23
خرجنا من «بيت الحكمة» في بغداد، وفي رءوسنا هذه الخواطر عن الأثر الذي يمكن أن تكون ترجمة التراث العقلي اليوناني قد تركته على الحياة الفكرية عند العرب، فكانت خطوتنا التالية بعد ذلك أن نبحث عن مثل هذا الأثر في مظانه، فخطر لنا - أول ما خطر - أن نزور شيوخ المعتزلة لنرى فيم يفكرون وكيف يفكرون؛ لأنهم بحكم موقفهم العقلي حريون أن يكونوا أقرب الناس إلى التأثر بالثقافة العقلية اليونانية التي نقلت إليهم، إن لم يكن من حيث مضمون الفكر نفسه، فمن حيث منطق السير على أقل تقدير.
ولقد حدثناك في الفصل السابق عن معتزلي مبكر قابلناه في البصرة يناقش مشكلة الذنوب الكبيرة ماذا يكون الحكم في أصحابها، وكان ذلك بمناسبة من عساهم أن يكونوا على خطأ في الفريقين اللذين اقتتلا في موقعتي «الجمل» و«صفين»، وها نحن أولاء - وقد انتقلنا إلى مرحلة فكرية أخصب وأغنى - نبحث عن «معتزلة» هذه المرحلة الجديدة، و«المعتزلة» - كما تعلم - اسم نشأ بمعناه الحرفي عندما اعتزل واصل بن عطاء أستاذه الحسن البصري لخلاف بينهما في الرأي، لكنه بات اسما يطلق على نهج فكري ذي طابع خاص، مؤداه أن ينظر إلى مسائل الدين «بالعقل» وما يتبعه من بيان حجة وإقامة برهان، لا بمجرد الاستناد إلى رواية عن القواعد التي وضعها السلف، لكننا في بحثنا عن معتزلة المرحلة التي نتحدث عنها - القرن التاسع الميلادي، من وقفة نقفها في بغداد - علمنا أن كبار شيوخهم مقيمون في البصرة، ويكفي أن يكون من بينهم أبو الهذيل العلاف (752-849م) الذي ينعت بأنه «شيخ المعتزلة» والذي يتبعه مذهب يحمل اسمه فيقال «الهذيلية»، وكذلك تلميذه إبراهيم بن سيار النظام (بتشديد الظاء) (ت نحو 845م أو قبل ذلك بقليل).
فلم يكن لنا بد من قطع الوقفة البغدادية لنعود إلى البصرة؛ حتى يتاح لنا أن نستمع لهؤلاء الشيوخ الأعلام قبل أن نستأنف السير على طريقنا المرسوم.
هذا هو شيخ المعتزلة العلاف، ينفرد وحده بعشر قواعد - كما يقول صاحب «الملل والنحل» - نقرؤها عنه فإذا هي تمس لطائف أفكار تكاد تفلت منك رؤيتها لدقة الفواصل فيها ورقتها، وإذن فقد أصبحنا أمام عقل مرهف بالمعنى الدقيق لصفة الإرهاف؛ لأنه عقل كحد الموسى، فلا غلظة في الفكرة المطروحة ولا خشونة في طريقة تناولها وتحليلها، كأنما المفكر هنا يعالج لفيفة من خيوط الحرير، يريد أن تستقيم بين أصابعه تلك الخيوط فلا يتداخل بعضها في بعض.
وانظر إلى مسألته الأولى، وهي خاصة بذات الله وصفاته؛ فهو يريد أن يقول أن ليس ثمة وجود حق إلا للذات دون الصفات، ولكن ماذا يقول في هذه الصفات الإلهية؟ ماذا يقول في «العلم» الإلهي مثلا، أو «القدرة» الإلهية؟ لقد كان السائد فيمن يؤثرون الوقوف عند حرفية النص أنه ما دام هنالك «اسم» فلا بد أن يكون هنالك «المسمى» - ليلحظ القارئ أن الشرح في هذا وفيما يأتي هو شرح أبسطه بلغتي وعلى الطريقة التي فهمت بها ما يقال، فإذا ترتب عليه خطأ في الفهم أو في تحديد المعاني، فاللوم إنما يقع علي لا على مرجع معين استعنت به - وأعود فأقول: إنه كان هنالك فريق يؤثرون الوقوف عند حرفية النص، وما دام في النص «أسماء » فلا بد أن يكون لها «مسميات»، فإذا وردت «أسماء» مثل «علم» و«قدرة» وغيرهما من أسماء الله الحسنى المعروفة، فلا بد أن يكون هنالك كيان معين أطلق عليه اسم «العلم» وكيان معين آخر أطلق عليه اسم «القدرة» وهلم جرا، ولا يغير من الموقف شيئا أن تكون هذه الكيانات التي أطلق عليها هذه الأسماء، هي نفسها الذات الإلهية، وليست شيئا سواه! إنني أكتب هذه السطور وأمامي في الغرفة نافذة فيها ثلاثة قوائم من معدن تقسم مستطيلا معدنيا أيضا ثلاثة أقسام، ويملأ كل قسم منها لوح من زجاج، فلكي أتابع قول الفئة التي ذكرت قولها في صفات الله، قلت لنفسي: ربما يكون المقصود هو شيء كهذا: المستطيل المعدني والقوائم المعدنية الثلاثة وثلاثة الألواح الزجاجية إنما هي كيانات قائمة بذاتها، ولكن هل منع ذلك من أن تكون هي نفسها في الوقت ذاته «النافذة»؟ النافذة هي هي هذه المكونات، وهذه المكونات هي هي النافذة، ومع ذلك فلكل منها كيانه الذي ندركه وهو قائم برأسه؛ ولذلك سميت هذه الفئة من الناس باسم «الصفاتية»؛ لتمسكها بأن تفهم وجود الصفات الإلهية على هذا النحو الذي بيناه.
فماذا يقول العلاف في ذلك؟ يقول: «إن الله تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته» و«قادر بقدرة، وقدرته ذاته» وهكذا قل في سائر صفاته؛ فعلى أي وجه نفهم قوله هذا؟ نأخذ فكرة «المثلث» مثلا يوضح المراد كما يفهمه كاتب هذه الصفحات؛ إذا قلنا إن من «صفات» المثلث أنه محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، وكذلك من صفاته أن مجموع زواياه الداخلية يساوي زاويتين قائمتين، فهل يعني ذلك أننا نتصور «الإحاطة بالأضلاع الثلاثة» على أنها كيان قائم بذاته أم أنها هي نفسها المثلث؟ أو بعبارة أخرى: إن كلمة «مثلث» وعبارة «محوط بثلاثة خطوط مستقيمة» مترادفتان، تكونان معادلة رياضية يمكن وضع أحد شطريها مكان الآخر حيثما ورد في سياق الحديث، وإذن فالمثلث إنما هو مثلث بكونه محوطا بثلاثة خطوط مستقيمة ، والثلاثة الخطوط المستقيمة هي المثلث - وعلى هذا الغرار نفسه ما يقوله العلاف حين يقول: إن الله تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته.
وأما المسألة الثانية عند «العلاف» فهي خاصة بالإرادة عندما تنسب إلى الله تعالى؛ فلقد ألفنا أن تنسب الإرادة إلى مريد مشخص معين، كالفرد الواحد من بني الإنسان، كما ألفنا أن تتمثل هذه الإرادة في عزمات جزئية، لكل منها ظروفها المكانية والزمانية، كأن نقول عن فلان الفلاني: إنه عزم بإرادته أن يسافر من القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، وأن يستخدم السيارة وسيلة للسفر ... إلخ، لكننا لو ظللنا نقيد «الإرادة» في كل حالة من حالاتها بمثل هذه الظروف المكانية الزمانية، لما استطعنا أن نتصور المقصود بنسبة الإرادة إلى الله تعالى؛ ولذلك حاول «العلاف» أن يبين كيف تكون هنالك إرادات مطلقة من قيود الظروف المحددة هذه، حتى إذا ما فرغ من إثبات ذلك، جعل الإرادة الإلهية من هذا القبيل المطلق؛ فهو يريد ما يريده في غير لحظة معينة من زمان، ولا محل معين من مكان.
وهذا ينقلنا إلى مسألته الثالثة، وهي خاصة بأمر «التكوين» الذي يتمثل في قوله تعالى «كن» لما يريد له أن يكون بين الكائنات؛ فمثل هذا الأمر هو أيضا مطلق من قيود الزمان والمكان، ومن ثم فهو مختلف عما يسمى بأمر «التكليف» لأن هذا الأخير لا يفهم إلا إذا ارتبط بمكلف معين عليه أن يؤدي ما كلف به في لحظة معينة وفي مكان محدد معلوم.
ولما كانت أوامر التكليف قد تعصى وقد تطاع، كانت المسألة الرابعة عند «العلاف» هي حرية الاختيار عند الإنسان، فهو - كسائر المعتزلة - «قدريون»، بمعنى أن للإنسان قدرة على أن يطيع الأمر وقدرة على أن يعصي، ليكون الثواب والعقاب بعد ذلك قائمين على أساس عادل، لكن «العلاف» يضيف إلى هذا الموقف المعتزلي العام، إضافة خاصة به؛ إذ يقول إن الإنسان وإن تكن لديه هذه الحرية في الحركة وهو ما يزال في الحياة الدنيا، فهو إذا ما صار إلى الآخرة بات مجبرا يتحرك كما يراد له أن يتحرك، ولست أدري ماذا نفيد بهذه الفكرة العجيبة؟ إننا إذ نطرح للمناقشة مسألة الحرية بالنسبة للإنسان، هنا على هذه الأرض، إنما نلتمس ما يبرر أو لا يبرر المسئولية الخلقية التي تستتبع ثوابا أو عقابا، أما أن نطرح الموضوع نفسه بالنسبة إلى حركات الناس في آخرتهم فضرب من الترف العقلي الذي لا يشغل - في رأينا - إلا من لم يأخذ المشكلة أخذا جادا.
صفحة غير معروفة