وفي حالة مبرهنة فيرما الأخيرة، لم يكن هناك من نقص في حب الاستطلاع. لقد أضاف عمل جودل في موضوع عدم قابلية الحسم، عنصرا من الشك بشأن ما إذا كانت المسألة قابلة للحل أم لا، غير أن ذلك لم يكن كافيا لإحباط مهووسي فيرما الحقيقيين. ما كان أكثر إحباطا هو أنه بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، كان علماء الرياضيات قد استنفدوا جميع الأساليب، ولم يعد في جعبتهم سوى القليل للغاية. كانت الحاجة تتمثل في وجود أداة جديدة، شيء لرفع الروح المعنوية الرياضية. وقد كانت الحرب العالمية الثانية هي ما لبى تلك الحاجة تماما، القفزة الكبرى في فعالية الحساب منذ اختراع المسطرة الحاسبة. (4) نهج القوة الغاشمة
حين أعلن إتش جي هاردي عام 1940 أن أفضل الرياضيات غالبا ما تكون عديمة الجدوى، أسرع بإضافة أن ذلك ليس أمرا سيئا بالضرورة: «ليس للرياضيات الحقيقية أي تأثير على الحرب. فلم يكتشف أحد حتى الآن أغراضا تتعلق بالحرب يمكن تلبيتها من خلال نظرية الأعداد.» وسرعان ما ثبت أن هاردي كان مخطئا.
في العام 1944، شارك جون فون نيومان في كتابة كتاب «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي»، الذي صك فيه مصطلح «نظرية الألعاب». كانت نظرية الألعاب محاولة من نيومان لاستخدام الرياضيات في وصف هيكل الألعاب والكيفية التي يلعبها بها البشر. وقد بدأ بدراسة الشطرنج والبوكر، ثم توجه إلى نمذجة بعض الألعاب الأكثر تعقيدا مثل الممارسات الاقتصادية. بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت مؤسسة «راند» أهمية أفكار نيومان ووظفته للعمل على تطوير استراتيجيات الحرب الباردة. ومنذ هذه المرحلة حتى وقتنا هذا، أصبحت نظرية الألعاب الرياضية أداة أساسية يستخدمها قادة الجيوش لاختبار استراتيجياتهم العسكرية بالتعامل مع المعارك على أنها مباريات معقدة من الشطرنج. ومن الأمثلة البسيطة التي توضح تطبيق نظرية الألعاب في المعارك، قصة «المبارزة الثلاثية».
والمبارزة الثلاثية تشبه المبارزة المعتادة، غير أنها تتضمن ثلاثة مشاركين لا اثنين فحسب. ذات صباح، يقرر السيد بلاك والسيد جراي والسيد وايت تسوية نزاع من خلال الاشتراك في مبارزة ثلاثية بالمسدسات إلى أن ينجو أحدهم. السيد بلاك هو أسوأهم في إطلاق الرصاص؛ إذ يصيب هدفه بمعدل مرة واحدة كل ثلاث مرات. والسيد جراي أفضل منه إذ يصيب هدفه بمعدل مرتين كل ثلاث مرات. أما السيد وايت، فهو الأفضل على الإطلاق إذ يصيب هدفه كل مرة. ولكي تكون المبارزة الثلاثية أكثر إنصافا، يسمح للسيد بلاك بإطلاق الرصاص أولا، ويليه السيد جراي (إذا كان لا يزال حيا)، ويليه السيد وايت (إذا كان لا يزال حيا)، ويتكرر الترتيب نفسه مجددا إلى أن يظل واحد منهم فقط حيا. والسؤال هو: أين يجب أن يوجه السيد بلاك ضربته الأولى؟ ربما ترغب في التخمين وفقا للحدس، أو وفقا لنظرية الألعاب وهو الأفضل. ترد الإجابة في الملحق 9.
والأكثر تأثيرا في زمن الحرب من نظرية الألعاب، الرياضيات المتعلقة بفك التشفير. فخلال الحرب العالمية الثانية، أدرك الحلفاء أنه يمكن من الناحية النظرية، استخدام المنطق الرياضي لفك تشفير الرسائل الألمانية، إذا أجريت الحسابات بالسرعة الكافية. وقد كان التحدي هو إيجاد طريقة لميكنة الرياضيات كي تتمكن آلة من إجراء الحسابات، وقد كان الإنجليزي الذي أسهم بالدرجة الكبرى في جهود فك التشفير هو آلان تورينج.
في العام 1938، عاد تورينج إلى كامبريدج بعد أن أكمل مدة من العمل في جامعة برينستون. كان قد شهد بنفسه الفوضى التي نتجت عن مبرهنتي جودل لعدم الاكتمال، وصار منخرطا في محاولة لملمة شتات حلم هيلبرت. كان يرغب على وجه التحديد في معرفة ما إذا كانت توجد طريقة لمعرفة أي الأسئلة قابلة للحسم وأيها غير قابل للحسم، وحاول وضع طريقة منهجية للإجابة عن هذا السؤال. في ذلك الوقت، كانت الأجهزة الحاسبة بدائية للغاية وعديمة الجدوى فعليا حين كان الأمر يتعلق بجوانب جادة من الرياضيات؛ لذا فقد بنى تورينج أفكاره على مفهوم آلة تخيلية قادرة على عدد لا نهائي من العمليات الحسابية. وهذه الآلة الافتراضية التي استهلكت كمية لا نهائية من شريط المبرقة التخيلي، وكانت تستطيع إجراء الحسابات إلى الأبد، كانت هي كل ما احتاج إليه لاستكشاف أسئلته المجردة المتعلقة بالمنطق. ما كان تورينج يجهله هو أن طريقته التخيلية في ميكنة الأسئلة الافتراضية كانت ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق تقدم كبير في إجراء الحسابات الحقيقية على آلات حقيقية.
بالرغم من اندلاع الحرب، واصل تورينج أبحاثه وهو عضو في كلية «كينجز كوليدج» حتى الرابع من سبتمبر عام 1939، حين انتهت حياته السعيدة بصفته مدرسا في جامعة كامبريدج على غفلة. فقد جندته المدرسة الحكومية للترميز والتشفير، التي كانت مهمتها فك رموز رسائل العدو المشفرة. قبل الحرب، كان الألمان قد كرسوا مجهودات كبيرة لتطوير نظام فائق للتشفير، كان ذلك مصدر قلق بالغ للمخابرات البريطانية التي كانت قادرة في الماضي على فك شفرات مراسلات العدو بسهولة نسبية. يصف التاريخ الرسمي للحرب الصادر عن مكتب مطبوعات صاحبة الجلالة «المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الثانية»، الحالة الراهنة في ثلاثينيات القرن العشرين على النحو التالي:
بحلول العام 1937، ترسخ أنه على خلاف نظرائه اليابانيين والإيطاليين، يستخدم الجيش الألماني والأسطول الألماني والقوات الجوية الألمانية أيضا على الأرجح، إضافة إلى بعض مؤسسات الدولة الأخرى مثل السكك الحديدية وقوات «شوتوشتافل»، في جميع المراسلات عدا المراسلات التكتيكية؛ نسخا مختلفة من نظام التشفير نفسه: الآلة «إنيجما» التي طرحت في السوق في عشرينيات القرن العشرين، التي زاد الألمان من تأمينها بإجراء تعديلات تقدمية. وفي العام 1937، اخترقت المدرسة الحكومية للترميز والتشفير، النموذج الأقل تعديلا والأقل أمنا من هذه الآلة، الذي كانت تستخدمه القوات الألمانية والإيطالية والقوات القومية الإسبانية. أما بخلاف ذلك، فقد ظلت «إنيجما» تقاوم الهجوم، وكان يبدو أنها ستستمر في ذلك على الأرجح.
شكل 4-6: آلان تورينج.
كانت الآلة «إنيجما» تتألف من لوحة مفاتيح تتصل بوحدة لفك الشفرات. وتتألف وحدة فك التشفير من ثلاثة أقراص دوارة منفصلة تحدد مواقعها طريقة تشفير كل حرف على لوحة المفاتيح. وما جعل من فك شفرة «إنيجما» أمرا في غاية الصعوبة هو ضخامة عدد الطرق التي يمكن إعداد الآلة بها. فأولا كانت الأقراص الدوارة الثلاثة مختارة من خمسة، وكان من الممكن تغييرها وتبديلها لتشويش مخترقي الشفرات. وثانيا، كان يمكن وضع كل قرص بطريقة واحدة من ست وعشرين طريقة مختلفة. ومعنى هذا أن الآلة كان يمكن أن تعد بأكثر من مليون طريقة مختلفة. وإضافة إلى التباديل التي توفرها الأقراص الدوارة، كان يمكن تغيير توصيلات لوحة التوصيل الموجودة في ظهر الآلة يدويا، لتوفير ما يزيد عن 150 مليون مليون مليون طريقة مختلفة من الإعدادات. ولتوفير درجة أعلى من الأمان، كانت الأقراص الدوارة الثلاثة تغير من اتجاهها على الدوام، كي يتغير إعداد الآلة بعد إرسال كل حرف؛ فتتغير طريقة تشفير الحرف التالي تباعا. وبهذه الطريقة، عند كتابة
صفحة غير معروفة