ونجد بجانب اليوتوبيات، كما وجدنا عند الإغريق تحت ظروف مشابهة، محاولات لإيجاد دساتير مثالية تسعى إلى حل المشاكل الاجتماعية من خلال الإصلاحات السياسية، بدلا من السعي إلى إقامة نظام اجتماعي جديد بالكامل. ومن أصحاب الدساتير المثالية في تلك الفترة جان بودان (1530-1596م) الذي ربما كان تأثيره بالغا جدا. لقد قاوم هذا الفيلسوف الفرنسي مقاومة شديدة إغراء الرغبة في بناء «جمهورية خيالية وبغير فاعلية مثل تلك التي تخيلها أفلاطون وتوماس مور مستشار إنجلترا». واعتقد بودان، مثل أرسطو، أن الملكية الخاصة والمؤسسات الأسرية يجب أن تبقى بغير مساس، ولكنه آمن أيضا بضرورة وجود الدولة القوية التي تكون قادرة على الحفاظ على وحدة الأمة. كانت فرنسا في الوقت الذي كتب فيه بودان جمهوريته (1557م) ممزقة بالحروب الدينية، وكانت قد بدأت تنمو فيها حركة تؤيد إنشاء دولة ملكية تكون من القوة بحيث تمنع الصراعات الدينية، وتسمح في الوقت نفسه بالحرية السياسية والدينية. وقد استجابت نظريات بودان لهذه الحاجات والمشاغل الملحة، وقرئت أعماله في كل أنحاء أوروبا. وقد قام هو نفسه بترجمة «الجمهورية»
la Républigue
إلى اللاتينية عام 1586م، بعد أن ترجمت بالفعل إلى الإيطالية، والإسبانية، والألمانية . ويبدو أن أفكاره لقيت اهتماما مماثلا في إنجلترا، فعندما حضر بودان لهذا البلد عام 1579م عقدت محاضرات خاصة في كل من لندن وكمبريدج لشرح كتابه.
لقد اقتصرنا في هذا القسم على تناول الأعمال التي يمكن أن توصف بأنها دول أو تجمعات مثالية خيالية، ولم نتناول تلك الأعمال التي تعتبر، مثل جمهورية بودان، رسائل وبحوثا عن الحكومة أو السياسة. ومع أن اليوتوبيات التالية قد تصورها مفكرون تأثروا تأثرا عميقا بأفكار عصر النهضة، إلا أنهم، في جوانب عديدة، يختلف بعضهم عن بعض اختلافا كبيرا. فتوماس مور يلغي الملكية، ولكنه يبقي على التنظيمات الأسرية وعلى العبودية. وكامبانيلا، على الرغم من أنه كاثوليكي مخلص، يريد إلغاء الزواج والأسرة. وأندريا يستعير العديد من أفكاره من مور وكامبانيلا، ولكنه يؤمن بضرورة إصلاح ديني جديد أعمق تأثيرا من الإصلاح الذي دعا إليه لوثر. وبيكون يريد أن يحتفظ بالملكية الخاصة والحكومة الملكية، ولكنه يعتقد أن سعادة الجنس البشري يمكن أن تتحقق من خلال التقدم العلمي. (1) سير توماس مور: «يوتوبيا»
عندما كتب سير توماس مور يوتوبياه تملكته لذة إيقاع قرائه في الحيرة والغموض. ويبدو أنه قد نجح بالقدر الذي يفوق توقعاته؛ لأنه حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعمائة عام على نشرها، وعلى الرغم من الشروح والتعليقات التي كتبت عنها، لا يزال هذا الكتاب، في رأي البعض، لغزا عويصا. فهل يعد عملا ساخرا ومسليا فحسب، أم هل يمكن المطابقة بين أفكار مور وأفكار سكان يوتوبياه؟ إن هذه الأمور ذات أهمية أكاديمية خالصة، ولكن ربما يساعد على فهم «يوتوبيا» فهما صحيحا أن نتذكر أنها كتبت في فترة انتقالية، كانت فيها حركة النهضة تؤذن بميلاد حركة الإصلاح الديني بكل ما هزها من اضطرابات اجتماعية وسياسية عميقة.
كان المأمول في تلك الفترة التاريخية إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والدينية الملحة بالطرق السلمية. غير أن هذا الأمل تبدد بعد سنوات قليلة، واتضح أن الإصلاحات لا يمكن أن تتم إلا عن طريق العنف والصراعات المذهبية، ولم يعد في مستطاع مستشار إنجلترا الذي أدان الملحدين وحكم عليهم بالموت على المحرقة، كما قضي عليه هو نفسه أن يضحي بحياته في سبيل معتقداته الدينية - لم يعد في مستطاعه أن يتصور مجتمعا يراعى فيه التسامح الديني على أوسع نطاق.
وعلى الرغم من أن مور وضع كتابه في فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة، فقد كان على وعي حقيقي بالمشكلات الاجتماعية والسياسية التي تتطلب حلا. ولكنه لم يكن مصلحا عمليا، والحل الذي قدمه كان حلا منفصلا انفصالا كاملا عن الواقع. كان هذا الحل بمنزلة حلم هروبي، كما كان في نفس الوقت وسيلة للسخرية من المؤسسات والحكومات التي عاش في ظلها.
إن «يوتوبيا» كتاب باحث متمكن، ويعكس قراءات مور الواسعة، ولهذا فإن المنابع التي نهل منها هذا الكتاب لا تحصى ولا تعد. وأكثر المؤثرات فيها وضوحا هي أعمال أفلاطون وبلوتارك، بجانب مدينة الله للقديس أوغسطين التي ألقى عنها مور محاضرات عامة، والتي يعتقد أنه أخذ عنها مفهوم العبودية باعتباره عقوبة ووسيلة للإصلاح وبديلا عن عقوبة الإعدام.
وقد اختلف الشراح اختلافا أشد حول الإطار العام ل «يوتوبيا» مور. ويفترض بصفة عامة أنها مستوحاة من تقرير «أميريجو فيسبوتشي» عن رحلاته التي نشرت عام 1507م. وقد ساعد مور نفسه على تصديق هذا الغرض، لأن بطل يوتوبياه هيثلوداي البرتغالي، الذي أخذ على عاتقه مهمة وصف دولة يوتوبيا يزعم أنه واحد من أربعة وعشرين رجلا تركهم فيسبوتشي وراءه في كاب فرو
Cape Frio
صفحة غير معروفة