسا حقيقيين، ويحول دون تمزق المدينة، الذي يمكن أن يحدث إذا أطلق كل فرد كلمة «ملكي» على أشياء مختلفة وليس على نفس الشيء، وإذا أخذ الجميع ما يستطيعون أخذه لأنفسهم، وجروه معهم عائدين إلى بيوتهم الخاصة المختلفة، وإذا اتخذ أي فرد لنفسه زوجة وأطفالا، وغرس بذلك في المدينة المباهج الفردية وأحزان الأفراد ...»
وتتم الزيجات، أو بمعنى أدق المعاشرات الجنسية، طبقا لمبادئ صارمة لتحسين النسل، وهنا نجد أفلاطون يرجع مرة أخرى إلى استخدام «الأكاذيب الضرورية». - فإن كنت مشرعا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم، ثم تجمع بين هؤلاء وأولئك، فيكون للجنسين معا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئا لنفسه. ويعيشون معا، ويختلطون معا في الرياضة البدنية وفي بقية التدريبات، ويشعرون برابطة قوية تجمع بينهم بالطبيعة. أليس من الضروري أن يحدث هذا؟ - ربما لم تكن هذه ضرورة هندسية، ولكنها ضرورة قامت على الحب، وهي بالنسبة إلى البشر أقوى وأقدر على الجمع بينهم من الضرورة الأولى. - هذا صحيح، ولكن ترك الاجتماع بين الأزواج، أو أي عمل آخر مشترك بينهم، يتم اتفاقا دون نظام، هو أمر لا تقره الشرائع، ولا يسمح به الحكام في أي مجتمع يحيا مواطنوه حياة فاضلة. - الحق أن هذا لن يكون أمرا مستحبا. - فمن الواضح إذن أننا نود أن تكون الزيجات أقدس ما يمكن أن تكون، وهذه القداسة تتوافر في الزيجات التي تجلب أفضل النتائج. - هذا رأيي تماما. - فكيف نحصل على أفضل النتائج؟ ذلك ما لا يتعين عليك إجابته يا جلوكون؛ إذ إنني أرى في بيتك عديدا من كلاب الصيد والطيور الأصيلة، ولا بد أنك لاحظت شيئا في مسألة التزاوج والتناسل بينها. - وما هو؟ - ألا يوجد، بين هذه الحيوانات ذاتها، ما هو خير من الباقين، وإن تكن كلها أصيلة؟ - بالطبع. - فهل تسمح بأن يتناسل الجميع دون تمييز، أم أنك تحرص على أن يتناسل أصلحها فحسب؟ - الأصلح. - وأيها تفضل لهذا الغرض: الأصغر، أم الأكبر، أم الناضجين؟ - أفضل الناضجين. - وإن لم توجه مثل هذه العناية إلى تناسل طيورك وكلابك، فإن نوعها سيتدهور كثيرا، أليس كذلك؟ - بلى. - وهل الأمر على خلاف ذلك في حالة الخيل وغيرها من الحيوانات؟ - محال أن يتغير. - يا إلهي، إننا سنحتاج إلى مهارة فائقة في حكامنا، إن كان هذا يصدق على جنس البشر أيضا. - إنه لكذلك قطعا، ولكن لم كان تعين أن تتوافر فيهم هذه المهارة؟ - ذلك لأنه سيكون عليهم أن يستخدموا كميات كبيرة من ذلك الدواء الذي تحدثنا عنه من قبل، إذ يبدو أن طبيبا واحدا، حتى لو لم يكن ماهرا قط، يكفي لمعالجة أناس لا يحتاجون إلى أدوية، وإنما يودون أن يتبعوا نظاما دقيقا في المآكل فقط، أما إذا كان استخدام الأدوية ضروريا، فسيقتضي ذلك طبيبا ماهرا. - هذا صحيح، ولكن ما الذي ترمي إليه من كل ذلك؟ - يبدو لي أن الحكام سيضطرون إلى أن يلجئوا كثيرا إلى الكذب والخداع من أجل نفع تابعيهم، ولقد قلنا من قبل إن هذا النوع من الكذب نافع بوصفه دواء. - إن لنا كل الحق في أن نقول ذلك. - وهكذا يبدو أن هذا المبدأ السليم سيلعب في الزواج وفي إنجاب الأطفال دورا ليس بالهين. - وكيف ذلك؟ - من الضروري، تبعا للمبادئ التي أقررناها، أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن، وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضيق نطاق ممكن. ولا بد من تربية أطفال الأولين، لا الآخرين، إن كنا نود أن نحتفظ للقطيع بأصالته. ومن الناحية الأخرى، فعلى الحكام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء، كما يتجنبون على قدر استطاعتهم كل خلاف داخل قطيع الحراس. - هذا عين الصواب. - وعلى ذلك، فسنقيم احتفالات نجمع فيها بين الشبان والشابات، ونقدم فيها القرابين، ونعهد إلى شعرائنا بتأليف أناشيد تلائم حفلات الزواج. أما عدد هذه الاجتماعات السنوية، فسنترك تحديده للحكام حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بعدد السكان ثابتا بقدر الإمكان، مع حساب ما يمكن أن تستتبعه الحروب والأمراض وغيرها من الحوادث من خسائر. فعليهم أن يحرصوا بقدر الإمكان، على ألا تغدو دولتنا كبيرة أو صغيرة أكثر مما ينبغي. - هذا حسن. - يبدو لي أن عليهم اختراع نوع من القرعة المدبرة، والتي يظن معها الأعضاء الأقل شأنا أن السبب في نتيجة الاقتراع هو سوء حظهم لا تدبير الحكام. - تماما. - وفضلا عن ذلك فإن الشبان الذين يبلون بلاء حسنا في الحروب وغيرها من المهام، يمنحون مكافآت وامتيازات، منها زيادة عدد مرات معاشرتهم للنساء، إذ إن تلك في الوقت ذاته ذريعة معقولة للحصول منهم على أكبر عدد ممكن من الأطفال. - هذا صحيح. - أما الأطفال، فعندما يولدون، يعهد بهم إلى هيئة تتولى شئونهم، تتكون إما من رجال أو من نساء، وإما من الجنسين معا، ما دامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء. - حسنا. - ومن الواجب أن يعنى هؤلاء الموظفون بأبناء صفوة المواطنين، ويعهدوا بهم إلى مربيات يقطن وحدهن مكانا خاصا من المدينة، أما أطفال المواطنين الأقل مرتبة، وأولئك الذين يولدون وفي أجسامهم عيب أو تشويه، فعليهم أن يخبئوهم في مكان خفي بعيد عن الأعين. - أجل، إذا أردنا المحافظة على نسل الحراس. - وعليهم أن يعنوا بتغذية الأطفال، وينقلوا الأمهات إلى دور الحضانة عندما تمتلئ أثداؤهن باللبن، مع اتخاذ كل التدابير الكفيلة بألا تتعرف الأمهات على أطفالهن. فإن لم يكن في وسع الأمهات أن يرضعن ، فلا بد من إيجاد مرضعات. ومن الواجب تحديد الوقت الذي تقوم فيه الأمهات بالرضاعة، بحيث لا يقمن بالسهر على الأطفال، لأن هذه وغيرها من الأعمال من شأن المربيات والخدم. - إن هذه التدابير من شأنها أن تجعل الأمومة أمرا هينا بالنسبة إلى نساء الحراس. - هكذا ينبغي أن تكون، ولكن لنواصل بحث موضوعنا. لقد قلنا إن إنجاب الأطفال يجب أن يتم بواسطة أناس ناضجين. - هذا صحيح. - ألا تظن معي أن المدة المعتادة لهذا النضج هي عشرون عاما للمرأة وثلاثون للرجل؟ - أي الأعوام تعني؟ - أعني أن للمرأة أن تنجب للدولة أطفالا منذ سن العشرين حتى الأربعين، أما الرجل، فبعد أن يجتاز أشد فترات العمر حماسة للسباق، يظل ينجب للدولة أطفالا حتى الخامسة والخمسين. - الحق أن هذه هي الفترة التي تبلغ فيها القوى الجسمية والذهنية، عند الجنسين، أقصى مداها. - فإذا حاول رجل أن ينجب أطفالا للدولة قبل هذه السن أو بعدها، فسنتهمه بأنه آثم في حق الدين والعدل؛ إذ إنه، لو أفلح في إخفاء ميلاد أطفاله، فمعنى ذلك أنه يأتي للدولة بأطفال لم يقترن مولدهم ببركات القرابين والصلوات التي يقوم بها الكهنة والكاهنات وكل هيئة دينية في الدولة لكل زواج، مبتهلين أن تنجب الصفوة المختارة من الناس أبناء خيرا منهم، وأن ينجب النافعون للدولة أطفالا أنفع لها منهم. أما هذا الذي يفعله أولئك، ففيه مخالفة وإباحية شنيعة. - هذا حسن. - وينطبق نفس الحكم على الرجل الذي بلغ سن النضج، حين يحاول أن ينجب من امرأة بلغت نفس السن دون أن يكون الحاكم قد جمع بينهما؛ إذ إن الطفل الذي يهبانه للدولة في مثل هذه الظروف، دون أن يكون القانون أو الدين قد باركهما، لا يكون بالنسبة إلينا إلا لقيطا. - هذا عين الصواب. - فإذا تجاوز الرجل أو المرأة سن الإنجاب للدولة، فأرى أن نترك للرجال حرية الاختلاط بمن يشاءون من النساء، فيما عدا بناته، وبنات بناته، أو أمه أو جدته، ونترك للنساء نفس الحرية، مع استثناء الأبناء والآباء والأحفاد والأجداد. ولكنا إذ نترك لهم تلك الحرية ، ينبغي أن ننبههم إلى أن يحرصوا كل الحرص على ألا ينجبوا للدولة أي طفل، فإذا لم تفلح احتياطاتهم، فليضعوا في أذهانهم أن يتخلصوا منه، لأن الدولة لن تستطيع أن تربي طفلا كهذا. - تلك تدابير حكيمة. ولكن على أي نحو يميزون آباءهم وبناتهم وغيرهم من الأقارب الذين ذكرتهم؟ - لن يستطيعوا تمييزهم قط. وإنما ينبغي أن ينظر الرجل، منذ الوقت الذي يبدأ فيه زواجه، إلى كل الأطفال الذين يولدون في الشهر السابع أو العاشر، الذكور منهم على أنهم أبناؤه، والإناث على أنهن بناته، وعلى هؤلاء الأطفال أن يدعوه بالأب، وعليه أن يعد أبناء هؤلاء أحفادا له، كما يعدونه هم جدا لهم، وامرأته جدة لهم. كذلك ينبغي أن ينظروا إلى الأطفال الذين يولدون في الفترة التي ينجب فيها آباؤهم وأمهاتهم على أنهم أشقاء وشقيقات لهم، وبهذا يمتنعون فيما بينهم، كما ذكرت، عن كل اختلاط جنسي. ومع ذلك فإن القانون يسمح بزواج الأخ من الأخت، إذا شاء الاقتراع ذلك، وإذا ما أيدته نبوءة دلفي. - هذا عين الصواب. - على هذا النحو، أو ما يشابهه، سيكون شيوع النساء والأطفال بين الحراس في الدولة.
8
وتتمكن زوجات الحراس، بعد تحررهن من مهمة تربية الأطفال ورعاية أسرهن، من مشاركة أزواجهن في تحمل أعباء حكم المدينة. ويوجه سقراط إلى جلوكون هذا السؤال: - هل توافق إذن على أن تشترك النساء مع الرجال في كل شيء، كما قلنا من قبل، أعني في شئون التربية والأطفال وحراسة بقية المواطنين، وأن على النساء، سواء ظللن في المدينة أم ذهبن إلى الحرب، أن يسهمن في حراسة الدولة، ويشتركن مع الرجال، كما تفعل إناث الكلاب حين تشارك ذكورها في الصيد والحراسة، وأن يتقاسمن معهم كل شيء؟ أتوافق على أن يفعلن كل هذا بقدر ما في وسعهن، وألا يتجاوز النظام الذي وضعته الطبيعة بين الرجل والمرأة، وذلك في الأمور التي خلقت للجنسين القدرة على التعاون فيها؟ - أوافق على ذلك.
9
صفحة غير معروفة
ولا ينبغي أن يسمح للعلاقات بين الرجال والنساء أن تخل بحياة المجتمع. والواقع أن أفلاطون لا يعترف إلا بالحب بين أشخاص من نفس الجنس، ولكنه يشترط حتى في هذه الحالة أن يخلو الحب من العواطف المشبوبة: «إن الحب الصادق هو أن تحب بروح معتدلة ومتناغمة كل ما هو متسق وجميل.» ويقول سقراط لجلوكون: «وفي المدينة التي نقوم بتأسيسها، سوف نضع قانونا يمكن بمقتضاه أن يقبل المحب حبيبه، وأن يصاحبه ويعانقه كما لو كان ابنه، وذلك - إذا كان مقتنعا به - حبا في الجمال، ولكن علاقاته بالشخص الذي يتعلق به ستتوخى في جميع الأمور الأخرى ألا تثير شبهة تجاوز هذه الحدود. وإذا تصرف بصورة مخالفة، فسوف يجر على نفسه الاتهام بالذوق السيئ والسوقية.»
وهكذا تقوم الحكومة في دولة أفلاطون المثالية على عاتق طبقة من ذوي المواهب العالية من الرجال والنساء الذين تخلوا عن الملكية والامتيازات المادية، وأقبلوا على الزواج والإنجاب بما يتفق مع مصلحة الدولة، واحتقروا العواطف والمشاعر الأنانية. ولكن هناك بين الحراس أنفسهم من هم أصلح للحكم من غيرهم. فالذين تغلب عليهم الطبيعة الفلسفية سيصبحون حكاما، بينما يصبح الأقل منهم ذكاء والأكثر ميلا للرياضة العنيفة مساعدين أو جنودا، ويشكلون جيشا نظاميا محترفا: - وهكذا يتعين علينا، يا صديقي، أن نوسع نطاق الدولة إلى حد بعيد، بإضافة جيش كامل يخرج لملاقاة الأعداء ويذود عن ممتلكات الدولة ضد كل معتد، ويستولي على ما يمتلكه الأعداء. - ولم ذلك؟ ألا يستطيع المواطنون أن يتولوا ذلك بأنفسهم؟ - كلا، وذلك إذا ما كان المبدأ الذي اتفقنا عليه حين أسسنا الدولة صحيحا. فلعلك تذكر أننا اتفقنا على أنه من المحال على فرد واحد أن يجيد عدة حرف في آن واحد. - هذا صحيح. - ولكن أليست الحرب فنا وحرفة؟ - بلى. - وهي فن يتطلب من الانتباه ما تتطلبه حرفة الحذاء على الأقل؟ - بلا شك. - غير أننا لم نسمح للحذاء بأن يكون زارعا أو نساجا أو بناء، وإنما جعلناه يقتصر على صنع الأحذية كيما يتقن صنعته. كذلك جعلنا لكل صانع آخر حرفة واحدة، وهي التي أتقنها ومارسها طوال حياته، فاستبعدنا عنه كل حرفة أخرى، بحيث إنه لم يعد يدخر وسعا للوصول في حرفته إلى حد الكمال. فإن كان الأمر كذلك، ألا ترى أن من أعظم الأمور أهمية أن تمارس الحرب كما ينبغي؟ وهل تظن أن من السهل ممارسة هذه المهنة، بحيث يستطيع الزارع أو الحذاء أو أي صانع آخر أن يكون محاربا في نفس الوقت، على حين أن المرء لا يجيد لعبة النرد إلا إذا تدرب عليها منذ طفولته، ولم يقتصر على اللعب في أوقات فراغه؟ وهل يكفي أن يتناول المرء رمحا أو أي سلاح آخر، كيما يصبح في الحال جنديا مدربا في أي فرع من فروع الجيش، بينما نحن نعلم عن يقين أننا مهما تناولنا من أدوات في أي فن آخر، فلن نصبح صناعا أو رياضيين؛ إذ إن الأداة لن تجدي شيئا لمن لم يكتسب معرفة بكل فن ولم يتلق التدريب الضروري فيه.
10
وهناك فقرة في بداية «الجمهورية» تشير، على ما يبدو، إلى إيمان أفلاطون بأن المدينة المثالية بحق ستستغني عن وجود جيش؛ لأن الناس سيحيون حياة بسيطة، ولن يفكروا في التوسع في أرضهم لإشباع حاجاتهم، ولأن حب الرفاهية هو الذي يخلق الحروب. ولقد بين سقراط أن المدن تنشأ بسبب عجز الإنسان بحكم طبيعته عن الاكتفاء بنفسه، واضطراره للتعاون مع غيره من الناس، الذين لهم نفس الحاجات مع تفاوت قدراتهم، على تلبية هذه الحاجات. وهؤلاء الناس سيعيشون حياة يتمتعون فيها بالرفاهية والسلام: - فلنتأمل أولا على أي نحو سيعيش أولئك الناس، بعد أن نظمنا حياتهم على هذا النحو. ألن ينتجوا قمحا ونبيذا، ويصنعوا ملابس وأحذية، ويبنوا بيوتا؟ ألن يشتغلوا في الصيف وهم أنصاف عراة، دون أحذية، ويلبسوا في الشتاء ما يكفيهم من الملابس والأحذية؟ إنهم سيصنعون، من أجل طعامهم، دقيقا وشعيرا يخبزونهما ويصنعون منهما شطائر وأرغفة، يجلسون لأكلها إلى جانب قطعة من جذع شجرة أو أغصان مورقة نظيفة، ويضطجعون على أسرة مما يقطعونه من أخشاب، فرشت بالقش أو أعواد الريحان. وهم يولمون مع أطفالهم الولائم، فيحتسون النبيذ وقد اكتست رءوسهم من الأزهار تيجانا، ويسبحون في أغانيهم بحمد الآلهة. وهكذا يحيون معا حياة هنيئة، مع حرصهم على أن يتحكموا في عدد أطفالهم حسب مواردهم ، خشية إملاق أو خوفا من الحرب.
وهنا اعترض جلوكون قائلا: ولكنك قد أطعمت هؤلاء الناس خبزا جافا فحسب. - هذا صحيح، لقد نسيت الأطباق الحافلة، ولكن لا شك في أنه سيكون لديهم الملح والزيتون والجبن، وسيطبخون الجذور والخضر كما يفعل ملاحونا اليوم. أما الفاكهة فسيكون لهم منها التين والكمثرى والبندق، كما يقومون بصنع النبيذ ويشربون منه باعتدال. وبمثل هذا الغذاء تمضي حياتهم في سلام، وتصح أبدانهم ويصلون إلى الشيخوخة، فيورثون هذه الحياة لأبنائهم. - إنك لو كنت تنظم مدينة من الخنازير، لما جعلتهم يعيشون على نحو يخالف ذلك. - فماذا تود إذن أن تمنحهم إياه؟ - متع الحياة المألوفة. فلزام علينا، إن شئنا أن نجعلهم في رغد من العيش، أن نجلسهم على أرائك، ونطعمهم على مناضد، ونقدم إليهم من الطعام والحلوى ما نعرفه اليوم. - حسنا جدا، لقد فهمت الآن. فموضوع بحثنا ليس إذن مسألة قيام الدولة، وإنما قيام الدولة المترفة. وربما لم يكن في هذا البحث ضرر؛ إذ إن تأمل دولة كهذه يجعل من الأسهل علينا إدراك نشأة العدل والظلم. على أني أعتقد أن التركيب الذي رسمته للدولة هو التركيب الصحيح السليم. أما إذا شئت أن ترى دولة بلغت قمة الترف، فليس لدي اعتراض؛ إذ إنني أعتقد أن هناك من لا يرضون عن هذه الحياة البسيطة، وإنما يودون إضافة الأرائك والمناضد وغيرها من الأثاث، والحلوى والعطور والبخور والشطائر، وكل الأنواع الممكنة من هذه الكماليات. فهم لا يرون أن الضروريات تنحصر فيما أوضحته من مساكن وملابس وأحذية، وإنما يضيفون إليها اللوحات المرسومة وكل أنواع الزخارف، واقتناء الحلي والعاج وكل غال نفيس، أليس كذلك؟ - أجل. - إذن، فلنوسع دولتنا، ما دامت الصورة الأولى الصحيحة لم تعد كافية. ففي هذه الحالة تحتشد المدينة وتمتلئ بعدد وافر من الناس، لا يدعو إلى وجودهم فيها سوى الحاجات السطحية، ومن أمثالهم مختلف أنواع القناصة والصيادين، والمقلدون الذين يختص بعضهم بالأشكال والألوان، وبعضهم بالموسيقى، وهم الشعراء ومن يصاحبهم من المغنين ، ومن الممثلين والراقصين ومنظمي المسارح، وصناع مختلف الأدوات، وخاصة أدوات الزينة للنساء . وسنضطر إلى زيادة عدد الخدم، ولا إخالك تظن أننا لن نكون بحاجة إلى معلمين ومرضعات ومربيات، ووصيفات وحلاقين وطباخين ورعاة للحيوان، وهم الذين لم نكن بحاجة إليهم في دولتنا السابقة، وإنما أصبحوا الآن لازمين لتربية مختلف أنواع الحيوانات لمن شاء أكلها. أليس كذلك؟ - بلا جدال. - ولكن الحياة على هذا النحو تجعل وجود الأطباء ألزم كثيرا من ذي قبل؟ - أجل، ألزم بكثير. - ثم تصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها، أضيق وأقل من أن تكيفهم. ألا ترى ذلك؟ - هذا صحيح. - وعندئذ، ألن نضطر إلى أن نتعدى على أرض جيراننا، إن شئنا أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك، ألن يضطر جيراننا بدورهم إلى التعدي على أرضنا، ما داموا قد استسلموا، بعد عبورهم حدود الضرورة، لشهوة التملك الجامحة؟ - هذا أمر لا مفر منه يا سقراط. - وإذن فسوف نشن الحرب.
11
ومن الغريب أن سقراط، على الرغم من أنه يبدو رافضا «لفرض الرقابة على مدينة تعاني من دستور مريض»، لا يحاول إقناع المستمعين لحديثه بأن يتخلوا عن رغبتهم في حياة أكثر راحة، وإنما يقبل النتائج المترتبة على هذه الرغبة، وهي الحرب والاحتياج إلى جيش دائم.
ويتناول أفلاطون بالتفصيل تربية الحراس، بل التربية بصفة عامة، وتعد الجمهورية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، رسالة عن التربية بجانب غيرها من الموضوعات. وتتوزع أقسام التربية، كما هو العرف السائد عند الإغريق، بين التربية البدنية، التي تتضمن التدريب العسكري، والموسيقى. أما عن الموسيقى، فيلاحظ لويس ديكنسون
Lowes Dickinson
أنه «يجب علينا أن نتذكر أن معنى الكلمة اليونانية كان أوسع بكثير من المعنى الذي نفهمه منها اليوم، إذ كان يضم جميع أنواع التثقيف الخلقي والجمالي والعقلي.» ومع ذلك فإن تربية حاكم المستقبل يجب ألا تنحصر في التربية البدنية والموسيقية، ويجب أن يدرب عقله على التفكير والارتفاع فوق الحواس عن طريق دراسة العلوم الرياضية، حتى يكون قادرا على تكريس نفسه لدراسة الفلسفة الحقة، التي يسميها الدياليكتيك (الجدل ): - إذن فمن الواجب تدريس الحساب والهندسة وكل العلوم التي تمهد لتعلم الدياليكتيك في سن الطفولة. ويجب أن نضفي على تلك الدروس صورة لا تنطوي على أي نوع من الإرغام. - لماذا؟ - لأن تعليم الحر ينبغي ألا يتضمن شيئا من العبودية. فالتدريبات البدنية التي تؤدى قهرا لا تؤذي البدن في شيء، أما العلوم التي تقحم في النفس قسرا فإنها لا تظل عالقة في الذهن. - هذا صحيح.
صفحة غير معروفة
فاستطردت قائلا: وإذن فليس لك، أيها الصديق الكريم، أن تستخدم القوة مع الأطفال، وإنما عليك أن تجعل التعليم يبدو لهوا بالنسبة إليهم. وبهذه الطريقة يمكنك أن تكشف بسهولة ميولهم الطبيعية. - هذه خطة حكيمة حقا. - ألا تذكر، ضمن ما قلناه من قبل، أن علينا أن نجعل أطفالنا يشاهدون الحروب وهم على ظهور الخيل، حتى إذا ما زال خطرها اقتربنا بهم من ميدان المعركة لنذيقهم طعم الدم كما نفعل مع صغار الكلاب؟ - إنني لأذكر ذلك. - وإذن فسنفعل الشيء عينه في كل هذه الدراسات والتدريبات والمخاطر، بحيث نختار من يبدي فيها مزيدا من التفوق، لنضعه في قائمة منتقاة. - في أي سن؟ - في السن التي يترك فيها الأطفال مرحلة تدريبهم البدني الإجباري، إذ إنه خلال هذا الوقت، الذي يدوم ما بين سنتين وثلاث سنوات، يكون من المستحيل عليهم أن يفعلوا شيئا آخر، لأن الإرهاق والنعاس عدوان للدرس. كذلك فإن هذه المرحلة البدنية تنطوي على اختيار عظيم الأهمية، ندرك منه مدى قدرة كل منهم على تحمل أعمال البدن. - بالتأكيد. - وبعد ذلك، نختار من الشباب من بلغوا سن العشرين، ونضفي عليهم مزيدا من التكريم. وهكذا نلقنهم تلك العلوم التي عرفوها منفصلة في طفولتهم، في صورة متجمعة مترابطة، حتى يدركوا العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، وتربطها بالوجود الحقيقي في الوقت نفسه. - لا شك في أن هذا هو النوع الوحيد من المعرفة الذي يرسخ في الأذهان بحق. - وهو أيضا خير معيار تميز به المواهب القادرة على دراسة الدياليكتيك؛ إذ إن الذهن القادر على النظر إلى الأمور نظرة شاملة، هو الأصلح للدياليكتيك. - إنني لأوافقك على ذلك. - وإذن فسوف تلاحظ هذه الصفات عن كثب، وتختار أولئك الذين يملكونها أكثر من غيرهم، والذين يثبتون أعظم قدرة على استيعاب العلوم، وأكبر قدرة على رباطة الجأش في الحروب وغيرها من الواجبات المفروضة عليهم. وعندما يبلغون سن الثلاثين، سنضفي عليهم مزيدا من التكريم، ونختبرهم عن طريق الدياليكتيك، باحثين بذلك عن أولئك الذين يمكنهم الارتقاء إلى الوجود الخالص سعيا وراء الحقيقة، دون معونة العين أو أي حاسة أخرى. وهذه، أيها الصديق، هي المرحلة التي يتعين علينا فيها أن نحتاط إلى أبعد حد.
12 - فإذا ما كرس المرء نفسه تماما لهذه الدراسة، وثابر عليها وحدها دون انقطاع، مثلما ثابر من قبل على تدريب جسمه، فهل يكفيه أن يخصص لها ضعف عدد السنين التي خصصها للتدريب البدني؟ - أتعني ست سنوات أم أربعا؟ - لنجعلها خمسا كي لا نختلف، وبعد ذلك سنعيدهم إلى الكهف الذي تحدثنا عنه، ونرغمهم على تولي المهام العسكرية وكل الوظائف التي يصلح لها الشبان، حتى لا يكونوا أقل خبرة من الباقين. وخلال عملهم في هذه المهام يمكنك أن تتحقق، مرة أخرى، مما إذا كانوا سيصمدون لكل المغريات التي تتجاذبهم من جميع الجهات، أم أنهم سينقادون لها. - وكم من الزمن تخصص لهذه المرحلة؟ - خمسة عشر عاما. وعندما يبلغون سن الخمسين، علينا أن نأخذ منهم أولئك الذين صمدوا لكل التجارب، والذين تميزوا عن كل من عداهم في الشئون العملية وفي المعرفة، فنسير بهم نحو الهدف النهائي. وعلى هؤلاء أن يرفعوا عين النفس ليتأملوا ذلك الذي يضفي النور على كل شيء. فإذا ما عاينوا الخير في ذاته، فإنهم سيتخذونه نموذجا ينظمون تبعا له المدينة والأفراد، وكذلك أنفسهم أيضا. وخلال ما تبقى لهم من العمر، يكرسون للفلسفة أكبر قدر من وقتهم، ولكن إذا ما جاء دورهم، فإنهم يتولون زمام السياسة، ويتناوبون الحكم من أجل المصلحة العامة وحدها، ويرون في الحكم ذاته واجبا لا مفر منه، أكثر من كونه شرفا. وبعد أن ينشئوا في كل جيل مواطنين آخرين على شاكلتهم، ليحلوا محلهم في رعاية الدولة، ينتقلون إلى سكنى جزر السعداء. أما الدولة فإنها تقيم لهم النصب التذكارية وتقدم من أجلهم القرابين، وتعدهم آلهة مباركين، إذا سمحت النبوءة «البيثية» بذلك، وإلا عدتهم نفوسا بشرية فيها نفخة من الروح الإلهية على الأقل. - إن الصورة التي قدمتها لحكامنا لرائعة بحق، وإنها لصورة يعجز عن صوغها أبرع مثال. - وهي تنطبق أيضا على حاكماتنا يا جلوكون؛ فلا تظن أن ما قلته يسري على الرجال دون النساء، بل إنه لينطبق عليهما معا، ما دام هؤلاء يتمتعن بالمواهب اللازمة.
13
لقد أوشك اهتمامنا حتى الآن أن ينصب على اختيار الحراس وتربيتهم والمنظمات التي تدبر شئونهم، لكي يؤهلوا للقيام بواجبهم في حكم المدينة والدفاع عنها. ولكننا لم نذكر شيئا عن الأمور التي تتعلق بالإنتاج والتوزيع، ولا عن الفلاحين، والصناع والتجار الذين لا تستغني عنهم الحياة في المدينة. والواقع أن أفلاطون لم يهتم بهم إلا قليلا، لأنه تصور أنه إذا وجدت الحكومة الصالحة، فإن سائر ما في الدولة يمكنه أن يعنى بنفسه. ولهذا فإن الجمهورية تعتبر وصفا للطبقة الحاكمة المثالية، أكثر مما هي وصف للدولة المثالية؛ لأنها تتكلم قليلا عن المنتجين الذين يبدو أنهم تركوا لتنظيماتهم القديمة. وبهذا تقع مهمة التشريع للأمور المتعلقة «بالعامة» على عاتق الفلاسفة: - ولكن خبرني، أيجدر بنا أن ننظم قوانين شئون الأسواق، كالمعاملات بين البائعين والمشترين، والعقود التجارية، والأمور المتعلقة بالاعتداء بالسباب أو القذف، وإجراءات رفع الدعوى في المحاكم، وتكوين القضاة، وجباية الضرائب ودفعها في الأسواق والموانئ، وبقية الشئون المتعلقة بإدارة الأسواق وتنظيم الطرق ومرور السفن وما شاكلها؟ - كلا، لست أرى ما يدعونا إلى أن نضع للأمناء من الناس قواعد يسلكون تبعا لها في هذه الأمور؛ إذ إن في وسع هؤلاء، أن يهتدوا من تلقاء أنفسهم إلى معظمها.
14
ويفتش المرء عبثا في «الجمهورية» عما يدل على كيفية تدبير طبقة المنتجين لشئون حياتهم، غير أن هناك لمحات قليلة تشير إلى أن الملكية الخاصة لم تلغ، وأن الزواج والحياة العائلية قد سمح بهما على الطريقة القديمة. ويبدو أن أرسطو كان على حق في نقده لأفلاطون ، لأنه لم يحدد وضع الهيكل الرئيسي للدولة الذي لا يتكون من الحراس فحسب، بل من مجموع المواطنين الآخرين. إن هؤلاء المواطنين سوف يفضلون في رأي أفلاطون أن يتركوا كل شئون الدولة في أيدي الحراس، وأن يزودوهم بالضروريات الأساسية للحياة في مقابل العمل الإداري الذي يتولونه نيابة عنهم.
وربما يكون أفلاطون، من وجهة نظر ماركسية، قد وقع في تناقض شديد لأنه لم يعط حراسه أي سلطة اقتصادية. فهم صفر الأيدي من الملكية، ولا يسمح لهم بلمس الذهب والفضة، وإذا تلقوا أجورهم على شكل سلع أو منتجات طبيعية، فمن الواضح أنها ستكون أجورا متدنية، لأن الانغماس في الترف محظور عليهم. أما المنتجون فيملكون السلطة الاقتصادية الكاملة، على الرغم من حرمانهم من أي سلطة سياسية. «والنتيجة الضرورية المترتبة على هذا» كما يقول أرسطو «هي أن تكون هناك دولتان في دولة واحدة، وأن تتبادل الدولتان الكراهية والعداوة.» وقد توسع ألكسندر جراي
Alexander Gray
في هذه الفكرة، فلاحظ أن «عصرا غرست فيه أهمية السلطة الاقتصادية، وما زالت تغرس، لن يجد صعوبة كبيرة في تحديد أي الدولتين المتبادلتين للعداوة سيخرج من السباق بأكبر فائدة.»
وإذا كان قيام أفلاطون بالفصل بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية يبدو للوهلة الأولى أمرا غير واقعي، فمن الخطأ الاعتقاد بأن الحراس واقعون تماما تحت رحمة بقية المواطنين، الذين سيكونون في وضع يسمح لهم بأن يعرضوا الحراس للجوع لو أرادوا ذلك. وإذا لم تكن للحراس سلطة اقتصادية، فإنهم يملكون السلطة العسكرية؛ لأنهم المواطنون الوحيدون المدربون على خوض الحروب. وليس من الصعب التكهن بأن المزارعين إذا رفضوا إمدادهم بالطعام فسوف يسرع المساعدون بإجبارهم على ذلك. وهناك فقرات عديدة تبين أن أفلاطون لم يتخيل أن شئون جمهوريته المثالية ستسير دائما بسهولة ويسر، وأن المساعدين لن يكون من واجبهم الدفاع عن الدولة ضد العدوان الخارجي فحسب، بل سيكون عليهم أيضا أن يدافعوا عنها ضد المتمردين عليها من الداخل.
صفحة غير معروفة
وعندما يبحث المرء، على سبيل المثال، عن أصلح مكان في المدينة لإقامة معسكراتهم، فإنهم لا يكتفون باختيار الموقع الذي يمكنهم من الرد على الهجمات الخارجية، وإنما يختارون الموقع الذي «يمكنهم كذلك من التصدي لأي خروج على القانون داخل المدينة».
وعلينا أن نتذكر أيضا أن الحراس يتمتعون، في نظر الشعب، بنوع من السلطة الدينية المقدسة؛ فهم مخلوقون من ذهب، ومفضلون على سائر الناس. والذي يثبت أن مثل هذه الأسطورة يمكن تصديقها، هو الاعتقاد الذي ساده لعدة قرون بأن الملوك هم ممثلو الإله على الأرض. وقد أدرك أفلاطون بوضوح أنه يمكن قيام الدولة إذا وضعت الطبقات المنتجة تحت سيطرة طبقة تدين بقوتها للهيمنة العسكرية والدينية. ولو استعرضنا التاريخ كله لرأينا أن وجود الدولة يتضمن تقسيم المجتمع إلى طبقات، ولكن قوة الطبقة الحاكمة لا ترجع بالضرورة إلى ثروتها الاقتصادية، وإنما ترجع إلى وجود أيديولوجيا تكسو هذه الطبقة برداء سلطة أعلى تدعمها القوة المسلحة.
لقد وصف أفلاطون بأنه «يعتبر من بعض النواحي أعظم الثوريين، كما يعد من نواح أخرى أكبر الرجعيين». ولعل الأدق من ذلك أن نقول إنه أكبر ممثل للنزعة الشمولية. فعلى الرغم من أن دولته المثالية يحكمها الفلاسفة، فليس فيها من الحرية أكثر مما لو خضعت لحكام الأقاليم. والواقع أن الحرية فيها أقل؛ لأن الفلاسفة أقدر من هؤلاء على سحق الحرية، وذلك بحكم أنهم أقدر على الكشف عن أي فكرة معارضة لأفكارهم. وهم على استعداد للسماح للمواطنين بقدر ضئيل من الحرية في أمور قليلة الشأن مثل التجارة، أما في شئون الفن والتربية، أي في كل ما يتعلق بالحرية العقلية، فهم قساة لا يعرفون الرحمة على الإطلاق. كما أنهم لا يسمحون بأي تجديد أو ابتكار في مجال التعليم لاعتقادهم بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة: - إذن فعلى حراس الدولة أن يحذروا من أن يفسد أي شخص كما يشاء له هواه، لأن من واجبهم أن يكونوا في يقظة دائمة، لئلا يأتي أحد ببدع مضادة للنظام المتبع في تربية الجسم والنفس. فإذا ما قال الشاعر: «إن الناس يميلون خاصة إلى إحداث ما ينشده المغنون من أغنيات.» فليحرصوا كل الحرص على ألا يتوهم أحد أن الشاعر يقصد طريقة جديدة في الغناء، لا أغنيات جديدة، أو أنه يحض الناس على اتباع هذه البدعة. فليس لنا أن نطري قول الشاعر هذا، ولا أن نفسره على هذا النحو؛ إذ إن ابتداع طريقة جديدة في الموسيقى شيء يجب أن نحذره، ففي ذلك إفساد تام للمجتمع، إذا كان صحيحا ما يقول به دامون
Damon ، وما أومن به بدوري، من أن المرء لا يستطيع تغيير طرق الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسا على عقب. - ينبغي أن تدرجني أنا أيضا ضمن أنصار هذا الرأي. - ففي ميدان الموسيقى هذا إذن يتعين على الحراس أن يكونوا يقظين في حراستهم. - من المؤكد أن خرق قوانين الدولة يتم في هذا الميدان بسهولة بحيث لا يشعر به أحد. - أجل، إنه ليتم باسم اللهو، دون أن يبدو على المرء أنه يرتكب شيئا ضارا. - تماما، فهذه هي الطريقة التي يحدث بها، إنه ليثبت أقدامه رويدا رويدا، ويتغلغل خلسة في عادات الناس وطباعهم، حتى إذا ما تمكن من نفوسهم، انتقل إلى المعاملات التي تسير عليها الحكومة بكل جرأة، بحيث لا يترك في النهاية شيئا إلا وقوض أركانه، سواء في الحياة الخاصة أو في الحياة العامة.
15
من الضروري في جمهورية أفلاطون أن تتماشى الموسيقى والأدب والعمارة والتصوير مع معايير أخلاقية معينة. ويتوقف الفن عند كونه تعبيرا عن الشخصية الفردية؛ لأن عليه أن يخدم مصالح الدولة وحسب. والدولة هي التي تحدد ما هو خير وما هو شر، وما هو جميل أو قبيح. ولهذا يجب أن تمنع الآلات الموسيقية والإيقاعات التي «تعبر عن الانحطاط والغرور، أو عن الجنون أو غيره من الشرور»، كما يجب أن يجبر الشعراء على أن «يطبعوا على قصائدهم صورة الخير وحده أو يمنعوا من قرض الشعر»، وإذا لم يستجيبوا لهذا فيجب أن يطلب منهم مغادرة المدينة. ولا بد أن يعبر التصوير والنسيج وأشغال الإبرة والعمارة والحرف الفنية الأخرى عن الإيقاع الجيد والانسجام، وإن كان من الواضح أن أفلاطون يعني بهما الإيقاع والانسجام اللذين تقرهما الدولة.
وقد أدرك أفلاطون إدراكا واضحا العلاقة بين الفن والأخلاق أو، كما نقول الآن ، بين الفن والسياسة. وعلى الرغم من زعمه أنه يدافع عن الحقيقة والجمال، فمن الواضح أنه يريد المحافظة على استقرار الدولة من التأثير الضار للفن الحر. ولهذا فإن عمارة المنازل، شأنها شأن القصيدة، يمكن أن تكشف عن اتجاهات معينة يصفها بأنها خيرة أو شريرة، ومؤيدة للدولة أو ثائرة عليها. لقد تعودنا، منذ أن نشأت الدول الشمولية الحديثة، على وجهة النظر التي تعتبر أن الفنانين يمكن أن يكونوا أعداء خطرين على الدولة، ولا يرجع ذلك فحسب للأفكار التي يعبرون عنها، وإنما يرجع إلى الشكل الذي يمكن أن يتخذه فنهم. وفي السنوات الأخيرة دمرت أو صودرت أعمال فنية؛ لأنها اعتبرت من مظاهر الانحلال البرجوازي، كما تمت «تصفية» كتاب وشعراء وموسيقيين بحجة أنهم مناهضون للثورة أو برجوازيون صغار. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ وصف جمهورية أفلاطون وينتهي بالهجوم على حرية الفنان، وهو في الحقيقة هجوم على حرية الفكر؛ لأنه لم توجد في عصر أفلاطون كتب أو دور نشر، ولم يكن من الممكن أن تظهر أفكار الناس إلا من خلال التعليم الذي كانوا يقومون به أو من خلال إنتاجهم الأدبي والفني. إن المهمة الأولى التي تحرص عليها أي حكومة شمولية هي قمع تلك الحرية، ومحاولة جعل الفنان أداة في يد الدولة، الأمر الذي يؤدي حتما إلى ركود الفن وتدهوره في ظل النظم الشمولية. والفن لا يمكنه أن يصل إلى أسمى تعبير عنه إلا عندما يسمح له بأقصى قدر من الحرية، وهو ما يمكن أن يدل عليه ثراء الإنتاج الفني وتنوعه عند الإغريق. ولو كانت بلاد اليونان القديمة جمهورية شمولية كما تخيلها أفلاطون، بدلا من أن تكون اتحادا فيدراليا بين مدن حرة، لما استطاع رجال مثل هوميروس وسوفوكليس وأرسطوفان، وحتى أفلاطون نفسه، أن ينتجوا روائعهم الأدبية.
إن هذا في حد ذاته سبب كاف لأن يجعلنا نأمل، من صميم قلوبنا، ألا يتحقق أبدا في المستقبل نظام اجتماعي كالنظام الذي يصفه أفلاطون في الجمهورية . ولكن غياب الحرية العقلية ليس هو الشيء الوحيد المنفر في دولة أفلاطون المثالية. فالفكرة التي تقول إن كل إنسان قد وهب القدرة على القيام بمهمة واحدة، ومهمة واحدة فقط، مما أدى إلى التقسيم المصطنع للمواطنين إلى منتجين وجنود وحكام، هي فكرة بعيدة كل البعد عن أبسط الملاحظات النفسية. وإذا كان من المؤكد أن بعض الناس قد وهبوا قدرات تفوق قدرات غيرهم على القيام بمهمات معينة، فإن إنسانا واحدا بعينه يمكن أن ينجز أنشطة متعددة بنفس الكفاءة، وأن تؤدي اهتماماته المتعددة إلى إغناء شخصيته. ولا يستطيع أفلاطون أن يقنعنا كذلك بأن بعض الناس قد ولدوا «بطبيعتهم» لكي يتولوا الحكم، بينما ولد غيرهم لكي يكونوا محكومين؛ لأننا نجد على مر التاريخ أمثلة كثيرة لمجتمعات مزدهرة شارك كل أعضائها في النهوض بشئونها. ولا يملك المرء إلا أن يصفق إعجابا بإرازموس الذي يهزأ، تحت قناع الحماقة، بأفلاطون بسبب ثقته المفرطة في حكم الفلاسفة: «أضف إلى ذلك الثناء الشديد على عبارة أفلاطون الشهيرة: «سعيدة هي الدولة التي يكون فيها الفيلسوف أميرا، أو التي يكرس أميرها نفسه للفلسفة.» ولكنك لو أخذت رأي المؤرخين لوجدت أن أشد الأمراء جناية على دولهم هم الذين سقطت الإمبراطورية في عهدهم تحت رحمة بعض الذين عرفوا الفلسفة أو الأدب معرفة سطحية. والدليل الكافي على صدق هذا الرأي يقدمه أولئك الذين أطلق عليهم اسم كاتو؛ لقد كان أحدهم يزعج سلام الدولة باستمرار بالتهم المصطنعة التي لا يكف عن توجيهها. أما الآخر فقد قضى على حرية الإمبراطورية في الوقت الذي لم يكن يكف فيه عن الدفاع بكل ما أوتي من حكمة عن هذه الحرية. أضف إلى هؤلاء مجموعة الأشخاص الذين تسموا باسم بروتس أو كاسيوس، بل شيشرون نفسه، الذي لم يكن أقل إيذاء لروما من ديموستينس لأثينا. وإلى جانب هؤلاء أذكر لك أنطونينوس (الذي كان في نيتي أن أقدمه لك كمثل واحد على الإمبراطور الصالح، ولكني لا أستطيع أن أفعل هذا بغير مشقة.) فقد أصبح عبئا على رعاياه الذين أبغضوه، لا لسبب إلا لأنه كان فيلسوفا عظيما. وحتى لو سلمنا بأنه كان حاكما صالحا، فقد أضر بالدولة ضررا أشد من خلال ابنه الذي خلفه وراءه. ذلك لأن أمثال هؤلاء الرجال الذين انصرفوا للحكمة هم بوجه عام رجال سيئو الحظ، لا سيما في أولادهم، ويبدو أن الطبيعة هي التي دبرت هذا بفضل عنايتها، حتى لا تنتشر مصيبة الحكمة انتشارا أوسع بين البشر. ولهذا السبب يتضح لك لماذا كان ابن شيشرون ولدا منحلا، ولماذا كان أبناء سقراط - كما لاحظ البعض بحق - أشبه بأمهم منهم بأبيهم، أعني أنهم كانوا حمقى وبلهاء.»
ويمكن أن يتشكك المرء أيضا في فكرة أفلاطون عن التنظيمات الأسرية، التي يتعذر في رأيه أن تتوافق مع وجود دولة شمولية، بينما نجد من وجهة نظر علماء الاجتماع أن المجتمعات البدائية التي لم تظهر فيها الدولة تخلو بوجه عام من التنظيمات الأسرية. فالأسرة بعيدة كل البعد عن معاداة الدولة، بل هي ضرورية لاستقرارها؛ لأن الأطفال الذين تربوا على احترام سلطة الأب سيكونون أكثر استعدادا لتقبل سلطة الدولة. والنظم الشمولية الحديثة بدأت بمحاولة تحطيم الحياة الأسرية، سرعان ما رجعت إلى إقرار التنظيمات الأسرية، بعد أن تحققت من أنها تقدم أفضل ضمان لأمن الدولة.
وإذا كان أفلاطون قد استبد به الخوف من أن تفسد الثروة أو حتى مجرد الراحة نفوس حراسه، فلم يكن يدرك تمام الإدراك أن السلطة، كما يقول اللورد أكتون
صفحة غير معروفة
Lord Acton «مفسدة، وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة». وليس في جمهورية المثالية شيء عن مراقبة سلطة الحكام، كما أننا لا نجد شيئا يمكن أن يمنع المساعدين (أو المحاربين) من التصرف مثل الأسبرطيين الذين كانوا، كما يقول بلوتارك، يبتهجون ابتهاجا شديدا بذبح عبيدهم.
إن من الأمور المحيرة أن تثير جمهورية أفلاطون كل هذا الإعجاب على مر العصور، كما أن من المفارقات الغريبة أن يكون على رأس المعجبين بها رجال تعارضت مبادئهم تماما مع مبادئ أفلاطون. لقد امتدحها شعراء كان أفلاطون سيطردهم من جمهوريته، وأثنى عليها ثوريون ناضلوا من أجل إلغاء العبودية، ويبدو أنهم لم يدركوا أن نظام أفلاطون قد قام على العبودية، وأطراها ديمقراطيون على الرغم من الحقيقة التي تقول إن المرء لا يستطيع أن يتصور حكما أشد استبدادا من حكم الحراس، كما نالت الاستحسان بوصفها نموذجا للمجتمع الشيوعي، مع أن من الواضح أن مشاعية السلع لا تسري إلا على الطبقة الحاكمة، وأن الملكية الخاصة متركزة في أيدي طبقة لا تملك - على العكس مما تقول به المذاهب الماركسية - أي سلطة سياسية.
إن التحمس الذي أبداه العديد من المفكرين المستنيرين لجمهورية أفلاطون يمكن تفسيره من ناحية بأنهم نسبوا إليه أفكارا تمنوا له أنه اعتنقها، ومن ناحية أخرى بأن هؤلاء المفكرين، الذين كانت خبرتهم قليلة عن الدول الشمولية، لم يتصوروا عيوب هذه الدول. ومن سوء حظنا أن أوهامنا عن مزايا الدولة الشمولية، مهما ادعت الحكمة، قد أصبحت قليلة. وأننا قد بدأنا نشعر بأن كل واحد منا يمكنه أن يكون أفضل حارس على نفسه. (2) بلوتارك (من حوالي 46م إلى حوالي 119م): «حياة ليكورجوس»
تنافس أسبرطة أثينا في تأثيرها على الفكر اليوتوبي، وكما اعتبرت أثينا مرادفة لجمهورية أفلاطون، فقد نظر إلى أسبرطة قبل كل شيء من خلال الصورة النموذجية التي قدمها بلوتارك في القرن الأول قبل الميلاد، عن ليكورجوس الذي تصفه الرواية التاريخية المأثورة بأنه هو الذي وضع تشريع أسبرطة. ويقول بلوتارك نفسه إننا «لا نعرف عنه شيئا يقينيا مؤكدا، وأقل ما نعرفه عنه هو العصر الذي عاش فيه»، بل ربما وجد شخصان باسم ليكورجوس، وعاشا في أسبرطة في عصرين مختلفين. ويزعم بلوتارك أن التنظيمات التي تنسب إلى هذه الشخصية شبه الأسطورية قد استمر العمل بها لمدة خمسمائة عام.
وسواء اعتمدت رواية بلوتارك على الحقائق التاريخية، أو كانت من وحي خياله، فليس لذلك أهمية كبيرة، إذ ينصب اهتمامنا هنا على تأثير القوانين والتنظيمات التي وصفها على الدساتير واليوتوبيات المثالية اللاحقة، ولم يكن لهذا التأثير أن يزداد قوة لو كان ليكورجوس قد وجد وعاش بالفعل.
كان ليكورجوس، قبل أن يتولى إدارة شئون أسبرطة، قد أمضى سنوات عديدة في التنقل بين كريت وآسيا ومصر ، حيث يقال إنه استطاع أن يحصل معرفة سياسية بأسلوب علمي.
على نحو ما يقارن الأطباء الأجسام الضعيفة والعليلة بالأجسام الصحيحة والقوية، «كذلك كان ليكورجوس محظوظا عندما كسب تأييد الأسبرطيين الساخطين على حكم الملوك، وتأييد الملوك أنفسهم على أمل أن يصبح الناس في ظل وجوده أقل وقاحة في معاملتهم لهم». ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنه لم يكن من محبي السلام، ولا من المصلحين المتزنين، وإنما كان يبيت النية على القيام بثورة كاملة؛ إذ كان من رأيه أن التغيير الجزئي وإدخال بعض القوانين لن يكون أمرا مجديا، لأنه من الضروري «كما في حالة الجسم المريض المعتل المزاج، الذي تصحح الأدوية مزاجه وتشكله من جديد، أن يبدأ نظاما جديدا في العلاج».
وقد استولى على السلطة عن طريق «الانقلاب» المألوف في أيامنا، وذلك إذا استثنينا استشارته لنبوءة معبد دلفي (والحكام المستبدون في عصرنا يلجئون بوجه عام إلى استشارة إحدى القوى الأجنبية). فقد أمر ثلاثين من المواطنين المسلحين بالظهور في الأسواق في وضح النهار «لإثارة الذعر في كل من يفكر في معارضته». ونجح في بث الخوف في نفس الملكين اللذين منحاه تأييدهما، ثم قام مباشرة بتشكيل مجلس للشيوخ مكون من ثمانية وعشرين عضوا (وهم الرجال الذين ساعدوه في مشروعه، أي في حزبه) بحيث تشكلت منهم، مع الملكين، هيئة من ثلاثين عضوا. وبعد ذلك أصدر أوامره - حرصا منه على سد أي فراغ - باختيار أفضل الرجال المرموقين من بين الشيوخ الذين بلغوا الستين من عمرهم، وتم بالفعل انتخابهم بإجماع الشعب.
أما مجلس الشيوخ، الذي كان من قبل يشارك في «سلطة الملوك، وكانت قوته بلا حد ولا قيد، بل كان يتمتع بسلطة مساوية لسلطة الملوك، فقد كان هو وسيلة إبقائهم (أي الملوك) ضمن حدود الاعتدال، فضلا عن أنه ساهم مساهمة فعالة في الحفاظ على الدولة. وقد كانت أحوال الدول قبل ذلك متقلبة ومضطربة، وكانت تميل حينا إلى السلطة التعسفية، وحينا آخر إلى الديمقراطية الخالصة، ولكن مثل هذا المجلس كان بمنزلة عامل استقرار، وحافظ على توازن الدولة ووضعها في وضع مأمون، وهكذا كان أعضاء المجلس الثمانية والعشرون يقفون في صف الملوك كلما وجدوا الشعب يتجاوز حدوده، كما كانوا من ناحية أخرى يقفون في صف الشعب كلما حاول الملوك أن يجعلوا سلطتهم مطلقة». ومع ذلك فلم يخبرنا أحد كيف تحلى مجلس الشيوخ بمثل هذه النزاهة التي تثير الإعجاب.
وكان يساعد مجلس الشيوخ في أعماله مجلس للشعب، لم يكن له حق المناقشة، بل سلطة قبول أو رفض ما يقترحه عليه مجلس الشيوخ والملوك، وأمر ليكورجوس (من خلال نبوءة معبد دلفي) أن يعقد الشعب اجتماعاته في الهواء الطلق، إذ كان من رأيه أن القاعات المغلقة «لا تعود على المجلس بأي فائدة، وإنما تعوق العمل، لأنها تشتت انتباه أعضائه وتشغلهم بالتفاهات، وذلك بتأمل التماثيل والصور والسقوف الفخمة والانشغال بالزخارف المسرحية».
صفحة غير معروفة
وبعد أن اطمأن ليكورجوس على استقرار الحكم، وجه اهتمامه إلى المشكلات الاجتماعية. فقد صدمته الفروق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، وصمم على إعادة توزيع الأرض الزراعية. والواقع أن حالة عدم المساواة لم تصدمه، كما سنرى فيما بعد، لأسباب إنسانية خالصة بل لأسباب سياسية، فالثروة ذات تأثير سيئ على الأغنياء، كما أنها تزعزع استقرار الدولة، وهذا الموقف أبعد ما يكون عن موقف الاشتراكيين المحدثين، الذين يهتمون بالمعدة الخاوية للفقراء أكثر من اهتمامهم بالتأثير المفسد للثروات الطائلة على الأغنياء، ولكن ليكورجوس، رغم أنف هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوه جدهم الأكبر، لم يكن هو حامي المعدمين والعبيد، كما أن إعادة توزيع الثروة قد تمت داخل الطبقة الحاكمة. لقد كان هدفه هو رفع «البرجوازية الصغيرة» و«الطبقة الرأسمالية» إلى نفس المستوى لتكوين بنية اجتماعية متجانسة وموحدة، ولم يكن هدفه على الإطلاق هو إلغاء الطبقات أو الطوائف. ولو أغفلنا كل ما سبق قوله لاكتسبت الرواية التالية نكهة شيوعية قوية:
كان التقسيم الجديد للأراضي الزراعية هو المشروع السياسي التالي والأكثر جرأة. فقد وجد ليكورجوس أن التفاوت الاجتماعي هائل، وأن المدينة تكتظ بالعديد من المعدمين الذين لا يملكون أرضا، بينما تتركز الثروة في أيدي فئة قليلة. ولما كان قد عقد العزم على أن يستأصل شرور الوقاحة والحسد والجشع والترف، وكل المفاسد المتأصلة في الدولة المتحكمة في مصيرها، وأعني بها الفقر والثراء، فقد أقنعهم بإلغاء كل التقسيمات السابقة للأراضي ليضع تقسيما جديدا يحقق المساواة الكاملة بينهم في الملكية وطريقة المعيشة. وإذا كانوا يطمحون إلى التميز، فعليهم أن يلتمسوه في الفضيلة، إذ لم يبق من اختلاف بينهم، إلا ذلك الذي يجلبه عار الأفعال الدنيئة، أو الثناء على الأفعال الخيرة. وقد وضع اقتراح ليكورجوس موضع التنفيذ، فخصص تسعة آلاف قطعة لإقليم أسبرطة، ووزعها على عدد كبير من المواطنين، وثلاثين ألف قطعة للسكان في بقية أنحاء أسبرطة. ويقول البعض: إنه خصص ستة آلاف للمدينة، وأن بوليدوروس أضاف ثلاثة آلاف فيما بعد، أما البعض الآخر فيقول: إن بوليدوروس ضاعف العدد الذي حدده ليكورجوس، وهو أربعة آلاف وخمسمائة قطعة. وكانت كل قطعة أرض تغل سبعين «بوشل»
16
من الحبوب لكل رجل، واثني عشر لكل امرأة، بالإضافة إلى كمية متناسبة من النبيذ والزيت. وقد رأوا أن هذه الحصة كافية للمحافظة على صحة الفرد وسلامة بدنه، وأنهم لا يحتاجون إلى شيء آخر أكثر من ذلك. وهناك حكاية تروى عن مشرعنا، فبعد عودته من جولة في الحقول التي تم حصدها، ورؤيته لأكوام المحاصيل المتساوية، ابتسم وقال لبعض مرافقيه: «ما أشبه أسبرطة بمزرعة جديدة مقسمة بين عدد كبير من الإخوة.»
وشرع ليكورجوس بعد ذلك في تقسيم الملكية المنقولة، ولكنه كان أقل نجاحا في إقناع الأسبرطيين، واضطر إلى اتخاذ إجراءات غير مباشرة جعلت المال يصبح بصورة أو أخرى عديم القيمة.
فقد بدأ بوقف تداول العملة الذهبية والفضية، وأمر باستخدام النقود الحديدية فقط، ثم قلل من كميات كبيرة وأوزان ضخمة من هذه النقود، بحيث تطلب تخزين عشرة «مينات»
17
مساحة حجرة كاملة، كما احتاج نقلها من مكانها إلى ثورين على أقل تقدير. ولما شاع هذا بين الناس اختفت من أسبرطة ألوان عديدة من الظلم. فمن ذا الذي يفكر بعد ذلك في أن يسرق أو يأخذ رشوة، ومن ذا الذي يخطر على باله أن يحتال على غيره أو ينهبه، إذا كان سيعجز عن إخفاء الغنيمة، ولا يشرفه امتلاكها ولا استخدامها حتى لو قسمت إلى قطع صغيرة؟ فقد سمعنا أن الأسبرطيين كانوا يعرضونها للحرارة ثم يغمسونها في الخل لكي يجعلوها صلبة غير قابلة للثني، ومن ثم غير صالحة لأي استخدام آخر. يضاف إلى هذا أنه استبعد المصنوعات الحرفية غير الضرورية التي لا تدر أي ربح، والواقع أنه لو لم يفعل ذلك لسقطت من تلقاء نفسها؛ لأن تداول العملة الجديدة كان كفيلا بأن يوقف الطلب عليها. ولم يكن من المستطاع أن يتم التعامل بعملتهم الحديدية في بقية أنحاء اليونان؛ إذ إنها أصبحت موضع السخرية والاحتقار، وترتب على هذا أن الأسبرطيين عجزوا عن شراء أي سلع أجنبية أو أي سلع مغرية، كما أعرضت السفن التجارية عن تفريغ حمولتها في موانئهم. وترتب على ذلك أيضا أن اختفى من بلادهم كل أثر للسوفسطائيين، وقارئي الطالع المتجولين، وأصحاب البيوت السيئة السمعة، وبائعي الحلي الذهبية والفضية، وذلك كله لسبب بسيط هو وقف التعامل بالنقود. وهكذا اختفى الترف من تلقاء نفسه، بعد أن فقد بالتدريج كل الوسائل التي كانت تعمل على ترويجه وتدعيمه، وحتى الذين كانوا يملكون (من أدوات الترف) كميات ضخمة لم يستطيعوا الاستفادة منها، إذ لم يكن في الإمكان عرضها بصورة علنية، ولكن كان من الضروري أن تقبع في حالة ركود في المخازن الخفية. ونتج عن هذا أن ظهرت براعة الصنعة في أثاثهم النافع والضروري، كالأسرة والكراسي والموائد، كما أن الكأس الأسبرطية المشهورة التي تسمى كوثون
Cothon ، كما يخبرنا كريتاس، كانت عالية القيمة، وخصوصا خلال الحملات العسكرية؛ ذلك لأن الماء الذي يوضع في هذه الكأس، بحيث تبقى هذه العكارة على الحواف، يصل نقيا إلى الشفتين. والحقيقة أن المشرع كان هو المسئول عن كل هذه الإصلاحات، إذ اتجه الصناع الذين لم يعد يطلب منهم أحد صنع الأشياء المثيرة لحب الاستطلاع، إلى إظهار براعتهم الفنية في الأشياء الضرورية.
وملاحظات بلوتارك عن الكأس الأسبرطية تكتسب طابعا حديثا، بحيث يمكن اعتبارها تعريفا لما نسميه اليوم «بالفن الوظيفي ». وعلى أي حال فقد ضيق على التعبير الفني في أسبرطة، والأمر التالي الذي أصدره ليكورجوس يعطي فكرة عن قسوة ذلك التقشف الأسبرطي الذي صار مضرب الأمثال: «وكانت هناك أوامر أخرى لمحاربة الفخامة والإسراف في النفقات، وتقضي بألا تشيد سقوف المنازل بأداة أخرى غير الفأس، ولا تصنع الأبواب إلا بالمناشير، وكما يروى عن إيبامينونداس
صفحة غير معروفة