والاكتفاء الذاتي للمدينة مع المناطق الزراعية المحيطة بها هو المثل الأعلى الذي يطلب تحقيقه: «هناك إذن وسيلتان لتزويد المدينة بوفرة من المواد الغذائية. الأولى هي خصوبة التربة بحيث تمد الحياة البشرية بكل الضروريات. والثانية هي التجارة التي تساعد على جلب ضروريات الحياة إلى المدينة من أماكن مختلفة. ولكن من الواضح تماما أن الوسيلة الأولى هي الأفضل، لأن الشيء كلما سما قدره زاد نصيبه من الاكتفاء الذاتي، إذ إن كل ما يحتاج إلى غيره يكون لهذا السبب أدنى مرتبة. ولكن المدينة التي تزودها المناطق الزراعية المحيطة بكل حاجاتها الحيوية تكون أكثر اكتفاء من مدينة أخرى تضطر للحصول على هذه المؤن عن طريق التجارة. والمدينة التي تتوافر فيها المواد الغذائية من الأراضي التي تملكها تكون أكثر شرفا وكرامة من تلك التي تحصل عليها عن طريق التجار. وستكون كذلك أكثر أمنا؛ لأن استيراد المؤن الغذائية يمكن أن يمنع عنها، إما بسبب النتائج الوخيمة للحروب، أو لتزايد أخطار الطرق. وبهذا يمكن أن تهزم هذه المدينة نتيجة النقص في الطعام.»
وقد أدرك القديس توما الأكويني التأثير المدمر للتجارة على الجماعة: «كذلك إذا كرس المواطنون حياتهم لشئون التجارة فسيصبح الطريق مفتوحا لرذائل عديدة. فما دام الهدف من التجارة يقود بصفة خاصة إلى كسب المال، فإن ممارسة التجارة توقظ الجشع في قلوب المواطنين. والنتيجة هي أن كل شيء في المدينة سيعرض للبيع؛ وتدمر الثقة، ويفتح الطريق لكل أنواع الغش والخداع؛ وسيعمل كل فرد من أجل ربحه الخاص فقط ويحتقل المصلحة العامة: ستهمل رعاية الفضيلة، لأن الشرف، وهو المكافأة على الفضيلة، سيخلع على أي فرد. وهكذا تفسد الحياة المدنية في مثل هذه المدينة.»
لقد كان من المستحيل على كتاب عصر النهضة أن يتصوروا مجتمعاتهم المثالية بشكل كامل، على غرار تلك المجتمعات التي تصورها مفكرو الإغريق، لأن بنية المجتمع الماثل أمام أعينهم كانت مختلفة اختلافا أساسيا عن مثيلتها في اليونان القديمة. إن المدينة الأثينية أو الأسبرطية - بتقسيمها الصارم للسكان إلى مواطنين وعبيد، واقتصادها البدائي المعتمد في أغلبه على الزراعة - لم يكن من الممكن أن تنتقل إلى مجتمع القرن السادس عشر، من دون أن تخضع لبعض التغيرات الجذرية.
وكان التغيير الأهم متعلقا بالعمل اليدوي، فالعمل اليدوي في نظر أفلاطون كان مجرد ضرورة تقتضيها الحياة، ويجب أن يترك للعبيد والصناع والحرفيين، بينما تشغل الفئة الخاصة نفسها بشئون الدولة. وقد أثبتت تجربة المدينة الوسيطة، على العكس من ذلك، أن الجماعة كلها قادرة على حكم نفسها من خلال النقابات الحرفية ومجالس المدن، وكانت هذه الجماعة مكونة بأكملها من المنتجين. وهكذا اكتسب العمل وضعا مهما ومحترما لم يفقده تماما مع تفكك المؤسسات الجماعية.
إن جميع اليوتوبيين في عصر النهضة يؤكدون أن العمل واجب على كل المواطنين، وبعضهم، مثل كامبانيلا وأندريا، يؤكد أن كل الأعمال، حتى أكثرها وضاعة، جديرة بالتشريف والتكريم. ولم يكن هذا مجرد تعبير عن مبدأ، وإنما انعكس على المؤسسات التي منحت حقوقا متساوية للعامل والحرفي، والفلاح والمعلم سواء بسواء. وهذه المؤسسات اليوتوبية جردت العمل من طابع الارتزاق بإلغاء الأجور والتجارة، كما بذلت جهودا مضنية لجعل العمل محببا إلى النفوس عن طريق تخفيض عدد ساعات العمل. أضف إلى هذا أن هذه المؤسسات، التي تدهشنا بحداثتها، قد وجدت بالفعل في المدينة الوسيطة حيث لم يكن للعمل المأجور وجود بشكل فعلي، ولم يكن العمل اليدوي علامة على الدونية، بينما كانت فكرة «أن العمل يجب أن يكون محببا إلى النفوس» فكرة شائعة، أحسن التعبير عنها في تعليمات كوتنبرج الوسيطة التي تقول: «يجب أن يكون كل فرد سعيدا بعمله، ولا يجوز للمتعطل أن يستأثر بما حصل عليه غيره بالممارسة والعمل؛ لأن القوانين يجب أن تكون دروعا تحمي التطبيق والعمل.»
2
والفكرة اليوتوبية ليوم عمل قصير، وهي التي تبدو لنا اليوم - نحن الذين اعتدنا التفكير في الماضي بأساليب القرن التاسع عشر - فكرة أساسية، لا تبدو في الحقيقة فكرة جديدة إذا قارناها بالتعليمات التي أصدرها فرديناند الأول، بخصوص مناجم الفحم الإمبراطورية ، وحدد فيها يوم عمال المناجم بثماني ساعات. ويقول ثورولد روجرز
Thorald Rogers
إن العمال في إنجلترا في القرن الخامس عشر كانوا يعملون ثمانيا وأربعين ساعة في الأسبوع.
وفي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر فقدت المدن استقلالها بالتدريج، وبدأ ازدهارها يضمحل، وسرعان ما ساد الفقر المدقع بصفة عامة بين فئات الشعب العامل. ولكن تجربة المدن الحرة لم تضع هباء؛ إذ استوعبت عن وعي أو غير وعي في بناء الدول المثالية.
صفحة غير معروفة