فالفقير المعدم، والجاني المكبل بالحديد، والثكلى التي لا تريد أن تتعزى، والرجل الذي أخنى عليه الدهر بعد العز، والحر الذي يصبر على مضض البلوى؛ يجدون في نفس شكواهم مصرفا لهمومهم، وفي قواهم الصحيحة منعشا لآمالهم؛ فالجائع إذا أعيته الحيل تطاير الشرر من عينيه، وشد حبلا من مسد على حقويه، ونهض على ساقيه يطارد بهما الغزلان، وشمر عن ساعديه يتسلق بهما الجدران، ولبس من ظلام الليل ثوبا يقيه كالحجاب، من عين كل مرتاب، يتلصص تارة ويسرق أخرى؛ منتقما لنفسه من ظلم الإنسان، ومن فساد ما سنه من الشرائع في العمران. والثكلى تتناثر دموعها الحرى، فتخفف ما بها من ألم الجوى، كأنها تبدد بها سحب الهموم، كما يبدد مطر السماء سحب الغيوم. وأما المريض المسكين، فلا تفيده الشكوى إلا زيادة البلوى، وقد يخفت صوته فلا يقوى عليها، وقد تشل حركاته حتى لا يستطيع أن يعبر عنها، فيرسل إليك نظرا منكسرا ذليلا، يقطع الصلب، وينفذ القلب، يقطع صلبا لا من صلب الحديد، بل من عصب وعظم، وينفذ قلبا لا من قلب الحجر، بل من لحم ودم.
فيا أيها الذين لا يزال بهم بقية تتأثر أكثر قليلا من الحجر، والذين لم تضرب مطامعهم على أبصارهم غشاوة، ولم يختم الله المال على قلوبهم، إن كنتم من أهل الإحسان الذين يريدون التقرب حقيقة إلى الله المعبود، أو من أهل الفخر الذين يفاخرون بأشياء هذا الوجود؛ فدونكم وإغاثة أخيكم المريض، بل إغاثة أنفسكم - فمن منكم يضمن لنفسه السلامة من الداء - بتخفيف مصابه، وتقليل أوصابه، بما في وسع الإنسان بحسب تدرجه في العمران. وليس لذلك أصلح من المستشفيات، والإكثار منها على ما بلغت اليوم من الإتقان فهي قبل المعابد، إن كنتم تفقهون، وكأني بكم جميعا تؤمنون على ذلك، ولكن لا أعلم لماذا لا تفعلون. أينقصكم فيها المجد، وهي عنوان المجد والفخر؛ أم الأجر، وهي منتهى الأجر؟ فلينهض منكم بضعة أناس من علية القوم، يؤلفون جمعيات متفرقة من كل جنس ومذهب وموطن، تجمع المال بالاكتتاب من الفقير قبل الغني، كل حسب مقدرته، كما تفعلون في بناء المعابد التي تخدمون بها مطامع الإنسان أكثر مما تخدمون بها إرادة الله. وأنتم أيها الأغنياء خاصة، فإني أعرف منكم الغني الكبير الذي جمع من المال القناطير، ومات ولم يترك سوى ذكر الاختلاس من أموال الناس، أو الذي بنى شاهق القصر الذي لا ينفع لا للسكن ولا للقبر، ألم يكن مثل هذا الإحسان أفضل ذكرى وأدعى إلى الفخر؟ وأمام من تريدون أن تفتخروا؟ أليس أمامنا؟ فإذا ذممناكم فالذنب عليكم، ورحم الله من قال:
ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
المقالة الثالثة والعشرون
بمعزل عن الناس (أو «حلم في اليقظة أو يقظة في الحلم»)
1
صدر المشير هذه المقالة - والعهدة عليه - بالكلام الآتي، قال:
محرر المشير حرامي.
سرقة جائزة. «الدكتور شميل في السماء.»
صفحة غير معروفة