ولم أكتشف أبدا طوال الفترة التي قضيتها هناك كيف تتم بينهم عملية التناسل، وإنما لاحظت فقط أنهم يحبون بعضهم بعضا من صميم قلوبهم ولا يحبون أحدا أكثر من الآخر. وأستطيع أن أؤكد أنني لم أر مشاجرة واحدة، ولم أجد أي إحساس بالعداوة بينهم. وهم لا يفرقون بين ملكي وملكك، ويسود بينهم الإخلاص التام والتجرد من المصلحة أكثر مما نجد بين الرجال والنساء في أوروبا.
وقد تعودت دائما أن أعبر عما أفكر فيه، ولكنني تركت لنفسي الحرية أكثر قليلا مما ينبغي في الإفصاح عما لا يعجبني من أخلاقهم، ورحت أتحدث عن هذا لأحد الإخوة حينا ولغيره حينا آخر، مع تعزيز آرائي بالحجج اللازمة، تحدثت عن عريهم بشيء من التقزز الذي آذى مشاعرهم إلى حد بعيد (وحاولت أحيانا أن ألاطف بعض الإخوة وأثيرهم بما نسميه اللذة) وفي أحد الأيام استوقفت واحدا منهم وسألته مداعبا ولكن بطريقة لا تخلو من الجد عن آباء هؤلاء الأطفال الذين ولدوا، وقلت له إنني أعتقد أن من السخف أن يلزموا الصمت في هذا الموضوع. وكانت نتيجة هذا الحديث وأمثاله أن أبدى الأستراليون نحوي شيئا من الكراهية، وأخذ الكثيرون منهم يؤكدون أنني نصف رجل، حتى انتهوا إلى ضرورة تدميري.»
والنص التالي يبين أن فوانيي كان أول من قدم وصفا لولادة «يوتوبية» للأطفال: «يغادر الأسترالي شقته بمجرد أن يشعر بالحمل، وينقل إلى «الهيب» حيث يستقبل بحفاوة وكرم بالغين، ويقدم له الطعام ولا يجبر على العمل. ولديهم مكان مرتفع يذهبون إليه لإنجاب الطفل الذي يوضع بعد ولادته فوق بعض أوراق الأشجار ، ثم تأخذه الأم (أو الشخص الذي ولده) وتدلكه بهذه الأوراق وترضعه، دون أن يظهر عليها أو عليه أنه قد أحس بأي ألم.
وهم لا يستعملون أي أقمطة أو مهود، واللبن الذي يرضعه الطفل من الأم يغذيه تغذية جيدة ويغنيه عن أي طعام آخر لمدة عامين، أما الفضلات التي يفرزها فتكون بكميات ضئيلة، بحيث يمكن القول بأنهم لا يخرجون شيئا.»
ويتم التعليم على أساس المساواة التامة، ويتخرج الطالب من المدرسة في الخامسة والثلاثين: «يخصص لكل أربعة أحياء بيت يسمى «الهيب»، أي بيت التربية والتعليم، ويتم بناؤه من نفس الأحجار التي بني بها «الهاب» باستثناء السطح الذي يتم صنعه من الأحجار الشفافة التي ينفذ منها الضوء إلى الداخل.
وينقسم هذا المبنى الأنيق إلى أربعة أقسام، يقطعها اثنا عشر معبدا كبيرا، صممت على شكل أربعة أنصاف أقطار، ويبلغ قطر المبنى حوالي خمسين ذراعا، كما يبلغ محيطه حوالي مائة وثلاث وخمسين ذراعا. ويوزع كل قسم على شباب الحي الذي يتبعه، وهناك على الأقل مائتا طفل، تدخل أمهاتهم هناك بمجرد أن يحملن بهم، ولكنهن لا يغادرن المكان قبل أن يتم الطفل سنتين من عمره، ثم ينصرفن بعد ذلك تاركات الأطفال في رعاية الشبان المقيمين هناك لتعليمهم. وتنقسم الأعداد الكبيرة لهؤلاء الشبان إلى خمس مجموعات، الأولى وظيفتها تعليم المبادئ الأولى، وتتكون من خمسة معلمين، والثانية تشرح العلل والأسباب العامة للموجودات الطبيعية، وتتكون من أربعة معلمين، والثالثة هي التي يسمح لأفرادها بالجدل والمناقشة، وتتكون من معلمين، والرابعة تتألف من الشباب الذين يتوقع اختيارهم ليحلوا محل الإخوة الذين يغادرون الحياة.
ويبدأ الأطفال بصفة عامة في الكلام في الشهر الثامن، كما يبدءون المشي في نهاية العام الأول، والفطام في نهاية العام الثاني، ويشرعون في التفكير في العام الأول، والفطام في نهاية العام الثاني، ويشرعون في التفكير في العام الثالث، وبمجرد أن تتركهم أمهاتهم، يعلمهم المدرس الأول في المجموعة الأولى مبادئ القراءة، ويوجههم في نفس الوقت للمبادئ الأولى للمعرفة المتقدمة. وهم يبقون عادة ثلاث سنوات تحت رعاية المدرس الأول، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى المدرس الثاني الذي يعلمهم الكتابة ويستمرون معه أربعة أعوام، وهكذا مع الآخرين بنفس النسبة، حتى يبلغوا سن الخامسة والثلاثين، وهي السن التي تكتمل فيها معارفهم في كل أنواع العلوم، ولا تلاحظ فيها أي فروق بينهم، سواء من حيث قدراتهم، أو ذكاؤهم أو تعليمهم.
وعندما يتمون على هذا النحو دوراتهم الدراسية، يتم اختيارهم نوابا، فيشغلون الأماكن التي يرحل أصحابها عن هذه الحياة.
وقد بسطت مشكلة العمل في أستراليا تبسيطا شديدا، لأن السكان يعتمدون في غذائهم على الثمار التي تنمو حولهم فوق الأشجار طوال العام. وبعضهم يعمل في الحدائق والبساتين، ولكنهم لا يطهون الطعام ولا يلبسون الملابس وليس لديهم من الأثاث سوى أقل القليل، ولهذا لا يحتاجون إلى الصناعة، إنهم ينظرون لأقمشتنا الزاهية وملابسنا الحريرية، الفخمة وكأنها نسيج العنكبوت، وهم لا يعرفون كثيرا ماذا تعني أسماء مثل الذهب أو الفضة، وباختصار، فإن كل ما نعده من النفائس لا يخرج في تقديرهم عن أن يكون شيئا سخيفا، ويقضي الأستراليون النصف الأول من يومهم في المدرسة أو في دراسة العلم، والنصف الثاني في العمل في حدائقهم التي يزرعونها «بفن ومهارة غير معروفين في أوروبا»، أما الجزء الثالث من يومهم فيقضونه في التمرينات العامة.
وكل خمسة أيام يقضون ثلث يوم في «الهاب» فينصرفون إلى التأمل، دون أن يلفظوا كلمة واحدة، تاركين مسافة خطوة بين كل شخص وآخر، ويكونون جميعا في حالة انتباه شديد لما يفكرون فيه، بحيث لا يستطيع أي شيء أن يشتتهم عن أفكارهم.»
صفحة غير معروفة