57

ونزل ابن الحر وفتيانه في وهدة ملتفة الشجر عند المدائن، يكمنون فيها حتى لا يبصرهم من يسير على الطريق الواضح. وأقاموا على مداخل الوهدة ربيئة تحرسهم من أرصاد العدو، وجلسوا حول حفرة أوقدوا فيها نارا ليستدفئوا. وكانت رحالهم وأحمالهم مبعثرة في أطراف الوهدة تتخلل الشجر وتغطي الساحات الفسيحة التي بين الدحال الملتفة، تنبئ بأنها ألقيت هناك على عجل. ولما غابت الشمس هبوا إلى الصلاة يؤمهم ابن الحر، حتى إذا ما انتهوا من الصلاة ذهبوا إلى رحالهم يلتمسون عشاء أو يستريحون من الجهد، وبقي ابن الحر مائلا على النار مفكرا ينظر إلى لهيبها وينسج منه في خياله صورا. وحمله الخيال إلى الكوفة وإلى داره التي خلف فيها أم توبة من ورائه. وكان بين حين وحين ينظر نحو الغرب قلقا، يحاول أن يرى ما بين الشجر من ضوء القمر، ثم يعود إلى إطراقه ويميل على النار يتأمل ما تخيله له من الصور. وكان القمر قد توسط السماء وأوشك أن ينحدر إلى الغرب، عندما لاح له شبح راكب يسرع بين الأشجار، فقام نحوه في لهفة فإذا هو رسول جاء يحمل إليه بعض الأنباء.

وقال الرسول في صوت المواساة: لا يرعك ما حملت إليك يا أبا الأشرس!

وكان هذا القول كافيا ليفهم ابن الحر أن صاحبه يحمل إليه مأساة.

وقص الرجل عليه قصة قصيرة أذكت في قلبه نارا تتأجج. فصاح بصوت ترددت أصداؤه في الليل الساجي: يا غوثاه!

ثم ارتمى على جذع نخلة ووضع رأسه بين يديه. فتحركت الأغطية فجأة في جوانب الرحال المنثورة بين الشجر، وتهاوى أصحابه إليه يترنحون من أثر النعاس، حتى التفوا به وجعلوا يتساءلون عما أصابه. فقص عليهم الرسول قصته: انتهب المختار ضياع ابن الحر وأحرق داره، وساق امرأته سلمى النبيلة أم توبة إلى السجن، ولم يرده عن قسوته أنها امرأة آمنة في بيتها.

وما كاد الفتيان يسمعون القصة حتى انصرفوا في صمت إلى الرحال، وجعلوا يستعدون سراعا للمسير.

وانحدر القمر إلى الغرب وطلع الفجر، وكان ابن الحر وأتباعه سبعمائة فارس يمسحون بسنابك خيلهم عقود الندى الغزير المخيم على البساط الأخضر من عشب المرج عند مداخل الكوفة، ثم تسللوا من جبانة السبيع إلى موضع السجن.

وكان الحراس قد هدءوا وغطوا رءوسهم بالأقبية الصوفية الغليظة يستدفئون من البرد القارس، ويصيبون من النوم إغفاءة في السحر ، فأيقظتهم أصوات فتيان ابن الحر عند رءوسهم يحطمون أبواب السجن في حنق، ولم يفلت منهم إلا من استطاع أن يهرب، وانطلق ابن الحر في سراديب السجن يعدو في تلافيف الحجرات والسيف مصلت في يمينه وهو ينادي: «أم توبة، هذا ابن عمك يسرع إليك.»

فلما بلغ أقصى السجن سمع صوتا ضعيفا كأنه ينبعث من تحت أقدامه قائلا: إلي أبا الأشرس!

فاندفع نحو الباب المطأطئ الذي دونه، فحطمه بطعنات رمحه ودفعات جسمه، ورأى أمامه امرأته الحبيبة كأنها شبح أصفر لا تكاد تقوى على الوقوف. فاحتملها بين يديه وعدا بها وهو صامت اللسان خافق القلب، حتى إذا بلغ رحبة السجن وجد أصحابه لا يزالون يضطربون ويحطمون، فصاح بهم: أطلقوا من تجدون في حبس الطاغية ...

صفحة غير معروفة