وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وسمع من الكثيرين عن الحاكم بأمر الله وتعففه عن مال الرعية، والزهد في المال عموما. وقابل في نفسه بين الحاكم وبين الذين حكموا ويحكمون «العواصم»، فازداد تعلقا بهذه الدولة الفتية التي أسستها هذه السلالة العريقة.
وبلغه خبر مرسوم الحاكم الذي يمنع فيه النساء من مغادرة دورهن والخروج إلى الطرقات بالليل والنهار، ولم يستثن من ذلك سوى النساء المتظلمات والخارجات إلى الحج، أو المسافرات اللواتي تضطرهن ظروف قاهرة إلى السفر والإماء اللاتي برسم البيع، والقابلات، وغاسلات الموتى، والأرامل اللاتي يبعن الغزل، وأن يكون خروج هؤلاء لمزاولة شئونهن برقاع خاصة ترفع إلى القصر، وتصدر بها «تصاريح» يقوم بتنفيذها مدير الشرطة. ومنع النساء من دخول الحمامات العامة، ومنع الأساكفة من عمل أخفافهن. وأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة وكل ما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه من النساء في منازلهن، وأن يحمل الباعة أداة كالمغرفة لها ساعد طويل يمد إلى المرأة وهي وراء الباب، وفيه ما تشتريه، فتتناوله وتضع مكانه الثمن، ولا يسمح لها أن تبدو من وراء الباب.
وبلغ المعري أيضا خبر تحريم الحاكم النبيذ وغيره من الخمور، حتى منع بيع الزبيب والعنب والعسل إلا ثلاثة أرطال فما دونها، أو لمن لا تتجه إليه مظنة اتخاذه مسكرا. وكانت عقوبات المخالفين تختلف بين التشهير والجلد وأحيانا الإعدام.
وازداد إعجابه به؛ إذ سمع عنه أنه عندما حرم النبيذ وأمر بإتلاف الكروم والزبيب والعسل، تقدم إلى قاضي القضاة شخص أتلفت بضاعته من الزبيب والعسل، وادعى على الحاكم بأنه أتلف ماله الحلال بغير حق، وأنه لم يحرز الزبيب والعسل لصنع الخمر وإنما لصنع الحلاوة فقط، وطالب الحاكم بأن يعوض له ما أتلف من ماله وقيمته ألف دينار، فقبل الحاكم الخصومة، وطلب أن يحلف على صدق دعواه، وأنه إنما أحرز هذه البضاعة لصنع الحلاوة فقط، فحلف التاجر وحكم له بماله، وأدى له الحاكم ما طلب.
فتهلل وجه أبي العلاء لهذا النبأ، وعرف أن في الدنيا نورا جديدا، كما قال والده منذ أعوام، ولا بد لذوي الصلاح في هذه الأرض من مناصرته ليظل يهدي الناس.
ثم تذكر ما يتحدث الناس به عن زهد الحاكم وتقشفه وتواضعه، واحتقاره الرسوم والألقاب الضخمة، وكيف استعاض عن الثياب البيضاء بثياب سود، فكان يرتدي جبة من الصوف الأسود العادي، وقد يرتدي جبة مرقعة من جميع الألوان، وكيف كان يرتفع عن مفاسد هذا المجتمع، وعن غرائزه هو وشهواته النفسية الوضيعة، حتى أضرب عن جميع الملاذ الحسية والنفسية، فأطلق نساءه وجواريه، ومنهن من غرقهن، واقتصر في طعامه على أبسط ما تقتضيه الحياة من القوت المتواضع. وبالاختصار جذبته شخصية الحاكم بأمر الله الفذة ، ورأى فيه رجلا نقيا، فآثره وبايعه في ضميره، ولا سيما إذ علم أنه ينظر إلى الأديان كلها نظرة واحدة.
كل هذه الشئون كانت تشغل عقل المعري حين دخل عليه الشيخان، كما تقدم. وبعد التحية والسلام قال له الشيخ الذي لا عهد له بصوته: بلغني أن الشيخ، أيده الله، من رجال الكلام، وليس يقبل الأمور على علاتها، وأن عينه الثاقبة تخترق حجب «الظاهر» لتبلغ «الباطن» وتستجلي غوامضه، وتقف على أسراره.
فأجابه المعري: ليت لي عينا تبصر فأرى من يحدثني، فأقرأ على الوجوه ما قد تخفيه الصدور، ولا ينم عنه اللسان. العمى مصيبة، يا شيخي الأجل. ولو أقلعت عن ذكره عندي لرحمتني. إن ذكره يؤذيني ويؤلمني.
فقال الداعي: عفوا أيها المختار، لا يعز عليك ذلك؛ فإنها محنة تذهب وحالة تتبدل.
صفحة غير معروفة