وسنجعل وقوفنا في هذه المرحلة مع رجل واحد، هو أبو حامد الغزالي (توفي سنة 1111م) الذي طالت قامته حتى رآه المسافر من بعيد كالنخلة الفارعة، والذي ألقى بظله على العصور التالية له، حتى لنحس وجوده معنا إلى يومنا هذا، نهابه ونخشع لسطوته، وإن الناقد له ليتردد مائة مرة قبل أن يقدم على نقده؛ لأنه يعلم أنه واقف بإزاء طود شامخ راسخ، أخلص النظر والقول، لم يكتب ما كتبه ليملأ الصحف بزخرف اللفظ، ولا ليلهي قارئه بقدرة يتظاهر بها أمامه ليتعالم في كذب، بل كتب ما كتبه مخلصا صادقا، ينظر إلى الفكرة المعروضة بين يديه نظرة تشملها من كافة وجوهها، فإذا انتهى به النظر إلى حكم، آمن به ودافع عنه بكل ما أوتي من قدرة على جمع الشواهد من مأثور القول، وعلى إقامة الحجة العقلية الخالصة يسوقها لتساير تلك الشواهد المأثورة عن السالفين الصالحين.
ولم يشعر كاتب هذه الصفحات بالقلق لشيء ينوي أن يقوله، بمثل ما يشعر الآن وهو بصدد الحديث عن الإمام الغزالي؛ وذلك لأنه بعد أن صاحبه صحبة طويلة - فربما كانت الفترة التي صحبه فيها أطول فترة قضاها مع سواه طوال رحلته الثقافية هذه - أقول: إنه بعد أن صاحب الغزالي صحبة طويلة لم يسعه إلا أن يشعر شعورا مزدوجا غريبا؛ فبينما هو يعجب لهذه القدرة الفائقة على الغوص في أعماق الموضوع الذي يتعرض للحديث فيه، وعلى النظر فيه من أفق فسيح مديد الأطراف، ويعجب كذلك لهذه العملية المنهجية في النظر، والتي تصلح أن تكون نموذجا للمنهج العلمي كيف يكون ... أقول: بينما يجد كاتب هذه الصفحات نفسه ذاهلا حيال تلك القدرة والمنهجية العلمية، فإنه يلحظ أيضا أن الغزالي قد ظهر ليكون قوة رجعية قابضة، تمسك الناس دون الانبثاقة الحرة المغامرة، ومن يدري؟ فلعله من أقوى العوامل التي أثرت في مجرى تاريخنا الفكري فجمدته، وانتهت به إلى الركود الذي ساد حياتنا العقلية قرونا متتالية! وما ظنك برجل كتب مؤلفه الضخم العظيم «إحياء علوم الدين» في أربعة مجلدات مديدة الطول، ليرسم للمسلم حياته بالمسطرة والفرجار، فيحدد له كل لفظة يفوه بها، وكل خطوة يتحركها لكي يضمن سلامة إسلامه، يحدد له كيف يأكل، وكيف ينام، وكيف يسافر، وكيف يعاشر زوجه وأولاده وأصدقاءه ... يحدد له كل صغيرة وكبيرة من حياته؛ كيف ينبغي أن تكون لكي يكون مسلما صحيح العقيدة والسلوك، فماذا يبقى إذن للإنسان ليتصرف فيه بالتلقائية الحرة ليكون مسئولا بما يقرره لنفسه وبما يخرجه في سلوكه؟
ولكن برغم هذا الأثر القيدي الذي فرضه على الناس، فهو «الشجرة المباركة» التي تنمو بقوة فطرتها دون أن تتكئ على المعين الخارجي كما يفعل الصغار، لقد نضح الأفكار من المعين الغزير الدافق في نفسه الخصبة الغنية المثمرة، فلم يعبأ إن جاءت تلك الأفكار متفقة أو مختلفة مع معاصريه، بل لقد وقت في «المنقذ من الضلال» وقفة تحليلية يستعرض فيها هؤلاء المعاصرين، من حيث هم جماعات وتيارات لا من حيث هم أفراد؛ لينتهي إلى أن ثلاثة من الأربع الجماعات التي رآها ممثلة لعصره لا تصادف من نفسه قبولا، فلم يتردد في رفضها، وهؤلاء هم: المتكلمون، والفلاسفة، والقائلون بإمام معصوم يعلم الناس عن إلهام يوحى به إليه، فلم يبق أمامه إلا فئة رابعة، هي فئة المتصوفة، قبلها، لا ليسير في الصف مغمض العينين، بل قبلها من حيث المبدأ والطريقة، وترك لنفسه بعد ذلك حق الوصول إلى النتائج. نعم، كان الغزالي في تراثنا الفكري شجرة مباركة، شمخت بفروعها ورءوسها، وامتدت على العصور بظلالها، لأنها قدمت للناس نموذج الحياة الإسلامية فكفاهم عناء التفكير، ولم يبق لهم إلا اقتفاء الأثر، فله علينا حق التعظيم، وليس عليه منا لوم إذا جاء الناس من بعده صغارا تابعين، لقد كان الغزالي - كما وصفه المستشرق ماكدونالد - بمثابة من أقام بفكره الغني مائدة مليئة بصحافها، على حين اكتفى الآخرون بفتات يجمعونه من مائدته أو من موائد سواه.
52
أما عن نظرته العلمية المنهجية، فحسبنا أن نذكر طائفة من أقواله التي نثرها على صفحات كتبه، كأنما يريد بها أن يوصي الناس بمنهاج النظر السليم، لقد عاش الغزالي في القرن الحادي عشر الميلادي، وجاء بعده بأكثر من خمسة قرون إمامان من أئمة المنهج العلمي في تاريخ الفكر البشري كله؛ هما ديكارت في فرنسا وفرانسس بيكون في إنجلترا، اللذان يعدان فاتحة العصر الحديث في الفكر الأوروبي بسبب المنهاج الجديد، ومع ذلك فيكاد لا يكون في منهجيهما نقطة واحدة لم يوردها الغزالي شرطا من شروط النظرة العلمية التي نثر أصولها على صفحات كتبه نثرا.
اقرأ للغزالي العبارات الآتية، وقارنها بما تعرفه عن أصول المنهج عند ديكارت وبيكون:
فاستحضر في ذهنك القاعدة الديكارتية التي توجب على الباحث ألا يسلم بفكرة إلا إذا كانت مستحيلة على الشك، وذلك لا يتحقق لها إلا إذا كانت مما يدرك إدراكا باطنيا مباشرا، ثم اقرأ للغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» قوله: العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، حتى ولو تحداه متحد بمعجزات، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فعندئذ لو قال لي القائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما الشك فيما علمته، فلا.
واستحضر في ذهنك ما قاله فرانسس بيكون - وهو يعرض لضروب الخطأ التي يزل فيها الإنسان - وهو يعرض ما أسماه «بأوهام المسرح»، قاصدا بذلك أنواع الخطأ التي تحدث بسبب احترامنا لمصدر الخبر، فإذا قيل لنا - مثلا - إن الشيء الفلاني هو كذا وكذا؛ تبعا لما قاله أرسطو أو أفلاطون أو من كان على شاكلتهما، ألقى ذلك في روعنا أن الخبر لا بد أن يكون معصوما من الخطأ، ما دام القائل هو على هذه الدرجة من المنزلة العالية، فإذا شاء الباحث العلمي أن يأمن الزلل من هذه الناحية، لم يكن له بد من وزن الأقوال في ذاتها، بما يؤيدها أو يفندها من شواهد، بغض النظر عن مكانة رواتها ومصادرها - هذا ما قاله بيكون في منهجه، فاقرأ ما قاله الغزالي في ذلك، وقد ورد أيضا في كتابه «المنقذ من الضلال»:
النتائج اليقينية التي نستدلها من مقدمات يقينية، إذا قيل لك خلافها، حكاية من أعظم خلق الله مرتبة وأجلهم في النظر والعقليات درجة، بل لو نقل عن نبي صادق نقيضه، فينبغي أن يقطع بكذب الناقل، أو بتأويل اللفظ المسموع عنه، ولا يخطر ببالك إمكان الصدق، فإن لم يقبل التأويل فشك في نبوة من حكي عنه بخلاف ما عقلته، إن كان ما عقلته يقينا.
لقد بلغت علمية النظر عند هذا الإمام - وهو الذي ينعتونه بحجة الإسلام - أن قرر (في كتابه «تهافت الفلاسفة») أن الدين لا يحتج به على العلم، بمعنى أن ما يقرره العلم لم يعد يجوز لأحد أن يكذبه بما يزعم وروده في الدين، يقول: من ظن أن إبطال شيء مما يقوله العلم هو دفاع عن الدين، فقد جنى على الدين ... «فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها ... إذا قيل له: إن هذا خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع»، وأعظم ما يفرح به الملاحدة - هكذا يقول الغزالي - هو أن يصرح ناصر الشرع بأن ما قد أثبتته البراهين العقلية العلمية هو على خلاف الشرع، ما دام شرعا تتنافى أحكامه مع نتائج العلم.
صفحة غير معروفة