نعم إن ما كتبه أبو العلاء المعري يدخل في باب الأدب الخالص، ولم يكنب كما كتب الجاحظ - مثلا - أو كما كتب أبو حيان التوحيدي؛ فسواء جاء نتاج أبي العلاء شعرا أم جاء نثرا، فقد عني عناية الأديب بالشكل الذي يجري مادته الشعورية أو الفكرية في هيكله، وتلك هي من أبرز علامات الأديب، لكنه نثر في شعره وفي نثره على السواء تمجيدا للعقل كاد أن يبلغ به حد التأليه، كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، هذا من جهة مضمونه الفكري؛ وأما من جهة أشكاله الأدبية فهو يعطيك الشعور بأنك أمام «مهندس» يخطط أنماطه الزخرفية تخطيطا هندسيا، وذلك لا يكون إلا إذا كان «ذهنه» حاضرا معه في كل ما خطه القلم لما يمليه.
خذ - مثلا - كتابه «الفصول والغايات» (وقد لبث هذا الكتاب مفقودا مجهولا حتى أخرجه من خزائنه محمود حسن زناتي، ومع ذلك فلم يعثر من الكتاب إلا على جزئه الأول، الذي يبتدئ من أثناء حرف الهمزة وينتهي بحرف الخاء) أقول: خذ كتابه «الفصول والغايات» تجده مؤلفا من فقرات، بادئا بفقرات تنتهي كلها بحرف معين كالباء أو التاء أو غيرهما، كأنما هو ينظم بتلك الفقرات الكثيرة قصيدة أو مجموعة قصائد؛ القصيدة الأولى قافيتها الهمزة، والثانية قافيتها الباء، والثالثة قافيتها التاء ... وهكذا، وكل ما في الأمر أن فقرات نثرية - قد تقصر حينا وتطول حينا - تأخذ مكان الأبيات في قصائد الشعر المألوفة، وهو إذا ما أملى على تلاميذه فقرة من الفقرات (والفقرات هي «الفصول» ينتهي بها إلى قافيتها، وتلك القوافي هي «الغايات») فربما طلب منه تلاميذه أن يشرح لهم غوامضها، فيعقب عليها «بتفسير»، حتى إذا ما فرغ من تفسيرها بما يقنع تلاميذه، استأنف الحديث بفقرة أخرى، ويسمي هذه العودة إلى مجرى الحديث بكلمة «رجع» ... وهكذا دواليك يسير أبو العلاء في كتابه «الفصول والغايات»: «فصل» (أي: فقرة)، تنتهي إلى «غاية»، هي الغاية التي يجعلها مدار التقاء الفقرات في جزء معين من كتابه، ولنقل إنها الهمزة، ثم «تفسير» لذلك الفصل - أي الفقرة التي يفرغ لتوه من إملائها - ثم «رجع»؛ بمعنى العودة إلى إملاء فقرة جديدة.
ومن الخير أن نسوق لك مثلا يوضح طريقة الكتاب، نأخذه من أوله؛ أعني أول النسخة التي اعتمد عليها من أخرج لنا الكتاب، لكنه لم يكن أول الكتاب كما ألفه صاحبه؛ فقد فقدت صفحاته الأولى (ستكون «الغاية» هي الهمزة؛ لأننا ننقل من أول الكتاب). «أحلف بسيف هبار، وفرس ضبار، يدأب في طاعة الجبار، وبركة غيث مدرار، ترك البسيطة حسنة الحبار. لقد خاب مضيع الليل والنهار، في استماع القينة وشرب العقار. أصلح قلبك بالأذكار؛ صلاح النخلة بالإبار . لو كشف ما تحت الأحجار، فنظرت إلى الصديق المختار، أكبرت ما نزل به كل الإكبار. نحن من الزمن خبار، كم في نفسك من اعتبار! ألا تسمع قديمة الأخبار؛ أين ولد يعرب ونزار، ما بقي لهم من إصار، لا وخالق النار، ما يرد الموت بالإباء. غاية.
تفسير: الهبار: القاطع. والفرس الضبار: الذي إذا وثب وقعت يداه مجتمعتين. الحبار: الأثر والهيئة. الخبار: أرض سهلة فيها جحرة فأر ويرابيع، توصف بصعوبة المشي فيها، ومن كلامهم القديم: من سلك الخبار، لم يأمن العثار. والإصار: الطنب، ويقال الوتد.
رجع: ... ويبدأ أبو العلاء في إملاء فقرة أخرى غايتها الهمزة، ثم يفسرها، ثم يرجع إلى الإملاء، وهلم جرا.
والذي يهمنا بصورة خاصة في هذا الموضع من الحديث، هو التخطيط الذهني الذي يهندس به أبو العلاء بناءه. ومن هذا القبيل نفسه في هندسة البناء، ما نراه في «اللزوميات» التي لم يترك حبل الشعر فيها على غاربه، بل وضع أمامه السدود وقيد خطواته بقيود التزم فيها ما لم يلتزمه غيره من الشعراء؛ فبدل أن تتفق أبيات القصيدة بقافية واحدة، ألزم نفسه بأن تتفق الأبيات في نهاياتها بأكثر من حرف واحد، وهكذا.
وكذلك قل في رائعته الكبرى «رسالة الغفران»، التي كتبها ردا على رسالة جاءته من «ابن القارح»؛ فقد جرت الرسالتان، رسالة ابن القارح ورسالة أبي العلاء، على مألوف عصرهما من عرض القدرة اللغوية وسعة الحفظ وبراعة التركيب اللفظي، وذهبتا في هذا الاتجاه إلى حد يجعل قراءتهما من قارئ معاصر لنا أمرا يحتاج إلى دراسة طويلة وإلى شروح وقواميس، وليس الذي يعنينا هنا ما قد احتوت عليه رسالة الغفران من لغة وأخبار وأشعار ونحو وصرف ... إلخ، بل يعنينا منها أن صاحبها حين أقام بنيانها، لم يفعل ذلك بدفعة من وجدانه كما هو مألوف الأدباء والشعراء، بل كان يخطط بالمسطرة والفرجار، وذلك هو «العقل».
وإننا لواجدون، في غضون الكتب الكثيرة التي تركها لنا أبو العلاء، ذكرا صريحا ل «العقل»، وكيف ينبغي أن تكون له المنزلة الأولى بين سائر جوانب الإنسان، «فليس سوى العقل» مشيرا على المرء في صبحه ومسائه، ومن احتكم إلى غير العقل دفعته الضلالات إلى حيرة من أمره ليس له منها خلاص. وإنه ليعترف بأن التزام العقل وقيوده مطلب عسير على سواد الناس، الذين يستسيغون قول المحال، ويكادون ينفرون من قولة الحق؛ ف: «إذا قلت المحال رفعت صوتي، وإن قلت اليقين أطلت همسي» «والحق يهمس بينهم، ويقام للسوءات منبر» ألا إن الناس لكالمطايا، أعوزتها العقول، فكان لا بد لها من عقال يقيدها عن الجموح:
ولو أن المطي لها عقول
وجدك لم نشد بها عقالا
صفحة غير معروفة