شيء كهذا - فيما أتوهم - كان وراء ما اختلف عليه المعتزلة مع أهل السنة، فالمعتزلة يريدون أن يتصوروا الذات الإلهية واحدة وحدانية مطلقة، وهذه الذات الواحدة غير المنقسمة، تعلم «كلها» وتقدر «كلها» وهكذا، وبين ما يترتب على هذا التوحيد الخالص أن ننفي عن الذات الإلهية كل تشبيه مهما تكن صورته، فإذا وجدنا شيئا من التشبيه في آيات الكتاب وجب تأويلها، وأن ننفي كذلك إمكان رؤيته تعالى بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فلم يكن مثل هذا التوحيد الخالص المجرد بالشيء المقبول، بل لم يكن ليفهم إلا عند ذوي النظرات الفلسفية التي من طبعها تجريد الأفكار تجريدا يبعد بها عن المتعين المألوف، فرفضه جماعة المشبهة من أهل السنة ومن غلاة الشيعة على السواء، لكن كلا من هذين أراد أن يتصور الباري بصفاته الواردة في القرآن، فإذا قيل «يد الله» و«وجه الله» و«نور السموات والأرض» وغير ذلك من الصور المجسدة، أخذوا تلك الصور بحرفيتها ولم يؤولوها. على أن أهم ما وقفوا عنده وقفة كانت لها رجة كبرى، صفة «الكلام»؛ فبناء على نظرة المعتزلة إلى الصفات، محال أن تنفرد هذه الصفة بوجود مستقل عن الذات، بحيث يوضع «الكلام» في «كتاب» ثم نزعم أن هذا الكلام المكتوب على صفحات الورق هو هو بعينه ما كان قائما مع الله منذ الأزل؛ ذلك محال عند المعتزلة، وإذن فلا بد أن يكون هذا الكلام المرئي المسموع - الذي نراه مطبوعا في المصاحف والذي نسمعه ممن يتلون آيات الكتاب - أقول إن هذا الكلام كما نراه أو نسمعه لا بد أن يكون حادثا كسائر الحادثات، حدث أول ما حدث عند نزوله على لسان جبريل على النبي عليه السلام، وأما فريق المشبهة الذين لا يجدون حرجا من أخذ الأمور بما جاءت به وكما جاءت، فلا يقرون أن يكون كلام الله صفة قائمة بالذات الإلهية، لا نبصرها ولا نكتبها ولا نقرؤها ولا نسمعها، وإلا فماذا يكون هذا الذي نراه مكتوبا في مصاحف القرآن ونسمعه مقروءا إذا لم يكن هو كلام الله بالمعنى المقصود؟ لذلك فلا يتردد هؤلاء في الإيمان بأن ما بين دفتي الكتاب هو كلام الله، بهذه الصورة المسموعة نزل به جبريل، وبهذه الصورة المكتوبة مثبت في اللوح المحفوظ، وبهذه الصورة يسمعه المؤمنون في الجنة، يسمعونه من الباري جل وعلا، بغير واسطة ولا حجاب ، ولو لم يكن الأمر كذلك فكيف نفهم قوله تعالى:
سلام قولا من رب رحيم
وقوله لموسى عليه السلام:
يا موسى إني أنا الله رب العالمين ...
وكلم الله موسى تكليما ...
إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ...
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، وبين أن تكون صفة الكلام كما تصورها المعتزلة، وأن تكون كما تصورها السلفيون والمشبهة؟ فارق لم يقف عند حدود الاختلاف النظري بين المفكرين، بل جاوز ذلك ليكون اختلافا قد يؤدي إلى السجن والتعذيب والتشريد، وهنا نعيد ما أسلفناه، وهو أن المعتزلة حين تمكنوا من السلطان في عهود المأمون والمعتصم والواثق، أنزلوا ما أنزلوه بالأئمة القائلين بوجهة النظر المضادة، فلما ذهب سلطانهم بعد ذلك، لم يكن ضد طبائع الأمور أن ينهض أصحاب النظرة السلفية والمشبهة بالانتقام.
ذلك كان أول أصول المعتزلة، وهو «التوحيد» وما تفرع عن الاختلاف في فهمه وتصوره من نتائج نظرية وعملية على حد سواء، وأما الأصل الثاني من أصولهم الخمسة فهو القول «بالعدل»؛ فقد تصور المعتزلة «العدل» الإلهي على نحو خالفوا به الآخرين، وإن هذا السياق لفرصة مواتية يفيد منها القارئ إذا أراد، فيرى كيف أن المعنى الواحد قد يكون مقبولا عند الجميع من حيث اللفظة الدالة عليه، فمن ذا يرفض فكرة «العدل» سواء كان من جهة الله أو من جهة الإنسان؟! لكن ادخل في تفصيل المراد باللفظة، بأن تحدد ما ينبغي توافره ليصح إطلاق الكلمة على الله تعالى - أو على الإنسان إذا كان الإنسان هو موضع الحديث - فها هنا يأخذك العجب كيف يتشقق الرأي، فيصبح ما كان يظن أنه معنى واحد لا اختلاف عليه، عدة معان متباينة، لكل منها فريق يناصره.
يقول المعتزلة: إن «العدل» الإلهي لا يفهم على وجهه الصحيح إلا إذا كان الإنسان قادرا على اختيار أفعاله ليكون مسئولا عن اختياره، ثم يأتي الحساب «العادل» فيثيب من أحسن ويعاقب من أساء، لكن هل يمضي هذا القول المستقيم بغير معارضة؟ كلا؛ لأننا لو قبلناه، فماذا نصنع عندئذ بالآيات الكثيرة الدالة على أن الأمر فيما يفعله الإنسان إنما هو بيد الله؟!
صفحة غير معروفة