بعد بناء صور ذهنية لهذه المجموعات الثلاث من الأشخاص في عقلك، اسمح لردود أفعالك العادية تجاههم بالظهور. لاحظ أفكارك ومشاعرك تجاه كل مجموعة تلو الأخرى. ستجد أن نزعتك التلقائية هي أن تشعر تجاه المجموعة الأولى بالتعلق، وتجاه المجموعة الثانية باللامبالاة، وتجاه المجموعة الثالثة بالعداء. حين تدرك هذا، تنتقل بعد ذلك إلى استجواب عقلك والنظر في كيفية تأثير كل من هذه الاستجابات الثلاث عليك. سوف تجد أن مشاعرك تجاه أعضاء المجموعة الأولى سارة، وتلهمك ثقة معينة وقوة تقترن بالرغبة في تخفيف معاناتهم أو منعها. وستلاحظ أن مشاعرك تجاه المجموعة الثانية لا تثيرك ولا تلهمك بأفكار معينة للاهتمام بهم على الإطلاق. أما المجموعة الثالثة، فستجد أن مشاعرك تجاهها تحفز عقلك في اتجاهات سلبية.
الخطوة التالية هي الانخراط في التأمل باستخدام قدرتك النقدية. فالأشخاص الذين نعتبرهم اليوم من أعدائنا ربما لا يظلون كذلك، وهذا ينطبق أيضا على أصدقائنا. ثم إن مشاعرنا تجاه الأصدقاء، مثل التعلق، قد تسبب لنا أحيانا المشكلات، وقد تفيدنا تفاعلاتنا مع الأعداء في أحيان أخرى؛ إذ يمكن أن تجعلنا أقوى وأكثر انتباها. ربما يقودك التأمل في مثل هذه التعقيدات إلى التفكير في عدم جدوى المغالاة في الارتباط بالآخرين، سواء أكانوا أعضاء في المجموعة الثالثة أم حتى في الأولى. فور أن ترى أن هذه الطريقة في الارتباط بالآخرين تعيق قدرتك على تنمية حسن النية تجاههم، وتدرك تأثيرها السلبي على راحة بالك، تحاول بعد ذلك أن تخفف من حدة مشاعرك المتطرفة. مع مرور الوقت، يصبح الهدف أن تكون قادرا على التواصل مع الآخرين، وليس بصفتهم أصدقاء أو أعداء تبعا لتصنيفك التقسيمي لهم، بل بصفتهم إخوة لك في الإنسانية تدرك المساواة الأساسية بينك وبينهم.
أما بالنسبة إلى الشكل الثاني من ممارسة الاتزان، فقد ناقشت العديد من نقاطه بالفعل في الفصل الثاني الذي يتحدث عن إنسانيتنا المشتركة، ويمكن دمجها أيضا في سياق الحديث عن عملية التنمية العقلية هنا. تتمثل النقاط الرئيسية في حقيقتين بسيطتين هما؛ مثلما أنني شخصيا لدي رغبة غريزية ومشروعة في تحقيق السعادة وتجنب المعاناة فالآخرون أيضا كذلك، ومثلما أن لدي الحق في تحقيق جميع هذه التطلعات الفطرية فهم أيضا يتمتعون بالحق نفسه. عند التفكير في هاتين النقطتين، يمكننا بعد ذلك أن نسأل أنفسنا: على أي أساس نميز بقوة بيننا وبين الآخرين؟ إذا مارسنا هذا التمرين مرارا وتكرارا، لا في جلسة واحدة أو جلستين فحسب، بل على مدار أسابيع وشهور وحتى سنوات، فسنجد تدريجيا أننا قادرون على توليد اتزان داخلي حقيقي قائم على أساس الإدراك العميق للتطلع البشري المشترك والفطري إلى السعادة، وكراهية المعاناة. (7-5) الابتهاج بنماذج الآخرين
من التمارين الأخرى التي يمكن أن تكون مفيدة للغاية في تنمية الحالات الذهنية النافعة، ممارسة استطرادية تتخذ من النموذج الجيد لشخص نكن له إعجابا كبيرا موضوعا لها. وهذه الممارسة شبيهة في بعض النواحي باتخاذنا بعض الشخصيات قدوة نستلهم بها. بالنسبة إلى من ينتمون إلى خلفية علمانية، ربما تكون هذه القدوة شخصا من الماضي أو الحاضر ونعجب به لرحمته وإيثاره على وجه الخصوص؛ ربما طبيب أو ممرض أو مدرس أو عالم. أما المؤمنون بالأديان، فربما يكون القدوة هو مؤسس التقليد الديني أو قديسا من تاريخه. فمن خلال التفكير في حياة الشخص الذي نعجب به، والتأمل في الكيفية التي يعيش بها لنفسه أو للآخرين، وكيف أن سلوكه يتسم بالرأفة أو كان يتسم بها، نألف النموذج الذي يمثله.
أحد أهداف هذا النوع من التدريب الذهني التحليلي هو الإدراك المباشر لصفة معينة. في هذه الحالة، نحلل ما يحفز الناس على تكريس أنفسهم للآخرين. وبعد تحديد هذه الصفة، نركز عليها، ونتوقف بعقولنا عندها؛ إذ يعد ذلك طريقة للارتباط بالصفة من خلال التبصر الفطري المباشر في دافع الرأفة الذي هو الهدف النهائي لهذا التمرين. بعبارة أخرى، تتمثل فكرة هذا التمرين في تدريب أنفسنا على التصرف في حياتنا اليومية، على النحو الذي يتصرف به الشخص الذي نعجب به، ومن ثم فعندما ندرك على سبيل المثال، معاناة الآخرين، نشعر بالرغبة في الاستجابة على النحو الذي كان هذا الشخص سيستجيب به. وبهذا؛ فإننا نسعى أولا إلى تغيير موقفنا تجاه الآخرين ثم إلى تغيير سلوكنا. وهذا في نهاية المطاف، هو المقصد من ممارستنا؛ تشكيل أفعالنا بوعي والتأثير فيها. وإذا لم يحدث ذلك، فلا جدوى إذن من الممارسة. (7-6) التعامل مع المواقف والمشاعر المؤذية
من المجالات التي يمكن أن يكون للتدريب العقلي الاستطرادي أو التحليلي فيها فاعلية كبيرة، التعامل مع المشاعر والمواقف المؤذية. ومن أفضل المراحل التي يمكنك البدء بها، اختيار حالة ذهنية مؤذية هي السائدة لديك على المستوى الشخصي. فجميعنا يمتلك كل هذه الأنواع من المشاعر والمواقف المؤذية، لكن الأفراد يختلفون في الأنواع المحددة التي تهيمن عليهم على المستوى الشخصي. بعضنا أكثر عرضة للمشاعر المؤذية التي تنتمي إلى عائلة الغضب، مثل الانزعاج والاضطراب والعدائية وحدة المزاج. وبعضنا الآخر أكثر عرضة للحسد والغيرة وعدم التسامح مع نجاح الآخرين، أو للمشاعر المؤذية التي تنتمي إلى عائلة التعلق، مثل الرغبة والتوق الشديدين والجشع والشهوة. بينما يعاني بعض الأفراد مشكلة معاكسة، وهي اللامبالاة أو عدم القدرة على التواصل مع الآخرين.
بعد اختيار الشعور أو الموقف المؤذي الذي ستتعامل معه أولا، تبدأ كما هو موضح سابقا، في إراحة العقل والتهدئة من خلال تمارين التنفس. وحينها تصبح مستعدا لبدء الممارسة الفعلية.
أولا، تأمل التأثيرات الهدامة للحالة الذهنية التي اخترتها. عند التعامل مع الغضب على سبيل المثال، يمكنك التأمل في أنه يربك هدوءك الذهني على الفور، وأنه أيضا يخلق مزاجا سلبيا يفسد الأجواء من حولك. فكر أيضا في أنك في خضم الغضب تميل إلى قول أشياء قاسية حتى لمن تهتم بأمرهم حقا، وأن هذا بوجه عام يؤثر سلبا على تفاعلاتك مع الآخرين. يجب أن يكون تأمل الطبيعة الهدامة لهذه الحالات الذهنية عميقا بما يكفي كي يتسم موقفك الأساسي تجاه مثل هذه الحالات مع مرور الوقت بالحذر واليقظة. قال أحد المتأملين التبتيين المشهورين ذات مرة: «لدي مهمة واحدة فقط علي إنجازها؛ أن أقف حارسا عند مدخل عقلي. عندما تترقبني المشاعر المؤذية، أظل مترقبا لها، وعندما تسكن، أسكن.»
حالما تقتنع بالطبيعة الهدامة لهذه المشاعر المؤذية، تنتقل بعد ذلك إلى المرحلة التالية من التأمل. تنطوي هذه المرحلة على تطوير وعي أكبر بالحالات الذهنية نفسها، لا سيما بدايتها. وعندما تعي ما تشعر به عندما تظهر هذه المشاعر؛ مثل ما تجعلك تشعر به ماديا على مستوى جسدك، وما تجعلك تشعر به على المستوى الذاتي أو النفسي، يمكنك أن تتعلم التعرف عليها قبل أن يبدأ تأثيرها المدمر. كلما زادت دقتك في التعرف على الخصائص المحددة المرتبطة بظهور مشاعر بعينها، زادت فرصتك في استحضار الوعي واليقظة الذهنية إلى العملية، ومن ثم التدخل مبكرا في سلسلة السببية.
أما المرحلة الثالثة من هذه الممارسة للتنمية العقلية للتعامل مع الحالات الذهنية المؤذية، فهي استخدام الترياق المناسب لكل من الحالات: على سبيل المثال، التحمل لمواجهة الغضب، والحنان الناشئ عن الحب لمواجهة الكراهية، والتفكير في نواقص الشيء لمواجهة الجشع أو الرغبة الملحة في الحصول عليه. ويمكن لهذه الطريقة أن تكون فعالة إلى حد كبير في انحسار الحالات الذهنية المؤذية.
صفحة غير معروفة