لم يكن ثمة مهرب من التناقض. وقد تسبب عمل راسل في ضرر كبير لحلم تأسيس نظام رياضي خال من الشك والتضارب والمفارقات. بعث بخطاب إلى فريجه الذي كانت مخطوطة كتابه لدى الناشر بالفعل. وقد جعل هذا الخطاب من العمل الذي أنفق فيه فريجه حياته، عملا عديم القيمة في حقيقة الأمر، لكنه نشر كتابه «القوانين الأساسية لعلم الحساب» بالرغم من تلك الضربة القاضية، واكتفى بإضافة تذييل في الجزء الثاني: «ليس أبغض على العالم من أن ينقض الأساس فور أن ينتهي من العمل. وقد وجدت نفسي في هذا الوضع إذ تلقيت خطابا من السيد برتراند راسل، بعد أن كان الكتاب قد أوشك على الخروج من المطبعة.»
ومن المفارقات أن تناقض راسل ظهر من المجموعات أو التشكيلات الأحب لدى فريجه. لقد ذكر بعد سنوات عديدة في كتابه «تطوري الفلسفي»، الأفكار التي أوعزت إليه بالتشكك في عمل فريجه: «لقد بدا لي أن الفئة تكون عضوا في نفسها في بعض الأحيان، ولا تكون كذلك في أحيان أخرى. ففئة ملاعق الشاي على سبيل المثال، ليست ملعقة شاي أخرى، لكن فئة الأشياء التي هي ليست بملاعق شاي، من الأشياء التي هي ليست بملاعق شاي.» كانت تلك الملاحظة الغريبة التي تبدو غير مؤذية في ظاهرها، هي التي أدت إلى تلك المفارقة الكارثية.
غالبا ما تشرح مفارقة راسل باستخدام حكاية أمين المكتبة شديد التدقيق. وهي أن أمين المكتبة قد اكتشف في أحد الأيام بينما كان يتجول بين الأرفف، مجموعة من الفهارس. وهي فهارس منفصلة للروايات والمراجع والشعر وغير ذلك. ويلاحظ أمين المكتبة أن بعض الفهارس تورد نفسها، أما البعض الآخر فلا يورد نفسه.
شكل 4-4: برتراند راسل.
ومن أجل تبسيط النظام، يضع أمين المكتبة فهرسين آخرين، أحدهما يورد جميع الفهارس التي تورد نفسها، والأكثر إثارة للاهتمام أن الآخر يورد جميع الفهارس التي لا تورد نفسها. وبعد إكمال المهمة، يواجه أمين المكتبة مشكلة: هل ينبغي أن يورد الفهرس الذي يورد جميع الفهارس التي لا تورد نفسها، نفسه؟ إذا أورد نفسه، فلا ينبغي أن يورد وفقا للتعريف. أما إذا لم يورد نفسه، فسوف ينبغي أن يورد وفقا للتعريف. إن أمين المكتبة في موقف لا يمكن أن يربح فيه.
والفهارس الواردة في هذا المثال شديدة الشبه بالمجموعات أو الفئات التي استخدمها فريجه لتكون التعريف الجوهري للأعداد. ومن ثم فإن التضارب الذي يزعج أمين المكتبة، سيسبب المشكلات فيما يفترض أن يكون بناء منطقيا للرياضيات. إن الرياضيات لا يمكن أن تتسامح مع التضارب أو المفارقات أو التناقض. فأداة البرهان بالتناقض الفعالة على سبيل المثال، تعتمد على خلو الرياضيات من المفارقات. يذكر هذا البرهان أنه إذا أدى أحد الافتراضات إلى نتيجة غير منطقية، فلا بد أن يكون هذا الافتراض خاطئا، أما راسل، فهو يرى أنه حتى المسلمات يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير منطقية. ومن ثم؛ فمن الممكن أن يوضح البرهان بالتناقض أن إحدى المسلمات خاطئة، غير أن المسلمات هي أسس الرياضيات ومعترف بصحتها.
تشكك العديد من المفكرين في عمل راسل بزعمهم أن الرياضيات مسعى ناجح بلا شك ولا تشوبه شائبة. وقد أجاب هو عن ذلك بشرح أهمية عمله بالطريقة التالية: «بالرغم من ذلك»، قد تقول: «كل ذلك لا يزعزع اعتقادي بأن 2 زائد 2 يساوي 4.» وأنت محق في هذا إلا في حالات ضئيلة، وحالات ضئيلة فقط هي التي تشك فيها بشأن ما إذا كان حيوان معين كلبا أم لا، أو ما إذا كان طول محدد أقل من المتر أم لا. لا بد أن يكون العدد اثنين، اثنين من شيء محدد، وسيكون الافتراض القائل بأن «2 زائد 2 يساوي 4» عديم الفائدة ما لم يكن من الممكن تطبيقه. فاثنان من الكلاب زائد اثنين من الكلاب على سبيل المثال، يساوي أربعة من الكلاب بالتأكيد، لكن ثمة حالات تظهر لا تكون متأكدا فيها مما إذا كان اثنان منهما من الكلاب أم لا. وقد تقول: «حسنا، ثمة أربعة حيوانات على أي حال.» غير أن بعض الكائنات الدقيقة ما من يقين بشأن ما إذا كانت من النباتات أم من الحيوانات. وسوف تقول: «حسنا، هي من الكائنات الحية إذن.» غير أن بعض الأشياء ليس من المؤكد ما إذا كانت حية أم لا. وسوف يدفعك هذا إلى القول: «حسنا، كيانان وكيانان يساوي أربعة كيانات.» وحين تخبرني بما تعنيه بلفظة «كيان»، سنواصل الجدال.
لقد زعزع عمل راسل أسس الرياضيات، ودفع بدراسة المنطق الرياضي إلى حالة من الفوضى. كان علماء المنطق يدركون أن وجود مفارقة تترصد في أسس الرياضيات قد يؤدي عاجلا أم آجلا إلى أن تطل برأسها غير المنطقي وتتسبب في مشكلات عميقة. فبدأ راسل مع هيلبرت وغيرهما من علماء المنطق في محاولة علاج هذا الموقف وإعادة التعقل إلى الرياضيات.
لقد جاء هذا التضارب نتيجة مباشرة للتعامل مع مسلمات الرياضيات، التي كان من المفترض حتى ذلك الوقت أنها بديهية وكافية لتعريف بقية الرياضيات. وكان من النهج المقترح ابتكار مسلمة إضافية تمنع أن تكون الفئة عضوا في نفسها. وسيمنع هذا من حدوث مفارقة راسل بالاستغناء عن السؤال بشأن إيراد فهرس الفهارس التي لا تورد نفسها من عدمه.
قضى راسل العقد التالي في التفكير في مسلمات الرياضيات، وهي جوهر العلم نفسه. وفي العام 1910، وبالتعاون مع ألفريد نورث وايتهيد، نشر الجزء الأول من كتاب «مبادئ الرياضيات» المكون من ثلاثة أجزاء، الذي كان فيما يبدو محاولة ناجحة لتقديم معالجة جزئية للمعضلة التي خلفتها مفارقته. على مدى العقدين التاليين، استخدم آخرون «مبادئ الرياضيات» دليلا لتأسيس صرح رياضي لا تشوبه شائبة، وبحلول الوقت الذي تقاعد فيه هيلبرت في العام 1930، كان واثقا من أن الرياضيات تسير جيدا في طريقها نحو التعافي. كان يبدو أن حلمه بوضع أساس منطقي متسق وفعال بالدرجة التي تكفي للإجابة عن جميع الأسئلة، في طريقه لأن يصبح حقيقة.
صفحة غير معروفة