توطئة
عن الكتاب
عن المؤلف
تمهيد
1 - «أعتقد أنني سأتوقف هنا»
2 - صاحب الأحاجي
3 - عار رياضي
4 - نحو التجريد
5 - البرهان بالتناقض
6 - العملية الحسابية السرية
صفحة غير معروفة
7 - مشكلة طفيفة
خاتمة
الملاحق
اقتراحات بقراءات إضافية
مصادر الصور
توطئة
عن الكتاب
عن المؤلف
تمهيد
1 - «أعتقد أنني سأتوقف هنا»
صفحة غير معروفة
2 - صاحب الأحاجي
3 - عار رياضي
4 - نحو التجريد
5 - البرهان بالتناقض
6 - العملية الحسابية السرية
7 - مشكلة طفيفة
خاتمة
الملاحق
اقتراحات بقراءات إضافية
مصادر الصور
صفحة غير معروفة
مبرهنة فيرما الأخيرة
مبرهنة فيرما الأخيرة
المعضلة التي حيرت عباقرة الرياضيات لقرون
تأليف
سايمون سينج
ترجمة
الزهراء سامي
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
حصل سايمون سينج على درجة الدكتوراه في فيزياء الجسيمات من جامعة كامبريدج. عمل في السابق منتجا تليفزيونيا بشبكة «بي بي سي» وأخرج الفيلم الوثائقي «فيرماز لاست ثيورم» (مبرهنة فيرما الأخيرة) الذي حاز على جوائز الأكاديمية البريطانية للأفلام «بافتا» كما أنه قد ألف كتابا بالاسم نفسه يتصدر قائمة أفضل الكتب مبيعا. بعد ذلك، ألف كتابا بعنوان «كتاب الشفرة» كان هو الأساس لمسلسل «ذا ساينس أوف سيكرسي» الذي أذيع على القناة التليفزيونية «تشانل فور» وكتاب «الانفجار العظيم» وكلا الكتابين من أفضل الكتب مبيعا على المستوى العالمي.
صفحة غير معروفة
بعض الآراء في كتاب مبرهنة فيرما الأخيرة:
تنطوي هذه الحكاية على جميع العناصر التي تتسم بها القصص المشوقة للغاية: لغز يستعصي على الحل، والطموح والفشل على مدى أجيال من المتفائلين، والعبقري الذي يعمل سرا على مدى سنوات لتحقيق حلم طفولته.
إكسبريس
لقد أسرني كتاب «مبرهنة فيرما الأخيرة» من تأليف سايمون سينج ... يبرز كتاب سينج رومانتيكية المجال وكذلك حس الفكاهة الأخاذ وحس الزمالة اللذين يميزان المجتمع الرياضي.
إندبندنت
إن قراءة هذا الكتاب تمكنك من إدراك وجود عالم من الجمال والتحدي الفكري محجوب عن 99,9 بالمائة منا ممن هم ليسوا بعلماء رياضيات رفيعي المستوى.
ذا تايمز
آسر على نحو غير متوقع ... يمكن لأي شخص يفهم الحساب بالدرجة المعتادة أن يدرك قبسا مما تتسم به الأعداد من جمال خالص دون الحاجة إلى فهم الحسابات التي ينطوي عليها الموضوع.
صنداي تيليجراف
إن هذا العمل بعيد كل البعد عن الكتب الدراسية الجامدة، بل تشعر عند قراءته بأنه تأريخ لقصة حب قوية للغاية. إنه يتسم بهذه المكونات الكلاسيكية التي تقر بها هوليوود.
صفحة غير معروفة
ديلي ميل
إذا استمتعت بكتاب «خطوط الطول» من تأليف دافا سوبيل، فسوف تستمتع بهذا الكتاب.
إيفنينج ستاندرد
أفضل ما قرأته على الأرجح من سرد لأحد الموضوعات العلمية.
آيريش تايمز
قصة رائعة قد سردت بحماس معد.
إيفنينج ستاندرد
إحياء لذكرى
باكار سينج بيرينج.
توطئة
صفحة غير معروفة
التقينا أخيرا في إحدى القاعات، لم تكن مزدحمة لكنها كبيرة بما يكفي لأن تضم جميع أعضاء قسم الرياضيات في جامعة برينستون في مناسبات احتفالاتهم الكبيرة. في عصر ذلك اليوم بالتحديد، لم يكن هناك عدد كبير من الأشخاص، لكنه كان كافيا بالنسبة لي لئلا أكون متأكدا أيهم هو أندرو وايلز. بعد لحظات قليلة، اخترت رجلا توحي ملامحه بالخجل يستمع إلى المحادثة التي تجري حوله بينما يحتسي الشاي منغمسا في طقس اجتماع العقول الذي يشترك فيه علماء الرياضيات في جميع أنحاء العالم في الرابعة عصرا تقريبا. وقد خمن هو هويتي ببساطة.
كانت تلك نهاية أسبوع استثنائي. كنت قد التقيت بعدد من أفضل علماء الرياضيات الأحياء على الإطلاق، وبدأت أفهم عالمهم فهما متعمقا. غير أنه بالرغم من جميع محاولاتي للقاء أندرو وايلز للحديث معه وإقناعه بأن يشارك في فيلم وثائقي ضمن حلقات «هورايزون» من إنتاج «بي بي سي» يتحدث عن إنجازاته، فقد كان هذا هو لقاءنا الأول. كان هذا هو الرجل الذي أعلن مؤخرا أنه اكتشف الكأس المقدسة في الرياضيات، وزعم أنه قد أثبت مبرهنة فيرما الأخيرة. في أثناء حديثنا، بدا وايلز شارد الذهن ومنطويا على نفسه بعض الشيء، وبالرغم من أنه كان ودودا ومهذبا، بدا جليا أنه يتمنى أن أكون في أبعد مكان ممكن عنه قدر الإمكان. شرح ببساطة أنه لا يستطيع أبدا أن يركز على شيء آخر سوى عمله الذي كان في مرحلة حاسمة، لكن ربما سيكون سعيدا بالمشاركة في وقت لاحق بعد أن تخف الضغوطات الراهنة. لقد كنت أعرف، وكان هو يعرف أنني أعرف أنه يواجه انهيار حلم حياته، وأن الكأس المقدسة التي كان قد عثر عليها، اتضح الآن أنها ليست سوى كأس جميلة وثمينة، لكنها كأس عادية. لقد وجد عيبا في برهانه المنشور.
إن حكاية مبرهنة فيرما الأخيرة من الحكايات الفريدة. وكنت أدرك قبل أن ألتقي بوايلز للمرة الأولى أنها من أعظم القصص بالفعل في مجال المجهودات العلمية أو الأكاديمية. لقد رأيت العناوين في صيف العام 1993، حين أدى ذلك البرهان إلى وضع الرياضيات على الصفحات الأولى من الصحف الوطنية في جميع أنحاء العالم. في ذلك الوقت، لم أكن أتذكر «المبرهنة الأخيرة» إلا على نحو مبهم، لكنني أدركت أنها شيء مميز للغاية بكل تأكيد، وأنها شيء يليق بحلقات «هورايزون». قضيت الأسابيع التالية في الحديث إلى العديد من علماء الرياضيات الذين تجمعهم علاقة وثيقة بالقصة، أو القريبين من أندرو، وكذلك المتحمسين منهم بأن يشهدوا تلك اللحظة العظيمة في مجالهم فحسب. وقد كانوا جميعا كرماء معي في مشاركة رؤاهم بشأن التاريخ الرياضي، وبصبر شرحوا لي ما استطعت استيعابه من فهم ضئيل للأفكار المتعلقة بالأمر. وسرعان ما اتضح أن ذلك موضوع لا يستطيع فهمه فهما كليا سوى بضعة من الأشخاص فقط في العالم كله على الأرجح. ولبرهة تفكرت فيما إذا كانت محاولة صنع فيلم عنه ضربا من الجنون. غير أنني قد تعرفت من هؤلاء العلماء أيضا على ذلك التاريخ الغني والأهمية الأعمق التي يمثلها فيرما للرياضيات والمشتغلين بها، وقد أدركت أن هذا هو مكمن القصة الحقيقية.
لقد تعرفت على الأصول اليونانية القديمة للمسألة، وعرفت أن مبرهنة فيرما الأخيرة هي أشبه بقمة الهيملايا في نظرية الأعداد. تعرفت على القيمة الجمالية في الرياضيات، وبدأت أفهم معنى وصف الرياضيات بأنها لغة الطبيعة. ومن معاصري وايلز، أدركت الطبيعة الجبارة لعمله في التنسيق بين أحدث تقنيات نظرية الأعداد من أجل تطبيقها في برهانه. تحدث أصدقاؤه في جامعة برينستون عن التقدم المعقد للسنوات التي قضاها أندرو في الدراسة المنعزلة. لقد نسجت صورة استثنائية لأندرو وايلز واللغز الذي هيمن على حياته، بالرغم من ذلك فقد بدا لي أنني لن ألتقي بالرجل نفسه أبدا.
وبالرغم من أن المفاهيم الرياضية التي ينطوي عليها برهان وايلز، من أصعب المفاهيم الرياضية في العالم، فقد وجدت أن جمال مبرهنة فيرما الأخيرة إنما يكمن في حقيقة أن المسألة نفسها يمكن فهمها بسهولة شديدة. إنه لغز يمكن شرحه بكلمات يفهمها تلاميذ المدارس. لقد كان بيير دو فيرما يعيش في عصر النهضة في خضم إعادة اكتشاف المعارف اليونانية القديمة، لكنه طرح سؤالا لم يكن اليونانيون ليفكروا في طرحه أبدا؛ فأنتج بذلك ما قد أصبح من أصعب المسائل المعروفة على الأرض ليحلها الآخرون. ومن المحير والمشوق أنه ترك للأجيال القادمة ما يفيد بأنه قد وجد الإجابة، لكنه لم يوضح الإجابة نفسها. وقد كانت تلك هي البداية التي استمرت ثلاثة قرون.
إن هذه المدة الزمنية توضح أهمية هذا اللغز. فمن الصعب أن نتخيل أي مسألة في أي مجال من مجالات العلوم يمكن شرحها بدرجة كبيرة من السهولة والوضوح، لكنها تصمد أمام اختبار المعرفة المتقدمة هذه المدة الطويلة. فلنتأمل القفزات التي حققناها في فهم الفيزياء والكيمياء والأحياء والطب والهندسة منذ القرن السابع عشر. لقد تقدمنا من «الأخلاط» في الطب إلى تضفير الجينات، وحددنا الجسيمات الذرية الأساسية، وهبطنا بالبشر على القمر. بالرغم من ذلك، ففي نظرية الأعداد، ظلت مبرهنة فيرما الأخيرة منيعة لم يمسسها أحد.
قضيت بعض الوقت في البحث عن سبب يجعل من مبرهنة فيرما الأخيرة أمرا مهما لأي شخص بخلاف علماء الرياضيات، وعن سبب لأهمية تقديم برنامج عنها. صحيح أن الرياضيات تستخدم في تطبيقات عملية كثيرة، لكن حين يتعلق الأمر بنظرية الأعداد، فإن ما توصلت إليه من استخدامات ربما تكون هي الأكثر إثارة للاهتمام، كانت في مجال علم التشفير، وتصميم الحواجز الصوتية، والتواصل من المركبات الفضائية البعيدة. ولم يبد أن أيا من هذه الموضوعات يمكن أن يمثل احتمالية جيدة في جذب الجمهور. غير أن السبب الذي أسرني وأقنعني قد تمثل في علماء الرياضيات أنفسهم، وفيما كانوا يعبرون عنه جميعا من شغف عند الحديث عن فيرما .
إن الرياضيات من أكثر أشكال التفكير تجريدا، وقد يبدو علماء الرياضيات لغير المختصين بها وكأنهم من عالم آخر. والأمر الذي أدهشني في جميع نقاشاتي معهم، هو الدقة الاستثنائية في حديثهم. فهم نادرا ما كانوا يجيبون عن أي سؤال على الفور، بل كان علي أن أنتظر في معظم الأحوال بينما تتشكل بنية الإجابة في العقل، لكنها كانت تنبثق بعد ذلك في صورة تصريح فصيح ومتقن لم أكن لأتمنى مثله. وحين ناقشت بيتر سارناك، صديق وايلز، في هذا الأمر، شرح أن علماء الرياضيات يكرهون أن يدلوا بتصريحات خاطئة. لا شك في أنهم يستخدمون الحدس والإلهام، أما التصريحات الرسمية فلا بد أن تكون قاطعة. إن البرهان هو صميم الرياضيات، وهو ما يميزها عن غيرها من العلوم. فالعلوم الأخرى تستخدم الفرضيات وتختبرها على الأدلة التجريبية إلى أن تسقط، ثم تستبدل بها فرضيات جديدة. أما في الرياضيات، فالبرهان القاطع هو الهدف، وحين يثبت البرهان على شيء ما، فإنه يظل مثبتا إلى الأبد، دون أي مجال للتغيير. لقد مثلت المبرهنة الأخيرة تحديا عظيما للرياضيين في التوصل إلى برهان لها، وهذا الشخص الذي سيتوصل إلى الإجابة، سيحظى بالإعجاب الشديد من المجال بأكمله.
عرضت الجوائز، وازدهرت المنافسة. فللمبرهنة الأخيرة تاريخ ثري يلامس حدود الموت والخداع، وقد حفزه تطور الرياضيات بدرجة أكبر. ويصف باري ميزور عالم الرياضيات بجامعة هارفارد هذا الأمر بأن مبرهنة فيرما، قد بعثت «الروح» في تلك الجوانب الرياضية التي ارتبطت بالمحاولات المبكرة للتوصل إلى برهان. ومن المفارقات أن من تلك الجوانب ما كان أساسيا في برهان وايلز النهائي.
حين بدأت تدريجيا في اكتساب قدر من الفهم لهذا المجال غير المألوف، أصبحت أرى أن مبرهنة فيرما الأخيرة أساسية في تطور الرياضيات نفسها، أو حتى موازية له. لقد كان فيرما هو مؤسس نظرية الأعداد الحديثة، وقد تطورت الرياضيات منذ عصره وتقدمت وتفرعت إلى العديد من المجالات الملغزة، حيث ولدت التقنيات الجديدة جوانب جديدة من الرياضيات قد أصبحت مقصدا في حد ذاتها. ومع مرور القرون، بدت المبرهنة الأخيرة أقل ارتباطا بالأبحاث الرياضية الأكثر تطورا، وأكثر ارتباطا بحب الاستطلاع فحسب. بالرغم من ذلك، فمن الجلي الآن أن أهميتها لعلم الرياضيات لم تتضاءل قط.
صفحة غير معروفة
إن المعضلات المرتبطة بالأعداد، كتلك التي طرحها فيرما، هي أشبه بألعاب الألغاز، وعلماء الرياضيات يحبون حل الألغاز. وقد كانت بالنسبة إلى وايلز، لغزا مميزا للغاية جديرا بأن يكون طموح حياته. لقد ألهمته مبرهنة فيرما الأخيرة قبل ثلاثين عاما حين كان طفلا إذ تعثر بها في أحد كتب المكتبات العامة. وكان حلمه في مرحلة الطفولة والنضج هو أن يتوصل إلى حل لهذه المسألة، وحين أعلن للمرة الأولى عن توصله إلى برهان في صيف العام 1993، إنما كان ذلك نتاج سبع سنوات قد كرسها للعمل على حل هذه المسألة، وتلك درجة من التركيز والإصرار يصعب تخيلها. لم تكن العديد من التقنيات التي استخدمها قد ابتكرت حين بدأ في العمل. وقد جمع أيضا بين أعمال الكثيرين من علماء الرياضيات البارعين؛ فربط بين أفكار وابتكر مفاهيم لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها. فمثلما أشار باري ميزور، اتضح أن الجميع كانوا يعملون على معضلة فيرما، لكن بصورة منفصلة، ودون أن تكون لهم هدفا؛ إذ كان البرهان يستلزم تطبيق كل قوة للرياضيات الحديثة، من أجل التوصل إلى إثباته. أما ما فعله أندرو، فهو أن ربط مجددا بين العديد من جوانب الرياضيات التي كانت تبدو شديدة البعد بعضها عن بعض. ومن ثم، فقد بدا عمله تسويغا لجميع أشكال التنوع التي خضعت لها الرياضيات منذ طرح المشكلة.
وفي صميم إثباته لمبرهنة فيرما، أثبت أندرو فكرة تعرف باسم حدسية تانياما-شيمورا قد شكلت جسرا جديدا بين اثنين من العوالم الرياضية الشديدة الاختلاف. إن الكثيرين يرون أن توحيد الرياضيات هدف جليل، ولم تكن تلك سوى لمحة لمثل ذلك العالم. ومن ثم، ففي إثباته لمبرهنة فيرما، دعم أندرو وايلز بعضا من أهم جوانب نظرية الأعداد في مرحلة ما بعد الحرب، ووطد الأساس لهرم من الحدسيات التي قد بنيت عليه. لم يعد ذلك حلا لأقدم الألغاز الرياضية فحسب، وإنما دفع لحدود الرياضيات نفسها. كان الأمر كما لو أن مسألة فيرما البسيطة التي ولدت في عصر كانت الرياضيات فيه في مهدها، ظلت في انتظار هذه اللحظة.
لقد انتهت قصة فيرما في أروع صورة. بالنسبة إلى أندرو وايلز، كانت تعني نهاية الانعزال المهني من نوع يكاد يكون غريبا تماما عن الرياضيات، التي عادة ما تكون نشاطا تعاونيا. إن طقس تناول شاي العصر في معاهد الرياضيات على مستوى العالم، هو وقت يكون المعتاد فيه هو اجتماع الأفكار وتبادل الرؤى قبل النشر. لقد كان الرياضي كين ريبت، الذي كان هو نفسه مساهما أساسيا في البرهان، هو من أخبرني بنبرة بين الجد والمزاح بأن قلق علماء الرياضيات هو ما يستلزم هيكل الدعم الذي يوفره زملاؤهم. أما أندرو وايلز، فقد تجنب كل هذا واحتفظ بعمله لنفسه في جميع المراحل عدا الأخيرة منها. وقد كان ذلك أيضا مؤشرا على أهمية فيرما. لقد كان مدفوعا بشغف حقيقي قوي لأن يكون هو الشخص الذي توصل إلى حل المسألة، وكان شغفه قويا بما يكفي لأن يكرس سبع سنوات من حياته ليحتفظ بهدفه لنفسه. لقد كان يعرف أنه بالرغم مما قد يبدو من افتقار المسألة إلى الأهمية، فإن المنافسة على فيرما لم تضعف قط، ولم يكن ليخاطر أبدا بأن يفصح عما كان يقوم به.
بعد أسابيع من البحث في المجال، وصلت إلى برينستون. وقد كان مستوى العاطفة قويا للغاية بالنسبة إلى رياضيين. لقد وجدت قصة تجمع بين التنافس، والنجاح، والعزلة، والعبقرية، والانتصار، والغيرة والضغوطات الشديدة، والخسارة، وحتى المأساة. ففي صميم حدسية تانياما-شيمورا بالغة الأهمية، تقع الحياة المأساوية التي عاشها يوتاكا تانياما في وقت ما بعد الحرب في اليابان، الذي حظيت بشرف سماع قصته من صديقه المقرب جورو شيمورا. ومن شيمورا أيضا تعرفت على مفهوم «الخيرية» في الرياضيات، حيث تبدو الأمور صوابا فقط لأنها خير. وقد كان شعور الخيرية يتخلل أجواء الرياضيات في ذلك الصيف على نحو ما؛ إذ كان الجميع ينعمون بتلك اللحظة المجيدة.
وفي خضم كل هذه الأحداث، لا يعجب المرء كثيرا من حجم المسئولية التي شعر بها أندرو مع ظهور العيب تدريجيا على مدى خريف العام 1993. فبالرغم من توجه أنظار العالم بأكمله نحوه، وبالرغم من مطالبات زملائه بنشر البرهان، تمكن بطريقة ما لا يعرفها إلا هو، من مواصلة العمل. لقد تحول فجأة عن العمل سرا بوتيرته الخاصة، إلى العمل علنا. إن أندرو رجل يقدر الخصوصية بدرجة كبيرة، وقد ناضل بقوة لحماية أسرته من العاصفة التي كانت تهب حوله. فعلى مدى ذلك الأسبوع الذي قضيته في برينستون، اتصلت به هاتفيا، وتركت الرسائل في مكتبه وعلى عتبة داره ومع أصدقائه، بل إنني قدمت هدية من الشاي الإنجليزي والمارمايت. ومع ذلك، فقد قاوم مبادراتي إلى أن حانت فرصة ذلك الاجتماع في يوم رحيلي. تلت ذلك محادثة هادئة مركزة، لم تتجاوز مدتها في النهاية خمس عشرة دقيقة.
كنا قد عقدنا اتفاقا في ذلك العصر قبل أن نفترق، وهو أنه إذا تمكن من إصلاح البرهان، فسوف يأتي إلي لمناقشة الإعداد لفيلم، وكنت مستعدا للانتظار. بالرغم من ذلك، فقد شعرت في تلك الليلة في رحلة عودتي إلى لندن، بأن أمر هذا البرنامج قد انتهى؛ إذ لم يتمكن أحد على الإطلاق من إصلاح أي فجوة في البراهين العديدة التي حاولت إثبات مبرهنة فيرما على مدى ثلاثة قرون. لقد كان التاريخ ممتلئا بالادعاءات الخاطئة، وبقدر ما كنت أتمنى أن يكون أندرو هو الاستثناء، فقد كان من الصعب أن أتخيل أنه سيكون أي شيء سوى شاهد ضريح في تلك المقبرة الرياضية.
وبعد عام، تلقيت المكالمة. فبعد تحول رياضي استثنائي، ووميض من البصيرة الحقيقية والإلهام، تمكن أندرو أخيرا من الانتهاء من أمر فيرما في حياته المهنية. وبعد عام آخر، وجدنا له الوقت الذي سيخصصه للتصوير. وبحلول ذلك الوقت، كنت قد دعوت سايمون سينج للانضمام إلي في صناعة الفيلم، وقضينا معا وقتا في صحبة أندرو، نتعرف فيه من الرجل نفسه على القصة الكاملة لتلك السنوات السبع التي قضاها في الدراسة المنعزلة، والعام العصيب الذي تلا ذلك. وفي أثناء التصوير ، أخبرنا أندرو، كما لم يخبر أحدا من قبل، عن جوهر مشاعره بشأن ما حققه. أخبرنا كيف أنه قد تمسك على مدى ثلاثين عاما بحلم طفولته، وكيف أن قدرا كبيرا من الرياضيات التي درسها على مدى حياته كانت - دون علم منه في ذلك الوقت - بمثابة جمع للأدوات من أجل معضلة فيرما التي هيمنت على حياته المهنية، وكيف أن كل شيء قد تغير لديه: شعوره بالفقد تجاه المسألة التي لن تعود رفيقه الدائم، وإحساس التحرر المشجع الذي كان يشعر به الآن. بالرغم من أن الموضوع الذي يدرسه هذا المجال يصعب فهمه للغاية على الجمهور من غير المتخصصين، فقد كان مستوى الانفعال العاطفي في محادثاتنا أعظم من أي شيء قد اختبرته في مجال صناعة الأفلام عن العلوم. لقد كانت نهاية فصل في حياة أندرو. وقد كان شرفا لي أن أكون قريبا منه.
أذيع الفيلم على شبكة «بي بي سي» التليفزيونية تحت عنوان «هورايزون: فيرماز لاست ثيورم» (هورايزون: مبرهنة فيرما الأخيرة). والآن، قد طور سايمون سينج تلك الرؤى والمحادثات الحميمية، مع كل ما تتضمنه قصة فيرما من ثراء وما يحيط بها من تاريخ وعلوم رياضية، وضم ذلك كله في هذا الكتاب الذي يمثل تسجيلا مكتملا وتثقيفيا بشأن واحدة من أعظم القصص في التفكير البشري.
جون لينش
محرر حلقات «هورايزون» من إنتاج شبكة «بي بي سي» التليفزيونية
صفحة غير معروفة
مارس 1997
عن الكتاب
سرد الحكايات
بقلم سايمون سينج
حين كتب بيير دو فيرما ملاحظته الهامشية، لم يكن ليتخيل أنها ستشعل مسعى رياضيا يستمر على مدى أكثر من ثلاثة قرون. ربما كان سيدهش أكثر وأكثر بكتاب المسرحيات وكتاب السيناريو الذين أصبحوا مهتمين بمبرهنته سيئة السمعة بعد أن أثبتها أندرو وايلز.
كانت إحدى المرات الأولى التي ورد فيها ذكر برهان أندرو وايلز لمبرهنة فيرما الأخيرة في أحد الأعمال الدرامية الشهيرة على لسان شخصية جادزيا داكس في مسلسل «ستار تريك: ديب سبيس ناين» في يونيو 1995. وإذا لم تكن من مشاهدي هذا المسلسل، فداكس هو أحد أشكال الحياة التكافلية الذي يحيا بتبني مضيفيه من أشباه البشر. ولم تكن جادزيا داكس سوى واحدة من مضيفيه، وقد استضافه قبل ذلك أشباه بشر آخرون مثل توبن داكس. وفي حلقة بعنوان «فاسيتس»، علقت جادزيا بأن توبن قد توصل إلى «الطريقة الأكثر ابتكارا للبرهان منذ وايلز قبل ما يزيد عن 300 عام.»
وكانت تلك على الأرجح محاولة لتصحيح خطأ ظهر في الموسم «ستار تريك: ذا نكست جينيريشن»، حين أعلن الكابتن بيكارد أن مبرهنة فيرما الأخيرة ظلت دون حل على مدى 800 عام. كانت هذه الحلقة، «ذا رويال»، قد أعدت عام 1989، ولم يكن الكتاب يعرفون بالطبع أن وايلز يعمل سرا على برهانه.
جاءت إحدى المرات الأخرى التي ذكرت فيها المبرهنة في فيلم «بيدازيلد» من إنتاج هوليوود. لعبت الممثلة إليزابيث هيرلي دور الشيطان، وظهرت في أحد المشاهد بصفتها معلمة تقف أمام سبورة، وتعلن المهمة التالية المنذرة بالسوء: «الواجب المنزلي لليلة: أثبت أن ، وهي مبرهنة فيرما الأخيرة في شكلها الأكثر تعميما.»
لقد أسر نضال أندرو وايلز الاستثنائي خيال الجمهور، وقد استجاب مجال صناعة الأفلام بإصدار العديد من الأفلام المهمة التي تصور علماء رياضيات في شخصياتها الأساسية. فكتب فيلم «جود ويل هانتينج» عقب برهان وايلز، وفاز بجائزتي أوسكار كانت إحداهما لمات ديمون وبين أفليك على نصهما السينمائي. وبعد ذلك في العام 2001، جاء فيلم «أبيوتيفول مايند» الذي فاز بأربع جوائز أوسكار، ليؤكد حب هوليوود للرياضيات المعقدة.
بالرغم من ذلك، فحتى الآن لا يوجد فيلم عن أندرو وايلز أو بيير دو فيرما. وتحسبا لأن تقرر إحدى شركات الإنتاج في نهاية المطاف تحويل مبرهنة فيرما الأخيرة إلى عمل كاسح، كنت قد أجريت مسابقة ذات يوم أسأل فيها أي الممثلين ينبغي أن يؤدي أي الأدوار. تنوعت الترشيحات بشأن الممثلين المقترحين لدور بيير دو فيرما بين جون مالكوفيتش وجون جودمان، بينما تضمنت الاقتراحات لدور وايلز، وودي آلان وجون كليز. وقد سألت أيضا عن اقتراحات للممثلين في بعض الأدوار الثانوية مثل دور صوفي جيرمان، ومرة أخرى تنوعت الاقتراحات تنوعا كبيرا بين جوليا روبرتس وليلي سوبيسكي.
صفحة غير معروفة
على عكس موقف هوليوود الخجول تجاه مبرهنة فيرما الأخيرة، تناول مسرح برودواي الموضوع بصورة مباشرة في أحد الأعمال الإبداعية التي يعد استلهامها من برهان وايلز أمرا غريبا. فقد كتبت جوان سيدني ليسنر وجوشوا روزينبلوم مسرحية موسيقية بعنوان «فيرماز لاست تانجو» (رقصة التانجو الأخيرة لفيرما)، وتبدأ المسرحية بإعلان البرهان أمام الصحافة، قبيل أن يتضح وجود خطأ في إحدى معادلاته.
بعد ذلك، يرحل العديد من علماء الرياضيات القدامى ومنهم بيير دو فيرما، عن النعيم الرياضي (الذي يسمى في المسرحية «ذا أفتر ماث» (ما بعد الرياضيات).) لمساعدة أندرو وايلز، الذي يسمى لسبب مجهول باسم دانييل كيان.
علق الناقد المسرحي سيث كريستنفلد أن هذه المسرحية لا بد أن تكون هي المناسبة الوحيدة التي غنيت فيها الكلمات «حدسية تانياما-شيمورا» على مسرح برودواي. افتتح العرض في مسرح نيويورك بمنهاتن في السادس من ديسمبر عام 2000. ومن المؤسف أنه اختتم في الحادي والثلاثين من ديسمبر.
ربما يكون العمل الإبداعي المفضل لدي من بين تلك الأعمال المستلهمة من فيرما، هي قصة سيرة ذاتية قصيرة ألفتها أليكس جالت ووردت في مجموعة قصصية بعنوان «ترو تيلز أوف أمريكان لايف» (قصص حقيقية من الحياة الأمريكية) من تحرير بول أوستر. تشرح جالت علاقتها الباردة بحبيبها جون وأنهما كانا على وشك الانفصال. كان عيد الميلاد يقترب وبدا أنه سيكون عيد الميلاد الأخير لهما معا. ذكرت أنها كانت منغمسة في كتاب عن مبرهنة فيرما الأخيرة (أحب أن أعتقد أنه هذا الكتاب)، وأنها كانت تقرأ منه بعض الأجزاء على جون الذي ظل صامتا وفي عالمه الخاص.
وبينما حل عيد الميلاد وانتهى، بدا أن جون لم يعبأ حتى بتقديم هدية لها. بعد ذلك، زارها دون موعد وقدم لأليكس مستطيلا من النسيج المحبوك يظهر عليه العددان: 124155 و100485. أوضح جون بفخر أنهما عددان متحابان: «كتبت برنامجا للكمبيوتر وتركته يعمل على مدى اثنتي عشرة ساعة. كان هذان العددان هما أكبر ما وجدت، ثم جدلتهما على هذا النسيج مرتين.»
فبينما كانت أليكس تقرأ عن مبرهنة فيرما الأخيرة، ذكرت أن أزواج الأعداد تسمى أعدادا متحابة إذا كان مجموع عوامل العدد الأول يساوي العدد الثاني، وكان مجموع عوامل العدد الثاني يساوي العدد الأول. فعوامل العدد 220 على سبيل المثال هي: (1 و2 و4 و5 و10 و11 و20 و22 و44 و55 و110) ومجموعها 284، وعوامل العدد 284 هي: (1 و2 و4 و71 و142) ومجموعها 220. وكان بيير دو فيرما قد اكتشف عام 1636 عددين متحابين جديدين؛ هما 17296 و18416.
الأهم من ذلك أن أليكس قرأت لجون أن العرف قد جرى بأن ينقش الأحباء عددين متحابين على نصفي تفاحة، ويأكل كل منهما نصفا ليكون ذلك مقويا للحب. من الجلي أن جون كان منصتا وقد استخدم إبر الحياكة ليقدم عدديه المتحابين اللذين اكتشفهما. وبنهاية القصة تؤكد لنا أليكس أن «مثير العواطف الرياضي القديم نجح من جديد.»
عن المؤلف
الخلاصة
سايمون سينج يتحدث إلى ترافيس إلبورو
صفحة غير معروفة
إن خلفيتك فيزيائية، فما مقدار ما كنت تعرفه أنت نفسك عن مبرهنة فيرما الأخيرة قبل انخراطك في حلقات «هورايزون» الوثائقية والبدء في هذا الكتاب؟
أتذكر أنني عرفت بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة حين كنت صبيا في الثانية عشرة تقريبا. وكانت من الموضوعات التي يعرضها علينا مدرس الرياضيات ليحاول إقناعنا بأن الأعداد مثيرة للاهتمام. وجدنا سهولة كافية في فهم المعادلة، وكان باستطاعتنا أن نلهو بمحاولة إيجاد حلول (والفشل في ذلك.) أخبرنا المدرس بتاريخ المسألة والملاحظة الهامشية سيئة السمعة، ومن المرجح أنه تحدانا للتوصل إلى برهان. وعلى عكس أندرو وايلز، فقد خفت ما عاينته في صباي من اهتمام بمبرهنة فيرما الأخيرة سريعا.
هل فوجئت بأن كتابا عن الرياضيات وعلماء الرياضيات قد حظي بمثل هذه الاستجابة الحماسية من جمهور القراء؟
لقد فوجئت بكل مرحلة من مراحل نجاح هذا الكتاب. فوجئت حين وجدت دار نشر بريطانية، وكنت أكثر دهشة حين وجدت اهتماما من دور نشر أجنبية. وحين وصل إلى المتاجر، كنت في غاية الذهول من ترقي الكتاب إلى قائمة الكتب العلمية الأفضل مبيعا، ناهيك عن ظهوره بعد ذلك في القائمة العامة للكتب الأفضل مبيعا، وبلوغه المرتبة الأولى في نهاية المطاف.
ذكرت في تمهيد الكتاب أنك حاولت تضمين أكبر قدر ممكن من الشخصيات وأوصافها، ويحفل الكتاب بالشخصيات الرائعة مثل صوفي جيرمان وبول ولفسكيل وديفيد هيلبرت وآلان تورينج. فما مدى الأهمية التي كان يمثلها إضافة الجانب الإنساني في القصة بالنسبة لك؟
أنا أرى أنه من الطبيعي جدا أن أتحدث عن علماء الرياضيات إضافة إلى الرياضيات. ربما يكون السبب في ذلك أنني عملت في مجال التليفزيون قبل أن أصبح كاتبا، وأعرف أن الشخصيات والحبكة والدراما عناصر جوهرية في العديد من البرامج التليفزيونية. ثم إن مبرهنة فيرما الأخيرة تحفل بتاريخ طويل وثري، وكانت المشكلة الوحيدة هي تحديد أي الشخصيات يضمن وأيها يحذف.
مبرهنة فيرما الأخيرة تحفل بتاريخ طويل وثري، وكانت المشكلة الوحيدة هي تحديد أي الشخصيات يضمن وأيها يحذف.
لقد أدهشتني الفكرة التي تكررت على مدى الكتاب، والمتمثلة في أن أندرو وايلز كان حالة استثنائية في الرياضيات الحديثة، من حيث إنه ظل يعمل بمفرده لحل المسألة على مدى سبع سنوات. أتعتقد أن ذلك قد يطرح مشكلة أمام أي شخص يحاول إثارة اهتمام الجمهور بالرياضيات الحديثة؛ إذ إن قصة العبقري المنعزل الذي يناضل بعيدا هي في جوهرها أكثر رومانتيكية من أن يكون مجموعة من الأكاديميين على سبيل المثال يتبادلون المعادلات في مصعد بأحد المؤتمرات، وهو السيناريو الأكثر نمطية على الأرجح؟
إذا كان أحد المراهقين يحلم بأن يكون عالم رياضيات؛ فيمكن له أو لها أن يختار العمل كعبقري منعزل في برجه العاجي، أو يختار العمل ضمن فريق يرسل الصواريخ إلى الفضاء، أو يصمم خوارزميات الرسوم المتحركة لاستوديوهات هوليوود، أو التنبؤ بسوق البورصة. فمتخصصو الرياضيات الناشئون دائما ما سيجدون بيئة تلائم رغباتهم الفكرية والاجتماعية. المشكلة هي أنه لا يوجد عدد كاف من الشباب في بريطانيا ممن يرغبون في أن يصبحوا متخصصين في الرياضيات أو (علماء). ولست متأكدا من السبب في عدم تعامل الحكومة مع هذه المشكلة بجدية، لكن الحقيقة أن السنوات القادمة ستشهد نقصا حادا في أعداد المتخصصين في الرياضيات وعلماء الرياضيات الشباب البارعين في بريطانيا مما سيكون له تأثير وخيم على اقتصادنا.
وصفت كيف أن وايلز صادف المسألة في كتاب وجده في مكتبة بلدته. وأنا أتساءل عما إذا كنت قد مررت بلحظة تجل مماثلة يمكن القول إنها أشعلت شغفك بالعلوم في بادئ الأمر؟
صفحة غير معروفة
لا أعتقد أنني مررت بلحظة تجل، بل نما لدي حب استطلاع متزايد بشأن العالم. فبالرغم من أنني كنت أستمتع بالرياضيات، كانت العلوم هي التي أسرتني. دائما ما كانت الأسئلة المتعلقة بأصل الحياة وبناء الكون تبهرني، وقد تأجج هذا الشغف بالرياضيات والعلوم، بسبب معلمي المدرسة الذين وضحوا لي الصيغ والتجارب التي بثت في العلوم روح الحياة. والمشكلة اليوم هي أن معلمي العلوم الأكفاء ذوي الخبرة صاروا أقل فأقل؛ ولهذا فإن عدد المراهقين الذين يضجرون من العلوم في ازدياد.
لا أعتقد أنني مررت بلحظة تجل، بل نما لدي حب استطلاع متزايد بشأن العالم.
بعد أن عملت عالما وإذاعيا وكاتبا، ما الذي تفضله؟ أتفتقد في بعض الأحيان تلك الإثارة التي تنطوي عليها حياة المختبر؟
بالرغم من أنني كنت عالما كفئا، فقد أدركت في النهاية أنني لست من بين العلماء الأبرع والأفضل. لذا فقد رأيت أن أفضل شيء بعد أن أكون عالما هو أن أكون من المحاورين في مجال العلوم؛ لأن ذلك سيتضمن أن أستمر في التحدث إلى العلماء والتعرف على أحدث الأبحاث. إن أحد أكبر التحديات التي تواجهنا في الحياة هي معرفة ما ينبغي عليك أن تعمل فيه، وقد كنت محظوظا للغاية إذ قررت في مرحلة مبكرة من حياتي أن أنتقل من كوني عالما متوسطا إلى كاتب جيد جدا في مجال العلوم.
لقد أطلق كتابك العنان لجيل جديد بأكمله من كتب العلوم المبسطة، ولعله، إلى جانب كتاب «خطوط الطول» لدافا سوبيل، كان سببا أساسيا في تعريف الكثيرين بموضوع كان كثيرا ما يعد صعبا أو جامدا. فكيف تقيم كتابك اليوم حين تلقي نظرة على الماضي؟
بالرغم من أن العلوم ظلت حبي الأول على الدوام، وبالرغم من أنني سررت بازدهار الكتابة العلمية على مدى العقد الأخير، فمن المهم أن نتذكر أن «مبرهنة فيرما الأخيرة» كتاب في الرياضيات لا العلوم. إنني أفخر به على نحو خاص؛ لأنه كان من أوائل كتب الرياضيات التي تصل إلى عموم القراء، ولأنه أوضح أن علماء الرياضيات يكرسون كل اهتمامهم على نحو رائع لحل مسائل جميلة وملهمة.
علماء الرياضيات يكرسون كل اهتمامهم على نحو رائع لحل مسائل جميلة وملهمة.
وأخيرا، ما المشروع القادم لدى سايمون سينج؟
قبل بضع سنوات، قلت إنني قد لا أكتب كتابا آخر، لكني أعتقد أن ذلك الشعور كان يعود بصورة جزئية إلى أنني كنت مستنزفا بعد الانتهاء للتو من تأليف كتاب «الانفجار العظيم» الذي أسرد فيه تاريخ علم الكونيات. أنا أحب تأليف الكتب، لكنها عملية منهكة؛ إذ تستلزم مني أن أتعلم بشأن موضوع جديد تماما. ولهذا؛ فبعد سنوات من التركيز الذهني على موضوع واحد، من الصعب على المرء أن يتخيل خوض تلك العملية المضنية من جديد. بالرغم من ذلك، فبعد الانقطاع عن الكتابة عامين، أشعر الآن بالحماس للبدء مجددا. لدي فكرتان في ذهني، لكنني لن أفصح عنهما إلى أن أقرر إذا ما كنت سأطور إحداهما إلى كتاب.
ولد سايمون سينج في سومرست عام 1964. درس الفيزياء في كلية لندن الإمبراطورية، ثم أكمل درجة الدكتوراه في فيزياء الجسيمات بجامعة كامبريدج والمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية وجنيف. وبعد أن عجز عن اكتشاف الكوارك القمي، تخلى عن أي زعم بكونه عالما جادا، وانضم إلى شبكة «بي بي سي» عام 1991، وعمل في بعض البرامج مثل «توموروز ورلد» (عالم الغد) و«هورايزون» (الأفق). وهو أيضا مؤلف «كتاب الشفرة» وكتاب «الانفجار العظيم». يحب سايمون الأحجار نصف البيضاوية، والخدع السحرية، والمقامرة، وصعق الخيار المخلل بالكهرباء، والبرامج التليفزيونية التافهة والفرقة الموسيقية «فايولنت فام».
صفحة غير معروفة
الموقع الإلكتروني للمؤلف:
www.simonsingh.net .
الكتابة: القراءة والكتابة مع سايمون سينج
س:
من هم الكتاب الذين تحبهم وكان لهم أكبر تأثير عليك؟
ج:
إنني أكن احتراما خاصا للعلماء الذين يقتطعون من وقتهم للكتابة للقارئ غير المتخصص. ما من سبب يدفع مارتن ريس أو ستيف جونز أو ريتشارد دوكينز إلى الانقطاع عن إجراء الأبحاث عالية الجودة وتأليف الكتب بدلا من ذلك. فالأرجح أنهم يدركون أن لكتبهم تأثيرا ضخما على الجمهور وعلى العلماء الناشئين .
س:
أيوجد كتاب تمنيت لو أنك كتبته؟
ج:
صفحة غير معروفة
تعجبني الأفكار البارعة للكتب. لذا؛ فبالرغم من أنني لم أكن لأتمكن من كتابة «نصائح دكتور تاتيانا عن الجنس لجميع الكائنات» بقلم أوليفيا جودسون، فأنا أتمنى لو كنت قد فكرت في تأليف كتاب عن السلوك الحيواني في صورة خطابات ترد من مختلف الأنواع إلى عالمة حيوان تحرر عمود نصائح القراء. وبالمثل فإنني أتمنى أيضا لو أنني فكرت في الكتابة عن تطور التلغراف، الذي يفسر ثورة المعلومات الحالية. وقد كان هذا هو موضوع كتاب «الإنترنت الفيكتوري» بقلم توم ستانديج.
س:
ما الذي تقرؤه وأنت تكتب؟
ج:
أقرأ كتبا ترتبط مباشرة بالموضوع الذي أكتب عنه ولا شيء آخر. وأنا أكتب عن موضوعات جديدة عادة ما تكون جديدة علي؛ لذا فعلي أن أغمس نفسي تماما في هذه الموضوعات - الرياضيات والتشفير وعلم الكونيات - لأستطيع المواكبة.
إما أن أمسك بالناس في الشارع وأحدثهم عن العلوم، وإما أن أؤلف الكتب عنها، وأعتقد أن الخيار الثاني أحرى بألا يوقعني في المشكلات.
س:
ما الذي يحفزك للكتابة؟
ج:
أنا أحب تعلم العلوم والرياضيات؛ لذا فمن الرائع والمميز حقا أن أقضي بضعة أعوام في القراءة عن موضوع معين ولقاء المفكرين البارزين. غير أنني أرغب أيضا في إثارة اهتمام الآخرين بهذه الموضوعات. أعتقد أن الكون رائع ومدهش، فإما أن أمسك بالناس في الشارع وأحدثهم عن العلوم، وإما أن أؤلف الكتب عنها، وأعتقد أن الخيار الثاني أحرى بألا يوقعني في المشكلات.
صفحة غير معروفة
تمهيد
إن قصة مبرهنة فيرما الأخيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الرياضيات، وتتصل بجميع المحاور الأساسية في نظرية الأعداد. وهي تمنحنا رؤية فريدة عما يدفع الرياضيات وما يلهم علماء الرياضيات، ولعل ذلك الأمر الأخير هو الأهم. تكمن المبرهنة الأخيرة في صميم قصة ملحمية مثيرة من الشجاعة والغش والمكر والمأساة، وهي تتضمن أعظم أبطال الرياضيات جميعا.
تمتد أصول مبرهنة فيرما الأخيرة إلى علم الرياضيات لدى قدماء اليونان، أي: قبل ألفي عام من تشكيل بيير دو فيرما للمعضلة بالطريقة التي نعرفها عليها اليوم. ومن ثم؛ فهي تربط أسس الرياضيات التي وضعها فيثاغورس بالأفكار الأكثر تعقيدا في الرياضيات الحديثة. وفي هذا الكتاب، اخترت أن أتبنى هيكلا زمنيا يبدأ بوصف الأخلاقيات الثورية للأخوية الفيثاغورسية، وينتهي بقصة الكفاح الشخصية التي عاشها أندرو وايلز من أجل إيجاد حل لمعضلة فيرما.
نتناول في الفصل الأول قصة فيثاغورس ونوضح كيف أن مبرهنة فيثاغورس هي السلف المباشر للمبرهنة الأخيرة. ونناقش في هذا الفصل أيضا بعض المفاهيم الأساسية في الرياضيات، التي سيتكرر ذكرها على طول الكتاب. وفي الفصل الثاني، ننتقل بالقصة من اليونان القديمة إلى فرنسا في القرن السابع عشر، حيث ابتكر بيير دو فيرما، اللغز الأكثر عمقا في تاريخ الرياضيات. ولتوضيح الشخصية الاستثنائية التي تميز بها فيرما وإسهاماته في الرياضيات، التي تتجاوز المبرهنة الأخيرة بمقدار كبير، خصصت عدة صفحات لوصف حياته، وبعض من اكتشافاته البارعة الأخرى.
وفي الفصلين الثالث والرابع، نصف بعض المحاولات لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبالرغم من أن هذه المحاولات انتهت بالفشل، فقد خلفت مستودعا مذهلا من التقنيات الرياضية والأدوات، التي كان بعضها من العناصر الأساسية في المحاولات الأحدث لإثبات المبرهنة الأخيرة. وإضافة إلى وصف الرياضيات، خصصت القدر الأكبر من هذين الفصلين لذكر علماء الرياضيات الذين صاروا مهووسين بإرث فيرما. فقصصهم توضح مدى استعداد علماء الرياضيات للتضحية بأي شيء في رحلة البحث عن الحقيقة، ومدى تطور الرياضيات على مدى القرون.
أما الفصول المتبقية من الكتاب، فهي تؤرخ الأحداث البارزة في السنوات الأربعين الأخيرة، التي قد أحدثت ثورة في دراسة مبرهنة فيرما الأخيرة. وفي الفصلين السادس والسابع على وجه التحديد، نركز على عمل أندرو وايلز، الذي أذهلت اكتشافاته في العقد الأخير المجتمع الرياضي. وهذان الفصلان الأخيران يستندان على المقابلات الموسعة التي أجريتها مع وايلز. لقد كانت فرصة فريدة لي أن أستمع بصفة شخصية إلى واحدة من الرحلات الفكرية الأكثر استثنائية في القرن العشرين، وأرجو أن أكون قد تمكنت من التعبير عما بها من إبداع، والبطولة التي كانت تستلزمها محنة وايلز التي استمرت على مدى عشر سنوات.
وفي سردي لحكاية بيير دو فيرما ولغزه المحير، حاولت أن أشرح المفاهيم الرياضية دون اللجوء إلى المعادلات، غير أن رموزا مثل
x
و
y
صفحة غير معروفة
و
z ، لا بد أن تطل برءوسها القبيحة بين الحين والآخر. وفي المرات التي تظهر فيها المعادلات في النص، حاولت تقديم تفسير كاف لها؛ لكي يتمكن القراء من فهم دلالتها، وإن كانوا لا يلمون بأي معارف أساسية عن الرياضيات. أما القراء الذين يلمون بمعرفة أعمق قليلا عن الموضوع، فقد وفرت لهم مجموعة من الملاحق التي تتوسع في تقديم الأفكار الرياضية التي يتضمنها النص الأساسي. إضافة إلى ذلك، ضمنت قائمة بمصادر إضافية للقراءة، تهدف في مجملها إلى تقديم المزيد من التفاصيل بشأن جوانب محددة من الرياضيات لغير المتخصصين فيها.
إن هذا الكتاب لم يكن ليصبح ممكنا دون مساعدة الكثيرين من الأشخاص ومشاركتهم. وأود أن أتقدم بالشكر على وجه التحديد، لأندرو وايلز الذي تجشم العناء ليمنحنا هذه المقابلات الطويلة المفصلة في وقت كان يواجه فيه ضغطا شديدا. فعلى مدى السنوات السبع التي عملت فيها صحافيا في مجال العلوم، لم ألتق أحدا على الإطلاق يكن لعمله من الشغف والالتزام ما يكنه البروفيسور وايلز، وأنا دائم الامتنان له إذ كان مستعدا لمشاركة قصته معي.
وأود أيضا أن أتقدم بالشكر لغيره من علماء الرياضيات الذين ساعدوني في كتابة هذا الكتاب، وسمحوا لي بإجراء مقابلات مفصلة معهم. وقد كان بعضهم منخرطا للغاية في معالجة أمر مبرهنة فيرما الأخيرة، بينما كان البعض الآخر شاهدا على الأحداث التاريخية في السنوات الأربعين الأخيرة فحسب. لقد استمتعت كثيرا بالساعات التي قضيتها في طرح الأسئلة عليهم وتبادل أطراف الحديث معهم، وأنا أقدر لهم صبرهم وحماسهم في شرح الكثير من المفاهيم الرياضية الجميلة لي. وأريد أن أتقدم بالشكر على وجه التحديد إلى جون كوتس، وجون كونواي، ونيك كاتس، وباري ميزور، وكين ريبت، وبيتر سارناك، وجورو شيمورا، وريتشارد تايلور.
لقد حاولت أن أضم إلى هذا الكتاب أكبر قدر ممكن من الصور الشخصية؛ لكي أقدم للقارئ انطباعا أدق عن الشخصيات المشتركة في قصة مبرهنة فيرما الأخيرة. لقد بذلت العديد من المكتبات والسجلات جهودا كبيرة في مساعدتي، وأود أن أخص بالشكر سوزان أوكس من جمعية «لندن ماثيماتيكال سوسايتي» وساندرا كامينج من جمعية «ذا رويال سوسايتي» وأيان ستيوارت من جامعة ووريك. وأنا ممتن أيضا لجاكلين سافاني من جامعة برينستون، ودانكن ماك أنجوس، وجيرمي جري، وبول باليستر ومعهد إسحاق نيوتن؛ لما قدموه من مساعدة في الحصول على المادة البحثية. وأتقدم بالشكر أيضا إلى باتريك والش، وكريستوفر بوتر، وبرناديت ألفيز، وسانجيدا أوكونيل، ووالدي أيضا؛ لما قدموه من تعليقات ودعم على مدى العام الماضي بأكمله.
وأخيرا، أود أن أذكر أن العديد من المقابلات التي أقتبس منها في هذا الكتاب قد أجريتها في أثناء العمل على برنامج وثائقي تليفزيوني، يتحدث عن مبرهنة فيرما الأخيرة. وأنا أتقدم بالشكر لشبكة «بي بي سي»؛ إذ سمحت لي باستخدام هذه المادة، وأدين بالامتنان على وجه التحديد، لجون لينش الذي عمل معي في البرنامج الوثائقي، وألهمني بالاهتمام بالموضوع.
سايمون سينج
تاكاركي، فاجوارا
1997
شكل 1: أندرو وايلز في عمر العاشرة حين التقى بمبرهنة فيرما الأخيرة للمرة الأولى.
صفحة غير معروفة
الفصل الأول
«أعتقد أنني سأتوقف هنا»
ستذكر الأجيال أرشميدس حين تنسى إسخليوس؛ ذلك أن اللغات تموت والأفكار الرياضية لا تموت. ربما يكون «الخلود» مصطلحا سخيفا، لكن عالم الرياضيات هو من يحظى بأفضل فرصة في نيله على الأرجح، أيا كان ما يعنيه.
جي إتش هاردي (1) 23 يونيو 1993، كامبريدج
كانت تلك هي أهم محاضرة رياضية في القرن. مائتان من علماء الرياضيات قد جلسوا فيها يعتليهم الذهول. ربعهم فقط هم الذين كانوا يفهمون ذلك الخليط المعقد من الرموز اليونانية والجبر الذي كان يغطي السبورة. أما البقية، فقد حضروا من أجل أن يشهدوا تلك المناسبة فحسب، التي كانوا يأملون أن تكون مناسبة تاريخية بحق.
كانت الشائعات قد بدأت في اليوم السابق، إذ أشارت رسائل البريد الإلكتروني عبر الإنترنت إلى أن المحاضرة ستتوج في نهايتها بحل لمبرهنة فيرما الأخيرة، وهي أشهر المعضلات الرياضية في العالم. لم يكن مثل هذه الأخبار بالشيء غير المألوف؛ فغالبا ما كان موضوع مبرهنة فيرما الأخيرة يطرأ حول لقاءات الشاي، ويطرح علماء الرياضيات تخميناتهم بشأن من قد يفعل ماذا. وفي بعض الأحيان، تحول الهمهمات الرياضية التي تدور في قاعة الاجتماعات بالجامعة، التخمينات إلى شائعات عن تحقيق إنجاز كبير، لكن شيئا منها لم يتحقق قط.
أما في هذه المرة، فقد كانت الشائعة مختلفة. لقد كان أحد طلاب الدراسات العليا مقتنعا للغاية بصحتها، حتى إنه قد أسرع إلى وكلاء المراهنات؛ للمراهنة بقيمة عشرة جنيهات إسترلينية على أن مبرهنة فيرما الأخيرة سوف تحل في غضون هذا الأسبوع. غير أن وكيل المراهنات قد ارتاب في الأمر ورفض هذا الرهان. لقد كان هذا هو الطالب الخامس الذي يأتي إليه في ذلك اليوم، وجميعهم قد طلبوا أن يضعوا الرهان نفسه. لقد ظلت مبرهنة فيرما الأخيرة تحير أعظم العقول على الكوكب على مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، أما الآن، فحتى وكلاء المراهنات بدءوا يرتابون في أن التوصل إلى برهانها قد صار وشيكا.
امتلأت السبورات الثلاثة بالحسابات وتوقف المحاضر. محيت الكتابة الموجودة على السبورة الأولى، واستمر الجبر. بدا أن كل سطر من الرياضيات هو خطوة صغيرة تقرب الحل، لكن ثلاثين دقيقة قد مرت ولم يكن المحاضر قد أفصح عن البرهان بعد. كان الأساتذة الذين احتشدوا في الصفوف الأولى ينتظرون النتيجة بتلهف. وكان الطلاب الواقفون في الخلف ينظرون إلى أساتذتهم بحثا عن أي إشارة تدل على ما قد تكون عليه النتيجة. أكانوا يشاهدون إثباتا كاملا لمبرهنة فيرما الأخيرة، أم أن المحاضر كان يلخص حجة غير مكتملة مخيبة للآمال فحسب؟
كان المحاضر هو أندرو وايلز، رجلا إنجليزيا متحفظا هاجر إلى أمريكا في ثمانينيات القرن العشرين، وتولى أحد مناصب الأستاذية في جامعة برينستون؛ حيث اكتسب سمعة بصفته أحد أبرع علماء الرياضيات في جيله. غير أنه في السنوات الأخيرة، اختفى عن الأنظار تقريبا من الجولة السنوية للمؤتمرات والحلقات النقاشية. وبدأ الزملاء يفترضون أن وايلز قد انتهى. فليس من الغريب أن تخبو العقول الشابة البارعة، وهو الأمر الذي أشار إليه عالم الرياضيات ألفريد أدلر إذ قال: «قصيرة هي الحياة الرياضية لعالم الرياضيات؛ فنادرا ما يتحسن العمل بعد سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين. إذا لم يتحقق سوى القليل بحلول ذلك الوقت؛ فالقليل هو كل ما سيتحقق أبدا.»
في كتابه «اعتذار عالم رياضيات»، يقول جي إتش هاردي: «على الشباب أن يتوصلوا إلى إثبات المبرهنات، وعلى الشيوخ أن يكتبوا الكتب. وينبغي لعلماء الرياضيات ألا ينسوا أبدا أن الرياضيات مجال للشباب، وهي تتسم بذلك أكثر من أي علم أو فن آخر. فمن الأمثلة البسيطة التي توضح ذلك أن متوسط عمر الانتخاب لجمعية «ذا رويال سوسايتي» هو الأقل في الرياضيات.» لقد انتخب تلميذه النابغة سرينيفاسا رامانوجان، زميلا في جمعية «ذا رويال سوسايتي» وهو في سن الواحدة والثلاثين فحسب؛ إذ كان قد توصل إلى مجموعة من الاكتشافات المذهلة خلال شبابه. وبالرغم من أنه لم يحظ إلا بقدر ضئيل للغاية من التعليم الرسمي في قريته الأم كومباكونام في جنوب الهند، تمكن رامانوجان من ابتكار مبرهنات وحلول أعجزت علماء الرياضيات في الغرب. ففي الرياضيات، يبدو أن الخبرة التي يكتسبها المرء مع التقدم في العمر أقل أهمية من حدس الشباب وجرأته. حين أرسل رامانوجان نتائجه إلى هاردي، انبهر بها بروفيسور كامبريدج، حتى إنه دعا الشاب إلى التخلي عن عمله البائس موظفا في جنوب الهند، والالتحاق بكلية ترينيتي كوليدج، حيث سيتمكن من التفاعل مع بعض من أبرز علماء الرياضيات في مجال نظرية الأعداد. ومن سوء الحظ أن الشتاء في شرق إنجلترا كان شديد القسوة على رامانوجان، فأصيب بمرض السل ومات في سن الثالثة والثلاثين.
صفحة غير معروفة
بعض علماء الرياضيات الآخرين قد حظوا هم أيضا بمسيرة عملية على الدرجة نفسها من البراعة والقصر. فعالم الرياضيات النرويجي الذي عاش في القرن التاسع عشر، نيلز هنريك آبل، قد قدم أعظم إسهاماته في الرياضيات وهو في سن التاسعة عشرة، ومات فقيرا بعد ذلك بثماني سنوات، من مرض السل أيضا. لقد قال عنه تشارلز هرمايت: «لقد ترك لعلماء الرياضيات ما يبقيهم منشغلين على مدى خمسمائة عام.» ولا شك أن اكتشافات آبل لا يزال لها عظيم الأثر على علماء الرياضيات المنشغلين بنظرية الأعداد في الوقت الحالي. إيفاريست جالوا، معاصر آبل الذي لا يقل عنه نبوغا، قد قدم هو أيضا إنجازاته الكبيرة وهو لا يزال في سن المراهقة، ومات في الواحدة والعشرين فحسب.
ليس الهدف من هذه الأمثلة الاستدلال على أن علماء الرياضيات يموتون مبكرا وعلى نحو مأساوي، بل توضيح أن أفكارهم الأكثر عمقا تتولد عادة في مرحلة الشباب؛ فمثلما قال هاردي من قبل: «أنا لا أعرف مثالا على تقدم مهم في الرياضيات قد توصل إليه رجل تجاوز الخمسين.» وغالبا ما يتلاشى علماء الرياضيات متوسطو العمر إلى الخلفية ويقضون السنوات المتبقية من أعمارهم في التدريس أو الإدارة لا البحث. أما في حالة أندرو وايلز، فذلك بعيد كل البعد عن الحقيقة. لقد بلغ الأربعين من العمر، لكنه قضى السنوات السبع الأخيرة في العمل بسرية تامة، في محاولة لحل المسألة الفريدة الأعظم في الرياضيات. وبينما كان الآخرون يشكون في أنه قد نضب، كان وايلز يحرز تقدما مذهلا، ويبتكر تقنيات وأدوات جديدة كان قد أصبح آنذاك مستعدا للإفصاح عنها. لقد كان قراره بالعمل في انعزال تام استراتيجية تنطوي على قدر كبير من الخطورة، وهي غير معروفة في عالم الرياضيات.
لما كانت الرياضيات تخلو من الاختراعات التي يمكن التقدم بالحصول على براءة لها، فقد صارت أقسام الرياضيات في أي جامعة هي أقل الأقسام سرية على الإطلاق. إن ذلك المجتمع يفتخر بانفتاحه وبالتبادل الحر للأفكار فيه، حتى إن استراحات الشاي قد تطورت إلى طقوس يومية لمشاركة الأفكار واستكشافها مع تناول قطع البسكويت وشاي إيرل جراي. ونتيجة لذلك، يزداد انتشار الأوراق البحثية التي يشترك فيها عدد من المؤلفين أو فرق من علماء الرياضيات؛ ومن ثم فهم يتشاركون المجد بالتساوي. بالرغم من ذلك، إذا كان البروفيسور وايلز قد اكتشف برهانا كاملا ودقيقا لمبرهنة فيرما الأخيرة؛ فإن أبرز جائزة في الرياضيات كانت ستصبح من نصيبه وحده دون منازع. وكان الثمن الذي اضطر إلى دفعه مقابل هذه السرية ، هو أنه لم يناقش قبل ذلك أفكاره مع مجتمع الرياضيات أو يختبرها؛ ومن ثم فقد كان ثمة احتمال كبير في أنه قد ارتكب خطأ جوهريا.
من الناحية المثالية، كان وايلز يرغب في قضاء وقت أكبر في مراجعة عمله؛ لكي يتمكن من التحقق من مخطوطته النهائية تماما. غير أن الفرصة الفريدة قد ظهرت بعد ذلك ليعلن عن اكتشافه في معهد إسحاق نيوتن في كامبريدج، وتخلى وايلز عن حذره. إن الهدف الوحيد من وجود هذا المعهد هو جمع العقول الأعظم في العالم معا لبضعة أسابيع من أجل عقد الحلقات النقاشية بشأن موضوع بحثي حديث من اختيارهم. يقع المبنى على أطراف الجامعة بعيدا عن الطلاب وغير ذلك من مصادر التشتيت، وقد صمم خصيصى لتشجيع الباحثين الأكاديميين على التعاون والعصف الذهني، إذ لا توجد بالمبنى ممرات مغلقة يمكن الاختباء فيها، وجميع المكاتب تقع قبالة ساحة مركزية. من المفترض أن يقضي علماء الرياضيات وقتهم في هذا المكان المفتوح، وهم يثنون عن غلق أبواب مكاتبهم. وحتى المصعد الذي لا ينتقل إلا بين ثلاثة طوابق، يحتوي على سبورة سوداء، بل إن كل قاعة في المبنى، بما في ذلك دورات المياه، تحتوي على سبورة واحدة على الأقل. وفي هذه المناسبة، عقدت حلقات النقاش في معهد إسحاق نيوتن تحت عنوان «الدوال اللامية وعلم الحساب» وقد اجتمع أفضل علماء نظرية الأعداد في العالم، لمناقشة المسائل المتعلقة بهذا المجال المتخصص للغاية من الرياضيات البحتة. غير أن وايلز وحده هو الذي أدرك أن الدوال اللامية قد تنطوي على مفتاح حل مبرهنة فيرما الأخيرة.
وبالرغم من أن الفرصة في الإفصاح عن عمله لمثل ذلك الجمهور الرفيع كانت من عوامل الجذب بالنسبة إليه، فقد كان السبب الأساسي للقيام بمثل ذلك الإعلان في معهد إسحاق نيوتن، هو أنه يقع في بلدته الأصلية: كامبريدج. كان ذلك هو المكان الذي ولد فيه وايلز، وترعرع، ونما فيه شغفه بالأعداد، وفيه قد عثر أيضا على المسألة التي كانت ستهيمن على بقية حياته. (1-1) المسألة الأخيرة
في عام 1963، حين كان أندرو وايلز في العاشرة من عمره، صار متيما بالفعل بالرياضيات. «لقد كنت أحب حل المسائل في المدرسة، وكنت آخذها إلى البيت وأؤلف بنفسي مسائل جديدة. غير أن أفضل مسألة عثرت عليها على الإطلاق، قد اكتشفتها في المكتبة المحلية بالبلدة.»
في أحد الأيام حين كان وايلز الصغير يسير إلى البيت بعد خروجه من المدرسة، قرر زيارة المكتبة الواقعة في ميلتون رود. وقد كانت فقيرة بعض الشيء مقارنة بمكتبات الكليات، غير أنها كانت تزخر بمجموعة وفيرة من كتب الألغاز، وكان ذلك هو ما يسترعي انتباه أندرو في أغلب الأحيان. كانت هذه الكتب تمتلئ بجميع أشكال المعضلات العلمية والأحاجي الرياضية، وكانت إجابات هذه الأسئلة تقبع في مكان ما في الصفحات الأخيرة. أما في هذه المرة، فقد كان ما جذب انتباه أندرو هو كتابا لا يتضمن إلا مسألة واحدة دون حل لها.
كان عنوان الكتاب هو «المسألة الأخيرة» من تأليف إريك تيمبل بيل، وكان يسرد تاريخ مسألة رياضية تعود جذورها إلى اليونان القديمة، لكنها لم تصل إلى مرحلة النضج الكامل إلا في القرن السابع عشر، وذلك حين صاغها الرياضي الفرنسي العظيم بيير دو فيرما، لتكون تحديا لبقية العالم دون قصد منه. وواحدا تلو الآخر، شعر العديد من علماء الرياضيات العظام بالتواضع أمام إرث فيرما، وعلى مدى ثلاثمائة عام، لم يتمكن أحد من حله. ثمة أسئلة أخرى ما من إجابة لها في الرياضيات، غير أن ما يميز مسألة فيرما هو بساطتها الخادعة. وبعد ثلاثين عاما من قراءة كتاب بيل للمرة الأولى، أخبرني وايلز بما شعر به في اللحظة التي تعرف فيها على مبرهنة فيرما الأخيرة: «لقد بدت بسيطة للغاية، ومع ذلك، لم يتمكن جميع علماء الرياضيات العظام في التاريخ من حلها. تلك مسألة، تمكنت أنا الصبي ذو الأعوام العشرة من فهمها، وقد عرفت منذ تلك اللحظة أنني لن أستطيع نسيانها. كان علي أن أحلها.»
تبدو المسألة مباشرة للغاية؛ لأنها تستند إلى المعلومة الرياضية الوحيدة التي يتذكرها الجميع، وهي مبرهنة فيثاغورس:
في المثلث القائم الزاوية، يكون مربع طول الوتر مساويا لمجموع مربعي طولي الضلعين الآخرين.
صفحة غير معروفة
ونتيجة لتلك الأنشودة الفيثاغورسية البسيطة، طبعت المبرهنة في ملايين العقول البشرية، بل المليارات منها. إنها المبرهنة الأساسية التي يكون على كل تلميذ بريء أن يتعلمها. وبالرغم من أن الطفل ذا الأعوام العشرة يستطيع فهمها، فإن ابتكار فيثاغورس كان هو مصدر الإلهام لمسألة قد أعجزت أعظم العقول الرياضية في التاريخ.
كان فيثاغورس الساموسي واحدا من أكثر الشخصيات تأثيرا في الرياضيات، ومن أكثرها غموضا أيضا. ونظرا إلى عدم وجود روايات مباشرة عن حياته وأعماله، فهو مسجى بالخرافات والأساطير؛ مما يمثل صعوبة للمؤرخين في الفصل بين الحقيقة والخيال. أما ما يبدو مؤكدا، فهو أن فيثاغورس قد شكل فكرة المنطق العددي، وإليه يعود الفضل في تدشين العصر الذهبي الأول للرياضيات. وبفضل براعته، لم يعد استخدام الأعداد مقتصرا على العد والحساب فحسب، بل صارت تقدر في حد ذاتها. فدرس خصائص أعداد معينة، والعلاقات فيما بينها، وكذلك الأنماط التي تشكلها. وأدرك أن وجود الأعداد مستقل عن العالم المحسوس؛ ومن ثم فإن أخطاء الإدراك الحسي لا تشوب دراستها. وقد كان معنى هذا أن بإمكانه معرفة الحقائق المستقلة عن الرأي أو التحيز، التي تكون أكثر قطعية من المعارف السابقة.
لقد اكتسب فيثاغورس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، مهاراته الرياضية عن طريق رحلاته في العالم القديم. بعض الروايات تطلب منا أن نصدق أنه قد سافر إلى أقصى الأماكن مثل الهند وبريطانيا، غير أن الأمر الأكثر يقينا أنه جمع العديد من أساليبه الرياضية وأدواته من المصريين والبابليين. وكلا هذين الشعبين القديمين قد تجاوزا حدود العد البسيط، وتمكنا من إجراء عمليات حسابية معقدة؛ مما أتاح لهما ابتكار أنظمة معقدة للمحاسبة، وتشييد مبان متقنة. لا شك أنهم لم يكونوا ينظرون إلى الرياضيات إلا بوصفها أداة لحل المشكلات العملية؛ فقد كان الدافع وراء اكتشاف بعض قواعد الجبر الأساسية هو التمكن من إعادة تشييد حدود الحقول التي ضاعت في الفيضان السنوي للنيل. فكلمة الجبر نفسها تعني «قياس الأرض».
وقد لاحظ فيثاغورس أن المصريين والبابليين كانوا يجرون كل عملية من العمليات الحسابية على هيئة وصفة يمكن اتباعها دون تفكير. وهذه الوصفات التي انتقلت من جيل إلى جيل، كانت تعطي النتيجة الصحيحة على الدوام؛ ومن ثم، فإن أحدا لم يتجشم عناء التفكير فيها أو استكشاف المنطق الذي تنطوي عليه هذه المعادلات. لقد كان الأمر المهم لهاتين الحضارتين هو أن المعادلة ناجحة، أما السبب في نجاحها فلم يكن بالشيء الذي تهتم به.
بعد عشرين عاما من السفر، كان فيثاغورس قد استوعب كل القواعد الرياضية في العالم المعروف، ثم أبحر إلى جزيرته الأم ساموس، التي تقع في بحر إيجه، وهو يعتزم تأسيس مدرسة تختص بدراسة الفلسفة، وتعنى تحديدا بالبحث في القواعد الرياضية التي اكتسبها حديثا. لقد كان يرغب في فهم الأعداد، لا استخدامها فحسب. وكان يأمل في أن يجد الكثير من الطلاب الذين يتمتعون بملكة التفكير الحر ويساعدونه في تشكيل فلسفات جذرية جديدة، لكن في أثناء غيابه، كان الطاغية بوليقراط قد حول ساموس التي كانت تتمتع بالحرية فيما قبل، إلى مجتمع متعصب محافظ. دعا بوليقراط فيثاغورس للانضمام إلى بلاطه، لكن الفيلسوف قد أدرك أن ذلك ليس سوى مناورة تهدف إلى إسكاته؛ فرفض ذلك الشرف. وبدلا من ذلك، ترك المدينة وفضل عليها كهفا يقع في منطقة نائية من الجزيرة حيث كان يستطيع أن يتأمل دون خوف من الاضطهاد.
لم يستسغ فيثاغورس عزلته، ولجأ في نهاية المطاف إلى رشوة أحد الفتيان ليكون أول طالب له. إننا لا نعرف هوية ذلك الشاب على وجه اليقين، لكن بعض المؤرخين قد اقترحوا أن اسمه هو أيضا فيثاغورس، وأن ذلك الطالب هو من سيحظى بالشهرة بعد ذلك؛ لاقتراحه أنه ينبغي على علماء الرياضيات أكل اللحوم لتحسين بنيتهم الجسمانية. دفع فيثاغورس المعلم لتلميذه ثلاثا من عملات الأوبول المعدنية مقابل كل درس كان يحضره، ثم لاحظ مع مرور الأسابيع أن ما كان يراه لدى الفتى من إحجام أولي عن التعلم ، قد تحول إلى حماس للمعرفة. ولكي يختبر تلميذه، تظاهر فيثاغورس بأنه لم يعد قادرا على أن يدفع النقود لتلميذه، ومن ثم فلا بد أن تتوقف الدروس، وحينها عرض الطالب أن يدفع مقابل تعليمه لا أن ينهيه. كان التلميذ قد أصبح مريدا. لكن ذلك الطالب كان هو الشخص الوحيد للأسف الذي تمكن فيثاغورس من تبديل حاله في جزيرة ساموس. فقد أسس مدرسة بالفعل وقتا قصيرا، وكانت تعرف باسم «ذا سيمي سيركل أوف فيثاغورس»، غير أن آراءه بشأن الإصلاح الاجتماعي لم تلق قبولا، واضطر الفيلسوف إلى الفرار من الوطن مع أمه ومريده الوحيد.
غادر فيثاغورس إلى جنوب إيطاليا التي كانت جزءا من اليونان الكبرى، واستقر في قروطون حيث حالفه الحظ إذ وجد راعيا مثاليا في ميلو: أثرى رجال قروطون، وأحد أقوى الرجال في التاريخ. وبالرغم من أن سمعة فيثاغورس بصفته حكيم ساموس كانت قد بدأت تنتشر عبر اليونان بالفعل، كانت شهرة ميلو أكبر وأعظم. كان ميلو رجلا يتمتع بجسد عملاق، وقد حاز على بطولة الألعاب الأوليمبية والبايثونية على مدى اثنتي عشرة مرة. وعلاوة على اهتمامه بالرياضة، كان ميلو متذوقا للفلسفة والرياضيات ودارسا لهما. تخلى ميلو عن جزء من منزله ووفر لفيثاغورس مكانا كافيا لتأسيس مدرسة. وبهذا، تكونت شراكة بين العقل الأكثر إبداعا والجسد الأقوى.
ولما صار فيثاغورس آمنا في بيته الجديد، فقد أسس الأخوية الفيثاغورسية، وهي رابطة تكونت من ستمائة من الأتباع الذين لم يكونوا قادرين على فهم تعاليمه فحسب، بل كانوا يضيفون إليها أيضا بابتكار أفكار وبراهين جديدة. عند الانضمام إلى الأخوية، كان على كل تابع أن يهدي جميع ممتلكاته الدنيوية إلى صندوق مشترك. وإذا رغب أي فرد في ترك الأخوية، فإنه كان يحصل على ضعف ما تبرع به، مع إقامة شاهد تخليدا لذكراه. كانت الأخوية مدرسة تقوم على المساواة، وكان بها العديد من الأخوات. لقد كانت الطالبة المفضلة لدى فيثاغورس هي ابنة ميلو: ثيانو الجميلة. وبالرغم من الفارق بين عمريهما، فقد تزوجا في نهاية المطاف.
وبعد تأسيس الأخوية بمدة قصيرة ، صك فيثاغورس مصطلح «فيلسوف»؛ وحدد بهذا أهداف مدرسته. وبينما كان ليون، أمير فليوس، يحضر الألعاب الأوليمبية ذات مرة، سأل فيثاغورس عن وصفه لنفسه؛ فأجاب فيثاغورس: «أنا فيلسوف.» غير أن ليون لم يكن قد سمع بالكلمة من قبل، وطلب منه أن يشرحها.
إن الحياة، أيها الأمير ليون، شديدة الشبه بهذه المسابقات العلنية؛ ففي هذا الحشد الكبير المجتمع هنا، ينجذب البعض إلى جني الربح، وينجذب آخرون إلى آمال الشهرة والمجد وطموحاتها. غير أن قلة من بينهم قد جاءت لتراقب كل ما يمر هنا وتفهمه.
صفحة غير معروفة
والأمر نفسه ينطبق على الحياة؛ فالبعض يتأثرون بحب الثروة، بينما يندفع آخرون دون تفكير وراء حمى القوة والسيادة. أما النوع الأرقى من البشر، فيكرس نفسه لاستكشاف معنى الحياة نفسها وغايتها. إنه يسعى إلى الكشف عن أسرار الطبيعة. وهذا النوع من البشر هو من أدعوهم بالفلاسفة، فبالرغم من أنه ما من إنسان حكيم تماما في جميع النواحي، فهو يحب الحكمة بصفتها هي المفتاح لأسرار الطبيعة.
وبالرغم من أن الكثيرين كانوا يعرفون بطموحات فيثاغورس، فإنه لم يعرف أحد من خارج الأخوية تفاصيل نجاحه أو مداه. فقد كان على جميع أعضاء المدرسة أن يقسموا على ألا يبوحوا للعالم الخارجي بأي من اكتشافاتهم الرياضية. وحتى بعد وفاة فيثاغورس، أغرق أحد أعضاء الأخوية إذ حنث في قسمه وأعلن اكتشاف مجسم منتظم جديد؛ هو متعدد الأوجه الاثني عشري، الذي يتشكل من اثني عشر مخمسا منتظما. وهذه السرية الشديدة التي اتسمت بها الأخوية الفيثاغورسية كانت سببا في تشكل الأساطير بشأن ما قد يكونون مارسوه من طقوس غريبة، وهي السبب أيضا في قلة الروايات التي يمكن الوثوق بها بشأن إنجازاتهم الرياضية.
ما نعرفه على وجه اليقين هو أن فيثاغورس قد أرسى بعض الأخلاقيات التي غيرت من مسار الرياضيات. كانت الأخوية مجتمعا دينيا بالفعل، وكانت «الأعداد» من معبوداتهم. فقد كانوا يؤمنون بأن فهم العلاقات الموجودة بين الأعداد سيمكنهم من الكشف عن الأسرار الروحانية للكون، ويقربهم من الآلهة. وقد ركزت الأخوية انتباهها على دراسة الأعداد الصحيحة على وجه التحديد (1، 2، 3، ...) والكسور. إن «الأعداد الصحيحة» مع الكسور (النسب بين الأعداد الصحيحة) تشكلان معا ما يعرف باسم «الأعداد النسبية». ومن بين ذلك العدد اللانهائي من الأعداد، كانت الأخوية تولي أهمية خاصة لبعض هذه الأعداد الأكثر تميزا التي كانت تعرف باسم الأعداد «المثالية».
كان فيثاغورس يرى أن المثالية العددية تتوقف على قواسم العدد، وهي الأعداد التي تقبل القسمة على العدد الأصلي دون باق. فقواسم العدد 12 على سبيل المثال، هي 1 و2 و3 و4 و6. وحين يكون مجموع قواسم العدد أكبر من العدد نفسه، يسمى العدد «عددا زائدا». ومن ثم؛ فإن العدد 12 هو عدد زائد؛ لأن مجموع قواسمه يساوي 16. وعلى العكس من ذلك، حين يكون مجموع قواسم العدد أصغر من العدد نفسه، فإنه يسمى «عددا ناقصا»؛ ومن ثم فالعدد 10 عدد ناقص؛ لأن مجموع قواسمه: 1 و2 و5، يساوي 8 فقط.
أما الأكثر أهمية وندرة بين الأعداد، فهي تلك الأعداد التي يكون مجموع قواسمها مساويا للعدد نفسه، وتعرف باسم «الأعداد المثالية». فقواسم العدد 6 على سبيل المثال، هي 1 و2 و3؛ إذن فهو عدد مثالي؛ لأن 1 + 2 + 3 = 6. والعدد المثالي التالي له هو 28؛ لأن 1 + 2 + 4 + 7 + 14 = 28.
وإضافة إلى أهميتها الرياضية لدى الأخوية، فقد كانت مثالية العددين 6 و 28 من الأمور التي أدركتها بعض الثقافات الأخرى التي لاحظت أن القمر يدور حول الأرض مرة كل 28 يوما، وأعلنت أن الإله قد خلق العالم في 6 أيام. ففي كتاب «ذا سيتي أوف جاد» (مدينة الإله)، يحاجج القديس أوجستين بأن الإله كان قادرا على خلق العالم في لحظة واحدة، لكنه قرر أن يخلقه في ستة أيام ليدلل على مثالية الكون. وأشار القديس أوجستين إلى أن مثالية العدد 6 لا تعود إلى اختيار الإله له، بل هي طبيعة جوهرية في العدد نفسه: «العدد 6 مثالي في حد ذاته وليس لأن الإله قد خلق كل شيء في ستة أيام، بل عكس ذلك هو الصحيح؛ أي إن الإله قد خلق كل شيء في ستة أيام؛ لأن هذا العدد مثالي، وكان سيظل مثاليا حتى وإن لم تخلق الأشياء كلها في ستة أيام.»
ومع زيادة الأعداد الصحيحة في الضخامة، يصبح العثور على الأعداد المثالية أمرا أصعب؛ فالعدد المثالي الثالث هو 496، والرابع هو 8128، والخامس 33550336، والسادس هو 8589869056. وإضافة إلى حقيقة أن هذه الأعداد تساوي مجموع قواسمها، لاحظ فيثاغورس أن جميع الأعداد المثالية تتسم بالعديد من الخصائص الأنيقة، ومنها على سبيل المثال أن الأعداد المثالية دائما ما تساوي مجموع سلسلة من الأعداد الصحيحة المتتالية. فنجد أن:
6 = 1 + 2 + 3,
28 = 1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7,
496 = 1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7 + 8 +9 + + 30 + 31,
صفحة غير معروفة