وكان مما كتب الشاعر في دفتر يومياته، الذي أنفق معه أكثر ليلته، هذا الحديث الذي أداره بينه وبين نفسه بدأ بهذا السؤال: أكنت مخطئا أم مصيبا حين كذبت آنفا على صديقي هذا الشيخ الشاب؟ فإني لم أر هذه النار التي رآها على قمة الجبل من وراء النهر! وما أعلم أني رأيت قط من وراء النهر لهبا ساطعا أو غير ساطع! لم أره اليوم، ولم أره أمس، ولم أره منذ شهور حين ألمت بالقصر هذه الأحداث كما زعمت! وإنما هو نوع من المجاراة لهذا الرجل الذي لا يحتمل خلافا أو جدالا في شيء واضح أو غامض، والذي تبينت اليوم، في غير شك، أن قد ألم به طائف من جنون! فقد صدق الخدم إذن فيما حدثوني به من أن سيدهم رأى هذه النار منذ حين، وأرادهم على أن يروها كما رآها، فلما زعم له بعضهم أنه لا يرى شيئا، تلقى منه لطمة أدمت خده، وعلمته أن من الحق عليه أن يرى ما يرى سيده، مخطئا أو مصيبا، وأن يعرف ما يعرف، وينكر ما ينكر، لا يعنيه أن يكون سيده مخطئا أو مصيبا، ولا يعنيه أن يكون سيده صادقا أو كاذبا، وإنما يعنيه أن يقول نعم حين يراد على قولها، وأن يقول لا حين يراد على قول لا. وقد انتفع زملاؤه بهذه اللطمة؛ أشفقوا أن يصيبهم مثلها أو شر منها، فعرفوا ما عرف سيدهم، وأنكروا ما أنكر! وقال قائلهم إنه يرى هذه النار في كل يوم منذ يقبل الليل إلى أن يسفر الصبح، وإنه لا يراها حين تملأ الشمس الدنيا من حولها نورا، كأنها كائن حي قد وكل بالسهر إذا كان الليل، وبالنوم إذا كان النهار!
واطمأن السيد إلى حديث ذلك الخادم ورأى أنه الحق كل الحق، فصرف طرفه عما وراء النهر ما أضاءت الشمس، ووكل طرفه بما وراء النهر ما أظلم الليل.
كذلك كان أمره مع خدمه وموظفي قصره، ولكني أنا لست خادما له ولا موظفا في قصره، ولست أخشى منه لطما أو لكما، ففيم كانت موافقتي له وإقبالي على ما أقبلت عليه من الكذب حين زعمت له أني أرى ما كان يرى من هذه النار؟
أكنت مشفقا عليه إن كذبت حسه أن يأخذه الغضب، وأن يدفعه إلى جنون عنيف مكان هذا الجنون الهادئ الذي ألم به وأصبح له عشيرا؟ أم كنت مشفقا على نفسي من عواقب هذا الغضب ونتائج هذا الجنون؟
ولم أكذب نفسي الآن بعد أن كذبت هذا الشيخ الشاب منذ حين؟ لم لا أقول إني جاريته، كما جاراه خدمه وموظفو قصره، رفقا به ورفقا بنفسي أيضا: فلست أكره شيئا كما أكره غضبه، ولست أحب شيئا كما أحب رضاه! فهو شيطان مريد مفسد لكل شيء من حوله إذا غضب، وهو روح حلو مصلح لكل شيء من حوله إذا رضي ...
وكف الشاعر عن التحدث إلى دفتره حينا، ولكنه لم يتحول عنه ولم يلق القلم من يده، وإنما لبث مكانه واجما كاسف البال مظلم النفس والوجه، ثم ارتسمت على ثغره ابتسامة مرة، وظهر على وجهه شيء من التردد اضطرب له القلم في يده بعض الاضطراب، ثم ثاب إليه هدوءه، ولكنه كان هدوءا مرا، إن صور شيئا فإنما يصور حسرات كانت تمزق قلبه تمزيقا ...
صفحة غير معروفة