ما وراء النهر
ما وراء النهر
ما وراء النهر
ما وراء النهر
تأليف
طه حسين
ما وراء النهر
1
لست أدري أين وقعت أحداث هذه القصة، ولكني أقطع بأنها لم تقع في مدينة القاهرة، فقد تتبعت شاطئ النيل كله في هذه المدينة، فلم أجد ربوة شديدة الارتفاع والاتساع، يقوم عليها قصر فخم ضخم شاهق في السماء، ويتكاثف فيها شجر باسق ملتف يظل ضروبا من النجم لا تعد، وفنونا من الزهر لا تحصى، وهذه الربوة المرتفعة الواسعة تنحدر في يسر إلى النهر، كأنما تسعى للقائه، أو كأنما تيسر للشجر والزهر السعي للقائه ...
لم أجد على شاطئ النيل في القاهرة هذه الربوة ولا شيئا يشبهها؛ ووجود هذه الربوة شرط أساسي لوقوع الأحداث التي تعرضها هذه القصة، فما أظنك تخالفني في أن ما يمس الإنسان من الأحداث وما يصور هذه الأحداث من قصص لا يمكن أن يتم إلا إذا كان له مكان معروف بحدوده وأوصافه. وقد وقعت أحداث هذه القصة في مكان، ما في ذلك شك، بل وقعت في هذا المكان الذي وصفته وصفا موجزا. وأكاد أعتقد أن هذا المكان نفسه هو الذي أنشأها، وهو الذي ابتكر أحداثها ودفع أشخاصها إلى إجراء هذه الأحداث.
وقد علمنا النقاد منذ عهد بعيد أن هناك صلة متينة دقيقة بين أقوال الناس وأعمالهم، وبين البيئة التي يعيشون فيها ويتأثرون بدقائقها في حياتهم اليومية، ولو قد عاش أشخاص هذه القصة في دار متواضعة أو في قصر يقوم على الأرض المنبسطة السهلة - لا على هذه الربوة المرتفعة التي تمتاز مما حولها من الأرض، وترفع قصرها فوق ما حولها من القصور والدور، وتنحدر بشجرها وزهرها في سذاجة ويسر إلى النهر - أقول: لو قد عاش أشخاص هذه القصة في دار متواضعة أو قصر يقوم على السهل لما أجروا ما أجروا من الأحداث، ولما أصابهم ما أصابهم من الخطوب.
فغرفات القصر وحجراته، وأفنية القصر وأبهاؤه، وهذه الدهاليز الكثيرة الملتوية، وهذه النجوم المتقابلة المتدابرة، وهذا الزهر المنسق المنمق، كل أولئك قد فرض على أهل القصر لونا أو ألوانا من الحياة لم يكونوا يستطيعون إلا أن يخضعوا له ويسلكوا في سيرتهم ما يلائمه، وكل أولئك قد أغرى هذا الشخص أو ذاك من أشخاص القصة بهذا العمل أو ذاك من أعماله، وبهذا القول أو ذاك من أقواله، بحيث لم يكن بد من أن تحدث هذه الأحداث في هذا المكان المقسوم لها دون غيره من الأمكنة، وإلا لبطلت قواعد الفن، ولفسد التاريخ الأدبي، ولذهب الأدباء بإنتاجهم الأدبي كل مذهب وسلكوا به كل سبيل، لا يخضعون لأصل من الأصول، ولا يتقيدون بقانون من القوانين التي وضعها أرسطاطاليس وأسلافه وأخلافه ولم يفرغوا من وضعها إلى الآن.
وإذن فلا بد لهذه القصة من ربوة عظيمة الارتفاع والاتساع، ومن قصر شاهق، وشجر باسق، وزهر رائق، ونجم شائق، ونهر دافق يجري من تحت هذا كله في أناة حينا وفي عنف حينا آخر، فإذا فقد شيء من هذا ضاعت القصة وما أظنك ترغب في أن تضيع؛ فأنت محتاج إليها لتنفق الوقت في القراءة، وأنا محتاج إليها لأنفق الوقت في الإملاء، والمجلة محتاجة إليها لتملأ عددا من صفحاتها قليلا أو كثيرا.
كل شيء يضطرني إلى أن أملي، وكل شيء يضطر المجلة إلى أن تنشر، وكل شيء يضطرك إلى أن تقرأ، وكل أولئك يفرض علينا جميعا أن نقبل هذه الربوة وما فيها وما عليها لنمضي فيما يسر له كل منا من الكتابة والنشر والقراءة. فلتكن هذه الربوة ما دام لا بد لها ولنا من أن تكون، ولكنها لا تستطيع أن توجد في القاهرة؛ لأن شاطئ القاهرة منبسط مستو ليس فيه نجاد ولا وهاد. فلو زعمنا أن الربوة قائمة في هذا المكان أو ذاك من المدينة لاستطاع من شاء من القراء أن يواجهنا بالإنكار ويخاصمنا بالحقائق الواقعة، ويضيع علينا القصة وما بذلنا في كتابتها ونشرها وقراءتها من الجهود.
وأكاد أعتقد أن هذه الربوة لا توجد على شاطئ النيل في مصر كلها، فلست أزعم أني قد تتبعت الشاطئ المصري كله على النيل، ولكني لم أسمع قط عن ربوة كهذه الربوة، ولا عن قصر كهذا القصر. ولو قد وجدت هذه الربوة وقصرها الشاهق وجنتها الرائعة لكثر عنها الحديث في كتب الخطط أولا، وفي الصحف والمجلات ثانيا، وعلى ألسنة الناس بعد ذلك؛ لأن جو مصر من الصفاء والنقاء بحيث لا يخفى شيء فيها على أحد من الناس إلا أن تتكاثف عليه الرمال كما تتكاثف على الآثار. وقصتنا لم تحدث في العصر القديم، وإنما نزعم أنها حدثت في هذا العصر الذي نعيش فيه، عاصرتنا أو سبقتنا إلى الوجود بوقت قصير جدا.
ومن الجائز أن تكون هذه الربوة مسحورة، توجد لتفنى، وتفنى لتوجد، تظهر اليوم لتستخفي غدا، وتستخفي غدا لتظهر بعد غد؛ شأنها في ذلك شأن كثير من المدن والقرى التي يتحدث عنها القصاص ويراها الرحالون في قلب الصحراء أو في أطرافها. ولكني أستبعد ذلك، لا لأنه في نفسه بعيد أو مخالف لقوانين الطبيعة؛ فقوانين الطبيعة لا تستطيع أن تثبت أمام قوانين الفن، وقوانين الفن تبيح أن توجد الربى وتفنى، وأن تظهر وتخفى، بل هي تبيح أن توجد هذه الربوة في مدينة القاهرة نفسها إلى أن تقع أحداث القصة. ثم تمضي بما عليها ومن عليها كأن لم تغن بالأمس، وما دام الزمان يمضي فليس بأس من أن يمضي المكان كما يمضي الزمان. وإذا استبعدت أن تكون هذه الربوة في مدينة القاهرة، فمصدر ذلك أن القراء يتفاوتون في الثقافة ويختلف علمهم بأصول الفن. وما أحب أن ينجم لي منهم قارئ أو قراء يزعمون لي أن لا وجود لهذه الربوة في القاهرة ويجادلون فيما لا معنى للجدال فيه.
وأنا مع ذلك أستبعد أن تكون هذه الربوة مصرية لعلة أخرى لا تتصل بطبيعة الأرض ولا بتقويم البلدان، وإنما هي أعظم خطرا من طبيعة الأرض ومن تقويم البلدان؛ لأنها تتصل بالأخلاق، فأهل مصر كلهم أخيار أبرار. لا يحبون شيئا كما يحبون العدل، ولا يبغضون شيئا كما يبغضون الجور، ولا يؤثرون شيئا كما يؤثرون ذكاء القلب وصفاء النفس وطهارة الضمير، ولا يرفعون أنفسهم عن شيء كما يرفعونها عن مقارفة الإثم ومصاحبة الفساد، ينأون عن السيئات أشد ما يكون النأي، ويتجافون عن الموبقات أشد ما يكون التجافي، وينزهون أنفسهم عن الخطيئة أشد التنزيه؛ فلست ترى بينهم قويا يستذل ضعيفا، ولا غنيا يستذل فقيرا، ولا ناعما يستطيل على بائس، ولا سعيدا يستخف بشقي. ولست ترى بينهم متعجلا للمنفعة، ولا مؤجلا لعمل من أعمال البر، ولا مضحيا بمصلحة الكافة في سبيل المصلحة الخاصة، ولا مؤثرا لنفسه بالخير من دون مواطنيه.
ولست ترى بينهم من يستحب الحياة الدنيا على الآخرة، ويؤثر العاجلة على الآجلة، ويتهالك على اللذات لا يصطنع في سبيلها أناة ولا وقارا، ويقبل على الآثام لا يرى في الإقبال عليها حرجا ولا جناحا؛ لست ترى من بينهم أحدا يهم بشيء من ذلك أو يفكر فيه أو يصد نفسه عنه متكلفا من الجهد قليلا أو كثيرا، وإنما هم قوم فطروا على البر والإحسان، وركبت في طبائعهم خصال التعاون والتناصف والاستباق إلى الخيرات، وائتلفت أذواقهم من حب الجمال المادي والمعنوي؛ فهم يكرهون أشد الكره القبح الذي تتأذى به العيون، وهم ينفرون أشد النفور من القبح الذي تشمئز منه النفوس، حياتهم الأولى في هذه الدنيا مشاكلة كل المشاكلة لحياة الصالحين المقربين في الجنة التي وعد الله عباده المتقين. وفي هذه القصة، كما سترى، شيء من ظلم وجور، وشيء من استطالة واستعلاء، وشيء من الاستئثار باللذات في غير تحرج، والإقدام على الآثام في غير تحفظ، والاستهتار بما يأبى الرجل الكريم أن يستهتر به أو يظهر الناس على ميله إليه ورغبته فيه. فلا يمكن إذن أن تحدث هذه القصة في مصر؛ لأن أحداثها منافرة أشد المنافرة للمعروف المألوف من أخلاق المصريين في عصورهم المختلفة وفي عصرهم هذا الحديث خاصة؛ لأن الأخيار يمضون في الخير كلما تقدم الزمان، كما أن الأشرار يتخففون من الشر كلما ارتقت الحضارة. وأكبر الظن أن حياة المصريين قد بلغت من الصفاء والنقاء على تقدم الزمن طورا ليس بينه وبين حياة الملائكة في السماء إلا آماد قصار. وإذا كان الجيل المعاصر منهم يسعد بهذه الحياة الراضية الرخية النقية أكثر مما سعدت الأجيال الماضية، فإنه على سعادته العظيمة شقي بالقياس إلى ما ستظفر به الأجيال المقبلة من هذه السعادة التي لا يمكن أن توصف بلغة الناس؛ لأنها لم تقدر للناس في حياتهم الدنيا.
ليست هذه القصة مصرية إذن؛ لأن مكانها لا يوجد في أرض مصر، ولأن أشخاصها لا يعيشون في جو مصر، ولأن أحداثها لا تلائم طبائع المصريين. وإذن فقد تسأل نفسك كما أسأل نفسي: أين وقعت أحداث هذه القصة؟ والحق أن الجواب عن هذا السؤال ليس شاقا ولا عسيرا؛ فما أكثر البلاد التي ترتفع فيها الربى على ضفاف الأنهار، وترتفع فيها القصور الشاهقة المترفة على قمم الربى! وإذا لم تكذبني الذاكرة فإن شاعرا من أصحاب الموشحات قد صور لنا ربى كثيرة في إسبانيا، كان يطلب إلى السحب أن تجلل تيجانها بالحلي، وأن تجعل منعطفات الجداول لها أساور من لجين، وإن شئت فقل أساور يختلف معدنها باختلاف ما يلقى عليها من الضوء وما يعكس عليها من الألوان؛ فهي من فضة حين يمتع النهار، وهي من ذهب حين يترقرق على صفحاتها ضوء الأصيل.
والمهم أن هذا الشاعر الموشح الموفق قد دلنا على مكان هذه الربوة الرائعة التي يقوم عليها هذا القصر المنيف. فلنقل إذن إنها في إسبانيا. وأنت تعرف أن إسبانيا هي البلد الذي يبني الخيال فيه ما يشاء من القصور ومن القصور المطاوعة التي ترتفع في السماء وتتسع في الفضاء ما شئت لها الارتفاع والاتساع، والتي تنخفض وتنقبض حين تريد لها الانخفاض والانقباض، والتي تندك وتنهار وتصبح أطلالا بالية حين تريد أن تقف عليها كما كان يقف الشعراء القدماء على أطلالهم، وأن تنشد عليها هذا الشعر الذي أنشده النابغة على طلله القديم:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها
أعيت جوابا وما بالربع من أحد
2
ربوتنا إذن في إسبانيا، قد أشرفت على نهر من أنهارها، وانحدرت إليه كما قلت في سهولة ويسر، واتخذت لنفسها من الشجر والزهر تاجا رائعا بارع الجمال، واتخذت لتاجها هذا الرائع البارع من ذلك القصر الشامخ الباذخ الأنيق درة نادرة المثال منقطعة النظير، تستطيع أن تلتمس لها اسما بين هذه الدرر الكثيرة التي يأتلف منها كتاب العقد الفريد لذلك الكاتب الشاعر الأندلسي العظيم.
ولكني لم أصف الربوة حق وصفها ولم أصورها كما ينبغي لها أن تصور، فأنت لا تحسن الوصف والتصوير لشيء من الأشياء إلا إذا وصلت به ملحقاته التي تكمله وتعطيه صورته النهائية، إن أتيح لشيء من الأشياء في هذه الحياة أن يظفر بصورته النهائية في يوم من الأيام. ولهذه الربوة ملحق لا يمكن إهماله؛ لأن إهماله يخل بنظام القصة إخلالا خطيرا، فالجمال لا يستقيم إلا إذا جاوره القبح، والنعيم لا يكمل إلا إذا جاوره الجحيم، وما ينبغي أن تحتج علي بنعيم الجنة وجمالها، فنعيم الجنة وجمالها لا يستقيمان إلا إذا كان بإزائهما قبح جهنم وما يصلى الخاطئون فيها من نار الجحيم.
لا بد إذن من أن أتم تصوير الربوة بشيء من الحديث عن هذا الملحق الذي لا يستقيم أمرها بدونه. وهذا الملحق قرية تقوم على السهل المنبسط مما يلي الربوة، وهي بعيدة الأرجاء، مترامية الأطراف قبيحة المنظر إلى أقصى غايات القبح، تقوم فيها دور منخفضة لا تكاد ترتفع في الجو إلا قليلا، لم تتخذ من الحجر ولا من الآجر ولا من اللبن، وإنما اتخذت من الطين قد صنع صناعة غليظة خشنة وأسند بعضه إلى بعض وأقيم بعضه على بعض، فائتلفت منه بيوت كانت تريد أن تكون جحورا تتخذ في باطن الأرض، ولكن أهلها لم يجدوا من القوة ولا من الجهد ولا من المال ما يمكنهم من احتفار الجحور في الأرض، فآثروا أيسر الأمرين واتخذوا دورهم من هذا الطين المهمل الغليظ.
وقد قامت هذه القرية البائسة، في هذا السهل المنبسط، على شاطئ النهر الجميل، وإلى جانب الربوة الرائعة، ليعلم الناس وليعلم النهر أيضا، وليشهد النهار المشرق والليل المظلم، وليسجل التاريخ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أن الحياة مزاج من الخير والشر، ومن النعيم والبؤس، ومن الجمال والقبح، ومن السعادة والشقاء، وأن تمايز الأشياء وتفاوت الأحياء أصل من أصول الوجود. فلولا الفقر ما كان الغنى، ولولا البؤس ما كان النعيم، ولولا الانخفاض ما كان الارتفاع، ولولا الضيق ما كانت السعة.
ولست في حاجة إلى أن أفصل ما تمتاز به الربوة من جمال، وما تمتاز به القرية من قبح. فقد لا يكون من الخير ولا من الذوق ولا من حسن الرعاية للقراء أن أستأثر وحدي بهذا الوصف؛ فأنا لم أستأثر بالخيال من دون القراء، بل أنا قد أكون أقل الناس حظا من الخيال وقدرة على الوصف وبراعة في الأداء، ولم يخلق الله أديبا يستطيع أن يستأثر وحده بوصف ما يعرض على قرائه من الأشياء والأحياء؛ فهذا الوصف شركة دائما بين الأديب المنتج والقارئ المستهلك.
وليس من المحقق أن الأشياء التي يعرضها الأدباء تقع في نفوس القراء كما يعرضونها عليهم، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك أن القراء يشاركون في الخلق والإنشاء، ويسبغون من ذات أنفسهم على ما يجلو لهم الكتاب من صور ألوانا لعل الكتاب أنفسهم لم يروها، ولعلها لم تخطر لهم على بال؛ فهذه الربوة التي تحدثت عنها وهذه القرية التي أشرت إليها، تقعان من نفوس القراء على اختلافهم مواقع مختلفة متباينة، لعلها لا تلتقي ولا تتشابه إلا في القليل، فالإنتاج الأدبي إذن شركة بين الأديب وقارئه، وليس الأديب في حقيقة الأمر إلا رائدا يمهد الطريق.
وما ينبغي للقراء إذن أن ينخدعوا عن أنفسهم، ولا أن يخلعوا على الأدباء هذه الخصال الرائعة التي تثير فيهم الغرور وتغريهم بالكبرياء. والذي أريد أن أصل إليه هو أني أعتمد على القراء في أن يعمل كل منهم خياله ما وجد إلى إعماله سبيلا؛ ليصور لنفسه هذه الربوة جميلة كأروع ما يكون الجمال، وهذه القرية قبيحة كأبشع ما يكون القبح، وألا تكون قراءتهم سلبية غير ذات غناء. فهذه القصة لا تحتمل القراءة السلبية، وإنما هي تريد، بل هي لا تقوم إلا على المشاركة الإيجابية بين الكاتب حين يرسم الخطوط وبين القارئ حين يتم الرسم ويملأ ما بين الخطوط من فراغ لعله ترك عن إرادة وعمد.
ولعل القارئ يظن، وهو معذور إن ظن، أن هذا الحديث قد طال وأسرف في الطول قبل أن يصل إلى أول هذه القصة، فكتابنا قد عودوا القراء أن يهيئوا لهم الأدب كما يهيأ لهم الطعام؛ فليس على القراء إلا أن يقرءوا ويسيغوا، كما أنهم أو كما أن بعضهم ليس عليه إلا أن يجلس إلى مائدة الطعام في مواعيد موقوتة ليمضغ ويسيغ.
أما أنا فلا أحب هذا اللون من الطهي الأدبي؛ لأني أكبر نفسي وأكره أن أكون خادما للقراء من جهة، ولأني أكبر القراء وأكره أن تكون آذانهم أفواها وعقولهم بطونا يلقى إليها الكلام فيسمعون ثم يسيغون، لا أحب شيئا من هذا، وإنما أحب أن أنشئ بيني وبين القراء نوعا من الزمالة، بحيث نبدأ القصة معا، ونمضي فيها معا، وننتهي منها معا، نتفق أحيانا ونختلف أحيانا أخرى، ويشجر بيننا الخصام من حين إلى حين.
3
قد كدنا نصل إلى أول القصة، وإن كنا لم نخط فيها خطوات واسعة فيما أعتقد، فليست القصة حكاية للأحداث وسردا للوقائع كما استقر على ذلك عرف النقاد والكتاب، وإنما القصة فقه لحياة الناس وما يحيط بها من الظروف، وما يتتابع فيها من الأحداث. وإذا كان الأمر كذلك - وهو عندي كذلك - فنحن قد بدأنا القصة منذ الكلمة الأولى من هذا الحديث. وعلى كل حال فليس بيننا وبين الأخذ في عرض الحوادث إلا شيء واحد، وهو أن نتبين الصلة بين القرية الملقاة على السهل والربوة المشرفة على النهر. وهذه الصلة قريبة كل القرب، يسيرة كل اليسر، ليست بعيدة ولا عسيرة كالصلة بين القصر وقريته في قصة الكاتب المعروف كفكا
Kafka ؛ لأني لا أصطنع في حديثي رمزا ولا إيماء، وإنما أصطنع الصراحة التي تؤثر الجلاء وتكره الغموض. والذين قرءوا قصة «القصر» لهذا الكاتب ذي الصوت البعيد، يعرفون أن قصره إنما هو رمز للعالم العلوي، وأن قريته إنما هي رمز للعالم السفلي، ومن هنا تعقدت الصلة بين هذين العالمين.
أما ربوتي أنا فهي ربوة من هذه الربى التي يراها الناس في كل يوم ويقرءون عنها في كل كتاب من كتب الأدب، وليس أدل على ذلك من أني قد استعرتها من ذلك الشاعر الأندلسي القديم، وأما قصري أنا فهو قصر من هذه القصور التي يشهدها الناس حين يصبحون وحين يمسون، قد بني من المادة التي تبنى منها القصور، وأثث بالأثاث الذي تزدهي به القصور، وأترف أهله كما تعود الناس أن يترفوا في هذه الحياة التي نحياها، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، فمن أيسر الأشياء أن يهبط رجل من أهل القصر إلى القرية، ليس عليه في ذلك إلا أن يمضي أمامه حتى يقرب من شاطئ النهر، ثم ينعطف إلى يمين فيرى أمامه طريقين إحداهما ممهدة تمهيدا حسنا كأنها أعدت لصعود السيارات وانحدارها، والأخرى ممهدة تمهيدا مقاربا ضيقة بعض الضيق، ولكنها أقصر من الأخرى، وهي الطريق التي يسلكها الراجلون، وقد يرى فيها الفرسان الذين يمتطون الخيل.
وكذلك يستطيع الرجل من أهل القرية أن يرقى إلى هذا القصر على قمة الربوة سالكا الطريق الأولى إن أراد التيسير على نفسه بالسعي الهين والرقي السهل، وإن أراد كذلك أن يلهو بما يلقى في طريقه من هذه السيارات الصاعدة الهابطة بمن فيها من السادة والقادة والغادات الحسان وسالكا - إن شاء - الطريق الأخرى إذا لم يشفق من التصعيد العسير الملتوي، وإذا كان حريصا بنوع خاص على أن يبلغ القصر في أقصر وقت ممكن وفي غير تلكؤ أو إبطاء.
هذه هي الصلة المادية بين الربوة والقرية، وهي - كما ترى - قريبة ميسرة. فأما الصلة المعنوية فأشد من الصلة المادية قربا وأعظم منها يسرا، وهي صلة السادة بالخدم، أو صلة الخدم بالسادة لا أكثر ولا أقل، وما ينبغي أن تظن أن أهل القرية جميعا خدم يعملون في القصر يرقون إليه مع الصبح ويهبطون منه مع الليل؛ فأهل القرية ليسوا من هذه الخدمة في شيء، بل هم لا يرقون إلى القصر إلا قليلا، وهم حين يرقون إليه لا يبلغونه فضلا عن أن يدخلوه، وإنما يبلغون مكاتب الدائرة التي ألحقت به، فيتصلون بهذا الموظف أو ذاك لما يمكن أن يكون بينهم وبين هذا الموظف من عمل. هم خدم للقصر على هذا النحو الذي تعرفه والذي تراه في كل مكان يقوم فيه قصر فخم وتنبسط فيه أرض زراعية يملكها أصحاب القصر، ويعيش من حوله قوم يعملون في هذه الأرض ويعيشون مما يعملون؛ فجزء عظيم من السهل المنبسط في أسفل الربوة ملك لسادة القصر، وأهل هذه القرية هم الفلاحون الذين يزرعون هذه الأرض ويستغلونها ويستخلصون خيراتها لسادتهم، يقدمون إليهم كل هذه الخيرات ويعيشون على ما يساقط منها هنا وهناك وعلى ما يتفضل به عليهم سادتهم من الفتات. لا يملكون شيئا، وليس لهم أمل في أن يملكوا شيئا، لا يكادون يملكون أنفسهم، وليس لهم أمل في أن يستقلوا بملك أنفسهم.
هم أحرار في ظاهر الأمر يذهبون ويجيئون، ويستيقظون وينامون، ولكنهم رقيق في حقيقة الأمر؛ لأنهم لا يذهبون إلا إلى حيث يعملون، ولا يجيئون إلا إلى حيث ينامون، ولأنهم يطعمون ما أريد لهم أن يطعموا لا ما يريدون هم أن يطعموا. ولعلهم لا يريدون أن يطعموا إلا ما يسر لهم؛ لأنهم لا يعرفون غير ما يسر لهم، ولا يستطيعون أن يطمعوا فيما لا علم لهم به. ولأنهم بعد ذلك لا يستطيعون أن يتصرفوا في شيء لأنهم لا يجدون شيئا، ولا يطمعون في أن يجدوا شيئا يمكن أن يتصرفوا فيه. هم أحرار كالعبيد، وعبيد كالأحرار. ليسوا راضين ولا ساخطين؛ لأنهم لا يعرفون الرضا ولا السخط، وإنما يعيشون كما تعيش النمل تدفعهم الغريزة وتدبر أمرهم إرادة سادتهم في القصر. ويجب أن نعترف بأن هؤلاء السادة قساة القلوب غلاظ الأكباد، يؤثرون أنفسهم بكل شيء، ولا ينزلون لغيرهم عن شيء؛ ولأجل هذا قلنا إنهم لا يمكن أن يكونوا من المصريين.
وقد آن للحوادث أن تحدث، وللقصة أن تأخذ طريقها إلى الوجود إن لم تكن قد أخذته من قبل.
وأول ما نشهده من حوادث القصة منظر هذا الشاعر الذي نيف على الستين، ولكنه احتفظ بقوة توشك أن تكون قوة الشباب، وهو على ذلك يتكلف الشيخوخة ويتصنع الضعف حين يراه سادة القصر، وهو لا يمشي إلا متوكئا على عصا يسرف في الانحناء عليها إذا رآه الناس، فإذا خلا إلى نفسه اعتدلت قامته واستقام قده، ونظر إلى ما حوله معجبا تياها. وقد تعود صاحب القصر الذي سنعرفه بعد قليل أن يراه منحنيا يمشي على ثلاث، كما كان يقول أبو الهول في سؤاله لأوديب، فكان كلما رآه أنشد متضاحكا ساخرا قول جرير:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
ونحن نرى هذا الشاعر الشاب الشيخ وقد خرج من الجناح الذي يقيم فيه عن يمين القصر، وسعى منحدرا في بطء وتمهل يريد أن يبلغ المجلس الذي تعود أن يلقى فيه صاحب القصر في جوسق جميل على شاطئ النهر، ولكنه يلقى في طريقه شيخا لا حظ له من قوة ولا من شباب وهو البستاني عثمان الذي يقول له في صوته المتهالك المحطم: «في المكتب يا سيدي! في المكتب، إنه لم يخرج اليوم من مكتبه ولم يهبط إلى الحديقة ولم يقف عند أزهاره التي تعود أن يطيل الوقوف عندها.» قال الشاعر الشيخ الشاب: «عم صباحا يا عثمان، في المكتب! ماذا سيصنع سيدك في المكتب؟ أيمكن أن يعيش الناس تحت السقوف وبين الجدران حين تصفو السماء وتتألق الشمس وتزين الأرض ويتهادى النهر على هذا النحو! دعه في المكتب يا عثمان، ولا تؤذنه بمكاني إلا أن يسألك، ولكن أرسل إلي القهوة، قدحين لا قدحا واحدا، وقف على إبراهيم حتى يتقنها، فأنت تعرف القهوة التي أحب.» قال عثمان: «طاعة يا سيدي! ولكني رأيت مولاي عابسا هذا الصباح كما لم أره قط.» قال الشاعر: «عابسا! عابسا! لقد أدركه بعض الخبل، إنه يعبس والدنيا باسمة، ويحبس نفسه وكل شيء يدعوه إلى أن ينعم بهذا الجمال، دعه محبوسا عبوسا، وأرسل إلي قهوتي ولا تنبئه بمحضري إلا أن يسألك .»
ثم مضى أمامه منحنيا على عصاه مستأنيا متمهلا، حتى بلغ الجوسق، فجلس إلى المائدة ونشر أمامه أوراقا، وأخذ بيده قلما وجعل يطيل النظر إلى النهر كأنما كان يستمليه، ثم يكتب متباطئا على ما بين يديه من الأوراق.
4
وكان النهر يملي عليه حديثا عجبا؛ لأنه نهر عجيب بين الأنهار، لا يعرف الناس له منبعا ولا مصبا، وإنما يرونه يسعى من الشرق إلى الغرب دون أن يستطيع أحد أن يقول: من أين يأتي؟ ولا إلى أين يجري؟ وقد حاول المستكشفون أن يعرفوا من أمره ما عرفوا من أمر الأنهار الأخرى في الأرض فلم يبلغوا من ذلك شيئا، سايروا شاطئه من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فوجدوا مدنا وقرى، وصحاري ليس فيها مدن ولا قرى، ولكنهم انتهوا دائما إلى غابات كثاف يضيع النهر بينها، ولا سبيل إلى النفوذ منها ولا إلى تتبعه فيها. وكأنما خلقت هذه الغابات في الشرق والغرب لتحجب النهر عن المستكشفين وتعمي آثاره على المتتبعين. وهي تتكاثف وتتكاثف، ويدنو بعض أشجارها من بعض، ويلتف بعض أشجارها ببعض، ويكاد بعض أشجارها يركب بعضا، حتى كأن النهر إنما ينبع من بيئة مظلمة أشد الإظلام، ليصب في بيئة أخرى ليست أقل منها إظلاما ولا حلوكا.
ولم يكن هذا هو الشيء الوحيد العجيب من أمر النهر، وإنما كانت له خصلة أخرى ليست أقل من هذه الخصلة عجبا؛ فقد عرف الناس أحد شاطئيه، وهو هذا الذي تقوم عليه الربوة، وتنبسط فيه السهول الخصبة المأهولة والصحاري الجدبة المقفرة، من الشمال. فأما شاطئه الآخر، مما يلي الجنوب، فقد جهله الناس كما جهلوا منبع النهر ومصبه، ولم يعرفوا منه إلا شيئين اثنين: أحدهما أن من وراء النهر، وعلى أمد منه غير بعيد، جبالا شاهقة ترتفع في السماء، وتبعد في الارتفاع حتى لا يكاد البصر يبلغ قممها إلا في كثير من الجهد والمشقة. والثاني أن العبور إلى هذا الشاطئ مخوف يملأ القلوب هولا ورعبا؛ فقد تعارف الناس وتوارثوا منذ أقدم العصور، أن الذين يعبرون إليه لا يعودون ، وهم من أجل ذلك لا يفكرون في العبور إليه، بل لا يتحدثون في العبور إليه إلا في كثير جدا من الحذر والتحفظ والاحتياط.
ولعلهم لا يذكرونه بالتصريح، وإنما يذكرونه بالإشارة والإيماء، بل نشأ عن هذا أيضا أن الناس كرهوا الدنو الشديد من شاطئه الشمالي المعروف، وآثروا أن يقيموا مدنهم وقراهم على آماد بعيدة منه قد قدرت تقديرا. وما أكثر المدن والقرى التي اتخذت بينها وبين النهر حواجز كثافا من الشجر! كأنما كان الناس يكرهون حتى أن تبلغ أبصارهم شاطئ النهر الذي يليهم، لا نستثني منهم إلا أهل هذه الربوة التي أشرفت على النهر وكادت تسعى إليه سعيا؛ فقد كانوا لا يخافون النهر ولا يرهبونه ولا يكادون يحفلون به، إما لأنهم كانوا من عنصر ممتاز لا يعرف الخوف ولا الرهب ولا يحفل بما يحفل به الناس، وإما لأنهم كانوا مشغولين عنه بحياتهم الناعمة وعيشهم الغض وتهالكهم على ما يتاح لهم من لذات، وإما لأنهم كانوا أذكى قلوبا وأنفذ بصائر من أن يقفوا عند ما يقف عنده العامة، ومن يدري؟! لعل كل هذه الخصال مجتمعة وخصالا أخرى غيرها كانت تشغلهم بأنفسهم وتصدهم عما يقبل الناس عليه من ألوان التفكير.
وكان الشاعر وحده بين أهل القصر وما يتصل به من الأجنحة والدور هو الذي يعنى بهذا النهر ويريد أن يستكشف أسراره ويتعمق دقائق أمره. ولكن للشعراء مذاهب في البحث والاستقصاء لا تشبه مذاهب العلماء والفلاسفة إلا قليلا؛ فلم يكن شاعرنا يتتبع شاطئ النهر ليعرف منبعه أو مصبه، ولم يكن يحاول أن يعبر إلى شاطئه الآخر ليعرف ما وراء النهر، وإنما كان يكتفي حين يتاح له شيء من فراغ بأن يجلس في هذا الجوسق مشرفا على النهر محدقا فيه مطيلا النظر إليه، يسأله ويلح في السؤال، ويستمليه ويسجل ما يملي عليه.
وكان النهر بخيلا بأسراره، ضنينا بدقائقه وحقائقه حتى على هذا الشاعر، مع أن المعروف أن الأنهار تحب التحدث إلى الشعراء؛ فكان الشاعر إذا سأل عن شيء من هذه الألغاز لم يرجع النهر عليه جوابا، وإنما يتحدث إليه عن أسرار أخرى تلك التي كانت الشمس تفضي بها إليه في رسائلها الطوال التي كانت تقرؤها عليه منذ يسفر الصبح إلى أن يظلم الليل، والتي كانت النجوم تفضي بها إليه في رسائل خاطفة متقطعة ترسلها إليه حين يغشى الليل، والتي كان القمر يرسل بها إليه ضوءه الهادئ المستقر بين حين وحين، والتي كان النسيم يهديها إليه في الليل مرة وفي النهار مرة أخرى، والتي كانت تعصف بها الريح أحيانا ويقصف بها الرعد أحيانا، ويخفق بها البرق أحيانا أخرى. وربما أملى عليه بعض ما كانت تتحدث به أمواجه الهادئة المطمئنة من بعض النجوى.
وكان الشاعر يجد في هذه الأحاديث متاعا، ويسجل منها أطرفا يحتفظ بأكثرها لنفسه، وربما عرض أقلها على أهل القصر فرضوا حينا وسخروا أحيانا.
وهو في هذه الساعة مقبل على النهر يسأله ويتلقى أحاديثه، بعينيه حينا، إذ يرقب صفحته المضطربة في هدوء، وبأذنيه حينا آخر إذ يسمع هذا الخرير الهادئ الذي يشبه نجوى المحبين. ولكن إقباله على النهر لا يتصل؛ فهذا الخادم قد أقبل يحمل إليه القهوة التي طلبها إليه، وهو لا يضع القهوة أمامه ثم ينصرف كما تعود أن يفعل في كل يوم، وإنما يقف صامتا أول الأمر، ثم يقول: ما ينبغي أن يطول انتظار مولاي لك يا سيدي، وإنما الخير إذا فرغت من قهوتك أن تستجيب لدعائه؛ فقد أنسيت أن أنبئك بأنه كلفني أن أوجهك إليه متى أقبلت، وما أرى إلا أنه يجهل مقدمك إلى الآن، قال الشاعر: فدعه يجهل مقدمي حتى أسعى إليه بعد قليل.
قال الخادم: لا تبطئ يا سيدي، فما أرى إلا أنه شديد الحاجة إلى لقائك، وأكبر الظن أنه لم ينم من ليلته، وأن أمرا ذا بال ينغص عليه حياته، قال الشاعر: وما ذاك؟
قال الخادم: لا أدري! ولكني أعلم أنه أنفق آخر الليل في مكتبه ذاهبا جائيا، وأنه لم يصب من إفطاره إلا القهوة، وأنه كان مكدودا مجهودا يتكلف القوة والجلد، وأحسب أن ابنه الشاب هو مصدر هذا الهم وأصل هذا العناء، فإن له - كما تعلم - خطوبا لا تنتهي.
قال الشاعر: حسبك فقد فهمت عنك، أنبئ مولاك بأني سأرقى إليه بعد قليل.
ووقف الخادم لحظة لا يقول شيئا، ولكنه يدير في نفسه أن هذا الرجل محمق يؤثر حديث الأنهار على حديث الناس، ثم نظر فإذا الشاعر قد أعرض عنه وأقبل على النهر ينظر إليه والقلم في يده كأنه يستمليه، فلم ير بدا من أن ينصرف متباطئا وفي نفسه كثير من الغيظ.
وليس من شك في أن حديث النهر كان أحسن موقعا في نفس الشاعر من حديث هذا الخادم الذي لم يكن ينبئه بشيء جديد؛ فهو يعلم أن لذلك الفتى المترف خطوبا لا تنقضي، بعضها يحدث في القصر نفسه، وبعضها يحدث فيما يتصل به من الأجنحة والدور، وبعضها يحدث في القرية المقيمة في أسفل الربوة، وبعضها يتجاوز القصر والقرية إلى أماكن قريبة أو بعيدة، وهو يعلم أن هذه الخطوب كثيرا ما تشغل صاحب القصر وتثير في نفسه ألوانا مختلفة من الشعور. فهو مرة راض عنها ومبتسم لها، يرى أن ابنه فتى قد نيف على العشرين ومن حق الشباب أن يلهو ويعبث. وهو مرة ضيق بها منكر لها، يرى أن للهو حدودا لا ينبغي أن يعدوها الفتيان مهما يكن حظهم من نشاط الشباب، وهو مرة ساخط أشد السخط ثائر أعنف الثورة، يرى أن ابنه قد أسرف في تعدي الحدود وتجاوز الممكن من لهو الشباب. وهو إذا بلغ هذا الطور من أطوار الغضب لم يؤثر نفسه بنتائجه وإنما يشيع هذه النتائج من حوله، ويريد أهل القصر جميعا على أن يثوروا كما ثار ويسخطوا كما سخط، ويرهق امرأته من أمرها عسرا، يحملها أوزار هذا الفتى الذي لا يعرف القصد، ولا يستطيع أن يقف نفسه عند ما ينبغي أن تقف عنده من الحدود، يرد ذلك إلى أن أمه لم تحسن تربيته، ولم تعرف كيف تنشئه، ولم تستطع قط أن تمتنع عن تدليله وتيسر كل ما يعرض له من أمر عسير.
ثم إن صاحب القصر لا يشق على نفسه وعلى أهله وذوي خاصته وحدهم حين يتورط ابنه في خطيئة من الخطايا، وإنما هو معلن لثورته مشيع لسخطه، يريد أن يشرك الناس جميعا والأشياء جميعا فيما يجد. فهو يتجهم للزائرين ويلقاهم بوجه عابس بغيض، ويتحدث إليهم من طرف اللسان، وما يزال يتكلف من ذلك فنونا وفنونا حتى يضطرهم إلى أن يسألوه عن أمره، فإذا فعلوا أنبأهم بهذه الأحداث الجسام التي يحدثها ابنه الطائش المفتون، ومضى في أحاديث لا آخر لها، يجد في ذلك تسرية عن نفسه، ويجدون فيه إملالا لنفوسهم، ولكن لا بد مما ليس منه بد؛ فقد ينبغي أن نقبل الأصدقاء على علاتهم ليقبلونا على علاتنا، وأن نأخذهم كما هم ليأخذونا كما نحن.
والشاعر بالطبع أشد الناس تعرضا لهذا السيل الجارف من الأحاديث عن هفوات الفتى ونزواته وأحداثه التي يحدثها هنا وهناك؛ لمكانه القريب من صاحب القصر. فأي غرابة في أن يفر بنفسه بين حين وحين من هذا الامتحان، ويخلو إلى نهره هذا العزيز فيسمع منه ويقول له: وأي غرابة في أن يعرض عن الخادم حين يريد أن يشق عليه بهذا الحديث، فيقفه ثم يصرفه في غير رقة ولا لين! أليس يكفيه ما يسمع من السيد؟! ألم يبق إلا أن يشقيه الخدم أيضا بهذه الأحاديث؟!
كانت أحاديث هذا الفتى إذن معادة مملولة بالقياس إليه على حين لم تكن أحاديث النهر معادة ولا مملولة، وإن كانت شاقة عسيرة دائما، فقد كان النهر عصيا أبيا، يتحدث بما يريد هو لا بما يريده سائلوه. وكان في تلك الساعة يقرأ على شاعرنا ألوانا من رسائل اختلسها من ريح الشمال، وكانت تحملها إلى ظلال قوم عبروا النهر ولم يعودوا، وكانت هذه الرسائل تصور ما يضطرم في بعض القلوب من لهيب الحزن والأسى، وما يزهر في بعضها الآخر من الذكريات، وما يساور بعض النفوس من يأس يحبب عبور النهر إلى الأحياء الآمنين، ومن حرص على الحياة يجعل عبور النهر مروعا مخيفا.
وكان الشاعر يستمع لهذه الرسائل - ويستمتع بما فيها - استماعا حزينا شاحبا، يلائم آمال الناس التي لا تنقضي وقدرتهم التي لا تمتد إلى أمد بعيد، كما يلائم حبهم للحياة وشوقهم إلى من فارقوا الحياة، وكما يلائم ما يشيع في قلوبهم من هذه القوة الضعيفة التي تعجز عن استبقاء الأشياء فتحتفظ بذكراها، ومن هذا الضعف القوي الذي يأبى أن يسلم الذكرى للنسيان، فيستبقيها وينميها ويتخذ منها وسائل لاستبقاء الحياة وتنمية ما فيها من نعيم قليل واحتمال ما فيها من بؤس كثير.
وقد هم الشاعر غير مرة أن يتقدم إلى النهر في طي هذه الرسائل الإنسانية الممتعة المحزنة، ونشر رسائل أخرى ليس لها حظ من حزن ولها حظ عظيم من المتاع. فما أكثر ما كان النهر يقرأ عليه رسائل يسعى بها النسيم بين أزهار الشمال النضرة وأزهار الجنوب الذاوية الذابلة! وما أكثر ما كان النهر يقرأ عليه أنباء السماء تحملها أشعة النجوم أو ضوء القمر أو نور الشمس! بل ما أكثر ما كان الشاعر يستحب هذه النجوى التي تكون بين أمواج النهر متحدثة بأنباء الشرق ذلك الذي لم يصل إليه أحد، حاملة هذه الأنباء إلى الغرب الذي لا يصل إليه أحد.
ولكن النهر كان يأبى دائما أن يقرأ على الشاعر أو يملي عليه شيئا غير ما يريده هو. وكان الشاعر يجد في هذا الإباء والامتناع ما يشقيه ويرضيه في وقت واحد: يشقيه لأنه يبعده عما يحب، ويرضيه لأنه يأتيه بما يلذه ويمتعه. وهل حياة الشعراء إلا مزاج من الشقاء والرضا؟! ولو خير الشاعر لاختار أن تتصل خلوته إلى النهر أطول وقت ممكن، وأن يحتمل من شذوذه واستبداده ما شاء النهر أن يحتمل. ولكن الشاعر لم يكن مخيرا في شيء. ومتى خير الشعراء وأصحاب الفنون في شيء؟! إنما هم عبيد الطبيعة، تفرض عليهم ما فيها من جمال وقبح ومن نعيم وبؤس، وتخيل إليهم أو يخيلون هم إلى أنفسهم أنهم أحرار يستنبطون من الطبيعة أسرارها ويصوغونها في صيغهم الفنية المألوفة شعرا، أو رسما، أو نحتا، أو تصويرا، أو غناء، أو إيقاعا.
وليس أدل على ذلك من أن شاعرنا قد كان عبدا لهذا النهر، ولم يكن يستطيع حتى أن ينعم بهذا الرق، وإنما كان يصرف عنه من وقت إلى وقت بطارئ يطرأ أو طارق يطرق. وليس كل الطوارئ يمكن أن يدفع في يسر، وليس كل الطارقين يمكن أن يرد في لين أو عنف، وقد استطاع الشاعر أن يرد الخادم حين هم أن يصرفه عن النهر، ولكن من له بأن يرد هذا الطارق الذي وضع يده في رفق على كتفه ونشر في الجو ضحكا عريضا وهو يقول في صوت متقطع: هأنتذا تخلو إلى نهرك لتقول له وتسمع منه، متى تنصرف عن أوهام الشعراء إلى ما يحيط بك من حقائق الحياة؟!
5
ويرفع الشاعر رأسه فيرى ابن صاحب القصر قد قام عن يمينه، جميل المنظر، رائع الطلعة، معتدل القامة، حاد النظرات، قد امتلأ قوة ونشاطا، وظهر على وجهه المشرق شيء من الجد الحزين حاول أن يخفيه بهذا الضحك العريض الذي كان ينشره من حوله في كثير من التكلف.
ولست أخفي على القارئ أني حائر أشد الحيرة في أمر هذا الفتى، كما أني حائر أشد الحيرة في أمر أهل الربوة جميعا؛ فكلهم يلح علي في أن أجد له اسما يتسمى به ويميزه بين غيره من الناس. وكلهم يلح علي في أن الأشخاص لا يستكملون وجودهم إلا إذا عرفت أسماؤهم التي تحقق التمايز فيما بينهم وتخرجهم من هذا الوجود الوهمي الذي يشبه العدم إلى وجود، إلا يكن واقعا كل الوقوع، فهو شيء بين بين، أقرب إلى الواقع منه إلى الوهم، وأدنى إلى الحقيقة منه إلى الخيال. وكلهم يلح علي في أن القدماء الذين عاشوا بين النهرين في بعض عصور التاريخ لم يكونوا مخطئين حين كانوا يرون أن اسم الرجل هو أخطر أجزاء حياته، وحين كان هذا الرأي يذهب بهم إلى شيء من الغلو، فيعتقدون أن لأسمائهم إذا نقشت على الجدران حظها من الحياة وحقها في القربان؛ لأنها تظل حية بعد موت أصحابها، أو لأنها تختصر وتستجمع ما يمكن أن يبقى من حياة أصحابها.
فللأسماء خطرها إذن، ويوشك الرجل الذي ليس له اسم ألا يكون موجودا، وهم من أجل ذلك يتصايحون بي من كل وجه مطالبين بأن أسميهم بأسمائهم ليستمتعوا بالوجود الصحيح.
وما ينبغي أن تسألني كيف يتصايحون وهم لم يوجدوا بعد؛ فإنهم يتصايحون على نحو خاص لا يسمعه أحد غيري، ولو أني منحتهم أسماءهم لكان من الممكن أن يتجاوز تصايحهم أذني إلى أذنيك.
وما أظنك تنكر أن الشخص الوحيد الذي استطعت أن تتصوره من أشخاص هذه القصة الذين مروا بك إلى الآن إنما هو شخص البستاني الذي سميته عثمان، ولو لم أسمه لما تبينته، كما أنك لم تتبين إلى الآن شخص الشاعر على كثرة ما أضفت إليه من الصفات، ولا شخص هذا الفتى الطارق على ما وصفت لك من منظره الجميل وطلعته الرائعة ووجهه المشرق الوضاء.
فهم لا يتجاوزون الإنصاف حين يطالبونني بأن أسميهم بأسمائهم، ولكن ماذا أصنع وأنا أشد الناس ضيقا بابتكار الأسماء، لا يطاوعني عقلي الضئيل، ولا خيالي الكليل على هذا النحو من العبث؟! ثم أنا من جهة أخرى أكره أن أختار الأسماء؛ لأني أخشى أن أختار أسماء لها أشخاص قد اتخذوها لأنفسهم، أو وسمهم بها آباؤهم، وهذا أبغض الأشياء إلي؛ فقد أنبأتك أن هذه القصة لم تقع أحداثها في مصر، ولا في بلد متاخم أو مجاور لمصر كما يقول الناس في هذه الأيام، وإنما افترضت أن تكون أحداث القصة قد وقعت في إسبانيا، لا لأنها وقعت في إسبانيا بالفعل، فدون وقوعها في إسبانيا خطوب وأهوال، بل لأن إسبانيا هي الأرض التي تبنى فيها قصور الخيال والتي وجدت فيها تلك الربى التي ذكرها الشاعر الموشح حين طلب إلى السحب أن تجلل تيجانها بالحلي.
من أجل هذا كله أكره أن أسمي أهل هذه الربوة بأسمائهم، وأخشى بنوع خاص أن يصرف بعض الناس هذه الأسماء وما يرون حولها من الحديث إلى أنفسهم، فيظنوا أني قد أردت بهم شرا وعرضت لهم من قريب أو من بعيد.
فإذا عاهدني القراء على أن يؤمنوا أوثق الإيمان فيما بينهم وبين أنفسهم بأن هذه الربوة ليست قائمة في مصر ولا في البلاد المتاخمة أو المجاورة لها، وبأن أهلها ليسوا مصريين ولا عربا ولا شرقيين، فقد أستطيع أن أجيب أشخاص القصة إلى ما يريدون، وأهدي إلى كل واحد اسما يميزه ويمنحه حظه من الوجود الذي يطمع فيه ويطمح إليه، وإن كان الوجود في نفسه ليس شيئا يستحق الطمع فيه أو الطموح إليه.
وليس ينبغي لك أن تظن أني أمزح أو أداعب حين أغض من قيمة الوجود؛ فلست أنا في هذا مبتدئا ولا مبتكرا، ولست فيه بدعا من الناس، وما أكثر الفلاسفة والشعراء الذين ينكرون قيمة الوجود ويرونه شرا أي شر، ويودون لو أنهم لم يدفعوا إليه، أو لو أنه لم يدفع إليهم! وأنت تذكر بالطبع أن أبا العلاء تمنى غير مرة لو أن حواء ماتت قبل أن تمنح زوجها الولد أو لو أنها ماتت عقب ولادتها لابنها الأول، وأنت تذكر كذلك أن أبا العلاء - ومن قبله فلاسفة كثيرون - كان يرى النسل جناية لا ينبغي أن يجنيها الرجل العاقل الحازم، وقد ظن بنفسه العقل والحزم، فلم يقترف هذا الإثم، ولم يتورط في هذه الجناية.
ولو سمع لي أشخاص القصة وقبلوا نصحي لهم ومشورتي عليهم، لما طمعوا في الوجود ولما طمحوا إليه، ولما أثقلوا علي بهذا الإلحاح في أن تكون لهم أسماء يعرفون بها، كما أن لغيرهم من الناس أسماء يعرفون بها، ولكن أرسطاطاليس قد أخطأ تعريف الإنسان حين قال إنه حيوان ناطق، ولو قد وفق إلى الصواب لقال إنه حيوان أحمق، وليس أدل على حمقه من طمعه في الوجود وطموحه إليه وحبه للحياة.
وما دام هؤلاء الأشخاص قد استوفوا أعظم حظ ممكن من الحمق فأبوا إلا أن تكون لهم أسماء، فلنسم الشاعر راغبا، ولنسم الفتى نعيما، فأما أبوه فلنرجئ تسميته إلى أن نلقاه في مكتبه ذاك الذي اتخذه لنفسه سجنا منذ آخر الليل.
قال الفتى للشاعر حين سكت عنه الضحك: قد كنت أبحث عنك لأودعك، فقد أزمعت السفر قبل أن يقبل الليل، وعزيز علي أن أحرم هذه الساعات الحلوة التي أخلو فيها إليك، فأسمع ما تنشدني من شعرك الرائع الجميل، وما تقص علي من طرائف الأخبار ونوادرها.
قال الشاعر: وإنك لمسافر منذ اليوم؟ وفيم هذا السفر الذي لم تنبئنا به ولم تهيئنا له، ولم يقدم القصر بين يديه هذه المقدمات التي تعودت أن تسبق سفرك بأيام طوال؟
قال نعيم - وهو يتكلف الضحك ويخفي سخرية مرة: فإنها المأساة يا سيدي! إنها المأساة! لقد زلزلت الأرض وغضبت السماء، وأظلمت الدنيا وفسد في حياة القصر كل شيء، قال الشاعر: وما ذاك؟
قال نعيم: ذاك أن الشيوخ ينسون الشباب، أو قل إنهم يستبقون الشباب لأنفسهم، ويستأثرون بما يتيح لأصحابه من فرصة، وما يبيح لهم من تجاوز الحدود، يرون ذلك سائغا حين يتصل بأشخاصهم، ويرونه حراما حين يتصل بغيرهم من الناس، قال الشاعر: فإني لم أفهم عنك إلى الآن.
قال نعيم: ولكنك قد قدرت من غير شك أن قد حدث في القصر حدث؛ فأنت لم تلق أبي في حديقته هذه الغلباء، وجنته الفيحاء، كما تعودت أن تلقاه في كل يوم قبل أن يرتفع الضحى، متنقلا بين زهره وشجره، ملحا على بستانيه بالأمر والنهي والسؤال والاستقصاء، حتى إذا أجهده سعيه وإلحاحه وحركته وسكونه وتشددت أنت عليه في أن يريح نفسه ويريح بستانيه ويريحك أنت من هذا العناء، أقبلتما معا إلى هذا الجوسق أو إلى غيره من جواسق الحديقة، فأنفقتما سائر الضحى فيما تحبان من الحديث، ولا شك في أنك قد أنكرت تخلف أبي عن موعده، واحتجابه عن أخص الناس به وأكرمهم عليه، ولا شك أنك قد سألت عن ذلك فعرفت من أنبائه أطرافا.
قال الشاعر: لم أعرف إلا أنه محتجب في مكتبه، وأنه طلب أن أوجه إليه متى أقبلت، وقد غاظني أن يحتجب الناس بين الجدران وتحت السقوف حين يصفو الجو ويعذب النسيم، ويدعونا الجمال إلى أن نستمتع به في هذه الحديقة الرائعة النادرة؛ فلم أسع إليه وإنما سعيت إلى النهر، وكنت أريد أن أرقى إليه بعد ساعة تقصر أو تطول.
قال نعيم: فإن استطعت أن ترقى إليه الآن فافعل؛ فهو في حاجة إلى من يؤنس وحدته ويسلي عزلته ويبدد عنه هموما ثقالا، وما أظن إلا أن حالته هذه ستتصل وتتصل، فسأسافر حين يقبل الأصيل، ولكني لن أسافر وحدي اليوم فسيتبعني بعد أيام قوم نبت بهم الدار ولم يبق لهم فيها أرب، إنها المأساة يا سيدي، إنها المأساة! وإن شئت فقل إنه الجنون واختلاط العقل.
ثم سكت لحظة كان يعبث في أثنائها بسلسلة ذهبية قد علق بها جماعة من المفاتيح، ثم قدم إلى الشاعر سيجارة وأشعل لنفسه سيجارة أخرى، ورمى النهر بنظرة فيها كثير من السخط والغضب، وأرسل في الجو تنفسا كان يريد أن يكون عميقا بعيدا، ولكن الفتى تجمل وتحفظ وأبى أن يخرج عن طوره، فاكتفى بتنفس بعيد بعض الشيء، وجعل ينظر إلى الدخان وهو يتلوى تلويا خفيفا في الهواء، ثم قال في صوت هادئ لا يخلو من حنق وسخرية: ومع ذلك فقد كنت أرى أبي إلى الآن مستأنيا حليما.
قال الشاعر: أمفصح أنت لي آخر الأمر عما تريد، ومعرض أنت عن هذه الألغاز؟
قال الفتى في صوت صاخب: تريد أن أفصح لك؟ فاعلم أن أبي قد طردني من القصر، وإن لم يكفك هذا فاعلم أنه لم يطردني وحدي وإنما طرد معي قوما آخرين، أفهمت؟ أرضيت؟
قال الشاعر: لم أفهم شيئا ولم أرض عن شيء، وإنما ازددت جهلا إلى جهل، وحيرة إلى حيرة؛ فكيف أقصاك أبوك عن القصر؟ وفيم كان هذا الإقصاء؟ وكيف تلقيت أمره هذا على أنه جد، مع أنك تعلم أنه يجد الآن ليهزل بعد ساعة، وأنه لا يسخط إلا ليرضى، وأن من العسير حين يستمع إليه خلطاؤه أن يتبينوا أهازل هو أم جاد؟
قال الفتى: فإني لا أعلم أن الناس يتمازحون بالطلاق.
6
وجم الشاعر حين وقعت هذه الكلمة في نفسه، كما وجم الفتى حين جرى بهذه الكلمة لسانه، وأغرق الرجلان في صمت عميق كئيب طويل.
قال الشاعر بعد حين : فقد كانت لهذا كله أسباب خطيرة حقا.
قال نعيم: إلى أقصى غايات الخطورة؟ سرت بعض سيرته حين كان في سني، وما ينبغي أن أقول: سرت بعض سيرته في سنه التي بلغها الآن؛ فقد يجب أن يكون الأبناء حراصا على الأدب وحسن الذوق ورعاية اللياقة حين يتحدثون عن الآباء، ولكني على كل حال قد سرت بعض سيرته حين كان في سني، وأخطأني التوفيق فلم يتح لي أن أخفي عليه كل شيء، وما كاد يظهر على بعض ما فعلت حتى ثارت ثائرته، فأنكر وسخط، وأغرق في الإنكار والسخط، ثم ارتقى إلى الوعيد والنذير، وأسرف على نفسه وعلى أهله في ذلك، فقيل له حين تجاوز طوره: فإن هذا الفتى لم يفعل إلا ما تعود أترابه أن يفعلوا، وما كنت تفعل أنت حين كنت بين العشرين والثلاثين! هنالك لم يضبط نفسه ولم يملك أمره، فأرسل كلمته المنكرة، ثم اندفع إلى شيء يشبه أن يكون جنونا فأقسم جهد أيمانه لا رآني الليل في قصره هذا ولا على ربوته هذه؛ فأنا مسافر إذا كان الأصيل، وسيلحق بي غيري بعد يومين أو بعد أيام؛ فقد ينبغي أن أهيئ الدار لاستقبالهم في مستقرنا الجديد.
وهم الشاعر أن يتكلم، ولكن نعيما مضى في حديثه فقال: إنك رفيق والدي منذ صباه وشريكه في هزله وجده، فهل تعلم أنه لقي من أبيه مثل ما ألقى منه؟ وهل تعلم أنه لم يقبل على بعض لذاته كما أقبل أنا على لذاتي؟ وهل تعلم أنه وفق دائما لأن يخفي عبثه كله على أبيه؟ أم هل تعلم أنه - كغيره من الناس - لها في أثناء شبابه وجد، وأسرف على نفسه وعلى أسرته في اللهو أحيانا، فأنكروا عليه في رفق، ونصحوا له في حب، ووجهوه إلى الخير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأكاد أقطع بأنهم لم يبلغوا مما أرادوا شيئا.
قال الشاعر في شيء من العنف: حسبك! فما ينبغي أن تقضي على أبيك.
قال نعيم: فهذه هي الجملة التي نسمعها دائما! فما ينبغي أن نقضي على آبائنا ، وما ينبغي أن نخالف من أمرهم، وما ينبغي أن نسوءهم بقول أو فعل! هذه خصال فرضتها علينا التربية وفرضتها علينا الأخلاق وفرضها علينا الدين، ولكن أواثق أنت بأن الحياة لم تفرض على الآباء شيئا بالقياس إلى أبنائهم يلائم هذه الخصال التي فرضت على الأبناء بالقياس إليهم؟
قال الشاعر: فدعنا من الفلسفة واستقصاء البحث عن أحكام التربية والأخلاق والدين، وحدثني عن هفوتك هذه التي هفوتها فجرت علينا كل هذا البلاء العظيم، أحق إذن ما يقال من أنه قد كانت لك في القرية خطوب؟ فما عسى أن تكون هذه الخطوب؟
قال نعيم: وما عسى أن تكون الخطوب التي تحدث لفتى فارغ مترف قد أقبل ينفق أشهرا بين أهله، فهو يغدو ويروح لا هم له إلا نفسه وإلا لذاته القريبة والبعيدة، وكل شيء من حوله يغريه باللهو ويدفعه إليه! وما أكثر ما يعبث الفتيان فلا تقف حركة الفلك ولا تغير الشمس مجراها في السماء! إنما هي فتاة من أهل القرية راقني منظرها وفتنني سحر لحظها، فصبت إليها نفسي، وانتهى الأمر بنا إلى غايته من الإثم. لم أتحرج أنا، ومتى تحرج السيد من اللهو بإحدى إمائه ولم تتحفظ هي؟! ومتى تحفظت الأمة فلم تستجب لأحد سادتها؟!
قال الشاعر مروعا: حسبك، حسبك! لست سيدا وليست أمة، وإنما امتزت عليها بثروتك ومكانك الاجتماعي، فأسرفت على نفسك وأسرفت عليها؛ غررتها فاغترت لك، وما كان لك أن تخدعها، وما كان لها أن تنخدع، قال نعيم: ولكني خدعتها فانخدعت.
قال الشاعر: فأنت تجني الآن ثمرة هذا الظلم.
قال نعيم: فإني أود لو أعلم أنكم لا تظلمون أهل القرية، ولا تعنفون بهم، ولا تشتطون عليهم، ولا تظلمونهم ألوانا أخرى من الظلم ليست أقل من هذا الإثم الذي اقترفته خطرا، ولا أهون منه شأنا، ولا أضعف منه تأثيرا في حياتهم كلها.
إنكم تستذلونهم وتستغلونهم، وتضطرونهم إلى البؤس وتفرضون عليهم الحرمان، تكلفونهم ما تكلفونهم من ضروب الجهد والعناء، حتى إذا آتى جهدهم ثمره وانتهى عناؤهم إلى نتيجته، أخذتم خير ما تثمر الأرض على أيديهم فآثرتم به أنفسكم من دونهم واستمتعتم بنعيمه، وهم ينظرون إليكم من قريتهم تلك التي توشك أن تكون قطعة من الجحيم، وأنتم لا ترون بهذا بأسا، ولا تجدون في أنفسكم منه حرجا، ولو استطعتم أن تزدادوا ظلما لهم وإثقالا عليهم لما تورعتم عن ذلك ولا زهدتم فيه، ولكنكم تعصرونهم حتى لا تتركوا فيهم معتصرا، ثم لا تجدون في أنفسكم إلا الرضا، ولا تحسون في قلوبكم إلا الطمأنينة. تقبلون على هذا مصبحين، وتقبلون على هذا ممسين، وتنعمون بثمرة هذا بين الصباح والمساء، وتنامون هادئين غير حافلين بهذا بين المساء والصباح.
وددت لو أعلم أن أهل القرية يجدون من اللذة في استثمار الأرض لكم ورفع ثمرات الأرض إليكم، واضطرارهم إلى الحرمان والبؤس، مثل ما وجدت هذه الفتاة من النعيم والرضا حين خدعتها فانخدعت، وحين أغريتها فاستجابت للإغراء.
إني يا سيدي لا أجحد أني تجاوزت حدود الخلق والدين، واقترفت إثما من الحق علي أن أمحو آثاره، ولكني في سبيل هذا كله لم أظلم ضحيتي وحدها، وإنما ظلمت معها نفسي، واعترفت بهذا الظلم فأصلحت منه ما استطعت إصلاحه؛ قدمت إلى هذه الفتاة كثيرا من الطرف وفنونا من الهدايا، رفعتها إلى نفسي أو نزلت إليها، عشنا حينا من الدهر عيشة سواء، لم أكن سيدا ولم تكن أمة، وإنما كنت عاشقا خليلا وكانت عاشقة خليلة، وأنت شاعر يا سيدي تعرف أن الحب يغير الأوضاع بين المحبين، فيجعل السيد عبدا والعبد سيدا.
حدثني عما تقدمون من الخير والبر إلى أهل هذه القرية حين تسخرونهم من غير رفق ولا لين، وفي غير محبة ولا مودة، وفي غير إنصاف ولا عدل لمنافعكم، وحين تستأثرون من دونهم بثمرة ما يبذلون من جهد، وما يحتملون من عناء.
إن أرض القرية لخصبة تنبت الغنى، ولكنها تنبت الغنى لكم، ولا تنبت لأهلها إلا فقرا وبؤسا وحرمانا، وإنكم لتعلمون ذلك وتقبلون عليه عن تعمد له ورغبة فيه، لا تتحرجون ولا يخطر لكم أن تتحرجوا؛ فإن لامكم في ذلك لائم أو عابكم عليه عائب دعوتم بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونظرتم إلى أنفسكم كأنكم الضحايا، وإلى لائميكم والعائبين عليكم كأنهم الأعداء المغيرون، فما لكم لا تحلون الحلال كله ولا تحرمون الحرام كله، وإنما تتبعون فيما تحلون وما تحرمون أهواءكم ومنافعكم لا ما أحل الله ولا ما حرم؟!
ثم حدثني أواثق أنت بأنكم لا تستحلون لأنفسكم حين تسنح لكم الفرص ما تحرمون على غيركم؟ أواثق أنت بأن أبي إنما يسخط علي عيرة على الحق وغضبا للحرمات ورعاية للخلق والدين؟ أما أنا فما أرى أنه يسخط علي إلا ضنا بي أن أنزل إلى مكانة دون مكانتي، وخوفا علي أن أتجاوز بهذا الحب طور المجون واللهو وأرتفع به إلى طور آخر يخشاه كل الخشية ويأباه أشد الإباء، ولو قد حدثته بأني أريد أن أتخذ هذه الفتاة لي زوجا لجن جنونه وضل ضلاله، وثق بأنه لم يبلغ من الغضب ما بلغ إلا أنه أشفق أن أتحدث إليه هذا الحديث، وآية ذلك أنه لم يلمني ولن يلومني حين رآني وحين يراني أداعب وألاعب فتيات من أسر ممتازة كأسرتنا الممتازة. إنه يراني لذلك كفؤا، ويرى هذه الأسر موضعا لصهره؛ فليس عليه بأس أن رآني أقع في شرك هذه الفتاة أو تلك، ولعله يسعى ويدبر الأمر لأقع في شرك هذه الفتاة أو تلك. أسرة ممتازة تصهر إلى أسرة ممتازة، ومال يجمع إلى مال، وفتى كريم يقترن بفتاة كريمة، كل هذه أمور ترضون عنها وتسعون إليها، تنعمون إن انتهت إلى الخير، ولا تبتئسون إن انتهت إلى الشر، من حق الشباب أن يمضي في طريقه التي قسمت له، ولكنكم تمايزون بين الطرق التي قسمت للشباب، فللأغنياء منهم طريق، وللفقراء منهم طريق، وللبائسين منهم طرق لا تحصى.
ثم أطرق الفتى إطراقة طويلة لم يكد الشاعر يتنبه إليها؛ لأنه كان مغرقا في الذهول منذ اندفع الفتى في حديثه هذا الجريء العنيف الطويل، ورفع الفتى رأسه بعد حين باسما للشاعر وهو يقول: عد إلى نفسك أو أعد نفسك إليك؛ فليس في الأمر ما يدعو إلى هذا الوجوم ، إن الأمر أيسر جدا مما تظن، إني خدعت خديجة ابنة الإسكاف فانخدعت، ودعوتها فاستجابت، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لما سخط أبي ولا ثار، ولكان من اليسير أن نرضي الفتاة ببعض الهدايا، وأن نرضي أباها ببعض البر أو ببعض الابتسام، وكان من اليسير أن أسافر فأطيل الغيبة فأنسى أنا وتنسى هي، ويلتمس لها الزوج من طبقتها هنا أو هناك، ويلقي الستار على مأساة تحدث الآلاف من أمثالها في كل عام، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما وقعت الفتاة من نفسي موقعا خاصا، واستقر حبها في قلبي استقرارا مكينا؛ فلست أرى من الاقتران بها بدا. ولم أتحدث بذلك إلى أبي، ولكنه أحس ميلي إليه وتفكيري فيه ... نهاني عن هذه الفتاة فلم أنته، وأغراني بغيرها من بنات طبقتنا فلم يكن لإغرائه في نفسي صدى، ثم أنذر فلم يغن النذير، وحذر فلم ينفع التحذير، فقال كلمته التي قالها، وفعل فعلته التي فعلها حين أخرجه الغضب عن طور العقلاء.
وقد قلت لك آنفا إني كنت أبحث عنك لأودعك قبل الرحيل وهذا حق، ولكن هناك حقا آخر لم أقله لك، وقد كنت أبحث عنك لأقوله لك أيضا، وبعد، فإني سأسافر إذا دنا الأصيل، وسيتبعني قوم آخرون، ولكن هناك قوما آخرين قد سبقوني إلى السفر، وسألقاهم في العاصمة، ولن يمضي الأمر بيني وبينهم كما مضى إلى الآن، ولكني سأتخذ خديجة لي زوجا، فإن استطعت وإن أردت أن تلقي هذا النبأ الخطير إلى أبي في رفق، فافعل، وإن عجزت أو أبيت فسيأتيه النبأ من طريق لا رفق فيه ولا لين.
وهم الشاعر أن يقف الفتى وأن يجادله في بعض هذا الأمر، وأن يرده إلى شيء من الرشد، ولكن الفتى اندفع في حديثه لا يلوي على شيء قائلا: لا تتكلف مشقة ولا جهدا في إقناعي بغير ما صممت عليه، فإنك لن تبلغ من ذلك شيئا، وإذا لم يكن بد من أن تبذل الجهد وتحتمل المشقة فافعل ذلك في العناية بهذا الشيخ الذي سيعيش وحيدا في قصره هذا الفخم الضخم بعد أن ينصرف عنه أهله، وفي إعداده، مترفقا به، لتلقي هذا النبأ الذي سينتهي إليه بعد أيام ما أظنها ستطول.
وهنا صمت الفتى لحظة، ثم لم يلبث أن اندفع في ضحك متصل، ولكنه ضحك لا يخلو من حزن، ثم قال: وأكبر الظن أنك لن تحتمل كثيرا من العناء في تعزية الشيخ عن هذه الخطوب؛ فإنه شيخ قد احتفظ بفضل من شباب، وما أشك في أن الملل قد وجد إلى نفسه سبيلا، وما أشك في أنه يدير في رأسه أمرا ذا بال، وما أشك في أن هذه الكلمة البغيضة التي انطلق بها لسانه حين تقدم الليل قد مدت له أسبابا وفتحت له أبوابا!
ثم وثب الفتى كأنما دفع إلى الوثوب دفعا، وانحنى على الشاعر فألقى على رأسه قبلة سريعة خاطفة، ومضى أمامه لا يلتفت ولا يلوي على شيء.
وظل الشاعر واجما لحظات، قد أخذه شيء يشبه الدوار لكثرة ما سمع ولثقل ما سمع، ثم ثابت نفسه إليه شيئا فشيئا، وأراد أن يلقي نظرة إلى النهر، ولكنه رأى نفسه ينهض متثاقلا، ثم يرقى إلى القصر متباطئا وقد أنسي عادته الحبيبة إليه، فلم ينحن على العصا ولم يمش على ثلاث.
7
القراء بالطبع ينتظرون أن أرقى وأن يرقوا معي في صحبة الشاعر إلى القصر لنرى صاحبه العظيم في مكتبه ذاك الذي اتخذه لنفسه سجنا منذ آخر الليل، ولكني لن أفعل ولن يفعلوا، فهم لا يستطيعون أن يدخلوا القصر، ولا أن ينظروا إلى أبهائه الفخمة وأثاثه المترف الجميل، إلا إذا أتحت أنا لهم ذلك؛ فالربوة كلها بما عليها ومن عليها، والقصر كله بما فيه ومن فيه، سر من أسراري أبيح منهما للقراء ما أشاء، وأخفي منهما على القراء ما أشاء، ليس لهم أن ينازعوا في ذلك أو ينكروا منه شيئا، وقد أزمعت ألا أرقى معهم إلى القصر، ولا أبقى معهم على الربوة استجابة لأصل من أصول الفن كما أراه أنا لا كما يراه النقاد، فلو قد رقيت معهم إلى القصر أو بقيت معهم على الربوة لاتصل الحديث اتصالا يوشك أن يكون مملا؛ لأنه يضطرب بهم وبي في هذه الحديقة الفيحاء، وهذا القصر الفخم، بين ألوان من الترف وفنون من الحياة الناعمة، قد يكون وصفها رائعا، وقد يكون العيش فيها، ولو في أثناء الأحلام وفي ظل الخيال، محببا إلى النفوس، ولكنه يمل إذا اتصل ويسأم إذا طال، وليست الحياة ترفا كلها ولا زينة كلها، وليس العيش الواقعي أو الخيالي يكسب قيمته من البهجة التي يسبغها الجمال على هذا المنظر أو ذاك من مناظر الطبيعة، وعلى هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الناس؛ فلهذا كله قيمته، ولكن للقبح قيمته أيضا، وهي ليست أقل من قيمة الجمال شأنا ولا أهون منها خطرا، ولعلها أن تكون أدعى إلى المنفعة، وأبلغ أثرا في إصلاح النفس، وتقويم الخلق، وتصويب الحكم على الأشياء، ولست أدري! هل تعمق ابن المعتز معناه ذاك الذي أوجزه في البيتين المشهورين:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
ولكن الشيء المحقق أن القبح خليق أن يعشق وأن تصبو إليه النفوس، وتقف عنده العقول، ويستقصي دقائقه الكتاب والمفكرون، وما أظن أحدا يجادل في أن نصيب القبح من حياة الناس أعظم من نصيب الجمال، كما أن نصيب البؤس من حياتهم أعظم من نصيب النعيم؛ فالكتاب الذين يعنون بالجمال والنعيم وحدهما، ويعرضون عن القبح والبؤس، إنما يعنون بأيسر الحياة، ويعرضون عن أكثرها؛ فهم يعلمون ويعلمون الناس ظاهرا من الأمر، وهم يجهلون ويجهلون الناس بحقائق الأمور وبواطنها.
وأنا بعد هذا كله لا أريد أن أصرف نفسي وأن أصرف القراء عن جمال الربوة والقصر لأني كلف بالقبح مشغوف بالبؤس، وأريد أن أشرك القراء فيما أجد من كلف وشغف، وإنما هي طبيعة الأشياء ومنطق الفن وضرورة الحياة، كل أولئك يقتضيني أن أدع الربوة وقصرها حينا، وأن أصحب القراء إلى مكان ليس له حظ من جمال، وليس لأهله نصيب من نعيم.
فقد رأينا فيما مضى من هذا الحديث أن هذه الربوة الرائعة لا تقوم وحدها على شاطئ النهر، وإنما تقوم في أسفلها قرية بائسة وضيعة يعيش فيها قوم بائسون متضعون. فهذه القرية لم تنشأ عبثا، ولم تقم في أسفل الربوة بغير غاية، وإنما هي مكملة للربوة، وإن شئت فقل: إن الربوة مكملة لها؛ فقد اختلط الأمر علي حقا، فلست أدري أيهما يتم صاحبه، أيهما الأصل وأيهما الفرع؛ فهذه القرية هي التي تستغل الأرض وتستثمرها، وتستخرج منها هذه الثروة الضخمة التي تتيح لأهل الربوة أن ينعموا وأن يترفوا، وأن يستمتعوا بهذه الحياة الحلوة الفارغة، وتتيح للربوة نفسها أن تزدان بجمالها هذا الرائع الخلاب، فلولا أهل القرية البائسون ما ارتفعت الأشجار في السماء، ولا انبسطت الأزهار فويق الأرض، ولا انتشر العشب على هذه الأرض كأنه البسط من السندس والحرير - كما يقال - ولا أتيحت لأهل الربوة هذه الصغائر التوافه اليومية التي لا تستقيم بدونها حياة للمترفين وغير المترفين. فالقرية إذن هي الأصل، وليست الربوة إلا ثمرة من ثمراتها وأثرا من آثارها، ولكن واقع الأمر الاجتماعي غير هذا كله، فقد استقر في نفوس أهل الربوة، أنهم السادة المالكون، وأن أهل القرية هم العبيد المملكون، كما استقر ذلك في رءوس أهل القرية أنفسهم، وكما استقر ذلك في القوانين المكتوبة والنظم الشائعة؛ فأنا إذن معذور إذا اختلط الأمر علي فلم أدر أتكون الربوة أصلا والقرية فرعا كما يريد النظام وتريد القوانين، أم تكون القرية هي الأصل والربوة هي الفرع كما تريد الحقائق الثابتة التي لا يبلغها جدال أو نزاع، وإذا كان غنى زيد يكون لفقر عمرو، كما يقول أبو العلاء، فقد لا نخطئ إذا عكسنا القضية وقلنا: إن فقر عمرو يكون لغنى زيد.
وسواء أكانت القرية أصلا أم فرعا، فإنها قد وجدت في أسفل الربوة، ولم توجد عبثا، فلا بد من أن نهبط إليها وإن كرهنا ذلك، ولا بد من أن نقيم فيها وإن شق علينا هذا المقام، وأنا أريح القراء من مشقة هذا الهبوط، فلا أسلك بهم تلك الطريق العريضة الطويلة التي تزدحم فيها السيارات مصعدة ومصوبة، ولا أسلك بهم هذه الطريقة الضيقة التي يزدحم فيها الفلاحون على أقدامهم وعلى دوابهم مصعدين ومصوبين، وإنما أبلغ بهم القرية من غير طريق؛ لأني أريد ذلك وأستطيعه ما دام الأمر إلي، لا إلى أهل الربوة، ولا إلى أهل القرية، لا وإلى القراء؛ فالكتاب قديرون على شيء كثير إذا لم يفرضوا على أنفسهم ما يحب النقاد أن يفرضوا عليهم من القواعد والأصول.
نحن إذن في القرية في زقاق ضيق جدا لا يكاد يتسع لسعي اثنين أو ثلاثة إلا أن يتقدم بعضهم بعضا شيئا ما، لتجد أقدامهم موضعها من الطريق، والزقاق قذر أبشع القذارة وأشنعها، ترى العين فيه كل ما تكره، ويشم الأنف فيه كل ما يكره، قد عاش أهله عيشة البؤس والضر والإهمال، لم يعنوا بصحتهم لأن أحدا لم يعلمهم أن الصحة شيء يعنى به الناس، ولم يعنوا بنظافتهم لأن أحدا لم ينبئهم بأن النظافة شيء يستحب، ولأنهم لو أحبوا النظافة والتمسوها لما وجدوا إليها سبيلا، قد قصرت أيديهم عن وسائلها وأدواتها قصورا تاما؛ فهم يعيشون كما يستطيعون، قد اختلط رجالهم ونساؤهم وأطفالهم وحيوانهم ودواجنهم اختلاطا بشعا بغيضا، وقد رأيت ما ينشأ عن هذا الاختلاط من الشر والنكر والفساد.
وفي أعماق هذا الزقاق دار منخفضة ليست عظيمة السعة، ولكنها على كل حال أوسع مما يجاورها من الدور، قد انخفض بابها فلا يستطيع الإنسان أن يدخلها معتدل القامة إلا أن يكون قزما أو طفلا، فأما إذا تجاوز القصر إلى شيء من الطول فلا بد له من أن ينحني ليلج من هذا الباب، وهو إذا تخطى عتبة الدار وجد نفسه في فناء له شيء من عمق قد ارتبط فيه حمار، وانطلقت فيه دجاجات، وارتفعت في بعض جوانبه مصطبة صغيرة ضيقة، جلس عليها رجل قد تقدمت به السن وأدركه الضعف، وكاد سمعه يثقل، فهو لا يفقه ما يلقى إليه من حديث إلا أن يرتفع الصوت، وكاد بصره يذهب فهو لا يرى إلا أقرب الأشياء إليه، ولا يراه إلا في قليل من الوضوح، وبين يدي هذا الرجل نعال قديمة قد تخرقت وأدركها البلى، وقطع من الجلد الرقيق والغليظ وأدوات يعمل بها في هذا الجلد وفي تلك النعال، وهو مطرق إلى جلده ونعاله وأدواته، تعمل يداه أحيانا في ترقيع نعل أو إصلاحه وتكفان عن العمل أحيانا، ولكنهما لا تسكنان حين تكفان عن العمل، وإنما تعبثان بما أمام الرجل من جلد ونعال وأدوات.
وقد يأخذ الرجل قطعة من الجلد بكلتا يديه يشدها إلى يمين ويشدها إلى يسار، وقد يضع طرفا من أطرافها في فمه كأنه يريد أن يقضمها، وهو لا يريد قضما ولا التهاما، وإنما يريد أن يمتحن متانة الجلد، فهو يمسك طرفا منه بما بقي من أسنانه، ويمسك طرفيه الآخرين بيديه، وهو يشد إلى هذه الجهة وإلى تلك ليستيقن أن هذا الجلد متين صالح لترقيع هذه النعل أو تلك، والرجل في أكثر أحواله صامت كالمتكلم ومتكلم كالصامت، لا يوجه إلى أحد حديثا، ولا يكاد يجيب إن وجه أحد إليه الحديث، ولكنه على ذلك متحرك الشفتين دائما متقلب اللسان في الفم دائما، يغمغم بألفاظ لا يسمعها إلا هو والذين يدنون منه أشد الدنو. وهذه الألفاظ غامضة مختلطة؛ فهو أحيانا يتحدث إلى جلده ونعاله يصف رثاثتها ومتانتها وحاجتها إلى الرتق والإصلاح، وأحيانا يتحدث إلى أدواته يصف مضيها وكلالها وعجزها وقوتها، وأحيانا يتحدث إلى نفسه فينشد محفوظات له من هذا الشعر العامي الذي تجري به الألسنة وتسير فيه الحكم والأمثال.
وعن يمينك وشمالك إذا تجاوزت عتبة الدار حجرتان ليس باباهما أقل انخفاضا من باب الدار، ولعلهما أن يكونا أدنى منه إلى الأرض، فإذا دخلت إحدى هاتين الغرفتين لم تجد فيها إلا حصيرا قد ألقي على الأرض، وصندوقا حقيرا قد وضع في زاوية من زواياها، وجماعة من هذا الخبز العريض الرقيق المستدير قد رص بعضها إلى بعض وارتفعت في زاوية من زوايا الحجرة كأنها العمود، تأخذ منها الأسرة حين تريد أن تطعم، وما تزال تأخذ منها والعمود ينخفض ويتضاءل، حتى إذا دنا من الأرض عملت محبوبة صاحبة الدار على تجديده ورفعه - فكان إعداد الذرة وإشعال الفرن إلى جانب المصطبة التي يعمل عليها الشيخ، وانطلاق الدخان، ويضطر الشيخ في ذلك اليوم إلى أن يأخذ جلده ونعاله وأدواته ويجلس بها على الأرض أمام الدار - فإذا دخلت الحجرة الأخرى لم تر فيها إلا حصيرا قد ألقي على الأرض، وأغطية رثة قد نثرت هنا وهناك، فأما إحدى الحجرتين فقد كان يأوي إليها الشيخ الإسكاف، ولنسمه محمودا وامرأته محبوبة، وأما الحجرة الأخرى فقد كان يأوي إليها أبناء الدار وهم ثلاثة: أكبرهم أحمد قد نيف على العشرين وكاد يبلغ الثلاثين، وهو فتى طوال مظلم الوجه قوي الجسم قليل الكلام حائر الطرف لا تكاد عينه تستقر على شيء، ولا تراه الدار إلا حين تغرب الشمس ويتقدم الليل لأنه يعمل في الحقول، وأصغرهم علي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد، وهو صبي قد أهمل أشد الإهمال، يلعب إن أتيح له اللعب، ويعمل إن أتيح له العمل، ويسرق إن أتيحت له السرقة.
وبين هذين الابنين من أبناء الدار خديجة هذه التي كادت تبلغ العشرين والتي لم يدر من أين جاءت، ولا لأي أبويها يمكن أن يضاف جمال وجهها الرائع واعتدال قامتها الجميلة، وهذا الخفر الحلو الذي يصدر في دعة وهدوء وأمن عن عينيها الجميلتين، وهذا الحياء العذب الذي يعرب عنه وجهها الهادئ المطمئن، وثغرها الذي يريد أن يبتسم ولكنه يمتنع على الابتسام، وصوتها الممتلئ الرخيم الذي لا يكاد يتكلم إلا همسا، وحركاتها الرشيقة المتزنة المعتدلة التي تدل على حياة قوية دافقة وعلى حياء شديد يمسك هذه القوة أن تندفع إلى أكثر مما ينبغي.
وهذه الفتاة الناعمة الغضة التي لا تلائم هذه الدار البائسة الخشنة، تعيش بين أبويها وأخويها عيشة صامتة أو كالصامتة، ساكنة أو كالساكنة، مقبلة في أكثر الوقت على مغزلها تديره في أناة ورفق ودعة، فإذا كان موسم الحصاد خرجت مع أترابها من بنات القرية إلى الحقول فصيفت - كما يقول أهل الريف المصري - مع المصيفات وعادت مع الأصيل إلى أهلها بما التقطت من الحب المنتثر في الحقول، وإذا كان موسم القطن خرجت مع أترابها من بنات القرية، فشاركت في جني القطن، وعادت إلى أهلها مع الأصيل بما يتاح لها من أجر ضئيل، وقد رآها نعيم فيما يظهر مصيفة مع المصيفات أو جانية للقطن مع الجانيات، فراقه منظرها الرائع في ثيابها الرثة، فلما أطال النظر إليها اشتد إعجابه بها ثم ميله إليها، فعاود المرور بالجماعة التي كانت تعمل معها، ثم حاول الوقوف إلى هذه الجماعة، ثم حاول الحديث اليسير إلى هؤلاء العذارى، وكان من شأن هذا كله أن يزيد إعجابه بهذه الفتاة وميله إليها وطمعه فيها، وكان لحظ الفتاة وصوتها هما اللذان وقعا من نفس نعيم أغرب الوقع وأعمقه وأعظمه في نفسه أثرا، كتب في دفتر يومياته يقول: «أوشك أن أظن بنفسي الجنون؛ فإني لا أنطلق في الحقول ولا أتنزه في الحديقة ولا أخلو إلى نفسي في غرفتي إلا رأيت عينا ساحرة فاترة تنظر إلي في أناة وخفر، فتنفذ إلى أعماق نفسي وتلذع قلبي لذعا أليما، وأنا لا أكاد أخلو إلى نفسي في غرفتي أو خارج غرفتي، في القصر أو بعيدا عن القصر إلا سمعت صوت هذه الفتاة يبلغ أذني حلوا رقيقا رفيقا، ثم يصل إلى نفسي فيحدث فيها نشوة لا أشبهها بالطرب الذي تحدثه الموسيقى، وإنما أشبهها بالنشوة التي تحدثها الخمر، لقد استأثرت هذه الفتاة بنفسي، وما أرى أن الأمر سينتهي بينها وبيني كما تعودت الأمور أن تنتهي بيني وبين أترابها من حسان الريف.»
8
القراء يعفونني دون شك من أن أصور لهم ما كان بين نعيم وخديجة من قرب وبعد، ومن دنو ونأي، ومن هذه المحاولات الكثيرة المعقدة التي ينسج الحب خيوطها بين المحبين في أناة ومهل، ثم في اندفاع وعجل، ثم يأخذهم فيها كما تؤخذ الطير فيما ينصب لها من الشراك.
القراء يعفونني من تصوير هذا كله؛ فهم يعرفونه حق المعرفة، يقرءونه في القصص وفي شعر الشعراء، ويجده كثير منهم في أنفسهم ويسمعونه فيما يدار عليهم من الحديث، وهم بعد هذا يستطيعون أن يصوروا نشأة هذا الحب بين خديجة ونعيم كما يشاءون، لا جناح عليهم فيما يبتكرون من صور وما يخترعون من أحداث، فكل هذا لا يعنيني ولا يعني القصة في كثير أو قليل، وإنما الذي يعنيني ويعني القصة ويعني القراء هو أن هذين الفتيين قد وقعا في شرك من أشراك الحب، فاضطربا فيه قليلا أو كثيرا يحاولان أن يخلصا منه وأن يعودا إلى الأمن والحرية وفراغ البال، ولكن إفلات العاشقين من أشراك الحب ليس أقل عسرا من إفلات الطير من أشراكها حين تقع فيها، فقد كان إذن ما لم يكن بد من حدوثه، ونظر الفتى المترف الغني القوي الموفور فإذا هو أسير لخديجة بنت محمود الإسكاف.
ونظرت الفتاة البائسة اليائسة المطمئنة إلى بؤسها ويأسها، فإذا هي مولهة بحب هذا الفتى، الفتى المترف الغني القوي الموفور، وكان الفتى يخلو إلى نفسه فيلقي نظرة من أعلى ترفه وشرفه وغناه إلى بؤس خديجة ويأسها وإعدامها، فيأخذه شيء يشبه الدوار، كيف هبط من أعلى عليين إلى أسفل سافلين؟! وكانت الفتاة ترفع بصرها من أعماق يأسها وبؤسها وإعدامها في دارها تلك الحقيرة الفقيرة، إلى هذا القصر الشاهق على هذه الربوة الشامخة، فيأخذها شيء يشبه الدوار حين تفكر في أن الحب قد وثب بها إلى ذلك الفتى المترف الغني القوي الموفور، ولكن الناس جميعا يعلمون أن الحب لا يحتقر شيئا كما يحتقر الرفعة والضعة، ولا يسخر من شيء كما يسخر من تفاوت المراتب والطبقات، وهو قد هبط بالفتى إلى الفتاة أو صعد بالفتاة إلى الفتى! لا أدري ولكنه جعل كلا منهما لصاحبه سيدا وعبدا، وقد انتهى أمر هذا الحب إلى أبوي نعيم، فابتسما له أول الأمر، لم يريا فيه إلا لونا من عبث الشباب وسخرا منه بعد ذلك، لم يريا فيه إلا شيئا من الجموح في العبث، وضاقا به بعد ذلك، رأيا فيه غلوا من الفتى في هذا الجموح وصارفا له عما يليق بمثله من الطموح إلى العظيم من الأمر، وأخذا ينصحان للفتى في رفق، ثم في عنف، ثم في إلحاح، ولكن أبا الفتى غلا في إلحاحه وسخطه حتى انتهى الأمر إلى ما علمت، وانتهى أمر هذا الحب إلى أم خديجة، فابتسمت له ابتساما مرا، وفرحت به فرحا حزينا، وهمت أن تكف ابنتها، ولكن نصحها لم يغن شيئا، وهمت أن تكتم الأمر على الشيخ الإسكاف ولكن لسان النساء لا يحب أن يستقر في أفواههن، وهم الشيخان أن يكفا الفتاة، فلما لم يبلغ شيئا تواصيا بكتمان الأمر على ابنهما الفتي لأنه كان عنيفا مخوفا، والأمر ينتهي إلى غايته، وهذا نعيم قد فتن بخديجة إلى أبعد حدود الفتنة؛ فهو يعدها ويمنيها، وهو يرغبها ويغريها، وهو يختطفها آخر الأمر إن صح أن يكون سفرها إلى العاصمة اختطافا؛ فهي لم تكد تدعى إلى السفر حتى استجابت للدعاء مسرعة واستعدت له متهالكة.
وارتفع الضحى ذات يوم فلم تر الأسرة خديجة، وتقدم النهار فلم تعرف من أنبائها شيئا، وأقبل الأصيل فلم تعد معه إلى الدار، وتقدم الليل فلم تعد، وإنما عاد أخوها أحمد ثائرا يكظم ثورته، وفائرا يكتم فورته. أقبل متجهما فلم يقل كلمة لأحد، ولم يلق نظرة على أحد، وإنما ألقى أدوات عمله في مكانها من الدار، واندفع إلى حجرة أبويه فأخذ من عمود الخبز شيئا التهمه وهو قائم لا يقول شيئا ولا يرد على أحد حديثا، فلما التهم ما كان في يده من الخبز ألقى نظرة على ما حوله ومن حوله، ثم أدار ظهره ومضى صامتا لا يقول شيئا ولا يلوي على شيء. قالت محبوبة لزوجها الحذاء في صوت مرتعد حزين: ما باله؟ وما الذي عرض له من الخطب؟ قال الشيخ في صوت هادئ ثابت يشيع فيه الحزن والغضب معا: افتقد أخته فلم يجدها، وترامى إليه بعض ما طوينا عنه من الحديث. قالت محبوبة: وإذن؟ قال الشيخ: وإذن فهو يسعى في أثر أخته، وما أدري! لعله لا يعود.
والناس يتمنون ويسرفون في التمني، والأقدار تعبث بهم وبما يتمنون؛ ذلك أن الناس لا يعرفون إلا أنفسهم وقليلا مما يحيط بهم من الظروف؛ فهم يدبرون ويقدرون في دائرة ضيقة لا تكاد تتجاوزهم إلا قليلا، وآية ذلك أن نعيما كان قد دبر أمره فأحسن تدبيره، وقدر خطته فأحسن تقديرها. لقد أحب الفتاة حبا لم يجرب مثله من قبل على كثرة ما جرب من العبث واللهو والحب أيضا؛ فهو مصمم على أن يحدث حدثا ذا خطر وهو المترف الغني القوي الموفور، سيهبط إلى هذه الفتاة اليائسة البائسة الفقيرة الحقيرة فيتخذها لنفسه زوجا ويقسم بينها وبينه ما أتيح له من ترف وشرف وقوة وثراء، وهو قد قدر غضب أبويه وعرف كيف يستعد للتخلص من أعقاب هذا الغضب، وهو قد قدر ما بينه وبين الفتاة من اختلاف المنزلة وبعد الأمد، وعرف كيف يستعد لإلغاء هذه المسافة البعيدة، أليس قد اختطف الفتاة فباعد بينها وبين قريتها وبيئتها وأهلها ليخلقها في العاصمة خلقا جديدا؟! لقد دبر وقدر وأحسن التدبير والتقدير، واطمأن إلى أنه بالغ بحبه ما أراد له من الأمن والثقة، ومن الدعة والهدوء، ولكنه لم ينس إلا شيئا واحدا، وهو أن لهذه الفتاة أخا في مثل سنه ليس مترفا ولا غنيا ولا قويا ولا موفورا، وهو من أجل ذلك حاقد حانق، قد ملأ السخط قلبه وملك الغيظ نفسه، فرآه الناس إنسانا مثلهم يعدو ويروح ويعمل في الحرث والزرع، ورأته الطبيعة شيطانا مريدا ينتظر أن تتاح له الفرصة ليملأ الأرض من حوله شرا ونكرا، وقد أتيحت له الفرصة؛ فهذه أخته التي كان يحبها وحدها من دون الناس ويؤثرها بقلبه كله ونفسه كلها، قد غوت وهوت، أغواها ذلك الفتى المترف الغني القوي الموفور، وإذن ...
وإذن ففي نفس الوقت الذي انصرف فيه نعيم عن الشاعر فرحا حزينا ومسرورا كئيبا، ونهض الشاعر فيه مسرعا يرقى إلى القصر ليلقى صاحبه في مكتبه ذاك، في نفس هذا الوقت وقبل أن يصل الشاعر إلى صاحب القصر يستفيض في القرية الحقيرة الفقيرة البائسة نبأ يملؤها خوفا وروعا؛ فقد لحق أحمد بأخته في العاصمة وقتلها وأسلم نفسه للشرطي، معترفا بأنه اقترف هذا الإثم دفاعا عن عرضه المكلوم.
فلندع القرية تتسامع بهذا النبأ وتتبادل الحديث في تفسيره وتأويله، ولندع الأبوين وقد أخذتهما الصاعقة حين أتاهما هذا النبأ، ولنعد مسرعين فنصعد إلى الربوة من أقصر الطرق المؤدية إليها، فسنرى الشاعر قد ارتقى سلم القصر، ولم يكد يبلغ البهو الأول من أبهائه حتى رأى نفسه في مرآة هناك، ورأى أنه معتدل القامة يمشي على اثنتين، فما أسرع ما ينحني على العصا، وما أسرع ما يدور في رأسه هذا البيت كأنه يسمعه من صاحب القصر:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
9
أنت بالطبع عجل، تريد أن ترى صاحب القصر وأنا مثلك عجل أريد أن أراه؛ لأن الأمد بينه وبيني قد بعد وأسرف في البعد، والشاعر نفسه يريد أن يلقاه منذ سمع من نعيم ما سمع، وعرف من أمر الأسرة ما عرف، وروعه من هذا الطلاق ما روعه. وهو من أجل ذلك حريص على أن يسرع الخطو، لولا أن إسراع الخطو لا يليق بالشيوخ، الذين أفناهم مر الغداة وكر العشي، وعطفتهم الأيام على العصا وعلمتهم المشي على ثلاث، فخطوهم متقارب وسعيهم بطيء. وشاعرنا حريص دائما على أن يكون شيخا متهالكا، قصير الخطو بطيء السعي، وهو على ذلك كله عجل يريد أن يلقى صاحب القصر، فيسمع منه ويقول له، وهو من أجل ذلك لا يمد الخطو لأنه لا يستطيع، أو لا يريد أن يستطيع أن يمد الخطو، وإنما يتعجل على أسلوبه في التعجل، فيسعى إلى أمام، لا يقف كما تعود أن يقف دائما أمام آيات الفن هذه الرائعة التي نسقت في أبهاء القصر تنسيقا ليس أقل منها روعة وجمالا.
والشاعر متعود ألا يمر بهذه الآيات مرا سريعا أو بطيئا، دون أن يقف عندها، ملقيا إليها تحيات الإعجاب والحب، واقفا عند هذا التمثال مطيلا إليه النظر، مهديا إليه الحديث، منتظرا منه الجواب، وواقفا عند هذه الصورة محللا معللا مستوحيا مفتونا، وواقفا عند هذه القطعة أو تلك من قطع الأثاث الفخم القديم، يلتهمها بعينه التهاما، ويداعبها بيده مداعبة رقيقة، يصنع ذلك كلما دخل القصر ليلقى صاحبه في مكتبه أو في حجرة من حجرات الاستقبال، لا يمنعه من ذلك مانع مهما يكن، ولا يصرفه عنه صارف مهما تكن الظروف. وهو من أجل ذلك ينفق وقتا غير قصير منذ يبلغ أرقى سلم القصر إلى أن يصل إلى صاحبه، سواء كان على موعد أم زار على غير ميعاد، وربما ضرب لصاحب القصر موعدا للقاء في الساعة الحادية عشرة، ولكنه يقول ضاحكا: على أني سأكون هنا قبل أن تبدأ الساعة العاشرة، وربما نسي الموعد نسيانا تاما، وانتظره صاحب القصر، فلما طال عليه الانتظار خرج يلتمسه في هذا البهو أو ذاك، فوجده قائما أمام صورة، أو تمثال، أو أثاث، وقد استأثر به إعجاب ينتهي إلى شيء يشبه الذهول.
ذلك أن هذا القصر، ليس كغيره من قصور الأغنياء المترفين، يزدان بفخامته وضخامته، وامتلائه بالأثاث الفاخر الكثير، وقد نسق على وجه يلائم الذوق أو لا يلائمه، ولكنه يدل دائما على ضخامة الثروة، وكثرة المال، وحب الإنفاق، وإنما هو قصر له فخامته وضخامته، ولكنه أشبه بالمتحف منه بالقصر، فليس فيه إلا ما يروق النفس ويلذ العين ويملأ القلب رضا وإعجابا، قد جمعت فيه آيات من الفن، على اختلاف هذا الفن في النوع وفي العصر والطراز؛ ففيه القديم والحديث وما بين ذلك من آيات المثالين والمصورين، ومن آيات العصور البعيدة التي يتحدث عنها التاريخ القديم، وفيه من طرف الأثاث ضروب وألوان، بحيث لا يستطيع ذو الذوق المترف أن يدخله إلا لقي فيه فتنة أي فتنة، وبحيث يستطيع ذو الذوق المترف أن يزوره مصبحا وممسيا في كل يوم من أيام الأسبوع دون أن يقضي عجبه أو إعجابه بما فيه من هذه الروائع والآيات، فإذا مر الشاعر قصير الخطو بطيء السعي بهذه الآيات والروائع، غير واقف عندها ولا مطيل نظره إليها، فذلك الدليل كل الدليل على أنه معجل حقا، على أن الذي يعجله عما أحب وما سيحب دائما، لا يمكن أن يكون إلا أمرا ذا بال.
ومما يدل على أن الشاعر كان معجلا حقا، وعلى أنه كان أشد عجلة منك ومني إلى لقاء صاحب القصر، أنه انتهى إلى البهو الذي ينبسط أمام المكتب، وهم أن يمضي إلى المكتب فيطرق بابه طرقا خفيفا دون أن يقف وقفته تلك الطويلة أو يدور دورته تلك البطيئة حول هذه الكتب التي نسقت أجمل تنسيق وأدقه إلى هذه الجدران العراض المرتفعة، ودون أن يمر يده في كثير من الحب والهيام على صفوف هذه الكتب، كأنما يحييها بيده تحية تشبه عطف الأب حين يمسح رأس ابنه في كثير من الحنان - وربما أخذ منها كتابا، فجمع يديه حول دفتيه، ثم فتحه ونظر فيه قائما فأطال النظر، ثم آثر صحبة الكتاب على لقاء صديقه، فانحاز إلى زاوية من زوايا البهو، وفرغ لكتابه منصرفا إليه عن كل شيء وعن كل إنسان، حتى يأتي صديقه، فيفرق في عنف أو في رفق بينه وبين هذا الكتاب الحبيب - ولكنه في هذه المرة لم ينظر إلى الكتب، كما أنه لم ينظر إلى التماثيل والصور إلا نظرات قصارا خاطفة، ومضى أمامه مستأنيا، يريد باب المكتب ليطرقه ويفتحه ويغلقه من دونه حين يسمع الإذن له بالدخول، غير أنه لم يمكن من الوصول إلى الباب؛ فقد لقيه الخادم مكبرا له حفيا به، ولكنه يؤذنه بأن سيده لن يلقى أحدا الآن؛ لأنه خال في هذه الساعة إلى ضيف قد أقبل منذ حين.
10
لست أدري أرضي الشاعر عن هذا الحجاب أم ضاق به، ولكني أعلم أنه تحول في بطء إلى صف من صفوف هذه الكتب، فحياه بطرفه، ثم مسحه بيده، ثم استخرج منه كتابا، وانزوى في ناحية من نواحي البهو، وجعل ينظر فيه مقبلا عليه غير فارغ له مع ذلك، بل رافعا رأسه ومديرا طرفه في البهو من حين إلى حين، كأنما كان يترقب أن يخلو له وجه صديقه هذا الذي جعل أمره يتعقد منذ اليوم.
ثم جعل يحدث نفسه: إنما أشفق أن تنقطع بيني وبينه الأسباب، وأن أصير إلى مثل الحال التي كنت أضيق بها وكانت تضيق بي حين اتصلت أسبابي بأسبابه ذات مساء منذ تلك الأعوام الطوال!
لقد كنت في تلك الأيام - لا ردها الله - بائسا ممعنا في البؤس، شقيا مغرقا في الشقاء، بارعا في كل شيء إلا فيما يوفر علي حياة هينة وادعة لا أجد فيها الجوع في أكثر أيام الأسبوع، ولا أتعرض فيها لذلك الخزي الذي أذكره الآن، فتدور بي هذه الحجرة وأود لو كنت نسيا منسيا ...
لقد كنت أغدو من غرفتي تلك الحقيرة حين يرتفع الضحى، مقفر النفس فارغ الجيب صفر اليد، لا أجد من المال أيسر ما يتيح لي أن أصيب ما يقيم الأود، وكان همي حين أغدو على تلك الحال أن أتعرض لمن كنت أعرف من الصديق لعلي أجد عند أحدهم من الرقة لي والرفق بي والعطف علي ما يرد عني ألم الجوع ويتيح لي هذين القدحين من القهوة، اللذين كانا يطلقان لساني من عقاله، ويردانني إلى شيء من رضى النفس وراحة القلب، ويفتحان لي أبوابا من الحديث وفنونا من الشعر أسحر بها ذلك الصديق الذي استنقذني من جوع الجسم، وأستنقذه بها من جوع النفس والعقل والقلب ...
وكذلك كنت عالة على الصديق ألتمس الطعام عند هذا والقهوة عند ذاك والكأس التي تنسيني نفسي عند صديق ثالث، لم أكن أملك من أمر نفسي شيئا، وكان رفاقي يملكون من أمري كل شيء، كان يكفي أن يصرفوا عني وجوههم ويغلقوا من دوني قلوبهم لأتردى في هوة من البؤس لا أعرف لها قرارا، وكنت أبيع أولئك الصديق أدبي على اعتدادي به وإكباري له بما يدفع عني غوائل البؤس وعوادي الزمان.
وقد لقيت ذلك الشيخ الشاب ذات مساء في مجلس من مجالسنا تلك التي كنت أخلب فيها الرفاق بما كنت أسوق إليهم من ألوان الحديث، وما كنت أطرفهم به من فنون الشعر، وكنت في تلك الليلة كأرق ما كنت أكون حسا، وأدق ما كنت أكون شعورا، وأصفى ما كنت أكون ذوقا، قد صرفت عني القهوة كل حزن، وذادت عني كل هم، وكان الرفاق من حولي ينتظرون مقدم صديق لم أكن أعرفه، وقد أبوا أن يسبقوه بما كانوا يشتهون من طعام أو شراب، رأوا ذلك من أيسر حقه عليهم، ورأيت أن ليس له علي حق؛ لأني لم أعرفه ولم أقدم إليه، ولأني قبل كل شيء كنت شديد الظمأ إلى قهوتي تلك التي كنت أداعب ذوقها منذ ساعات، فلم نكد نستقر في مجلسنا حتى تعجلتها، فلما أقبلت تلقيتها حفيا بها، ثم احتسيتها رفيقا بها أيضا، وكانت كل جرعة منها تزيل عن قلبي وعقلي جزءا من هذا الغشاء الصفيق الذي أطبق عليهما من الهم والحزن.
ولم أكد أفرغ من قهوتي حتى انجلى لي كل شيء، وأشرقت نفسي وأشرق وجهي وانطلق لساني، وأقبلت على الرفاق أداعبهم، وأقبلوا علي يثيرون في نفسي هذه الدعابة، وإنا لفي ذلك وإذا سيارة تقف، سيارة فخمة تصور الثراء والترف، سيارة من تلك السيارات التي كنت أكره النظر إليها؛ لأنه كان يمثل لي هذه الهوة من البؤس الذي كنت غارقا فيه، وهذه القمة من النعيم الذي لم أكن أفكر في الطموح إليه، وكان النظر إلى مثل هذه السيارة من مظاهر الترف والنعيم يغريني بأبغض الأشياء إلي وأشدها مقتا في نفسي وهو الحسد. ولم يكن لي بد من أن أنظر إلى هذه السيارة التي وقفت منا غير بعيد وفرضت نفسها على أبصارنا فرضا، ثم فتح بابها ونزل منها في هدوء رجل قد جاوز الشباب ولم يبلغ الشيخوخة، له سماء لا تشق على البصر كما يقول الشاعر القديم، وهو يسعى إلينا مستأنيا، ويحيينا مستعليا، والرفاق ينهضون له ويحتفون به ويستبقون إلى حسن لقائه، أيهم يكون أحسن له لقاء وأعظم به احتفاء، وأنا أنهض معهم، فلم يكن من النهوض بد، ولكني لا أبسم ولا أعبس، ولا أظهر بشاشة ولا انقباضا، بل لا أنظر إلى وجه هذا الطارئ الأنيق، وإنما أنظر من حولي كأني أجتنب أن أراه، وهو يصافح الذين هشوا له واحتفوا به، حتى إذا بلغني ألقى إلي من عل تحية فاترة فرددتها عليه بمثلها، ورأى الرفاق أن يقدموني إليه، فزعموا أني الشاعر المعروف، وقد سمع منهم مبتسما لي غير مكترث بي.
ثم انتظمنا المجلس كما كنا، واستبق الرفاق مرة أخرى إلى سؤاله عما يريد من ألوان الشراب، فلم يزد على أن قال: «الويسكي، فقد تعلمون أني لا أذوق غيره إذا كان المساء.»
ودارت كئوس الويسكي على الندي، وأصابتني منها كأس، فلم أكد أحسو منها حسوة أو حسوتين حتى رأيت هذا الطارئ الأنيق قد أفرغ كأسه في جوفه إفراغا ونظر إلى الرفاق وهو يقول في سخرية: ما رأيت كالليلة فتورا عن الشراب.
واستبق الرفاق مرة ثالثة إلى التهام ما في أقداحهم ليبلغوا من صديقهم موقع الرضى، وما هي إلا لحظة حتى صفرت الأقداح إلا قدحا واحدا هو الذي كان أمامي، فنظر إلي هذا الطارئ وسألني بطرف لسانه: ما لك لا تنشط للشراب؟! أمريض أنت؟! فأجبته بلهجته تلك الساخرة: فإني أشرب لنفسي لا لك، فهم أن يغضب ولكنه ملك نفسه وضرب إحدى يديه بالأخرى، فأقبل الخادم، فأشار إليه وإلى الأقداح ولم يقل شيئا، وفهم عنه الخادم ما أراد، فرفعت أقداح وجاءت أقداح أخرى، ولبثت أنا جامدا أنظر إليهم وأنظر إلى قدحي الذي أبيت على الخادم أن يرفعه، وكأني شغلت عما في قدحي بالنظر إلى هؤلاء الذين أقبلوا على ما أمامهم من الطعام يلتهمونه التهاما، وما أمامهم من الشراب يعبونه عبا، وأنا لا أمس من الطعام أمامي شيئا، ولا أمس قدحي إلا رشفا يسيرا، ولكني أرى هذا الطارئ يرمقني بطرف فيه كثير من غضب وكثير من سخرية، ثم يقول لي في ابتسامة غامضة وصوت مصمم: «لتفرغن قدحك أو لأسقينه الأرض.» والرفاق يتضاحكون ولكني أرد عليه بهذه الجملة: «ما أنت وذاك؟!» ثم أرميه بهذين السهمين:
يا رءوفا بنفسه
وعنيفا بغيره
وجوادا بشره
وبخيلا بخيره
فلا يروعني إلا ضحك يملأ الفضاء من حولنا، وإقبال على قدحه يصبه في فمه صبا، والرفاق يصنعون صنيعه، فيرتفع ضحكهم وتفرغ أقداحهم، ويضرب الطارئ يدا بيد، فإذا أقبل الخادم ألقى في يده شيئا من النقد، وقال: «أد حسابك واحتفظ بما يبقى.» ثم التفت إلي وقال: «شاعر حقا، ما في ذلك شك.» وأنا أنظر إليه وأريد أن أرد عليه، ولكن يده تمتد في سرعة إلى القدح أمامي فتخطفه اختطافا وتريق ما فيه على الأرض وترده مكانه فارغا كغيره من الأقداح، ثم ينهض قائما وهو يقول: «ليست هذه القهوة لنا بمجلس، هلموا.» ثم يقبل علي فيقيمني في قوة لا أملك لها مقاومة ويدفعني دفعا حتى يضعني في سيارته هذه الفخمة الوثيرة التي لم أقدر قط أن سيتاح لي الصعود إليها في يوم من الأيام، وقد جلس الرفاق من حولي واتخذ هو مكانه إلى جانب السائق وهو يقول له: «إلى القصر.»
منذ تلك الليلة لم أفارق هذا الصديق، رضيت عن نفسه الجامحة ورضي عن لساني الطويل، وأصبت في صحبته هذه الحياة الراضية التي كنت أتحدث عنها في شعري على أنها من هذه المثل العليا التي يتصل بها الأمل ويرقى إليها الخيال ولا يبلغها من الناس إلا الأقلون.
منذ تلك الليلة لم أفارق صديقي هذا، أقيم معه في قصره ذاك المنيف في العاصمة إن أحب المقام في العاصمة، وأصعد معه إلى قصره الشاهق على هذه الربوة الرائقة الشائقة إن أحب أن يتخفف من حياة العاصمة.
وقد مضت على صحبتنا هذه السنون الطوال، لم أنكر منه انحرافا عني أو انقباضا لي، ولم ينكر مني شيئا على طول العشرة واتصال الألفة واللقاء وجه النهار وآخره وشطرا من الليل، وقد صرفني عن حياتي تلك البائسة، وكاد يصرفني عن أصدقائي أولئك الذين كنت آلفهم في تلك الحياة، فأنا لا ألقاهم إلا حين يسعى إليهم أو يدعوهم إليه، قد أصبحت له ظلا، وأصبحت عشرته لي لازمة من هذه اللوازم التي لا أستطيع عنها انصرافا، وقد رضيت أخلاقه على علاتها، فأنا أتجنب غضبه وأتلمس رضاه؛ لأني أجد في ذلك راحة وروحا ولونا من ألوان السعادة لا أحب أن أصرفه عن نفسي ولا أحب أن يصرفه عني صارف، وأنا من أجل ذلك أحب الكذب حين يتيح لي إشراق نفسه ووجهه، وأكره الصدق حين يعرضني لغضبه علي أو ازوراره عني، وأنا مع ذلك أنتهز ساعات الرضى وأخلص له النصح وأحسن عليه المشورة، وهو يسمع لي كثيرا ويزور عني أحيانا.
أنا إذن خادم من خدمه أو موظف من موظفي قصره لا أستطيع أن أصرف نفسي عنه، وكل ما بيني وبين الخدم والموظفين من الفرق أنه لا يستطيع أن يصرف نفسه عني، على حين يستطيع أن يغير من خدمه وموظفيه من يضيق به أو يزهد منه!
أنا على كل حال خادم من خدمه، لا أيسر له ما يحتاج إليه في حياته المادية، ولكني أعينه على احتمال هذه الحياة، وأيسر له القليل الذي يحتاج إليه في حياته العقلية، وهو في الحق أقل من القليل! قد أقرأ له في كتاب بعض هذه الطرف والملح التي يحتاج إليها الفارغون، وقد أفسر له بعض ما يعسر عليه من الألفاظ حين أقرأ له، وقد أنشده بعض شعري فيفهم ويرضى حينا، ويعرض ويسخر في كثير من الأحيان حين لا يتاح له الفهم والذوق. وأبغض خصاله إلي وأشقها علي أنه - على ضآلة حظه من العلم وعجزه كل العجز عن الكتابة - يشتاق بين حين وحين إلى أن يشارك في بعض هذه المناقشات السخيفة التي تفيض بها أنهار الصحف، هنالك يشقي نفسه ويشقيني. فهو يحاول أن يكتب ما يريد فلا تستقيم له الكتابة، ولا يطاوعه القلم، فيدعو بالقهوة في أثر القهوة، وأنا أنظر إليه كالمعرض عنه، وألاحظه كالمنصرف عن ملاحظته إلى كتاب أنظر فيه، حتى إذا استيأس من بلوغ ما يريد، صاح بي مغضبا: «أين أنت؟» أو «ماذا تصنع؟! إنك لتراني أتكلف ما أتكلف ثم لا تصنع شيئا وإنما أنت جامد في مكانك كأنك الصنم!» فأجيبه متضاحكا: «ما علمت أن الأصنام تقرأ كتابا أو تخطه بيمينها!» ثم أسأله عما يريد فيفضي إلي بذات نفسه، فإذا ذات نفسه سخف لا ينقضي، ولكني أظهر له الرضى بما أسمع والإقبال على ما يحب، ثم أقبل على السيجارة والقهوة والقلم، وأقرأ عليه بعد ساعة ما عجز عن كتابته فيرضى كل الرضى ، وتمتلئ نفسه غبطة وابتهاجا وهو لا يشك أقل الشك في أنه هو الذي كتب ما قرأت عليه، ولكنه على ذلك ليس محمقا ولا غافلا، فهو يأخذ مني الصحف التي كتبتها ويخلو بها إلى نفسه ليكتبها بخطه، ثم يهرع إلى التليفون فيدعو صديقه في هذه الصحيفة أو تلك إلى الغداء أو إلى العشاء، فإذا أقبل وطعم وامتلأت يده بما شاء الله أن تمتلئ به، دفع إليه المقال في شيء من الدعاية والمزاح فأخذه راضيا وقرأه معجبا وانصرف شاكرا مشكورا، وأنا أشهد كل هذا العبث، وأشارك فيه، وأمقت نفسي أشد المقت وأزدريها أعظم الازدراء، مزمعا مع ذلك أن أعود إلى التمثيل حين يريد أن يعود إلي.
على ذلك جرت حياتي معه وجرت حياته معي، هي حياة السيد مع الخادم إلا أن فيها شيئا من العناية والإلطاف.
وما أعتذر عن شيء مما فعلت ومما أفعل، وإن كنت كارها لكل ما فعلت ولكل ما أفعل، فما أعرف أن عذرا يستقيم لي، وكل ما أعلمه هو أني أحب الحياة وأعلم علم يقين أن الحياة لا تحبني، فأنا آخذها قسرا وأنعم بها على كره منها دائما، وعلى كره مني في كثير من الأحيان.
ولو قد أحبتني الحياة كما أحبها ليسرتني لبعض العمل الذي يعصمني مما تورطت فيه أيام البؤس من تكفف الناس، ومما أتورط فيه الآن من العيش في ظل هذا السيد الصديق، مذعنا لما يريد هو، لا لما أريد أنا، كاسبا هذه العيشة الراضية التي تحلو وجه النهار، لتمر آخره بهذه الذلة التي تخيل إلى الناس أني سيد سعيد، وتقنعني كل الإقناع بأني عبد شقي.
فالحياة لا تحب الناس إلا حين يعملون لكسب حبها وهي لا تحتقر أحدا كما تحتقر الذين يعيشون عيالا على غيرهم، وقد خلقت عاجزا عن كل عمل منتج إلا هذا الشعر الذي أقرضه وأجد اللذة في قرضه، ويجد الناس المتعة في قراءته والاستماع له، ولكنه على ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع! ولقد نشر لي منه هذا السيد الصديق غير ديوان، وما أشك في أن الناس قد قرءوه وما أشك مع ذلك في أني لم أفد من نشره شيئا! غيري أقدر مني على حل هذه المشكلة! فأما أنا فحسبي أن أقرض الشعر وأن يقرأه الناس وأن أحس رضاهم عنه وإعجابهم به، وما دامت الحياة ميسرة لي كأحسن ما يكون اليسر فلا علي أن أكون سيدا أو عبدا، ولا علي أن أكون عزيزا أو ذليلا ...
11
ما أحب أن أقتحم الباب الذي لم يقتحمه الشاعر، وأن أدخل بك على صاحب القصر خاليا إلى ضيفه، لا لأني أخشى أن يردنا الخادم عن هذا الباب مكبرا لنا حفيا بنا كما رد الشاعر، أو ناهرا لنا متعللا علينا كما كان خليقا أن يصنع بكل من يحاول اقتحام هذا الباب، فأنت وأنا مطمئنان إلى أننا نستطيع أن نقتحم الباب دون أن يشعر بنا هذا الحاجب؛ لأن الفن قد منحنا هذه القلنسوة السحرية التي تخفينا على عيون الحجاب والرقباء، وتتيح لنا أن نذهب حيث نشاء ومتى نشاء وكيف نشاء، دون أن يستطيع أحد لنا ردا أو صدا، بل دون أن يستطيع أحد أن يفطن لنا أو أن يشعر بمكاننا.
ولست أدري لماذا لا يتنبه القراء إلى هذه الخصلة الرائعة من خصال الفن، وإلى قدرته على أن يخفي الكاتب وقراءه على العيون والأسماع، وسائر أدوات الحس والشعور، بل علي أن يتيح للكاتب وقرائه قدرة هائلة يلغون بها مسافات الزمان والمكان، وما يقوم في الزمان والمكان من عقبات تحول بين الناس وبين أن يروا ويسمعوا ويعلموا ما يريدون أن يروا وأن يسمعوا وأن يعلموا، فنحن نستطيع من غير شك أن ننسل إلى داخل المكتب دون أن يشعر بنا أحد، وأن نرى صاحب القصر وضيفه، ونسمع ما يدور بينهما من حديث دون أن يأذنا بدخولنا عليهما، أو يعرفا مكاننا منهما، بل نحن نستطيع أن نرقى إلى أي عصر من عصور التاريخ وما قبل التاريخ، في أي قطر من أقطار الأرض، فنرى ونسمع ونعلم ما نريد كما أننا نستطيع أن نسبق الزمن، وأن نمضي في أعماق المستقبل، إلى حيث نحب أن نمضي في أي قطر من أقطار الأرض، بل في أي نجم من نجوم السماء، لا يحد قدرتنا على ذلك إلا ما نريد نحن لا ما تريد الأحداث.
وبعبارة أدق: يستطيع الكاتب وحده أن يفعل هذا كله وأن ينبئ قراءه إن أراد بما رأى وما سمع وما علم، أو ببعض ما رأى وما سمع وما علم، فأنا قادر إذن على أن أتجاوز باب المكتب وأشارك في زيارة هذا الضيف لصاحب القصر، ولكني لا أفعل لسببين: أولهما يتصل بالأخلاق؛ فأنا لا أحب اقتحام الأبواب، ولا التسمع على الناس حين يتحدثون، وأبغض شيء إلي التطفل والوغول، ولن أغير من أخلاقي شيئا لأرضي القراء، مهما يكن حرصي على رضاهم ومهما يكن لرضاهم من خطر. والثاني يتصل بالفن؛ فقد يحسن أن أعرف صاحب القصر إلى القراء، قبل أن أدخلهم عليه، حتى لا أفجأهم به وبضيفه وبما يديران بينهما من حديث. ذلك أجدر أن يهيئهم للقائه عن علم به ومعرفة لخصاله، لفهم ما يصدر عنه من أعمال نابية، وأقوال نائية عما يلائم الرشد والصواب، والقراء بعد ذلك ليسوا خيرا من الشاعر الذي هو صديق حميم لصاحب القصر، وإذا كان هذا الشاعر قد رضي أن يرد عن صديقه، وقبل أن ينتظر حتى يخلو له وجهه ويؤذن له بالدخول، فليس على القراء بأس من أن ينتظروا كما انتظر.
والشاعر يستعين على الانتظار بالكتاب الذي ينظر فيه، فليستعن القراء على الانتظار بما سأسوق إليهم عن صاحب القصر من حديث، وقد لا يكون هذا الحديث ممتعا إمتاع هذا الكتاب الذي ينظر فيه الشاعر، ولكنه سيكون على كل حال كلاما يقرأ، وما أكثر ما يفرغ القراء للكلام المكتوب الذي يساق إليهم في كل يوم، على ما يكون فيه من سخف، وعلى ما يكون له من قيمة وإمتاع!
ورءوف صاحب القصر شيخ تقدمت به السن شيئا، ولكنها لم تبلغ من قوته ولا من شباب قلبه وجسمه شيئا، وإنما هو رجل طوال، يميل إلى البدانة أكثر مما يميل إلى النحافة، وهو رائع الطلعة، رائق المنظر، لا تقتحمه العين، وإنما تتصل به فتطيل الاتصال، تجد شيئا من اللذة في النظر إلى وجهه الذي لا يخلو من جمال مهيب، والذي تضطرب فيه عينان صغيرتان نفاذتان، فيهما شيء من حدة، ولكنهما تصوران هدوءا ودعة وثقة، تقرأ فيهما الإيمان بالنفس، والشك فيما عداها ومن عداها من الأشياء والناس، وتقرأ فيهما الرضا المطمئن عن النفس، والسخط على من عداها وما عداها من الأشياء والناس، وتقرأ فيهما أن لصاحبهما ضميرا مرنا أشد المرونة، يسيرا أعظم اليسر، يؤثر نفسه بكل شيء، ويرى أن الحياة لم تخلق إلا له ولم توقف إلا عليه، وأنه إنما يحتمل مشاركة الناس له فيها احتمالا، ويطيقها عن تفضل وتطول.
تقرأ في هاتين العينين الأثرة في أبشع صورها، وفي أظرف صورها أيضا، وهذه القراءة لا تكذبك ولا تغرك عن الحقيقة الواقعة؛ فصاحبنا أثر كأبشع ما تكون الأثرة، وكأظرف ما تكون الأثرة في وقت واحد؛ يندفع إلى ما يريد في غير هوادة ولا أناة ولا إسماح، لا يقبل أن تقوم بينه وبين ما يريد عقبة مهما تكن طبيعتها، ومهما يكن مصدرها، وهو من أجل ذلك غضوب جامح الغضب، عنيف مسرف في العنف، لا يروض الصعاب حين تعرض له، وإنما يحطمها أو يحطم نفسه من دونها، وهو من أجل ذلك يمر حتى لا يسيغ مذاقه أشد الناس رياضة لنفسه على احتمال المكروه والصبر على الأذى ومراس أصحاب العنف والجماح، ولكنه على ذلك تحلو شمائله، وتحسن أخلاقه، وترق حواشيه حين يقبل على اللذة ويأنس إلى الناس، لا يصدر في عنفه ولينه عن بغض للناس وحب لهم، وإنما يصدر فيهما عن حب لنفسه وإيثار لها بما يراه خيرا، يبتغي ذلك باللين حين يكون اللين سبيلا إليه، ويبتغي ذلك بالعنف حين لا يكون من العنف بد، وهو على كل حال أقل الناس حظا من القصد والاعتدال، لا تراه يوما أو ساعة على خلق سواء، وإنما هو مندفع في الغضب حتى يصرف الناس عنه، أو مندفع في الرضا حتى يتهالك الناس عليه. وأصل ذلك فيما يظهر أنه كان وحيد أبويه، قد ولد في بيئة ناعمة مترفة موفورة الحظ من الثراء، قد يسرت لها الأمور كلها تيسيرا، ولم يولد له إخوة يشاركونه في حب أبويه له، وعطفهما عليه، وحرصهما على تدليله وتنويله كل ما تطمح إليه شهواته الجامحة أو تطمع فيه أهواؤه التي أرسلت على سجيتها إرسالا. وقد وصف الشاعر القديم بعض الممدوحين بأنه لم يقل: «لا» قط إلا في تشهده، وبأن لاءه كانت خليقة أن تكون «نعم» لولا تشهده وإيمانه بالله.
ويمكننا أن نقول: إن صاحبنا هذا لم يسمع «لا» قط في صباه ولا في شبابه إلا حين كان يتعرض لما كان يمكن أن يسوءه أو يؤذيه. ومع ذلك فقد كان أبواه والموكلون بخدمته لا يصدونه عما يسوؤه ولا يردونه عما يؤذيه إلا في كثير من الرفق والاحتيال، وفي ألوان من الترغيب والإغراء، بحيث لم يكن يشعر أن هذه الكلمة البغيضة كلمة «لا» تقال أو توجه إليه، لم يكن يسمع هذه الكلمة ولكنه كان يقولها كثيرا، يقولها لأبويه ويقولها لخدمه ويقولها لأترابه حين يلقى أترابه، وكان هؤلاء جميعا يسمعون منه هذه الكلمة، فيرضون عنها ويبتهجون بها ويستجيبون لها؛ ولذلك نشأ على حب هذه الكلمة حين يجري بها لسانه هو، وعلى بغضها حين يجري بها لسان غيره من الناس.
وكان من الطبيعي ألا يعرف المصاعب، ولا يمرن على رياضتها وتذليلها، وكان من الطبيعي كذلك ألا يفهم كيف يمتنع عليه غرض من الأغراض أو يفوته أمل من الآمال، كان مدللا كأقصى ما يكون التدليل، مترفا إلى أبعد حدود الترف، سيئ الخلق من أجل ذلك كأسوأ ما يكون الخلق، ضعيفا كأشنع ما يكون الضعف، عنيفا كأبشع ما يكون العنف. وليس من الغريب بعد ذلك أن نلاحظ أنه، وقد أنفق حياة فارغة ميسرة، لم يتعلم إلا بمقدار ما استطاع، وبمقدار ما أتاحت له هذه الحياة المدللة أن يتعلم، فهو لم يذهب إلى مدرسة وإنما سعى إليه المعلمون، وهو لم يذعن قط لمعلم أو أستاذ وإنما أذعن له دائما أساتذته ومعلموه، منهم من وجد إلى قلبه سبيلا فألقى فيه بعض العلم وأودعه بعض المعرفة، ومنهم من لم يجد إلى قلبه سبيلا فألقى أهواءه ونزواته، وقنع من الجهد بما كان يتاح له من الأجر في آخر الشهر.
وما ينبغي أن تغرك آيات الفن هذه التي نسقت في القصر أحسن تنسيق، ولا صفوف الكتب هذه التي ملأت هذا البهو العريض مما يلي مكتبه؛ فهو لم يكسب من هذه الآيات ولم يجمع من هذه الكتب شيئا، وإنما وجدها في القصر، فلم يحفل بها أول الأمر، ثم جعل يقف عند بعضها من حين إلى حين، ثم فتن بها فتنة مصدرها الغرور أول الأمر، ثم أصبحت جزءا من حياته، لا يستطيع أن يستغني عنها، ولا يتصور أن يعيش دون أن يراها مصبحا وممسيا.
ولم يكد يبلغ أول أطوار الشباب، حتى استجاب لدعاء شهواته وغرائزه، فعبث ما شاء له العبث وأفسد ما شاء له الفساد، وهم أبواه أن يكفاه عن بعض ذلك في تلطف ورفق، فلم يبلغنا منه شيئا، وإنما كان لومهما له إغراء، ونصحهما له دفعا إلى الغلو والإسراف. ثم أتيحت له الغربة، ففارق القصر والربوة إلى ما حولهما، وطوف في الآفاق الغريبة، وأقام في العاصمة فأطال المقام، ثم طوف في الآفاق البعيدة، وزار العواصم الكبرى، وألم بمواطن الجد والهزل، وعاد إلى أبويه فتى كامل الفتوة، قد ردته الحياة إلى شيء من القصد في سيرته ملأ أبويه إعجابا به ورضا عنه، وأتاح له النظر في شئون الأسرة قليلا قليلا، ولم تمض أعوام حتى كان مستقلا بكل شيء، متصرفا في كل شيء، معفيا أباه من كل جهد، ناهضا من دونه بكل عبء.
ولست أعرف شيئا أشد تعقيدا، ولا أكثر اختلاطا، ولا أعسر على الفهم من نفس الإنسان؛ فهي ملتقى المتناقضات وهي غريبة فيما يختلف عليها من الأطوار. لقد كان كل شيء في صبا رءوف يؤذن بأنه سيكون فتى ضائعا، مضيعا، لا يغني عن أسرته شيئا، وإذا هو يعود إليها فتى رشيدا إلى حد ما، قادرا على النهوض بالأعباء، نافذا حين يتصرف في الشئون، بعيد الحيلة حين يحتاج إلى بعد الحيلة، وكان هذا خليقا أن يلقي في روع الذين يعرفونه من قريب أنه الفتى كل الفتى، قد جمع من أخلاق الرجال ما ينأى به عما يعيب، ويرتفع به عن الصغائر، ويهيئه لجلائل الأعمال، وقد كان فيه من هذا كله شيء، ولكنه على ذلك كان ضعيفا أمام غرائزه، متهالكا على لذاته، يسمو إلى الجليل من الأمر، ويعنى مع ذلك بالصغائر وسفاسف الأمور عناية مؤذية، يضبط نفسه أحيانا، فيبلغ من ضبطها ما يريد، ويحملها من عظيم الأمر على ما يحب، ثم يرسل لها العنان فجاءة، فإذا هي تتابع الهوى حتى تجور عن القصد، وتتورط في أعظم الشطط.
وقد التمست الأسرة لابنها الزوج التي تلائم مكانه وجماله وثراءه، فوفقت لما أرادت، وأصهر الفتى إلى أسرة صالحة، وسعد بحياة زوجية ناعمة، ولكن هدوءها لم يتصل؛ فقد كان رءوف صاحب نزوات طالما آذت زوجه، وطالما آذته هو، وطالما أرهقته وأرهقت زوجه من أمرهما عسرا.
ويمكن أن يقال إن نعيما ابنه قد نشأ في بيئة ظاهرها النعمة وباطنها النقمة، كل شيء من حوله ميسر إلا أمر أبويه، فإنه كان عسيرا أشد العسر، ملتويا أعظم الالتواء، وكل قارئ يستطيع أن يصور لنفسه حياة هذه القصور التي يملؤها الترف، ويشيع فيها النعيم، وتفيض من حولها السعادة، ولكنها تشتمل في أعماقها على غرفة أو غرفتين من غرفات الجحيم، لا يرى الذين يأوون إليهما فيهما إلا الشر كل الشر، والنكر كل النكر، والعذاب كل العذاب، ولم يكن قصر رءوف الذي نشأ فيه نعيم إلا واحدا من هذه القصور؛ سعادة ظاهرة وشقاء خفي، أب يلهو ما وجد إلى اللهو سبيلا، وأم تشقى ما استطاعت المرأة أن تحتمل الشقاء، وخصومة وعبوس حين يلتقي الزوجان، ووفاق وابتسام حين يظهران للناس، والصبي بين هذا كله يرى ويسمع ويحس، ويسجل قلبه الصغير كل ما يرى ويسمع ويحس.
وهو يؤثر أمه البائسة بالحب والرحمة والرثاء، ويختص أباه الماجن بكثير من السخط واللوم، ولكنه يخافه أشد الخوف من جهة، ويعجب به أشد الإعجاب من جهة أخرى، يكره سيرته مع أمه ويرضى عن سيرته مع الناس، ويعجب بسيرته مع نفسه، ويتحدث إلى ضميره، بأنه إذا شب فسيكون أبر بزوجه من أبيه، ولكنه سيسير سيرة أبيه في الناس، وسيؤثر نفسه من متاع الحياة بمثل ما يستمتع به أبوه. على أن رءوفا لم ينشئ ابنه كما نشأه أبواه، وإنما أخذه بشيء من الصرامة والحزم، فكان هذا أيضا مصدرا للخصومة بينه وبين زوجه، ومصدرا للتعقيد في نفس الصبي الذي كان يجد من أمه اللين والإسماح، ويجد من أبيه الصرامة والحزم، فيرضى ويسخط، ويحب ويبغض، وتتعقد نفسه على مر الأيام تعقدا شديدا.
12
قد كنت خليقا أن أمضي معك في الحديث عن حياة رءوف في شيء من التفصيل، وعن نشأة نعيم في شيء من الإطناب، لولا أن باب المكتب يفتح ويخرج منه رءوف متضاحكا، يشيع ضيفه إلى سلم القصر، ثم يعود وهو لا يكاد يملك نفسه من ضحك يريد أن يملأ أبهاء القصر، فيصرف الشاعر عن كتابه، ويصرفني أنا عما كنت أقص عليك من حديث، وها هو ذا قد أقبل على الشاعر مغرقا في الضحك، يقول في صوت متقطع: هأنتذا! لقد أطلت انتظارك منذ اليوم، وإني لراض عن اضطرارك إلى أن تنتظرني كما انتظرتك. قال الشاعر وهو ينهض متثاقلا، ويرد الكتاب إلى مكانه من الصف: لست أدري أينا انتظر صاحبه! لقد ذهبت إلى حيث تعودنا أن نلتقي، فأنبئت بأنك تنتظرني في هذا المكتب، ولن أبلغ من الحمق وخطل الرأي أن أترك الجنة النضرة، والسماء الصفو، والجو الصحو، والنهر الجميل، لأحبس نفسي معك في هذا المكتب وإن كان جميلا أنيقا، على أني لم أستطع حتى أن أستمتع بالخلوة إلى هذا الجمال وقتا قصيرا؛ فقد أقبل ابنك نعيم، فنغص علي كل شيء. قال رءوف وهو يغرق في الضحك: ابني نعيم! فهو إذن قد لقيك، وقد ألقى إليك بسخافاته التي لا تنقضي، والتي ليس لها رأس ولا ذيل، ولكن هلم! ما قيامنا في هذا البهو؟! أقبل لأحبسنك في هذا المكتب الذي تكره أن تحبس فيه، أقبل واجتهد في ألا تنحني على العصا إن استطعت؛ فإن نفسي ليست ميالة إلى شعر جرير، أقبل واعدل قامتك إن استطعت إلى ذلك سبيلا، لعلك قد شربت قهوتك على ضفة النهر مستمتعا بالجنة النضرة، والسماء الصفو، والجو الصحو، والنهر الجميل، أم تريد قدحا آخر من القهوة؟ ولكن النهار قد انتصف أو كاد ينتصف، ولم يبق بيننا وبين الغداء إلا ساعة وبعض ساعة، ما تقول في قدح من قهوة أخرى خير من قهوتك تلك التي احتسيتها على ضفة النهر الجميل؟
ثم أغرق في ضحك طويل، والشاعر قائم واجم ينظر إليه ويسمع منه ولا يفهم عنه، فلما سكت عنه الضحك، قال بصوت ضخم مرتفع: الشراب يا غلام. ثم عاد إلى ضحك متقطع، وأخذ بذراع الشاعر وهو يقول: اعتمد على ذراعي إن شئت، أو تعلق بها إن أحببت، ودع عصاك لا تأخذها بيمينك ولا تنحن عليها؛ فقد كان يقال لنا في طور التأديب: إن المهذبين من الناس لا يستصحبون عصيهم إلى حيث يستقبلون، وإنما يتركونها في مواضعها المقسومة لها حين يدخلون الدور أو القصور، هلم! هلم!
ثم مضى يقود الشاعر وكأنه يحمله حملا، ويعلقه في الهواء تعليقا، حتى انتهى إلى مكتبه، فأجلس الشاعر - أو قل - وضع الشاعر وضعا على كرسي عريض وثير، وهم الشاعر أن يتكلم، ولكن رءوفا أومأ إليه أن لا يفعل، وقال في صوت هادئ بعض الشيء: لا تسألني الآن عن شيء ولا تحدثني الآن بشيء، وإنما أرح نفسك وأرحني من الحديث والاستماع، حتى إذا أقبل الشراب وفرغنا من القدح الأول، أخذنا في الحديث فأنبأتني بما عندك، وما أرى أنك ستنبئني بشيء ذي خطر، وتحدثت إليك بما عندي، وما أرى إلا أني سأشغلك بقية يومك، فأسلف نفسك شيئا من الراحة؛ فإنك ستستقبل بعض العناء، ثم انصرف عنه، وجعل يذرع الحجرة ذاهبا جائيا، مغرقا في تفكير عميق .
وأقبل الخادم يحمل قواريره وأكوابه وهم أن يملأ القدحين، ولكن رءوفا قال له في لهجة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة راضية: لا تشق على نفسك يا بني، فسأقوم عنك بهذا الجهد، ولكن امنع علينا بابنا؛ فلسنا في حاجة إلى الواغلين، فانحنى الخادم وانصرف وأغلق الباب من دونه، وأقبل رءوف على قواريره وأكوابه فصب ومزج، وقدم إلى الشاعر قدحه وهو يقول:
وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
فاشرب هذه على لذتك، ثم أداويك منها بالأخرى، قال الشاعر: إن أمرك لعجب منذ اليوم، أتتخذ هذه الحجرة لنفسك سجنا منذ آخر الليل، وتحظر على نفسك النزول إلى الحديقة والاستمتاع بصفاء السماء وجمال النهر، ولا تصيب من طعامك شيئا حتى يظن الخدم بك الظنون، ثم هأنتذا الآن لا تملك نفسك ولا تضبط أمرك، وإنما تندفع في ضحك لعل البكاء ... وهنا قاطعه رءوف قائلا: أن يكون خيرا منه. كلا يا سيدي كلا! إنه الضحك الذي يصور الرضا، والأمن، وصفاء النفس، واطمئنان القلب، ولكن ألم أقل لك إنا لن نتحدث حتى نفرغ من قدحنا الأول! ثم قال بعد صمت قصير: بعدا للخدم! لا سبيل إلى أن نخفي عليهم شيئا، ولا سبيل إلى أن نكف ألسنتهم عن الحديث بعلم وبغير علم.
أكان الظمأ هو الذي دفعهما إلى الإسراع في الشرب، أم كان التلهف على الخمر هو الذي أغراهما باستنفاد ما في القدحين، أم كان تعجل الحديث هو الذي حثهما على أن يتعجلا إزالة ما بينهما وبينه من هذه العقبة الرائقة الشائقة التي لم يكن شيء أحب إليهما من إزالتها؟ مهما يكن من شيء فقد أقبل كل منهما على قدحه شرها، فلم تمض إلا دقائق حتى ارتويا هما وظمئ القدحان.
ونهض رءوف فأعاد إلى القدحين ريهما، وأعاد إلى نفسه وإلى صديقه ظمأهما، ولكنه كان ظمأ هادئا مستأنيا لا عجلة فيه؛ فأقبل كلا الرجلين على صاحبه يستبقان إلى الحديث استباقا، وأقبل كلا الرجلين على قدحه يحسو منه في تمهل مثل حسو الطير ماء الثماد. قال رءوف متضاحكا: أما الآن فتستطيع أن تستمع لي يا أبت أو يا بني؛ فسنك وانحناؤك على العصا يجعلانك لي أبا، وسذاجتك وسلامة نفسك تجعلانك لي ابنا؛ فلي من غير شك أن أدعوك بأي الدعاءين شئت، استمع لي إذن، وافهم عني ولا تعجل علي؛ فإنك لن تنبئني بشيء أجهله، لقد أنبأك نعيم بحبه وثورتي على هذا الحب، وإصراره على أن يمضي فيما بدأ، وعطف أمه عليه، ونطقي بهذه الكلمة التي تفرق بين الإلفين، وكل هذا حق، ولكن الشيء الذي لم ينبئك به نعيم لأنه لم يكن يعلمه، ولعله لا يعلمه إلى الآن، هو أن الستار قد أسدل على بعض هذه المأساة؛ فقد اختطف الموت من نعيم هواه، ثم أطرق حينا وأقبل على قدحه، فحسا منه حسوة ورده إلى مكانه في هدوء، والشاعر واجم لا يدري كيف يقول، كأنما سقطت عليه الصاعقة.
قال رءوف: نعم! ماتت خديجة، قتلها أخوها انتقاما لشرفه فيما يظهر، كأن لأمثال هؤلاء الناس شرفا تراق في سبيله الدماء، ويحتمل في سبيله العقاب والعذاب، لقد تغيرت الدنيا وفسد الناس، وهبت على هؤلاء البائسين من أهل القرية وأمثالهم ريح لا أدري من أين جاءتهم، ولكنها حملت إليهم شرا عظيما؛ علمتهم أن لهم شرفا، وأنهم يستطيعون أن يغضبوا لهذا الشرف، وأن يسفكوا في سبيله الدم، ويتعرضوا في سبيله للموت، ومن يدري؟! لعلها علمتهم، أو لعلها أن تعلمهم أشياء أخرى ليست أشد من هذا نكرا، ولن أدهش إذا أنبئت غدا، أو بعد غد بأن هؤلاء الناس يضيقون بخضوعهم لنا، وتسلطنا عليهم، ويرون أن لهم في أنفسهم حقوقا يدافعون عنها، ويتكلفون في الدفاع عنها ما لم يتعودوا أن يتكلفوا، وأن لهم فيما تخرج الأرض من الثمرات حقوقا أكثر مما نعطيهم، وأن لهم في الحياة مطامع وآمالا لم تكن تخطر لهم من قبل، كل هذا ممكن، وكل هذا خطير سيئ العاقبة. لقد كنا نرى هؤلاء الناس يسعدون السعادة كلها حين تهبط إليهم أبصارنا وحين نختصهم بشيء من العطف، أو نلقي إليهم شيئا من التحية، لقد كان أعظم ما يطمحون إليه أن يرقوا إلى هذا القصر خداما لأهله، فإذا رقوا إليه وظفروا بالخدمة فيه، فأعظمهم حظا من السعادة، أقربهم مكانا من السادة، فأين نحن من هذا الآن؟! أترى إلى ابنة الإسكاف يؤثرها ابن سيدها بعطفه ويختصها بحبه، ويمنحها مكانا من قلبه، فتنعم وتسعد، وترى في هذا الإيثار حلما لم يكن يتاح لأمثالها؟! ولكن أخاها ينكر، ثم يغضب، ثم يثور فيقتل أخته ... ولو قد استطاع لقتل معها شخصا آخر.
وهنا برقت عيناه بريقا مخيفا، وجرت في جسمه كله رعدة خفيفة، لم يلبث أن ردها إلى الهدوء، ثم أقبل على قدحه فألقى ما فيه في جوفه إلقاء، ثم نظر إلى الشاعر نظرة حادة وهو يقول: إنك لقليل النشاط إلى الشراب، أفرغ قدحك كما أفرغت قدحي. ولم يجب الشاعر كأنه لم يسمع منه، قال رءوف وهو يضرب بيده على المائدة: أتسمع لي؟! أفرغ قدحك كما أفرغت قدحي أو قم عني؛ فلست في حاجة إلى الجلساء الفاترين. وكان الشاعر يعرف صديقه حق المعرفة، ويعلم أنه عنيف إذا غضب، منكر السيرة إذا عربد على نديمه، فلم يكد يسمع طرق المائدة حتى هب من وجومه مذعورا، ولم يكد يسمع نذير صاحبه حتى أسرع إلى القدح فصبه في فمه صبا، قال رءوف وقد نهض متضاحكا: أما الآن فنعم. ثم أقبل على زجاجاته فصب ومزج، وعاد إلى مجلسه هادئا مطمئنا ينظر إلى قدحه متهالكا عليه.
قال الشاعر: لقد أنبأني نعيم أنه أرسل فتاته أمس إلى العاصمة، ليلحق بها اليوم، فكيف ... فقاطعه رءوف قائلا: كيف قتلها أخوها، أو أين قتلها؟ أدركها في العاصمة، وقتلها بملأ من الناس، وأسلم نفسه للشرطة، وأكبر الظن أنه كان يرقب أخته، وأنه كان يعلم من أمرها كل شيء، وأنه كان يدبر هذا الشر تدبيرا، والمهم أنه فعل فعلته، وأنه بهذه الفعلة قد رد عنا شرا عظيما، ونبهنا لخطر عظيم، أراحنا من هذا الزواج المنكر، وقطع على نعيم طريق التمرد والعصيان، ونبهنا إلى أن في أمثاله من أهل القرية نزوعا إلى شيء جديد ، فيجب أن نسير معهم سيرة جديدة، وأن نلائم بين طموحهم هذا الطارئ وسياستنا لأمورهم، ولكن هذا حديث لم يحن حينه بعد؛ فقد نستطيع أن نفكر ونروي متى أتيح لنا التفكير والتروية، فأما الآن فقد يظهر أن لدينا ما يشغلنا من الأمر. ثم رفع القدح إلى فمه فكاد يأتي على نصف ما فيه، ثم أشار إلى الشاعر أن اشرب، قال الشاعر: إن لم تكن في حاجة إلى عقلك فقد تكون في حاجة إلى بعض عقلي؛ فأمهلني ولا تشتط علي. قال رءوف: أما أنا فشديد الحاجة إلى عقلي كله، وإنك لتعلم أن الخمر أعجز من أن تذهب به، وأما أنت فلست في حاجة إلى عقلك؛ لأني لا أريد منك روية ولا تفكيرا ولا مشورة، وإنما أريد منك طاعة وتنفيذا للأمر وتحقيقا لما أريد.
قال الشاعر: وعندك إذن أمر تريد أن تصدره إلي؟ وما عسى أن يكون هذا الأمر؟ قال رءوف: أتعرف لماذا حجبتك آنفا؟ قال الشاعر: لأنك كنت مشغولا ببعض الضيف. قال رءوف: ألم تر هذا الضيف؟ ألا تعرف من هو؟ قال الشاعر: لقد كنت مشغولا عنك وعنه بالنظر في ذلك الكتاب. قال رءوف: فإنه حاكم الإقليم، قد أقبل يزورني، ويسألني في بعض حديثه عما سمع من أن نعيما معتزم أن يسافر إلى إيطاليا وغيرها من بلاد أوروبا؛ ليقضي عاما أو أكثر من عام! قال الشاعر: فإني لم أسمع قط بشيء من حديث هذه الرحلة. قال رءوف: لم تسمع أنت ولكن حاكم الإقليم سمع، وأقبل ينبئني بما سمع، ويجب أن يتحقق ما سمع، وأن يرحل نعيم إلى حيث يريد من بلاد الله، فيغيب عن هذه الأرض عاما أو أكثر من عام، في هذه الرحلة تهدأ نفسه، ويستقر قلبه بين جنبيه، ويسترد شيئا من صواب، وينتفع بما تفرض الغربة على المغتربين من التجارب. أعدده إذن لهذه الرحلة، ويسر له أمرها، واصحبه فيها إن شئت أو شاء؛ ذلك أجدر أن يريح الأسرة من بعض اللغط، وأن يرد عنها بعض الشر، وأن يصلح بعض ما في النفوس. ثم رفع القدح وأتى على ما فيه، وأشار إلى الشاعر فلم يجد منصرفا عن الطاعة، فأفرغ قدحه، وهم رءوف أن يصب، ولكن الشاعر استعفاه قائلا: لم أحتج قط إلى عقلي كما أحتاج إليه الآن، وإذا لم يكن للخمر سلطان عليك، فإن سلطانها علي عظيم. ثم نهض متثاقلا، قال رءوف: إلى أين؟ قال الشاعر: إلى حيث ألقى نعيما، ثم إلى حيث أصلح من أمري، ثم إلى حيث أنفذ ما تريد. قال رءوف: إن نعيما مسافر إلى العاصمة اليوم؛ فاصحبه في سفره وتحدث إليه في أثناء الطريق، وما زال عندك فضل من وقت فأقم؛ فما أريد أن أجلس وحدي إلى مائدة الغداء. ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى، فأقبل الخادم، فأشار إليه أن يرفع أداة الشراب، وقال له وهو ينصرف: أرسل إلي خليلا.
وخليل هذا كاتب من كتاب القصر، أقبل بعد قليل، فلم يكد ينحني ويلقي التحية حتى ابتدره رءوف قائلا: ألم أسمع أن شرا عظيما قد نزل ببعض أهل القرية؟ قال خليل في صوت خافت متهدج: هو محمود الإسكاف أصيب في ابنيه جميعا، قتل ابنه أحمد أخته خديجة، وأسلم نفسه إلى الشرطة. قال رءوف: اذهب فواسه، ويسر له العسير من أمره، وأعنه على الرحيل عن القرية إلى حيث يشاء إن أظهر رغبة في الرحيل. قال خليل: الرحيل! وإلى أين يمكن أن يرتحل؟ قال رءوف في صوت كاد يحتد ولكنه رده إلى الهدوء: اذهب فأنفذ ما أمرتك به. فلم يستطع خليل إلا أن ينحني ويحيي وينصرف، ولم يكد يغلق الباب من دونه حتى قال رءوف: بعدا لهؤلاء الموظفين! ما أعظم حظهم من الغباء!
قال الشاعر وهو يشعل سيجارة: أما أنا فإن لي من الغباء حظا، ولكنه ليس عظيما فيما أظن. قال رءوف: وما ذاك؟ قال الشاعر: إن لم أكن كهؤلاء الموظفين فقد يخيل إلي أنك تريد أن تحدث من حولك فراغا، وأن تعرض أمامك لوحة بيضاء كما يقال. فلم يجب رءوف، وإنما استلقى في أعماق كرسيه، وأغرق في صمت طويل، ثم قال في صوت يشبه صوت النائم: لا أريد إلا أن أستريح. قال الشاعر: وتريد أن يستصحب نعيم أمه في سفره البعيد؟ فأشار رءوف بيده إشارة المتعب المكدود، وقال: هيهات! ذاك شيء لا سبيل إليه، ستبقى حيث هي، فإنما هو لسان هفا فسبق بكلمة لا تقدم ولا تؤخر، وما أكثر ما يهفو الناس ثم يصلحون هفواتهم!
ولبث الرجلان في مكانهما ثابتين مطرقين لا يديران بينهما حديثا، ولا ينظر أحدهما إلى صاحبه، ولو قد رآهما راء لقدر أن قد استحالا تمثالين جامدين، ثم أزعجهما عن سكونهما هذا طرق الباب، ثم ظهور الخادم يدعوهما إلى المائدة.
وما أظنك تريدني على أن أصحبهما إلى المائدة، ولا على أن أرافقهما بعد غدائهما بعد لأشهد ما يجري حولهما وحول الأسرة كلها من الخطوب؛ فأنت تستطيع أن تقوم مقامي في ذلك، وأن تتصور ما يحدث لهؤلاء الناس على اختلاف أشخاصهم وأمكنتهم من الأحداث كما تشاء؛ فليس يعنيني الآن من أمرهم إلا أن الفتى قد ارتحل إلى أوروبا، وأن أمه قد استقرت في مكانها من القصر، وأن الشاعر قد عاد بعد رحلة قصيرة إلى العاصمة، فاستقر في جناحه المقسوم له واستأنف حياته كعهده قبل أن تحدث هذه الأحداث، يلقى رءوفا حين يرتفع الضحى فيتنزه معه في الحديقة، أو يجلس معه على ضفة النهر، أو يخلو معه في مكتبه، يتحدث إليه ويسمع منه، وينشده من شعره، ويقرأ له ما شاء الله أن يقرأ في هذا الكتاب أو ذاك، وقد يلقاه إذا أقبل المساء فيستأنفان حياة كحياتهما في أول النهار. والأيام تمضي مسرعة أو مبطئة، وأكبر الظن أنها تمضي مسرعة بالقياس إلينا نحن؛ لأن أيام القصص مسرعة دائما، كما كان يقول لنا الذين كانوا يقصون علينا الأحاديث في أثناء الصبا، وتمضي مبطئة أشد البطء بالقياس إلى الذين يحيونها بالفعل، إذا ألمت بهم النوازل أو ألح عليهم الشقاء، وتمر مر السحاب بل أسرع من مر السحاب، إن أتيحت لهم حياة ناعمة راضية، وقد مضت الأيام على هؤلاء الناس مبطئة ومسرعة، ولكنها مضت على كل حال؛ لأن من طبيعة الزمن أن يمضي دائما، وهو لا يعرف الوقوف كما أنه لا يعرف الإسراع ولا الإبطاء، وإنما هو يمضي على نسق واحد نراه نحن سريعا حينا وبطيئا حينا آخر.
وفي ذات ليلة جلس الصديقان في جوسقهما ذاك على شاطئ النهر يتحدثان في هدوء ودعة، وقد سكن من حولهما كل شيء إلا هذا النهر الذي يجري في يسر، وتصطفق أمواجه في خفة وعذوبة، وإلا هذه الغصون التي يداعبها النسيم، فيسمع لأوراقها هفيف وحفيف، وإلا هذه الضفادع التي تسكن حينا، ثم تنق كأنها تنتظر من الليل شيئا، فإذا أبطأ عليها أو التوى بما تنتظر منه جأرت بالسؤال والإلحاح، ثم ثابت إلى الدعة والسكون، ثم استأنفت دعاءها ونداءها وإلحاحها.
ولست أدري فيم كان الصديقان يتحدثان، ولكني أعلم أن رءوفا قطع الحديث فجأة ومس كتف الشاعر في رفق، ثم قال له: انظر إلى ما وراء النهر، أترى شيئا؟ فمد الشاعر طرفه ثم رده، ثم قال: تريد هذه النار التي تتألق على هذه القمة؟ قال رءوف: نعم، متى عهدك بها؟ قال الشاعر: منذ أشهر. قال رءوف: ولم تكن تراها قبل ذلك؟ قال الشاعر: لا أعلم أني رأيتها قبل أن تلم بنا تلك الأحداث. وهنا أطرق رءوف إطراقة طويلة، ثم قال: أما أنا فأعرف متى رأيتها لأول مرة، أتذكر تلك الليلة التي أنفقتها في مكتبي ساهرا أنتظر الصباح! في هذه الليلة رأيت هذه النار تتألق من وراء النهر، ولست أدري لماذا وصلت نفسي الحائرة بين ظهور هذا اللهب المضطرب، على هذه القمة الساكنة، وبين مصرع تلك الفتاة التي أغواها نعيم، وقتلها أخوها في العاصمة على ملأ من الناس، لقد ألقي في روعي ليلتئذ أن هذه الفتاة قد عبرت النهر لتستقر في حيث يستقر الذين يعبرونه دائما، وأن بين هذه الفتاة في دارها النائية وبين دارنا هذه أسبابا لم تنقطع وأوطارا لم تنقض، فهي تشير بهذا اللهب، الذي يخفق دائما ولكننا لا نراه إلا حين يجن الليل، إلى ما بينها وبيننا من أسباب وأوطار.
قال الشاعر وهو يرفع القدح إلى فمه: تفسير لا بأس به، إنك لتعلم أن ما وراء النهر أشد غموضا من أن تنفذ إليه أفهامنا، وطالما سألت النهر عما وراءه فلم ينبئني بشيء. قال رءوف: أما أنا فما أشك في صدق ما أحدثك به، وإلا فما بال هذا اللهب لم يخفق، وما بال أعيننا لم تره إلا منذ صرعت تلك الفتاة؟! ولكن في الأمر ما هو أشد من هذا غرابة وأعظم خطرا، أتعلم أني أجد في خفق هذا اللهب شيئا يشبه أن يكون لي، وأن نفسي تنازعني إلى أن أعبر النهر؟ قال الشاعر: حسبك! فإني أخشى على عقلك الاختلاط، ولو علمت أنك تسمع لي إن أشرت عليك، لقلت إن حاجتك إلى الرحلة والاغتراب ليست أقل من حاجة نعيم. قال رءوف في صوت يشبه أن يكون همسا، وقد مال إلى أذن صاحبه كأنما يريد أن يسر إليه: فإنك لا تعرف من القصة كل شيء. قال الشاعر: وفي القصة إذن شيء غير ما علمت؟ قال رءوف: نعم؛ في القصة أن هذه الفتاة كانت قد وقعت من نفسي موقعا غريبا، قبل أن يفتن بها نعيم.
قال الشاعر في صوت يريد أن يتفجر غيظا ولكن الشاعر يرده إلى الاعتدال والقصد: ومن أجل هذا نفيت ابنك من الأرض؟ قال رءوف: نعم؛ وأخشى أن أكون نفيته من قلبي!
13
افترق الصديقان بعد ساعة تسلط عليهما صمت عميق، ولكن واحدا منهما لم ينم من ليلته تلك: فأما الشاعر فلم يكد يبلغ حجرة مكتبه حتى أقبل على دفتره ذاك الذي كان يسجل فيه يومياته فتحدث إليه حديثا طويلا، وأما رءوف فلم يكد يبلغ مكتبه حتى أنفق فيه ليلة مجنونة، يرقب من نافذته ذلك اللهب المضطرب ثم ينصرف عنها حين يعييه الوقوف، فيجلس إلى شرابه جلسة تقصر أو تطول، ولكنها تسكت عنه ذلك اللهب المضطرم في جوفه لحظة، وهو كذلك مضطرب بين شرابه يؤجج في جوفه ورأسه نارا، وبين نافذته التي تريه من وراء النهر، على تلك القمة الشاهقة في السماء، نارا أخرى لا يريد لهبها المضطرب أن يخبو ...
وكان مما كتب الشاعر في دفتر يومياته، الذي أنفق معه أكثر ليلته، هذا الحديث الذي أداره بينه وبين نفسه بدأ بهذا السؤال: أكنت مخطئا أم مصيبا حين كذبت آنفا على صديقي هذا الشيخ الشاب؟ فإني لم أر هذه النار التي رآها على قمة الجبل من وراء النهر! وما أعلم أني رأيت قط من وراء النهر لهبا ساطعا أو غير ساطع! لم أره اليوم، ولم أره أمس، ولم أره منذ شهور حين ألمت بالقصر هذه الأحداث كما زعمت! وإنما هو نوع من المجاراة لهذا الرجل الذي لا يحتمل خلافا أو جدالا في شيء واضح أو غامض، والذي تبينت اليوم، في غير شك، أن قد ألم به طائف من جنون! فقد صدق الخدم إذن فيما حدثوني به من أن سيدهم رأى هذه النار منذ حين، وأرادهم على أن يروها كما رآها، فلما زعم له بعضهم أنه لا يرى شيئا، تلقى منه لطمة أدمت خده، وعلمته أن من الحق عليه أن يرى ما يرى سيده، مخطئا أو مصيبا، وأن يعرف ما يعرف، وينكر ما ينكر، لا يعنيه أن يكون سيده مخطئا أو مصيبا، ولا يعنيه أن يكون سيده صادقا أو كاذبا، وإنما يعنيه أن يقول نعم حين يراد على قولها، وأن يقول لا حين يراد على قول لا. وقد انتفع زملاؤه بهذه اللطمة؛ أشفقوا أن يصيبهم مثلها أو شر منها، فعرفوا ما عرف سيدهم، وأنكروا ما أنكر! وقال قائلهم إنه يرى هذه النار في كل يوم منذ يقبل الليل إلى أن يسفر الصبح، وإنه لا يراها حين تملأ الشمس الدنيا من حولها نورا، كأنها كائن حي قد وكل بالسهر إذا كان الليل، وبالنوم إذا كان النهار!
واطمأن السيد إلى حديث ذلك الخادم ورأى أنه الحق كل الحق، فصرف طرفه عما وراء النهر ما أضاءت الشمس، ووكل طرفه بما وراء النهر ما أظلم الليل.
كذلك كان أمره مع خدمه وموظفي قصره، ولكني أنا لست خادما له ولا موظفا في قصره، ولست أخشى منه لطما أو لكما، ففيم كانت موافقتي له وإقبالي على ما أقبلت عليه من الكذب حين زعمت له أني أرى ما كان يرى من هذه النار؟
أكنت مشفقا عليه إن كذبت حسه أن يأخذه الغضب، وأن يدفعه إلى جنون عنيف مكان هذا الجنون الهادئ الذي ألم به وأصبح له عشيرا؟ أم كنت مشفقا على نفسي من عواقب هذا الغضب ونتائج هذا الجنون؟
ولم أكذب نفسي الآن بعد أن كذبت هذا الشيخ الشاب منذ حين؟ لم لا أقول إني جاريته، كما جاراه خدمه وموظفو قصره، رفقا به ورفقا بنفسي أيضا: فلست أكره شيئا كما أكره غضبه، ولست أحب شيئا كما أحب رضاه! فهو شيطان مريد مفسد لكل شيء من حوله إذا غضب، وهو روح حلو مصلح لكل شيء من حوله إذا رضي ...
وكف الشاعر عن التحدث إلى دفتره حينا، ولكنه لم يتحول عنه ولم يلق القلم من يده، وإنما لبث مكانه واجما كاسف البال مظلم النفس والوجه، ثم ارتسمت على ثغره ابتسامة مرة، وظهر على وجهه شيء من التردد اضطرب له القلم في يده بعض الاضطراب، ثم ثاب إليه هدوءه، ولكنه كان هدوءا مرا، إن صور شيئا فإنما يصور حسرات كانت تمزق قلبه تمزيقا ...
صفحة غير معروفة