رأيت الأم تبكي ولدها، والزوجة بعلها، والأخ أخاه، والابن أباه؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الجاني المحكوم عليه بالقتل، واجف القلب مشتت العقل؛ فلم أجد أشقى من المريض.
ذقت ذل السؤال بعد عز الأفضال، وعرفت خيبة الأمل، وصبرت على تغطرس أصحاب المال؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت المفضول فوق الفاضل، والفصيح يداجي الأبكم، والعالم يخضع للجاهل، والعاقل يخاطب من لا يفهم؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيتك تصنع المعروف فتجازى بالمتلوف، وتصادق من يخدعك، وتسمع من لا يسمعك؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الغني الشبعان يبلع الجمل ولا يتستر، والفقير الجائع يتلصص لسرقة رغيف من الخبز الأسمر، والقانون يكافئ ذاك برفع القبعات، ويعاقب هذا بالسجن سنوات؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت معالم الظلم تشاد فوق الناس تحت لواء العدل ودعوى الهداية، والعالمية تسري عليهم تحت قلانس المكر وعمائم الجهل؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الحر يرى كل ذلك ولا يجد بدا من الصبر عليه، فلم أجد أشقى من المريض.
وأي أشقى ممن أظلمت الدنيا في عينيه، وارتجت الأرض تحت رجليه، وصغرت نفسه حتى أصبحت الحياة المحبوبة عبئا ثقيلا عليه؛ إذا شرب الماء الزلال المعقم، وجده مرا كالعلقم؛ أو ذكر أشهى الطعام لديه، جاشت نفسه عليه؛ أو توسد وثير المهاد، فكأنه يتقلب على شوك القتاد؛ مفكك الأوصال، إذا كلف قطع خيط القطن خانته القوى؛ مقطع الآمال، إذا قدمت له خزائن الأرض أعرض عنها ورآها هي والعدم على حد سوى؛ ليله طويل بما يعانيه من الآلام التي تحرمه لذة المنام، فإذا طلع النهار زال ما كان قد أمله فيه من زوال الأسقام.
الأصحاء يحلمون بالأموال يحشدونها، والمدن للكسب يفتحونها، والمراتب العالية ينالونها، يحلمون بالزوجات، والبنين والبنات، والقصور الشاهقة، والأملاك الواسعة، والحدائق الغناء، ولا يقفون في أحلامهم عند حد. والمريض المسكين لا يطلب إلا أمرا واحدا يفديه بكل حطام الدنيا، يفديه بماله، يفديه بأمياله، يفديه بكل ما له من المطامع من واقع وغير واقع، يفديه حتى بجزء من عمره، بل بعمره كله؛ إذا وجد أن لا خلاص له من الأسقام إلا بتجرع الموت الزؤام، يطلب ما لا يراه الأصحاء، ولا يراه إلا هو، يطلب الصحة التي هي تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، بل أي رجل تجوز عليه الشفقة أكثر ممن تمكن منه الداء، وعز به الشفاء، غنيا كان أو فقيرا، صعلوكا كان أو أميرا، حتى لم يبق عنده في قوس الأمل منزع، ولا في النفس منزع، فإذا كان هذا حال المريض الأمير، فما قولك في حال المريض الفقير؟
صفحة غير معروفة