وقد علمنا النقاد منذ عهد بعيد أن هناك صلة متينة دقيقة بين أقوال الناس وأعمالهم، وبين البيئة التي يعيشون فيها ويتأثرون بدقائقها في حياتهم اليومية، ولو قد عاش أشخاص هذه القصة في دار متواضعة أو في قصر يقوم على الأرض المنبسطة السهلة - لا على هذه الربوة المرتفعة التي تمتاز مما حولها من الأرض، وترفع قصرها فوق ما حولها من القصور والدور، وتنحدر بشجرها وزهرها في سذاجة ويسر إلى النهر - أقول: لو قد عاش أشخاص هذه القصة في دار متواضعة أو قصر يقوم على السهل لما أجروا ما أجروا من الأحداث، ولما أصابهم ما أصابهم من الخطوب.
فغرفات القصر وحجراته، وأفنية القصر وأبهاؤه، وهذه الدهاليز الكثيرة الملتوية، وهذه النجوم المتقابلة المتدابرة، وهذا الزهر المنسق المنمق، كل أولئك قد فرض على أهل القصر لونا أو ألوانا من الحياة لم يكونوا يستطيعون إلا أن يخضعوا له ويسلكوا في سيرتهم ما يلائمه، وكل أولئك قد أغرى هذا الشخص أو ذاك من أشخاص القصة بهذا العمل أو ذاك من أعماله، وبهذا القول أو ذاك من أقواله، بحيث لم يكن بد من أن تحدث هذه الأحداث في هذا المكان المقسوم لها دون غيره من الأمكنة، وإلا لبطلت قواعد الفن، ولفسد التاريخ الأدبي، ولذهب الأدباء بإنتاجهم الأدبي كل مذهب وسلكوا به كل سبيل، لا يخضعون لأصل من الأصول، ولا يتقيدون بقانون من القوانين التي وضعها أرسطاطاليس وأسلافه وأخلافه ولم يفرغوا من وضعها إلى الآن.
وإذن فلا بد لهذه القصة من ربوة عظيمة الارتفاع والاتساع، ومن قصر شاهق، وشجر باسق، وزهر رائق، ونجم شائق، ونهر دافق يجري من تحت هذا كله في أناة حينا وفي عنف حينا آخر، فإذا فقد شيء من هذا ضاعت القصة وما أظنك ترغب في أن تضيع؛ فأنت محتاج إليها لتنفق الوقت في القراءة، وأنا محتاج إليها لأنفق الوقت في الإملاء، والمجلة محتاجة إليها لتملأ عددا من صفحاتها قليلا أو كثيرا.
كل شيء يضطرني إلى أن أملي، وكل شيء يضطر المجلة إلى أن تنشر، وكل شيء يضطرك إلى أن تقرأ، وكل أولئك يفرض علينا جميعا أن نقبل هذه الربوة وما فيها وما عليها لنمضي فيما يسر له كل منا من الكتابة والنشر والقراءة. فلتكن هذه الربوة ما دام لا بد لها ولنا من أن تكون، ولكنها لا تستطيع أن توجد في القاهرة؛ لأن شاطئ القاهرة منبسط مستو ليس فيه نجاد ولا وهاد. فلو زعمنا أن الربوة قائمة في هذا المكان أو ذاك من المدينة لاستطاع من شاء من القراء أن يواجهنا بالإنكار ويخاصمنا بالحقائق الواقعة، ويضيع علينا القصة وما بذلنا في كتابتها ونشرها وقراءتها من الجهود.
وأكاد أعتقد أن هذه الربوة لا توجد على شاطئ النيل في مصر كلها، فلست أزعم أني قد تتبعت الشاطئ المصري كله على النيل، ولكني لم أسمع قط عن ربوة كهذه الربوة، ولا عن قصر كهذا القصر. ولو قد وجدت هذه الربوة وقصرها الشاهق وجنتها الرائعة لكثر عنها الحديث في كتب الخطط أولا، وفي الصحف والمجلات ثانيا، وعلى ألسنة الناس بعد ذلك؛ لأن جو مصر من الصفاء والنقاء بحيث لا يخفى شيء فيها على أحد من الناس إلا أن تتكاثف عليه الرمال كما تتكاثف على الآثار. وقصتنا لم تحدث في العصر القديم، وإنما نزعم أنها حدثت في هذا العصر الذي نعيش فيه، عاصرتنا أو سبقتنا إلى الوجود بوقت قصير جدا.
ومن الجائز أن تكون هذه الربوة مسحورة، توجد لتفنى، وتفنى لتوجد، تظهر اليوم لتستخفي غدا، وتستخفي غدا لتظهر بعد غد؛ شأنها في ذلك شأن كثير من المدن والقرى التي يتحدث عنها القصاص ويراها الرحالون في قلب الصحراء أو في أطرافها. ولكني أستبعد ذلك، لا لأنه في نفسه بعيد أو مخالف لقوانين الطبيعة؛ فقوانين الطبيعة لا تستطيع أن تثبت أمام قوانين الفن، وقوانين الفن تبيح أن توجد الربى وتفنى، وأن تظهر وتخفى، بل هي تبيح أن توجد هذه الربوة في مدينة القاهرة نفسها إلى أن تقع أحداث القصة. ثم تمضي بما عليها ومن عليها كأن لم تغن بالأمس، وما دام الزمان يمضي فليس بأس من أن يمضي المكان كما يمضي الزمان. وإذا استبعدت أن تكون هذه الربوة في مدينة القاهرة، فمصدر ذلك أن القراء يتفاوتون في الثقافة ويختلف علمهم بأصول الفن. وما أحب أن ينجم لي منهم قارئ أو قراء يزعمون لي أن لا وجود لهذه الربوة في القاهرة ويجادلون فيما لا معنى للجدال فيه.
وأنا مع ذلك أستبعد أن تكون هذه الربوة مصرية لعلة أخرى لا تتصل بطبيعة الأرض ولا بتقويم البلدان، وإنما هي أعظم خطرا من طبيعة الأرض ومن تقويم البلدان؛ لأنها تتصل بالأخلاق، فأهل مصر كلهم أخيار أبرار. لا يحبون شيئا كما يحبون العدل، ولا يبغضون شيئا كما يبغضون الجور، ولا يؤثرون شيئا كما يؤثرون ذكاء القلب وصفاء النفس وطهارة الضمير، ولا يرفعون أنفسهم عن شيء كما يرفعونها عن مقارفة الإثم ومصاحبة الفساد، ينأون عن السيئات أشد ما يكون النأي، ويتجافون عن الموبقات أشد ما يكون التجافي، وينزهون أنفسهم عن الخطيئة أشد التنزيه؛ فلست ترى بينهم قويا يستذل ضعيفا، ولا غنيا يستذل فقيرا، ولا ناعما يستطيل على بائس، ولا سعيدا يستخف بشقي. ولست ترى بينهم متعجلا للمنفعة، ولا مؤجلا لعمل من أعمال البر، ولا مضحيا بمصلحة الكافة في سبيل المصلحة الخاصة، ولا مؤثرا لنفسه بالخير من دون مواطنيه.
ولست ترى بينهم من يستحب الحياة الدنيا على الآخرة، ويؤثر العاجلة على الآجلة، ويتهالك على اللذات لا يصطنع في سبيلها أناة ولا وقارا، ويقبل على الآثام لا يرى في الإقبال عليها حرجا ولا جناحا؛ لست ترى من بينهم أحدا يهم بشيء من ذلك أو يفكر فيه أو يصد نفسه عنه متكلفا من الجهد قليلا أو كثيرا، وإنما هم قوم فطروا على البر والإحسان، وركبت في طبائعهم خصال التعاون والتناصف والاستباق إلى الخيرات، وائتلفت أذواقهم من حب الجمال المادي والمعنوي؛ فهم يكرهون أشد الكره القبح الذي تتأذى به العيون، وهم ينفرون أشد النفور من القبح الذي تشمئز منه النفوس، حياتهم الأولى في هذه الدنيا مشاكلة كل المشاكلة لحياة الصالحين المقربين في الجنة التي وعد الله عباده المتقين. وفي هذه القصة، كما سترى، شيء من ظلم وجور، وشيء من استطالة واستعلاء، وشيء من الاستئثار باللذات في غير تحرج، والإقدام على الآثام في غير تحفظ، والاستهتار بما يأبى الرجل الكريم أن يستهتر به أو يظهر الناس على ميله إليه ورغبته فيه. فلا يمكن إذن أن تحدث هذه القصة في مصر؛ لأن أحداثها منافرة أشد المنافرة للمعروف المألوف من أخلاق المصريين في عصورهم المختلفة وفي عصرهم هذا الحديث خاصة؛ لأن الأخيار يمضون في الخير كلما تقدم الزمان، كما أن الأشرار يتخففون من الشر كلما ارتقت الحضارة. وأكبر الظن أن حياة المصريين قد بلغت من الصفاء والنقاء على تقدم الزمن طورا ليس بينه وبين حياة الملائكة في السماء إلا آماد قصار. وإذا كان الجيل المعاصر منهم يسعد بهذه الحياة الراضية الرخية النقية أكثر مما سعدت الأجيال الماضية، فإنه على سعادته العظيمة شقي بالقياس إلى ما ستظفر به الأجيال المقبلة من هذه السعادة التي لا يمكن أن توصف بلغة الناس؛ لأنها لم تقدر للناس في حياتهم الدنيا.
ليست هذه القصة مصرية إذن؛ لأن مكانها لا يوجد في أرض مصر، ولأن أشخاصها لا يعيشون في جو مصر، ولأن أحداثها لا تلائم طبائع المصريين. وإذن فقد تسأل نفسك كما أسأل نفسي: أين وقعت أحداث هذه القصة؟ والحق أن الجواب عن هذا السؤال ليس شاقا ولا عسيرا؛ فما أكثر البلاد التي ترتفع فيها الربى على ضفاف الأنهار، وترتفع فيها القصور الشاهقة المترفة على قمم الربى! وإذا لم تكذبني الذاكرة فإن شاعرا من أصحاب الموشحات قد صور لنا ربى كثيرة في إسبانيا، كان يطلب إلى السحب أن تجلل تيجانها بالحلي، وأن تجعل منعطفات الجداول لها أساور من لجين، وإن شئت فقل أساور يختلف معدنها باختلاف ما يلقى عليها من الضوء وما يعكس عليها من الألوان؛ فهي من فضة حين يمتع النهار، وهي من ذهب حين يترقرق على صفحاتها ضوء الأصيل.
والمهم أن هذا الشاعر الموشح الموفق قد دلنا على مكان هذه الربوة الرائعة التي يقوم عليها هذا القصر المنيف. فلنقل إذن إنها في إسبانيا. وأنت تعرف أن إسبانيا هي البلد الذي يبني الخيال فيه ما يشاء من القصور ومن القصور المطاوعة التي ترتفع في السماء وتتسع في الفضاء ما شئت لها الارتفاع والاتساع، والتي تنخفض وتنقبض حين تريد لها الانخفاض والانقباض، والتي تندك وتنهار وتصبح أطلالا بالية حين تريد أن تقف عليها كما كان يقف الشعراء القدماء على أطلالهم، وأن تنشد عليها هذا الشعر الذي أنشده النابغة على طلله القديم:
صفحة غير معروفة