وينتخب الشعب الكهنة، كما ينتخب الحكام، في اقتراع سري، فهم (أي الكهنة) رجال شديدو التقوى، ولهذا «فإنهم فئة قليلة»، لا يزيد عددهم على الثلاثة عشر في كل مدينة، ويخصص كل واحد منهم لمعبد. وليست لهم سلطة زمنية، إذ تنحصر مهمتهم في نصح الشعب وتحذيره. وإذا لم تتبع نصائحهم فإنهم يحرمون «الأشرار العتاة من ممارسة طقوس العبادة». ويستطيع الكهنة في يوتوبيا أن يتزوجوا وأن يشاركوا في الحروب، كما لا تمنع النساء من تقلد مناصب الكهنة.
هذا إذن هو دستور تلك الدولة التي لا تقتصر، في رأي رفائيل هيثلوداي، على أن تكون هي «أفضل دولة في العالم، وإنما هي الدولة الوحيدة التي تستحق ذلك الاسم عن جدارة. فالملاحظ في كل مكان آخر أن الناس عندما يتحدثون عن الثروة المشتركة (أي الدولة أو المجتمع)، فإنما يعني كل واحد منهم ثروته الخاصة فحسب، ولكن حيث تنعدم الملكية، يسعى الجميع بكل جهدهم للمصلحة العامة.» والواقع أن هذه دعوة جريئة، ونحن نفضل أن نسجل إعجابنا بمور بسبب إدانته للمجتمع في عصره، أكثر من إعجابنا بمجموعة القوانين التي قام بصياغتها والمؤسسات التي رسم معالمها. (2) توماسو كامبانيلا: «مدينة الشمس»
بعد تسعين عاما ظهرت يوتوبيا أخرى لراهب فيلسوف وشاعر ومنجم يؤمن إيمانا متعصبا بأفكاره. وليس في مدينة الشمس لكامبانيلا شيء من أناقة أسلوب مور الأدبي ودعابته اللطيفة، لأنه - على خلاف مور - لم يكتب على طريقة الإنسانيين ذوي الثقافة الرفيعة، وإنما كتب بعقله وأطرافه التي كانت لا تزال تتألم من تعذيب محاكم التفتيش.
ولد جوفان دومينيكو كامبانيلا في عام 1568م، في ستيلوبكالاريا، وهي ولاية إيطالية لا تزال محتفظة إلى اليوم بغموضها وأسرارها بالنسبة للإيطاليين أنفسهم، وترفض بعناد أن تندمج في أوروبا. ولد كامبانيلا في أسرة فقيرة، وعندما استدعي أبوه للشهادة في إحدى محاكمات ابنه المشهور، اعترف ببساطة آسرة: «لقد سمعت أن ابني كتب كتابا في نابولي، وقال لي الجميع إنني رجل محظوظ، والآن يقول الجميع إنني رجل تعس، أما أنا فلا أستطيع القراءة ولا الكتابة.»
وضع كامبانيلا في الدير وهو لا يزال طفلا، وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره داخل النظام الدومينيكاني أطلق عليه اسم توماسو. وقد صرح بعد ذلك بأنه اختار حياة الرهبنة ليشبع رغبته في الدراسة، ولم يخترها تلبية لنداء الدين. وسرعان ما ظهرت شخصيته المستقلة وراح يهاجم المناهج والمذاهب المدرسية. وعندما بلغ الثامنة عشرة اطلع على أعمال برناردينو تيليزيو (1508-1588م) فيلسوف عصر النهضة الكبير، وتحمس تحمسا شديدا لأفكاره إلى حد أنه ترك الدير ليزوره في كوزينسا
Cosenza ، ولكنه وصل إليها بعد وفاة تيليزيو مباشرة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، وعندما كان يقيم في دير ألتومونته
Altomonte ، التقى حبرا يهوديا (رابي) ترك في نفسه تأثيرا عميقا بمواهبه التنبئية ومعرفته بعلم التنجيم. وربما كان هذا اللقاء هو السبب في تعلقه الشديد طوال حياته بالتنجيم والتنبؤ. ولا ريب في أن التأليف الغريب بين الأفكار العقلانية والعلمية وبين الاعتقاد الخرافي في الظواهر الخارقة للطبيعة - وهو الذي يميز العديد من مفكري عصر النهضة - يتجلى بشكل ملحوظ في كل كتابات كامبانيلا.
وسرعان ما لفتت أفكاره الفلسفية أنظار السلطات الدينية. وكانت إيطاليا في أواخر القرن الخامس عشر قد تخلت عن ذلك التسامح مع الأفكار الجديدة الذي طبع بطابعه المرحلة المبكرة لعصر النهضة. فقد سلب الإصلاح الديني الكنيسة الكاثوليكية سلطتها على جزء كبير من أوروبا الغربية، وأعلنت حالة من الحصار في الدول التي بقيت تحت سيطرتها (أي سيطرة الكنيسة). ووقعت إيطاليا في قبضة الإصلاح المضاد فلم يفلت أحد، من البابا إلى أصغر راهب مجهول، من مراقبة محاكم التفتيش. واستدعي كامبانيلا في عام 1590م للمثول أمام محكمة دومينيكية لاستجوابه عن كتاباته التي دافع فيها عن تيليزيو. وبعد ثلاث سنوات، وبينما كان مقيما في الدير الدومينيكاني في بولونيا، سرق البوليس السري للبابا كل مخطوطاته. وطالب كامبانيلا، الذي اشتبه في الفاتيكان، باستعادة مخطوطاته، ولكنهم أنكروا معرفتهم بالأمر. ومع ذلك، فقد عثر على هذه المخطوطات بعد ذلك بثلاثين سنة في أرشيف الأبرشية المقدسة. وفي عام 1594م اتهم كامبانيلا بالإلحاد بسبب أفكاره المتعلقة بحيوية الكون، وقدم لمحكمة التفتيش في روما التي عجزت عن إثبات التهمة، ولكنها أمرته بالبقاء في روما تحت المراقبة. ورجع في عام 1597م إلى نابولي، حيث اصطدم مرة أخرى بالسلطات الدينية، وأجبر على الاعتكاف في دير ستيلو.
وشاع الاعتقاد في ذلك الوقت بأن نهاية القرن ستجلب معها تغيرات عميقة، بل وصل الأمر إلى حد التكهن بأن نهاية العالم قد اقتربت. وتأثر كامبانيلا تأثرا شديدا بهذه الشائعات، وشعر بأن الاضطرابات التي سادت نابولي تحت الحكم الإسباني، وأن بعض الأحداث التي وقعت في ذلك الحين كالفيضانات والزلازل وظهور المذنبات هي الدليل على اضطرابات اجتماعية وشيكة الحدوث. وتسلط على عقله حلم غريب، فتصور أن التغيرات القادمة ستؤدي إلى إصلاح كامل للمجتمع، وأن اللحظة قد حانت لإقامة جمهورية عالمية، وأن كالابريا - وهي موطنه الأصلي - ستكون تحت قيادته هي نقطة انطلاق هذه الحركة. وصمم الفيلسوف، الذي اكتفى حتى الآن بمحاربة الأفكار القديمة في كتاباته، على أن يتحول إلى رجل عمل.
اعتقد كامبانيلا بضرورة النهوض بالإصلاح على ثلاثة مستويات: تحسين ظروف الشعب على المستوى الاجتماعي، وتولي إسبانيا قيادة توحيد العالم على الصعيد السياسي، وإصلاح الكنيسة في المجال الديني. ولم يتصور كامبانيلا الإصلاح على طريقة كالفن أو لوثر، اللذين أرادا الانسلاخ عن هيمنة الكنيسة في روما، وشجعا بذلك التطلعات القومية. لقد كان كامبانيلا كاثوليكيا مخلصا، وأراد أن يوحد العالم تحت لواء الإيمان الكاثوليكي. وأرجع هزائم الكنيسة الكاثوليكية إلى ولائها للمذاهب الإسكولائية (المدرسة) القديمة، واعتقد أنها لن تستعيد سلطتها ولن تقويها بممارسة الاضطهاد الديني، بل بقبول الأفكار الفلسفية الجديدة فحسب. ولذلك سعى إلى تحديث الكنيسة لا إلى إصلاحها.
صفحة غير معروفة