وخليل هذا كاتب من كتاب القصر، أقبل بعد قليل، فلم يكد ينحني ويلقي التحية حتى ابتدره رءوف قائلا: ألم أسمع أن شرا عظيما قد نزل ببعض أهل القرية؟ قال خليل في صوت خافت متهدج: هو محمود الإسكاف أصيب في ابنيه جميعا، قتل ابنه أحمد أخته خديجة، وأسلم نفسه إلى الشرطة. قال رءوف: اذهب فواسه، ويسر له العسير من أمره، وأعنه على الرحيل عن القرية إلى حيث يشاء إن أظهر رغبة في الرحيل. قال خليل: الرحيل! وإلى أين يمكن أن يرتحل؟ قال رءوف في صوت كاد يحتد ولكنه رده إلى الهدوء: اذهب فأنفذ ما أمرتك به. فلم يستطع خليل إلا أن ينحني ويحيي وينصرف، ولم يكد يغلق الباب من دونه حتى قال رءوف: بعدا لهؤلاء الموظفين! ما أعظم حظهم من الغباء!
قال الشاعر وهو يشعل سيجارة: أما أنا فإن لي من الغباء حظا، ولكنه ليس عظيما فيما أظن. قال رءوف: وما ذاك؟ قال الشاعر: إن لم أكن كهؤلاء الموظفين فقد يخيل إلي أنك تريد أن تحدث من حولك فراغا، وأن تعرض أمامك لوحة بيضاء كما يقال. فلم يجب رءوف، وإنما استلقى في أعماق كرسيه، وأغرق في صمت طويل، ثم قال في صوت يشبه صوت النائم: لا أريد إلا أن أستريح. قال الشاعر: وتريد أن يستصحب نعيم أمه في سفره البعيد؟ فأشار رءوف بيده إشارة المتعب المكدود، وقال: هيهات! ذاك شيء لا سبيل إليه، ستبقى حيث هي، فإنما هو لسان هفا فسبق بكلمة لا تقدم ولا تؤخر، وما أكثر ما يهفو الناس ثم يصلحون هفواتهم!
ولبث الرجلان في مكانهما ثابتين مطرقين لا يديران بينهما حديثا، ولا ينظر أحدهما إلى صاحبه، ولو قد رآهما راء لقدر أن قد استحالا تمثالين جامدين، ثم أزعجهما عن سكونهما هذا طرق الباب، ثم ظهور الخادم يدعوهما إلى المائدة.
وما أظنك تريدني على أن أصحبهما إلى المائدة، ولا على أن أرافقهما بعد غدائهما بعد لأشهد ما يجري حولهما وحول الأسرة كلها من الخطوب؛ فأنت تستطيع أن تقوم مقامي في ذلك، وأن تتصور ما يحدث لهؤلاء الناس على اختلاف أشخاصهم وأمكنتهم من الأحداث كما تشاء؛ فليس يعنيني الآن من أمرهم إلا أن الفتى قد ارتحل إلى أوروبا، وأن أمه قد استقرت في مكانها من القصر، وأن الشاعر قد عاد بعد رحلة قصيرة إلى العاصمة، فاستقر في جناحه المقسوم له واستأنف حياته كعهده قبل أن تحدث هذه الأحداث، يلقى رءوفا حين يرتفع الضحى فيتنزه معه في الحديقة، أو يجلس معه على ضفة النهر، أو يخلو معه في مكتبه، يتحدث إليه ويسمع منه، وينشده من شعره، ويقرأ له ما شاء الله أن يقرأ في هذا الكتاب أو ذاك، وقد يلقاه إذا أقبل المساء فيستأنفان حياة كحياتهما في أول النهار. والأيام تمضي مسرعة أو مبطئة، وأكبر الظن أنها تمضي مسرعة بالقياس إلينا نحن؛ لأن أيام القصص مسرعة دائما، كما كان يقول لنا الذين كانوا يقصون علينا الأحاديث في أثناء الصبا، وتمضي مبطئة أشد البطء بالقياس إلى الذين يحيونها بالفعل، إذا ألمت بهم النوازل أو ألح عليهم الشقاء، وتمر مر السحاب بل أسرع من مر السحاب، إن أتيحت لهم حياة ناعمة راضية، وقد مضت الأيام على هؤلاء الناس مبطئة ومسرعة، ولكنها مضت على كل حال؛ لأن من طبيعة الزمن أن يمضي دائما، وهو لا يعرف الوقوف كما أنه لا يعرف الإسراع ولا الإبطاء، وإنما هو يمضي على نسق واحد نراه نحن سريعا حينا وبطيئا حينا آخر.
وفي ذات ليلة جلس الصديقان في جوسقهما ذاك على شاطئ النهر يتحدثان في هدوء ودعة، وقد سكن من حولهما كل شيء إلا هذا النهر الذي يجري في يسر، وتصطفق أمواجه في خفة وعذوبة، وإلا هذه الغصون التي يداعبها النسيم، فيسمع لأوراقها هفيف وحفيف، وإلا هذه الضفادع التي تسكن حينا، ثم تنق كأنها تنتظر من الليل شيئا، فإذا أبطأ عليها أو التوى بما تنتظر منه جأرت بالسؤال والإلحاح، ثم ثابت إلى الدعة والسكون، ثم استأنفت دعاءها ونداءها وإلحاحها.
ولست أدري فيم كان الصديقان يتحدثان، ولكني أعلم أن رءوفا قطع الحديث فجأة ومس كتف الشاعر في رفق، ثم قال له: انظر إلى ما وراء النهر، أترى شيئا؟ فمد الشاعر طرفه ثم رده، ثم قال: تريد هذه النار التي تتألق على هذه القمة؟ قال رءوف: نعم، متى عهدك بها؟ قال الشاعر: منذ أشهر. قال رءوف: ولم تكن تراها قبل ذلك؟ قال الشاعر: لا أعلم أني رأيتها قبل أن تلم بنا تلك الأحداث. وهنا أطرق رءوف إطراقة طويلة، ثم قال: أما أنا فأعرف متى رأيتها لأول مرة، أتذكر تلك الليلة التي أنفقتها في مكتبي ساهرا أنتظر الصباح! في هذه الليلة رأيت هذه النار تتألق من وراء النهر، ولست أدري لماذا وصلت نفسي الحائرة بين ظهور هذا اللهب المضطرب، على هذه القمة الساكنة، وبين مصرع تلك الفتاة التي أغواها نعيم، وقتلها أخوها في العاصمة على ملأ من الناس، لقد ألقي في روعي ليلتئذ أن هذه الفتاة قد عبرت النهر لتستقر في حيث يستقر الذين يعبرونه دائما، وأن بين هذه الفتاة في دارها النائية وبين دارنا هذه أسبابا لم تنقطع وأوطارا لم تنقض، فهي تشير بهذا اللهب، الذي يخفق دائما ولكننا لا نراه إلا حين يجن الليل، إلى ما بينها وبيننا من أسباب وأوطار.
قال الشاعر وهو يرفع القدح إلى فمه: تفسير لا بأس به، إنك لتعلم أن ما وراء النهر أشد غموضا من أن تنفذ إليه أفهامنا، وطالما سألت النهر عما وراءه فلم ينبئني بشيء. قال رءوف: أما أنا فما أشك في صدق ما أحدثك به، وإلا فما بال هذا اللهب لم يخفق، وما بال أعيننا لم تره إلا منذ صرعت تلك الفتاة؟! ولكن في الأمر ما هو أشد من هذا غرابة وأعظم خطرا، أتعلم أني أجد في خفق هذا اللهب شيئا يشبه أن يكون لي، وأن نفسي تنازعني إلى أن أعبر النهر؟ قال الشاعر: حسبك! فإني أخشى على عقلك الاختلاط، ولو علمت أنك تسمع لي إن أشرت عليك، لقلت إن حاجتك إلى الرحلة والاغتراب ليست أقل من حاجة نعيم. قال رءوف في صوت يشبه أن يكون همسا، وقد مال إلى أذن صاحبه كأنما يريد أن يسر إليه: فإنك لا تعرف من القصة كل شيء. قال الشاعر: وفي القصة إذن شيء غير ما علمت؟ قال رءوف: نعم؛ في القصة أن هذه الفتاة كانت قد وقعت من نفسي موقعا غريبا، قبل أن يفتن بها نعيم.
قال الشاعر في صوت يريد أن يتفجر غيظا ولكن الشاعر يرده إلى الاعتدال والقصد: ومن أجل هذا نفيت ابنك من الأرض؟ قال رءوف: نعم؛ وأخشى أن أكون نفيته من قلبي!
13
افترق الصديقان بعد ساعة تسلط عليهما صمت عميق، ولكن واحدا منهما لم ينم من ليلته تلك: فأما الشاعر فلم يكد يبلغ حجرة مكتبه حتى أقبل على دفتره ذاك الذي كان يسجل فيه يومياته فتحدث إليه حديثا طويلا، وأما رءوف فلم يكد يبلغ مكتبه حتى أنفق فيه ليلة مجنونة، يرقب من نافذته ذلك اللهب المضطرب ثم ينصرف عنها حين يعييه الوقوف، فيجلس إلى شرابه جلسة تقصر أو تطول، ولكنها تسكت عنه ذلك اللهب المضطرم في جوفه لحظة، وهو كذلك مضطرب بين شرابه يؤجج في جوفه ورأسه نارا، وبين نافذته التي تريه من وراء النهر، على تلك القمة الشاهقة في السماء، نارا أخرى لا يريد لهبها المضطرب أن يخبو ...
صفحة غير معروفة