شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: رؤية جديدة لأخلاق علمانية
1 - إعادة النظر في العلمانية
2 - إنسانيتنا المشتركة
3 - البحث عن السعادة
4 - الرأفة: أساس الرفاهية
5 - الرأفة ومسألة العدالة
6 - أهمية الفطنة
7 - الأخلاق في عالمنا المشترك
صفحة غير معروفة
الجزء الثاني: تربية القلب عن طريق تدريب العقل
مقدمة: البدء بالنفس
8 - اليقظة الأخلاقية في الحياة اليومية
9 - التعامل مع المشاعر الهدامة
10 - تنمية القيم الداخلية الأساسية
11 - التأمل كتنمية للعقول
خاتمة
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: رؤية جديدة لأخلاق علمانية
صفحة غير معروفة
1 - إعادة النظر في العلمانية
2 - إنسانيتنا المشتركة
3 - البحث عن السعادة
4 - الرأفة: أساس الرفاهية
5 - الرأفة ومسألة العدالة
6 - أهمية الفطنة
7 - الأخلاق في عالمنا المشترك
الجزء الثاني: تربية القلب عن طريق تدريب العقل
مقدمة: البدء بالنفس
8 - اليقظة الأخلاقية في الحياة اليومية
صفحة غير معروفة
9 - التعامل مع المشاعر الهدامة
10 - تنمية القيم الداخلية الأساسية
11 - التأمل كتنمية للعقول
خاتمة
ما وراء الأديان
ما وراء الأديان
أخلاقيات لعالم كامل
تأليف
الدالاي لاما
ترجمة
صفحة غير معروفة
ياسمين العربي
مراجعة
الزهراء سامي
شكر وتقدير
لقد حالفني الحظ بتأليف هذا الكتاب؛ إذ ساعدني فريق التحرير نفسه الذي عمل في كتابي السابق «أخلاق للألفية الجديدة» إضافة إلى شخص آخر أو اثنين. ولهذا أود أن أعرب عن شكري وامتناني لجهود الأعضاء المعنيين في مكتبي الخاص، وللمساعدة القيمة التي قدمها مترجمي، الذي يتولى ترجمة أعمالي منذ فترة طويلة، ثوبتين جيمبا لانجري، وامتناني أيضا لما أولاه ألكسندر نورمان ومساعده جورج فيتزهيربرت، من عناية في التحرير.
إنني آمل مخلصا أن يسهم ما هو مكتوب هنا، في بناء عالم أكثر رأفة وأكثر سلاما، وإن كان ذلك بدرجة صغيرة للغاية. بالطبع لن نغير العالم بين عشية وضحاها. ولن نغيره بأطروحة صغيرة كهذه. وإنما سيأتي التغيير تدريجيا من خلال زيادة الوعي، ولن يتحقق الوعي إلا بالتعليم. إذا وجد القارئ أي فائدة فيما هو مكتوب هنا، إذن فقد آتت مساعينا ثمارها بسخاء. وإذا لم يجد القارئ مثل هذه الفائدة، فلا يشعرن بأي حرج في أن يضع هذا الكتاب جانبا.
الدالاي لاما
دارامسالا، 2 يونيو 2011
مقدمة
أنا الآن رجل عجوز. ولدت عام 1935 في قرية صغيرة شمال شرق التبت. ولأسباب خارجة عن سيطرتي، عشت معظم حياتي في سن البلوغ لاجئا عديم الجنسية في الهند، التي ظلت موطني الثاني لأكثر من خمسين عاما. كثيرا ما أقول مازحا إنني أطول ضيف مكث في الهند. ومثل الكثيرين ممن هم في مثل عمري، شهدت العديد من الأحداث المؤثرة التي شكلت العالم الذي نعيش فيه. ومنذ أواخر ستينيات القرن العشرين، سافرت كثيرا أيضا، وشرفت بلقاء أناس ينتمون إلى العديد من الخلفيات المختلفة؛ فلم يقتصر من التقيت بهم على رؤساء الدول ورؤساء الوزراء، والملوك والملكات، والقادة من جميع الأديان الكبرى في العالم، بل التقيت أيضا عددا كبيرا من الأشخاص العاديين من جميع مناحي الحياة.
صفحة غير معروفة
حين أتأمل العقود الماضية، أجد العديد من الأسباب التي تبعث على السرور. فقد أدى تقدم العلوم الطبية إلى القضاء على أمراض فتاكة. وانتشل ملايين الأشخاص من الفقر، وتمكنوا من تلقي أنظمة حديثة في التعليم والرعاية الصحية. لدينا أيضا إعلان عالمي لحقوق الإنسان، وقد نما الوعي بأهمية هذه الحقوق نموا هائلا. ونتيجة لذلك، انتشرت مبادئ الحرية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم، مع زيادة الاعتراف بوحدة الإنسانية. ثمة وعي متزايد أيضا بأهمية البيئة الصحية. فمن نواح كثيرة، كانت فترة نصف القرن الماضي تقريبا، فترة من التقدم والتغير الإيجابي.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من التقدم الهائل في الكثير في المجالات، لا يزال مقدار المعاناة كبيرا، ولا تزال الإنسانية تواجه صعوبات ومشكلات هائلة. فبينما يتمتع الناس في الأجزاء الأكثر ثراء من العالم بأنماط حياة تتسم بارتفاع الاستهلاك، لا يزال هناك ملايين لا حصر لها لا تلبى احتياجاتهم الأساسية. وبالرغم من انحسار خطر الدمار النووي العالمي مع نهاية الحرب الباردة، فإن الكثيرين لم يزالوا يتكبدون معاناة الصراع المسلح ومآسيه. وفي العديد من المناطق أيضا، يتعين على الناس التعامل مع المشكلات البيئية، وتصحبها التهديدات التي تواجه معيشتهم وما هو أسوأ من ذلك. في الوقت نفسه، يكافح كثيرون آخرون من أجل البقاء في مواجهة انعدام المساواة، وتفشي الفساد والظلم.
لا تقتصر هذه المشكلات على بلاد العالم النامي. ففي البلدان الغنية أيضا، يوجد العديد من الصعوبات، بما في ذلك انتشار المشكلات الاجتماعية من إدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والعنف المنزلي، والتفكك الأسري. الناس قلقون على أطفالهم، وقلقون بشأن تعليمهم وما يخبئه العالم لهم. الآن، علينا أيضا أن نعترف باحتمالية أن يكون النشاط البشري مضرا بكوكبنا إلى حد لا يمكن التراجع بعده، وهو تهديد يخلق المزيد من الخوف. كما أن جميع ضغوط الحياة الحديثة تجلب معها أيضا مشاعر التوتر والقلق والاكتئاب والشعور المتزايد بالوحدة. ونتيجة لهذا، ففي كل مكان أذهب إليه، أجد الناس يشكون. أنا نفسي أشتكي من وقت لآخر!
من الواضح أن شيئا ما ينقصنا بشدة في طريقة تعاملنا - نحن البشر - مع الأمور. لكن ما هذا الذي ينقصنا؟ أعتقد أن المشكلة الأساسية هي أننا نولي الكثير من الاهتمام للجوانب الخارجية والمادية في الحياة، بينما نهمل الأخلاق والقيم الداخلية، ونحن نفعل ذلك على جميع المستويات.
ما أعنيه بالقيم الداخلية هي تلك الصفات التي يقدرها جميعنا في الآخرين، وتحدونا نحوها غريزة فطرية توارثناها من طبيعتنا البيولوجية بصفتنا كائنات لا تعيش ولا تنمو إلا في بيئة من الاهتمام والمودة والحنو؛ وهو ما يمكننا التعبير عنه بكلمة واحدة هي التعاطف. إن جوهر التعاطف هو الرغبة في تخفيف معاناة الآخرين وتعزيز سعادتهم. هذا هو المبدأ الروحاني الذي تنبثق منه جميع القيم الداخلية الإيجابية الأخرى. جميعنا يقدر ما يتسم به الآخرون من صفات داخلية تتمثل في الطيبة والصبر والتسامح والصفح والكرم، ومن المنطلق نفسه نبغض جميعا مظاهر الجشع والحقد والكراهية والتعصب الأعمى. ومن ثم؛ فإن التشجيع الفعال على الصفات الداخلية الإيجابية لقلب الإنسان، التي تنشأ من نزعتنا الجوهرية للتعاطف، مع تعلم محاربة نزعاتنا الأكثر تدميرا سيحظى بتقدير الجميع. وسنكون نحن أنفسنا أول المستفيدين من هذا التعزيز لقيمنا الداخلية دون شك. إننا نتجاهل حياتنا الداخلية على نحو يعرضنا للخطر، وكثير من المشكلات الكبرى التي نواجهها في عالمنا اليوم قد نتجت عن هذا التجاهل.
منذ وقت ليس ببعيد زرت أوريسا، وهي منطقة في شرق الهند. ومؤخرا أدى الفقر في هذا الجزء من البلاد، وخاصة بين مجموعات القبائل، إلى تصاعد الصراع والتمرد. فالتقيت بعضو برلماني من المنطقة وناقشنا هذه القضايا. فهمت منه أنه يوجد عدد من الآليات القانونية والمشروعات الحكومية الجيدة التمويل القائمة بالفعل، التي تهدف إلى حماية حقوق مجموعات القبائل وكذلك إلى منحهم المساعدة المادية. قال إن سبب المشكلة هو الفساد الذي أدى إلى أن هذه البرامج لم تعد بالنفع على الفئات المستهدفة بالمساعدة. عندما تخرب مثل هذه المشروعات بسبب عدم الأمانة وعدم الكفاءة وانعدام المسئولية على يد أولئك المكلفين بتنفيذها، فإنها تصبح بلا قيمة.
يظهر هذا المثال بوضوح شديد أنه حتى عندما يكون النظام سليما، فإن فعاليته تعتمد على طريقة استخدامه. وفي النهاية، لا يمكن لأي نظام، أو أي مجموعة من القوانين أو الإجراءات، أن يكون فعالا إلا بقدر فاعلية الأفراد المسئولين عن تنفيذه. ذلك أنه إذا أسيء استخدام أحد الأنظمة الجيدة بسبب انعدام النزاهة لدى بعض الأشخاص، فمن السهل أن يصبح هذا النظام مصدرا للضرر لا مصدرا للمنفعة. هذه حقيقة عامة تنطبق على جميع مجالات النشاط البشري، وحتى على الدين. لا شك بأن الدين لديه القدرة على مساعدة الأشخاص على الشعور بالسعادة في حياتهم وتحقيق المعنى منها، لكن حين يساء استخدامه، فإنه يمكن أن يصبح هو أيضا مصدرا للنزاع والانقسام. ينطبق الأمر نفسه في المجالات التجارية والمالية؛ إذ ربما تكون الأنظمة في حد ذاتها سليمة، لكن إذا كان من يستخدمونها عديمي الضمير ويغلبون خدمة مصالحهم الشخصية، فستتضاءل منافع تلك الأنظمة. ومن المؤسف أننا نشهد حدوث هذا في أنواع كثيرة من الأنشطة البشرية؛ حتى في الرياضات الدولية؛ إذ يهدد الفساد مفهوم اللعب النزيه نفسه.
مما لا شك فيه أن الكثيرين من الأشخاص الذين يتسمون بالحكمة يدركون تلك المشكلات ويعملون بإخلاص على إصلاحها من داخل مجالات خبراتهم. ثمة أشخاص يشاركون بالفعل في هذا الجهد من جميع الفئات؛ فمنهم السياسيون، وموظفو الخدمة المدنية، والمحامون، والمعلمون، ودعاة حماية البيئة، والنشطاء، وغيرهم. هذا جيد جدا إلى حد ما، لكن الحقيقة أننا لن نحل مشكلاتنا أبدا إذا اكتفينا بوضع قوانين ولوائح جديدة. ففي النهاية، يكمن مصدر مشكلاتنا في مستوى الفرد. إذا كان الأفراد يفتقرون إلى القيم الأخلاقية والنزاهة، فلن يكون أي نظام من القوانين واللوائح كافيا. وما دام الناس يعطون الأولوية للقيم المادية، فسيستمر الظلم، والفساد، والإجحاف، والتعصب، والجشع؛ وجميع ذلك من مظاهر تجاهل القيم الداخلية.
فما الذي ينبغي لنا أن نفعله إذن؟ إلى أين نلجأ لطلب المساعدة؟ إن العلم، بجميع الفوائد التي جلبها لعالمنا الخارجي، لم يقدم بعد الأساس العلمي لتنمية أسس النزاهة الفردية؛ أي القيم الإنسانية الداخلية الأساسية التي نقدرها في الآخرين والتي ستنفعنا إذا نميناها في أنفسنا. ربما ينبغي لنا إذن أن ننشد القيم الداخلية في الدين مثلما فعل الناس لآلاف السنين؟ فلا شك بأن الدين قد ساعد ملايين الأشخاص في الماضي، ويساعد الملايين اليوم، وسيستمر في مساعدة الملايين في المستقبل. لكن بالرغم من جميع فوائده في تقديم الإرشاد الأخلاقي وإسباغ معنى على الحياة؛ ففي العالم العلماني الذي نحيا فيه اليوم، لم يعد الدين وحده كافيا لأن يكون أساسا أخلاقيا. ومن أسباب ذلك أن العديد من الأشخاص حول العالم لم يعودوا يتبعون دينا بعينه. ومن الأسباب الأخرى أيضا أنه في ظل تلك الدرجة الكبيرة من الترابط والتواصل بين شعوب العالم في عصر العولمة والمجتمعات المتعددة الثقافات، سنجد أن الأخلاق القائمة على دين واحد أيا كان، لن تروق إلا لبعضنا، ولن يدرك الجميع المعنى الذي تمثله. في الماضي، عندما كانت الشعوب تعيش كل منها في عزلة نسبية عن الأخرى، مثلما عشنا - نحن أهل التبت - على مدار قرون في سعادة خلف الجبال التي اتخذناها جدرانا لنا، فإن حقيقة أن الجماعات كانت تمارس مناهجها الأخلاقية المبنية على أساس ديني لم تكن تشكل أي صعوبات. أما اليوم، فإن أي حل يستند إلى الدين فيما يتعلق بمشكلة تجاهلنا للقيم الداخلية لن يكون حلا عالميا بأي شكل من الأشكال، ومن ثم فإنه لن يكون كافيا. ما نحتاج إليه اليوم هو نهج أخلاقي لا مرجعية فيه للأديان ، ومن شأنه أن يكون مقبولا بالقدر نفسه لدى المؤمنين بالأديان وغير المؤمنين بها؛ ما يلزمنا هو أخلاق علمانية.
قد يبدو غريبا أن يصدر هذا الرأي من شخص عاش منذ سن مبكرة في زي الرهبنة. غير أنني لا أرى تناقضا في ذلك. إن إيماني يوجب علي السعي وراء تحقيق الخير والمنفعة لجميع الكائنات الواعية، كما أنه يلزمني أيضا بتجاوز تعاليمي الخاصة كي أصل إلى أولئك الذين ينتمون لديانات أخرى وأولئك الذين لا ينتمون لأي دين؛ وهو ما يتماشى تماما مع رأيي هذا.
صفحة غير معروفة
إنني على ثقة من أن محاولة الوصول إلى نهج علماني جديد لأخلاق عالمية، أمر ممكن وجدير بالسعي إليه. وثقتي إنما تنبع من اقتناعي بأننا جميعا - جميع البشر - ننزع في الأساس نحو ما نتصور أنه الخير، أو ربما نحن مفطورون على هذا. وأيا كان ما نفعله، فإننا نفعله لأننا نعتقد أنه سيعود بمنفعة ما. وجميعنا أيضا يقدر طيبة الآخرين. إننا نتجه جميعا بطبيعتنا نحو القيم الإنسانية الأساسية المتمثلة في الحب والرأفة. كلنا يفضل حب الآخرين على كراهيتهم. جميعنا يفضل كرم الآخرين على شحهم. ومن منا لا يفضل التسامح والاحترام والعفو عن عيوبنا على التعصب وعدم الاحترام والضغينة؟
في ضوء ذلك، فإنني على يقين راسخ بأن لدينا في متناول أيدينا وسيلة لترسيخ القيم الداخلية دون التعارض مع أي دين، والأهم من ذلك أننا نستطيع تحقيق ذلك دون الاستناد إلى الدين. إن تطوير هذه الرؤية الجديدة للأخلاق وممارستها هو ما أعتزم توضيحه على مدار هذا الكتاب. وآمل أن يساعد ذلك في تعزيز الفهم بشأن حاجتنا إلى الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية في هذا العصر المفرط في المادية.
في البداية، يجب أن أوضح أن نيتي ليست أن أملي على الناس القيم الأخلاقية. فالقيام بذلك لن يجدي نفعا. ذلك أن محاولة فرض المبادئ الأخلاقية من الخارج، أو فرضها بالأوامر إن جاز التعبير، لا يمكن أن يكون فعالا أبدا. وبدلا من ذلك، فإنني أدعو كلا منا إلى تكوين فهمه الخاص لأهمية القيم الداخلية. لأن هذه القيم الداخلية هي المصدر لبناء عالم متناغم أخلاقيا، وهي أيضا مصدر السكينة الفردية والثقة والسعادة التي نسعى جميعا إليها. لا شك بأن جميع الأديان الكبرى في العالم، بتأكيدها على الحب والرأفة والصبر والتسامح والعفو، يمكنها تعزيز القيم الداخلية، وهي تفعل ذلك حقا. لكن واقع العالم اليوم هو أن تأسيس الأخلاق على الدين لم يعد كافيا. ولهذا السبب أعتقد أن الوقت قد حان لإيجاد طريقة تتجاوز الأديان، للتفكير في الروحانية والأخلاق.
الجزء
رؤية جديدة لأخلاق علمانية
الفصل الأول
إعادة النظر في العلمانية
(1) القيم الداخلية في عصر العلم
أنا رجل دين، لكن الدين وحده لا يمكن أن يحل جميع مشكلاتنا.
منذ وقت ليس ببعيد، حضرت حفلا رسميا بمناسبة افتتاح معبد بوذي جديد في بيهار، وهي ولاية فقيرة وذات كثافة سكانية مرتفعة للغاية تقع في شمال الهند. ألقى الوزير الأول لبيهار، وهو صديق قديم لي، خطابا جيدا أعرب فيه عن اقتناعه بأن ولاية بيهار ستزدهر الآن ببركات بوذا. وعندما جاء دوري للحديث، اقترحت - على نحو مازح إلى حد ما - أنه إذا كان ازدهار بيهار يعتمد على بركات بوذا فحسب، فإنه كان لا بد لها أن تزدهر منذ زمن طويل! ذلك أن بيهار هي موطن الموقع الأقدس لدى البوذيين: بود جايا، حيث بلغ بوذا الشهير الاستنارة الكاملة. إن التغيير الحقيقي يستلزم ما هو أكثر من بركات بوذا، بالرغم مما قد تتمتع به من قوة، ويستلزم أيضا ما هو أكثر من الصلاة. فعلاوة على ذلك، نحتاج إلى العمل، الذي لن يتحقق إلا من خلال الجهود المقتدرة للوزير الأول وآخرين من أمثاله!
صفحة غير معروفة
ليس القصد من هذا أن البركات والصلاة عديمة الجدوى. الحق أنني أرى أن الصلاة لها فائدة نفسية عظيمة. ولكن علينا أن نتقبل أن نتائجها الملموسة تصعب رؤيتها في كثير من الأحيان. فعندما يتعلق الأمر بالحصول على نتائج محددة مباشرة، يتضح أن الصلاة لا يمكن أن تضاهي إنجازات العلم الحديث على سبيل المثال. حين مرضت منذ بضع سنوات، كانت معرفتي بأن الناس يصلون من أجلي تطمئنني بالتأكيد، لكن يجب أن أعترف أن معرفتي بأن المستشفى الذي كنت أعالج فيه يضم أحدث المعدات المخصصة للتعامل مع حالتي مطمئنة بدرجة أكبر!
في ضوء تفوقنا المتزايد في العديد من جوانب العالم المادي خلال المائتي عام الماضية أو نحو ذلك، من غير المفاجئ أن نجد الكثير من الأشخاص اليوم يتساءلون عما إذا كنا نحتاج إلى الدين على الإطلاق. فالأشياء التي لم تكن في الماضي سوى محض أحلام؛ مثل القضاء على الأمراض، والسفر عبر الفضاء، وأجهزة الكمبيوتر، أصبحت حقيقة من خلال العلم. فلا غرو إذن أن يضع الكثيرون كل آمالهم في العلم لدرجة الاعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة بالوسائل التي يستطيع العلم المادي تقديمها.
وبالرغم من أنني أستطيع تفهم تقويض العلم للإيمان في بعض جوانب الدين التقليدي، فلست أرى سببا يجعل لتطور العلم التأثير نفسه على مفهوم القيم الداخلية أو الروحانية. حقيقة الأمر أن الحاجة إلى القيم الداخلية أكثر إلحاحا في عصر العلم هذا، مما كانت عليه في أي وقت مضى.
في محاولتي لتقديم حجة قوية تدعم التمسك بالقيم الداخلية والعيش الأخلاقي في عصر العلم، سيكون من المثالي أن أقدم هذه الحجة بعبارات علمية بحتة. وعلى الرغم من عدم إمكانية القيام بذلك بالاستناد إلى أسس البحث العلمي بصورة خالصة حتى الآن، فأنا متأكد من أنه مع مرور الوقت، سوف تظهر تدريجيا حجج علمية أكثر موثوقية تؤيد فوائد القيم الأخلاقية الداخلية.
لست عالما بالطبع، ولم يكن العلم الحديث جزءا من تعليمي الرسمي عندما كنت طفلا. ومع ذلك، فمنذ جئت إلى المنفى، نجحت في تحصيل الكثير مما فاتني. وعلى مدار أكثر من ثلاثين سنة حتى الآن، عقدت اجتماعات منتظمة مع خبراء وباحثين في العديد من المجالات العلمية؛ منها الفيزياء، وعلم الكونيات، وعلم الأحياء، وعلم النفس، مع التركيز مؤخرا على علم الأعصاب.
تركز التقاليد التأملية في جميع الأديان تركيزا كبيرا على استكشاف العالم الداخلي للتجربة والوعي؛ لذلك كان أحد أهدافي في تلك المناقشات هو استكشاف الفهم العلمي لجوانب مثل الفكر، والعاطفة، والتجربة الذاتية.
أشعر بالتشجيع الشديد من حقيقة أن العلم، ولا سيما علم الأعصاب، ينتبه الآن بشكل متزايد إلى هذه الأمور التي طالما تجاهلناها. كما أنني سعيد بالتطورات الأخيرة في المنهجية العلمية لهذه المجالات؛ إذ يتوسع حاليا المبدأ العلمي التقليدي للتحقق الموضوعي عن طريق طرف ثالث ليشمل مجال التجربة الذاتية. ومن أمثلة ذلك عمل صديقي الراحل فرانسيسكو فاريلا في علم الظواهر العصبية.
لطالما كان لدي أيضا اهتمام طويل الأمد بماهية الأساس العلمي الذي قد يكتشف لفهم آثار الممارسة التأملية والتنمية القصدية لصفات مثل التعاطف، والحنان الناشئ عن الحب، والاهتمام، والهدوء الذهني. وكنت أشعر على الدوام أنه إذا استطاع العلم توضيح إمكانية مثل هذه الممارسات وفائدتها، فربما يمكن تعزيزها من خلال التعليم العام.
من حسن الحظ أن لدينا الآن مجموعة من الأدلة البارزة إلى حد مقبول والمستمدة من علم الأحياء التطوري، وعلم الأعصاب، ومجالات أخرى تشير إلى أن الإيثار والاهتمام بالآخرين لا يصبان في مصالحنا الخاصة فحسب، بل إنهما يعدان أيضا من الأمور الفطرية في طبيعتنا البيولوجية، وينطبق ذلك حتى من منظور علمي شديد الصرامة. إن مثل هذه الأدلة عندما تجتمع مع انعكاسها على تجاربنا الشخصية وتقترن بالفطرة السليمة البسيطة، فإنها يمكنها - في رأيي - أن تقدم مبررات قوية توضح فوائد تنمية قيم إنسانية أساسية لا تستند إلى المبادئ الدينية أو إلى الإيمان على الإطلاق. وهذا أرحب به. (2) مدخل إلى العلمانية
هذا إذن هو الأساس لما أسميه «الأخلاق العلمانية». وأنا أعي أن استخدامي لكلمة «علماني» يثير لدى بعض الأشخاص، ولا سيما بعض الإخوة والأخوات من المسيحيين والمسلمين، بعض الهواجس. فالبعض يرون أن الكلمة نفسها تشير إلى الرفض القاطع للدين، أو حتى العداء معه. قد يبدو لهم أنني باستخدامي هذه الكلمة، أدعو إلى إقصاء الدين من النظم الأخلاقية، أو حتى من جميع مجالات الحياة العامة. ليس هذا ما أقصده على الإطلاق. وإنما ينبع فهمي لكلمة «علماني» من الطريقة التي تستخدم بها عادة في الهند.
صفحة غير معروفة
إن الهند الحديثة لديها دستور علماني وتفخر بكونها دولة علمانية. وفي الاستخدام الهندي ، نجد أن مصطلح «علماني» بعيد كل البعد عن الإشارة إلى العداء مع الدين أو مع المؤمنين، بل إنه يعكس في حقيقة الأمر احتراما عميقا لجميع الأديان، والتسامح معها جميعا. ويشير المصطلح أيضا إلى توجه احتوائي وحيادي يشمل غير المؤمنين.
إن هذا الفهم لمصطلح «علماني»، الذي ينطوي على الاحترام والتسامح المتبادل مع جميع الأديان ومع غير المؤمنين بالأديان أيضا، يأتي من الخلفية التاريخية والثقافية الخاصة بالهند. وعلى المنوال نفسه، أعتقد أن الفهم الغربي للمصطلح ينبع من التاريخ الأوروبي. أنا لست مؤرخا، ولا خبيرا في هذا الشأن بالطبع، لكن يبدو لي أنه عندما بدأ العلم يتقدم بسرعة في أوروبا، شهدت القارة حراكا نحو مزيد من العقلانية. وقد تضمنت هذه العقلانية، من بين أشياء أخرى، رفضا لما أصبح يعد ضربا من خرافات الماضي. لقد ظل العديد من المفكرين الراديكاليين منذ ذلك الوقت وحتى عصرنا هذا يرون أن تبني العقلانية يستلزم رفض الإيمان الديني. وتعد الثورة الفرنسية، التي عبرت عن العديد من الأفكار الجديدة للتنوير الأوروبي، مثالا جيدا على ذلك بعنصرها الجوهري القوي المتمثل في مناهضة الدين. وقد كان لهذا الرفض بعد اجتماعي مهم بالطبع. صار الدين يرى باعتباره أمرا محافظا مرتبطا بالتقاليد، وشديد الارتباط بالأنظمة القديمة وبكل إخفاقاتها. إن إرث هذا التاريخ، كما يبدو، هو أن العديد من المفكرين والمصلحين الأكثر تأثيرا في الغرب ظلوا لأكثر من مائتي عام ينظرون إلى الدين باعتباره عقبة أمام التقدم لا سبيلا إلى تحرر الإنسان. الأكثر من ذلك أن الماركسية، وهي إحدى أقوى الأيديولوجيات العلمانية في القرن العشرين، استنكرت الدين باعتباره «أفيون الشعوب»؛ مما أسفر عن عواقب مأساوية؛ إذ استخدمت الأنظمة الشيوعية العنف لقمع الدين في عدة أجزاء من العالم.
في رأيي أن هذا التاريخ هو ما جعل العلمانية تفهم في الغرب في كثير من الأحيان على أنها معادية للدين. فغالبا ما ينظر إلى العلمانية والأديان على أنهما موقفان متعارضان يناقض كل منهما الآخر، وثمة قدر كبير من الريبة والعداء بين أتباع المعسكرين.
على الرغم من أنني لا أستطيع قبول المقترح القائل بأن الدين يمثل عقبة أمام التطور البشري، فأنا أشعر حقا أن المشاعر المعادية للدين قد تكون مفهومة في سياق التاريخ. فالتاريخ يعلمنا الحقيقة المزعجة التي تخبرنا أن المؤسسات الدينية وأتباع الأديان من جميع الطوائف قد تورطوا في استغلال آخرين في مرحلة أو أخرى. ثم إن الدين قد استخدم ذريعة للنزاع والقمع. حتى البوذية بتعاليمها اللاعنفية، لا يمكنها الهروب من هذه التهمة بالكلية.
ولهذا حين تكون المواقف السلبية تجاه الأديان في الغرب أو في أي مكان آخر مدفوعة بالاهتمام بشأن العدالة، فإنها يجب أن تحظى بالاحترام. الحق أنه يمكن القول إن أولئك الذين يلفتون الأنظار إلى رياء المتدينين الذين ينتهكون المبادئ الأخلاقية التي ينادون بها، والذين يقفون ضد الظلم الذي ترتكبه الشخصيات الدينية والمؤسسات، إنما يعملون بذلك على تعزيز التقاليد الدينية نفسها وإفادتها. ومع ذلك، فعند تقييم مثل هذه الانتقادات، من المهم التفريق بين الانتقادات الموجهة إلى الدين نفسه وتلك الموجهة إلى المؤسسات الدينية، وهما شيئان مختلفان تماما. إنني أرى أن مفاهيم العدالة الاجتماعية لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع المبادئ التي يتبناها الدين نفسه؛ إذ تهدف جميع التقاليد الإيمانية العظيمة في صميمها إلى تعزيز الصفات الإنسانية الأكثر إيجابية وتنمية قيم مثل الكرم، والرأفة، والعفو، والصبر، والنزاهة الفردية. (3) العلمانية في الهند
بالنسبة إلي إذن، فإن كلمة «علماني» لا تثير أي مخاوف. وإنما أكن الاحترام لمؤسسي الدستور العلماني للهند، مثل الدكتور بي آر أمبيدكار، والدكتور راجندرا براساد الذي حظيت بشرف معرفته بصفة شخصية. لم تكن نيتهم في تعزيز العلمانية هي التخلص من الأديان، بل الاعتراف على نحو رسمي بالتنوع الديني للمجتمع الهندي. لقد كان المهاتما غاندي نفسه، مصدر الإلهام وراء الدستور، رجلا متدينا للغاية. وضمن في اجتماعاته اليومية للصلاة قراءات وتراتيل من جميع التقاليد الدينية الرئيسية في البلاد. ويتبع هذا المثال اللافت للنظر في المراسم العامة بالهند إلى يومنا هذا.
هذا النوع من التسامح الديني الذي جسده غاندي ليس بالشيء الجديد في الهند. وإنما تمتد جذوره القديمة في الماضي إلى أكثر من ألفي سنة. يتضح هذا، على سبيل المثال، في أعمدة منقوشة يرجع تاريخها إلى عهد الإمبراطور أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد. يحوي أحد النقوش موعظة تحث على «تكريم دين الآخر؛ لأن ذلك يقوي كلا من دين المرء ودين الآخر.» علاوة على ذلك، يكشف لنا الأدب السنسكريتي عن ثقافة كلاسيكية اتسمت بالتسامح الفكري وثراء النقاش. ففي الهند، خضع العديد من المواقف الفلسفية لمناقشات كبرى منذ العصور القديمة. فحتى بعض المواقف الفكرية التي تقترب كثيرا من المادية الحديثة والإلحاد؛ لها تاريخ مشرف ومحترم في التراث الهندي. وتوجد نصوص فلسفية كلاسيكية تضم العديد من الإشارات إلى مدرسة «شارفاكا»، التي رفض أتباعها أي فكرة عن وجود الإله أو وجود أي روح أو حياة أخرى. وبالرغم من أن بعض المفكرين الآخرين كثيرا ما كانوا يعارضون آراء «شارفاكا» بشدة بوصفها أفكارا عدمية، فإن موقف المادية الراديكالية الذي تبنته المدرسة عولج بجدية كموقف فلسفي، وكان يشار إلى مؤسسها بشكل عام بلقب «ريشي»؛ أي «حكيم». علاوة على ذلك، حظي بعض مؤيدي أفكار «شارفاكا» بمستوى لا بأس به من التقدير والاحترام، منحهم إياه بعض الحكام الهنود الذين كان الكثيرون منهم متسامحين على نحو رائع مع المعتقدات الدينية الأخرى. ويعد الإمبراطور المسلم «أكبر» الذي أجرى محاورات مع الهندوس والمسيحيين وغيرهم، أحد أمثلة هذا التقليد.
منذ بعض الوقت، أجريت مناقشة كاشفة بشأن هذا الموضوع مع نائب رئيس وزراء الهند السابق؛ السيد إل كيه أدفاني. وقد أشار إلى أن ثقافة التسامح والتنوع والنقاش المترسخة في الهند منذ وقت طويل، هي على وجه التحديد ما يفسر نجاحها البارز في الحفاظ على ديمقراطيتها العلمانية. وأنا متأكد من أنه على حق. غالبية مواطني الهند الآن من الهندوس، لكن يوجد العديد أيضا من الديانات الأخرى التي تحظى بتمثيل جيد. فالهند موطن ثاني أكبر تجمع سكاني للمسلمين في العالم، وتلك حقيقة لا يقدرها الكثيرون في الغرب، وتوجد أيضا عدة ملايين من السيخ والمسيحيين، إضافة إلى مجموعات لا يستهان بحجمها من أتباع الديانات الجاينية، والبوذية، والزرادشتية، واليهودية. الحق أن الأقليات العرقية والدينية في الهند متعددة للغاية بحيث لا يتسع المجال لذكرها جميعا. علاوة على ذلك، توجد مئات اللغات المختلفة المستخدمة اليوم في البلد. وفي خضم هذا التنوع البشري الهائل، من المعتاد أن ترى المعابد الهندوسية والمآذن الإسلامية تقف كل منها بجانب الأخرى في شوارع المدينة. وفي معظم القرى بالفعل، يوجد أكثر من دين ممثل بين سكانها.
التقيت مؤخرا برجل من رومانيا زار العديد من القرى الهندية لأغراض مشروع بحثي. وحين أخبرني عن قرية في راجستان ذات أغلبية مسلمة وليس فيها سوى ثلاث عائلات هندوسية، أبدى دهشته من أن هذه العائلات كانت تعيش هناك دون شعور بالخوف أو التوجس. رأيت أن دهشته ناتجة، ولا بد، عن تضليل وسائل الإعلام الغربية في تصويرها للعلاقات بين الطوائف في الهند. لا شك بأن الهند قد شهدت بعض حوادث العنف الطائفي الخطيرة والمؤسفة للغاية، لكن يظل من الخطأ تعميمها على شبه القارة الهندية بأكملها. فبصرف النظر عن هذه الحوادث الفردية، تحافظ الهند في المجمل رغم تنوعها الكبير، على مجتمع مسالم ومتناغم. من الواضح أن العقيدة الهندية القديمة «الأهيمسا»، أو اللاعنف، قد ازدهرت واعتمدت مبدأ للتعايش السلمي بين جميع الأديان. هذا إنجاز هائل، وأحد النجاحات التي يمكن لبلدان أخرى في العالم أن تتعلم منه. (4) التسامح في عصر العولمة
أحيانا أصف نفسي بأنني رسول عصري للفكر الهندي القديم. وثمة فكرتان من أهم الأفكار التي أشاركها أينما سافرت: مبادئ اللاعنف والتناغم بين الأديان، وكلتاهما مستمدة من التراث الهندي القديم. على الرغم من أنني تبتي بالطبع، فأنا أعتبر نفسي أيضا ابن الهند على نحو ما. فمنذ الطفولة، تغذى عقلي على كلاسيكيات الفكر الهندي. وبداية من سن السادسة عندما بدأت دراستي كراهب، كانت غالبية النصوص التي أقرؤها وأحفظها هي نصوص لأساتذة بوذيين من الهنود، وكان العديد منهم من جامعة نالاندا القديمة في وسط الهند. ومنذ بداية مرحلة البلوغ، تغذى جسدي أيضا بالطعام الهندي: الأرز و«الدال»؛ أي «العدس».
صفحة غير معروفة
ولهذا، فأنا سعيد للغاية لمشاركة هذا الفهم الهندي للعلمانية والتشجيع عليه؛ إذ إنني أعتقد أنه سيكون ذا قيمة كبيرة للإنسانية جمعاء. ففي عالم اليوم المترابط والمعولم، أصبح من المألوف للأشخاص من ذوي وجهات النظر والأديان والأعراق العالمية المختلفة أن يعيشوا جنبا إلى جنب. وكثيرا ما يدهشني هذا في أسفاري، لا سيما في الغرب. بالنسبة إلى جزء كبير من البشرية اليوم، من المحتمل أو من المرجح، أن يكون جار المرء، أو زميله، أو صاحب عمله من المتحدثين بلغة أم مختلفة، ويأكل طعاما مختلفا، ويتبع ديانة مختلفة.
ولهذا السبب، من الأمور الشديدة الإلحاح أن نجد طرقا للتعاون والتآزر بروح القبول والاحترام المتبادلين. ذلك أنه بينما يجد كثير من الناس بهجة في العيش في بيئة عالمية؛ حيث يمكنهم التعامل مع طيف واسع من الثقافات المختلفة، لا شك بأن آخرين قد يجدون صعوبات في العيش بالقرب من أشخاص لا يشاركونهم لغتهم أو ثقافتهم. فقد يولد هذا ارتباكا وخوفا واستياء؛ مما يؤدي في أسوأ الأحوال إلى عداء مفتوح وأيديولوجيات إقصائية جديدة على أساس العرق أو الجنسية أو الدين. من المؤسف أننا عندما ننظر حول العالم نرى أن التوترات الاجتماعية منتشرة إلى حد كبير بالفعل. إضافة إلى ذلك، يبدو من المحتمل أن مثل هذه الصعوبات قد تزداد مع استمرار الهجرة الاقتصادية.
في عالم كهذا، أرى أن من الضروري لنا أن نجد نهجا مستداما بحق وعالميا للأخلاق، والقيم الداخلية، والنزاهة الفردية؛ نهجا يمكن أن يتجاوز الاختلافات الدينية، والثقافية، والعرقية ويروق للناس على مستوى إنساني جوهري. هذا البحث عن نهج عالمي مستدام هو ما أسميه مشروع الأخلاق العلمانية.
وبينما أستمر في توضيح هذا النهج، يجب أن أراعي وجود بعض الأشخاص الذين لا يزالون يشككون في جدوى فصل الأخلاق عن الأديان بهذه الطريقة، بالرغم من تأييدهم لتفسيري للعلمانية على النهج الهندي. إن انعدام الثقة في محاولات الفصل بين الأمرين قوي للغاية بين بعض أتباع الأديان الألوهية لدرجة أنني حذرت في بعض المناسبات، من استخدام كلمة «علماني» عند الحديث عن الأخلاق أمام الجمهور. من الواضح أن هناك أشخاصا يؤمنون بإخلاص تام بأن فصل الأخلاق عن الدين خطأ كبير في حد ذاته، وأنه بالفعل مصدر للعديد من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الحديث، مثل تفكك الأسر، وازدياد عدد حالات الإجهاض، والانحلال الجنسي، وإدمان الكحول، وإدمان المخدرات، وما إلى ذلك. فهم يرون أن هذه المشكلات تنتج إلى حد كبير من أشخاص فقدوا أساس تشكيل القيم الداخلية، والذي لا يمكن أن يوفره سوى الأديان. إن الأشخاص الذين ترتبط معتقداتهم الدينية ارتباطا وثيقا بالممارسة الأخلاقية، يصعب عليهم تصور وجود إحداهما دون الأخرى. فبالنسبة إلى من يعتقدون أن الحقيقة تستلزم وجود إله، وحده الإله هو من يمكنه إلزامنا بالأخلاق. فهم يعتقدون أنه من دون إله يؤدي دور الضامن، لا توجد سوى حقيقة نسبية في أفضل الأحوال؛ ومن ثم فما هو صحيح لدى أحد الأشخاص قد لا يكون صحيحا لدى شخص آخر. وفي هذه الحالة، لا يوجد أساس لتمييز الصواب من الخطأ، أو لتقييم الخير والشر، أو للحد من الأنانية والنزعات الهدامة، مع تنمية القيم الداخلية.
على الرغم من أنني أحترم وجهة النظر هذه تماما، فهي ليست وجهة نظري. فأنا لا أوافق على أن الأخلاق تتطلب تأصيلا من المفاهيم الدينية أو الإيمان. وإنما أعتقد اعتقادا راسخا أن الأخلاق يمكن أن تظهر أيضا ببساطة كرد فعل طبيعي وعقلاني لإنسانيتنا في حد ذاتها وحالتنا البشرية المشتركة. (5) الدين والأخلاق
بالرغم من أن هذا الكتاب ليس عن الدين في المقام الأول، ففي سبيل التفاهم والاحترام المتبادلين بين المؤمنين بالدين وغير المؤمنين به، أعتقد أن الأمر يستحق قضاء بعض الوقت للنظر في العلاقة بين الدين والأخلاق.
منذ آلاف السنين والدين يكمن في قلب الحضارة الإنسانية. فليس من العجيب إذن أن يكون الاهتمام بالآخرين والقيم الداخلية الأساسية التي تنبثق من هذا الاهتمام، كالطيبة والأمانة والصبر والعفو، قد صيغت إلى حد كبير بمصطلحات دينية. ففي جميع التقاليد الدينية الرئيسية حول العالم؛ الألوهية وغير الألوهية، يحتفى بهذه القيم إضافة إلى قيم أخرى مثل، الانضباط الذاتي والرضا والكرم، بصفتها هي الدليل لعيش حياة ذات معنى تستحق التعب. ولا غرو في هذا على الإطلاق. فلما كان اهتمام الدين هو الروح البشرية، فمن الطبيعي تماما أن تكون ممارسة هذه القيم الداخلية، التي تجلب مثل هذه المكافآت فيما يتعلق بالسلامة الروحانية لنا ولمن حولنا، جزءا لا يتجزأ من أي ممارسة دينية.
بصفة عامة، يمكن تقسيم نظم العقيدة التي تؤسس عليها أديان العالم القيم الداخلية وتدعمها، في فئتين.
فمن ناحية، لدينا الأديان الألوهية، التي تشمل الهندوسية والسيخية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام. وفي هذه الأديان، ترتكز الأخلاق في الأساس على فهم محدد للإله بوصفه خالقا وبوصفه الأساس المطلق لكل الوجود. من وجهة نظر ألوهية، فإن الكون بأكمله جزء من خلق وخطة إلهيين؛ ومن ثم فإن نسيج ذلك الكون نفسه مقدس. وبما أن الإله محبة لا نهائية أو عطف لا نهائي، فإن محبة الآخرين جزء من محبة الإله والعمل من أجله. ثم إنه في العديد من الأديان الألوهية يسود الاعتقاد بأننا سنواجه بعد الموت حكما إلهيا؛ مما يوفر حافزا قويا آخر لمراعاة ضبط النفس في تصرفاتنا واتخاذ الحذر الواجب خلال حياتنا هنا على الأرض. عندما تؤخذ طاعة الإله على محمل الجد، يكون لها تأثير قوي في الحد من التمركز حول الذات؛ ومن ثم فإن من شأنها أن تضع الأساس لنظرة أخلاقية محكمة للغاية وإيثارية أيضا.
من ناحية أخرى، لدينا الأديان غير الألوهية، كالبوذية واليانية وفرع من مدرسة السامخيا الهندية القديمة، التي لا تنطوي على الإيمان بخالق إلهي. بدلا من ذلك، فإنها تنطوي على المبدأ الأساسي للسببية، لكن الكون يرى وفقا لها بلا بداية. ومن دون كيان خالق يؤسس للقيم الداخلية والحياة الأخلاقية، تؤسس الأديان غير الألوهية الأخلاق على فكرة «الكارما» بدلا من الإله. إن الكلمة السنسكريتية «كارما»، تعني ببساطة «الفعل». ومن ثم؛ فعندما نتحدث عن الكارما الخاصة بنا، فإننا نشير إلى جميع أفعالنا المقصودة المتمثلة في أفعال الجسد والكلام، والعقل، وعندما نتحدث عن «ثمار» الكارما لدينا، فنحن نتحدث عن عواقب هذه الأفعال. ترتكز عقيدة الكارما على اعتبار السببية قانونا للطبيعة. فكل ما نقصده من الأفعال أو الكلمات أو الأفكار، له تيار من العواقب قد لا ينتهي. وعند الجمع بين هذا الفهم وفكرة البعث والحيوات المتتالية، فإنه يصبح أساسا قويا للأخلاق وتنمية القيم الداخلية. فعلى سبيل المثال، نجد أن أحد التعاليم البوذية الأساسية يتضمن النظر إلى جميع الكائنات على أنها كانت أما للإنسان في مرحلة ما في حيواته السابقة التي لا حصر لها، وذلك كجزء من تأسيس رابط عميق من التعاطف مع جميع الكائنات.
صفحة غير معروفة
يتضح من هذا إذن أن جميع الأديان تؤسس، بدرجة أو بأخرى، غرس القيم الداخلية والوعي الأخلاقي على نوع ما من الفهم الميتافيزيقي (أي لا يمكن إثباته تجريبيا) للعالم وللحياة ما بعد الموت. ومثلما أن عقيدة الدينونة الإلهية تؤسس للتعاليم الأخلاقية في العديد من الديانات الألوهية، فإن عقيدة الكارما والحيوات المستقبلية تؤسس لها في الأديان غير الألوهية.
في سياق الأديان، يكون لهذا الفهم، سواء أكان ألوهيا أم غير ألوهي، أهمية كبيرة؛ إذ إنه لا يوفر الأسس لاتخاذ القرار بشأن عيش حياة أخلاقية فحسب، بل يضع أسس الخلاص أو التحرر ذاته أيضا. ولهذا، فبالنسبة إلى ممارسي الشعائر الدينية، لا يمكن الفصل بين السعي لحياة أخلاقية والتطلعات الروحية النهائية.
لست ممن يعتقدون أن البشر سيكونون على استعداد للاستغناء عن الدين بالكلية قريبا. وعلى العكس من ذلك، أرى أن الإيمان قوة لتحقيق الخير ويمكن أن يقدم فائدة عظيمة. فمن خلال تقديم فهم للحياة البشرية يتجاوز وجودنا المادي المؤقت، يمنح الدين أملا وقوة لأولئك الذين يواجهون الشدائد. إن قيمة تقاليد الإيمان العظيمة في العالم هي موضوع ناقشته بإسهاب في كتاب سابق بعنوان «نحو قرابة حقيقية للأديان». بالرغم من ذلك، فمع جميع فوائد الدين في التقريب بين الناس، ومنح التوجيه والسلوى، وتقديم رؤية للحياة الطيبة التي يمكن للأشخاص السعي جاهدين لمحاكاتها، لا أعتقد أن الدين عامل ضروري في الحياة الروحانية.
لكن ما تأثير هذا فيما يتعلق بترسيخ الأخلاق وتنمية القيم الداخلية؟ اليوم في عصر العلم الذي يرى الكثيرون فيه أن الدين لا معنى له، ما الأساس الذي يتبقى لنا لمثل هذه القيم؟ كيف يمكننا إيجاد طريقة لتحفيز أنفسنا أخلاقيا دون الاستناد إلى معتقدات تقليدية؟
إنني أعتقد أن البشر يمكنهم العيش من دون دين، لكنهم لا يستطيعون العيش من دون قيم داخلية. ولذا فإن حجتي لاستقلال الأخلاق عن الدين هي حجة شديدة البساطة. فللروحانية، كما أراها، بعدان. البعد الأول هو أن السلام الروحي الأساسي، الذي أعني به القوة الداخلية والتوازن الداخلي على مستوى العقل والوجدان، لا يعتمد على الدين، بل يأتي من طبيعتنا البشرية الفطرية بصفتنا كائنات تتسم بنزعة طبيعية للتعاطف والطيبة والاهتمام بالآخرين. البعد الثاني هو ما يمكن اعتباره روحانية قائمة على أساس ديني، وهو بعد آلي نكتسبه من نشأتنا وثقافتنا ويرتبط بمعتقدات وممارسات معينة. والفرق بين البعدين يشبه الفرق بين الماء والشاي. فالأخلاق والقيم الداخلية من دون سياق ديني كالماء؛ شيء «نحتاج» إليه كل يوم للحفاظ على صحتنا والبقاء على قيد الحياة. والأخلاق والقيم الداخلية القائمة على سياق ديني هي أشبه بالشاي. فالشاي الذي نشربه يتكون في أغلبه من الماء، لكنه يحتوي أيضا على بعض المكونات الأخرى: أوراق الشاي أو التوابل أو ربما بعض السكر أو الملح، في التبت على الأقل، وهذا يزيد من قيمته الغذائية ويجعله أكثر إشباعا، وشيئا نريده كل يوم. لكن بغض النظر عن طريقة تحضير الشاي، فإن المكون الأساسي دائما هو الماء. وبينما يمكننا العيش من دون شاي، فلا يمكننا العيش من دون ماء. وعلى هذا النحو، فإننا نولد بلا دين، لكننا لا نولد بدون الحاجة إلى التعاطف.
ومن ثم، فإن روحانيتنا الإنسانية الأساسية أكثر تأصلا من الدين. فنحن نتمتع بنزعة إنسانية أساسية تجاه الحب، والطيبة، والمودة، بصرف النظر عما إذا كان لدينا إطار ديني أم لا. عندما نرعى هذا المورد البشري الأبلغ تأصلا، عندما نشرع في تنمية تلك القيم الداخلية التي نقدرها جميعا في الآخرين، فسنبدأ حينئذ في العيش بالطريقة الروحانية. يكمن التحدي إذن في إيجاد طريقة لتأسيس الأخلاق ودعم تنمية القيم الداخلية التي تتماشى مع العصر العلمي، مع عدم إغفال الاحتياجات الأعمق للروح البشرية، والتي تتمثل لكثير من الأشخاص في الإجابات الدينية. (6) التأسيس للأخلاق في الطبيعة البشرية
لا يوجد إجماع، عبر جميع الثقافات وجميع الفلسفات، بل وجميع وجهات النظر الفردية في حقيقة الأمر، بشأن التوجه الجوهري للطبيعة البشرية. إنما يوجد بدلا من ذلك الكثير من الآراء. ولتبسيط الأمر قدر الإمكان سنقول إن هناك من يعتقد، في أحد طرفي الطيف، أننا بطبيعتنا نميل إلى العنف والعدوانية والتنافس في الأساس، بينما يتبنى آخرون، في الطرف الآخر من الطيف، وجهة النظر القائلة بأننا نميل في الغالب إلى اللطف والمحبة ودماثة الأخلاق. تقع معظم وجهات النظر بين هذين الطرفين، حيث يمكن استيعاب جميع صفاتنا وميولنا بدرجات متفاوتة. وبصفة عامة، إذا اعتبرنا أن الطبيعة البشرية تغلب عليها النزعات التدميرية، فالأرجح أن أخلاقنا ستتأسس على شيء خارج أنفسنا. ذلك أننا سنفهم الأخلاق بوصفها وسيلة لتقييد تلك النزعات التدميرية بهدف تحقيق الخير الأكبر أيا كان. أما إذا نظرنا إلى الطبيعة البشرية باعتبارها تميل في الغالب نحو الطيبة والرغبة في حياة سلمية، فيمكننا إذن اعتبار الأخلاق وسيلة طبيعية تماما وعقلانية لاتباع إمكاناتنا الفطرية. بناء على هذا الفهم، تتكون الأخلاق بدرجة أقل من القواعد التي يلزم اتباعها، وبدرجة أكبر من مبادئ للتنظيم الذاتي الداخلي لتعزيز تلك الجوانب من طبيعتنا، والتي ندرك أنها تعود بالخير علينا وعلى الآخرين. وهذا النهج الثاني يتناغم مع رأيي الخاص. (7) ركيزتان للأخلاق العلمانية
أعتقد أن نهجا شاملا للأخلاق العلمانية، له القدرة أن يكون مقبولا على نطاق عالمي، يتطلب الاعتراف بمبدأين أساسيين فقط. كلا المبدأين يمكن فهمه بسهولة استنادا إلى تجربتنا المشتركة كبشر وفطرتنا السليمة، وكلاهما مدعوم بنتائج الأبحاث الحديثة، ولا سيما في مجالات مثل علم النفس وعلم الأعصاب، والعلوم السريرية. المبدأ الأول هو الاعتراف ب «إنسانيتنا المشتركة» وطموحنا المشترك لتحقيق السعادة وتجنب المعاناة، والثاني هو فهم الاعتماد المتبادل بصفته سمة أساسية للواقع البشري، ومن ذلك واقعنا البيولوجي كحيوانات اجتماعية. من هذين المبدأين، يمكننا تعلم تقدير العلاقة التي لا تنفصم بين رفاهيتنا الشخصية ورفاهية الآخرين، ويمكننا تطوير اهتمام حقيقي بصالح الآخرين. أعتقد أن هذين المبدأين معا يشكلان أساسا كافيا لتأسيس الوعي الأخلاقي وتنمية القيم الداخلية. فمن خلال مثل هذه القيم نكتسب الشعور بالارتباط بالآخرين، ومن خلال تجاوز المصلحة الذاتية الضيقة نجد المعنى، والغاية، والرضا في الحياة.
قبل تقديم عرض منهجي للتصور الذي لدي لهذا النهج العلماني، ينبغي أن أتحدث قليلا عن الخلفية التي تشكل آرائي بشأن هذا الموضوع، والدافع وراء ذلك.
منذ الطفولة وأنا راهب بوذي في تقليد الماهايانا التبتي. وقد تشكل فهمي للأخلاق، وكذلك لقضايا مثل الطبيعة البشرية والسعي وراء تحقيق السعادة، بناء على هذه الخلفية. وعلى المستوى الشخصي، فإن نهجي اليومي في ممارسة الأخلاق متأثر بعمق بكتابات تقاليد النالاندا الهندية، التي تجمع بين البحث الفلسفي النقدي والحياة الأخلاقية والممارسة التأملية. في سياق هذا الكتاب أعتمد على بعض مصادر تقليد النالاندا. ومع ذلك، فمن المؤكد أن نيتي، في تقديم هذا الكتاب، ليست زيادة عدد البوذيين! في الحقيقة، عندما يطلب مني تقديم التعاليم البوذية في الغرب، غالبا ما أشارك وجهة نظري الشخصية بأنها ليست بالفكرة الجيدة إلى حد كبير أن يتبنى الناس ممارسات دينية لا تستند إلى ركيزة جيدة في ثقافتهم وخلفيتهم التعليمية. فمن شأن ذلك أن يكون صعبا وأن يؤدي إلى ارتباك لا داعي له. وإن دافعي في تقديم هذا الكتاب لا يتعدى الرجاء في المساهمة في تحسين الإنسانية. إذا كانت الموارد المستمدة من تراثي يمكن أن تفيد من لا ينتمون إليه، فأعتقد أن من الجيد الاستعانة بتلك الموارد. ولا يعنيني بالطبع من تأليف هذا الكتاب نشر إيماني. لكني أدعو قرائي إلى تحري الأمور بأنفسهم والتحقق منها. وإذا وجدوا بعضا من رؤى الفكر الهندي الكلاسيكي مفيدا في عمليات بحثهم، فهذا ممتاز، وإذا لم يجدوا أي فائدة، فلا بأس بذلك أيضا!
صفحة غير معروفة
ولهذا، لن أقدم في الفصول التالية، أفكاري بصفتي بوذيا، ولا حتى بصفتي مؤمنا بالدين، بل بصفتي إنسانا فحسب من بين ما يقرب من سبعة مليارات إنسان آخر، إنسان يهتم بمصير البشرية ويريد أن يفعل شيئا لحماية مستقبلها وتحسينه.
الفصل الثاني
إنسانيتنا المشتركة
(1) رؤيتنا لأنفسنا
تخبرنا الملاحظة أن كيفية تعامل البشر مع بعضهم، وفي الواقع مع العالم من حولهم، تعتمد إلى حد كبير على الطريقة التي يرون بها أنفسهم. كلنا لدينا العديد من الطرق المختلفة لرؤية كينونتها وماهيتنا، وتؤثر وجهات النظر المختلفة هذه في سلوكنا. على سبيل المثال، يمكن أن ننظر إلى أنفسنا من منطلق النوع الاجتماعي كرجال أو نساء، أو كأتباع لهذا الدين أو ذاك، أو كأفراد في هذا العرق أو ذاك أو هذه الجنسية أو تلك. وقد نرى أنفسنا من منظور الأسرة، كأب أو أم، على سبيل المثال. ويمكن أيضا أن نحدد هويتنا تبعا لمهنتنا، أو مستوى تعليمنا أو إنجازاتنا. ووفقا للمنظور الذي نتبناه، نطرح توقعات مختلفة عن أنفسنا. وهذا بدوره يؤثر في سلوكنا، بما في ذلك تعاملنا مع الآخرين.
لكل فرد هويته المستقلة. ولذلك، فمن المهم للغاية في أي محاولة لوضع نهج عالمي حقيقي للأخلاق أن يكون لدينا فهم واضح لما يوحدنا جميعا، وهي إنسانيتنا المشتركة. إننا جميعا من البشر؛ السبعة مليارات نسمة بأكملهم بشر. وفي هذا الصدد، جميعنا متشابهون بنسبة مائة بالمائة.
في البداية إذن، دعونا نفكر فيما يجعل منا بشرا حقا. حسنا، أولا وقبل كل شيء، إنه واقعنا المادي البسيط: جسمنا هذا المكون من عدة أجزاء من عظام وعضلات ودم، والكثير جدا من الجزيئات والذرات وما إلى ذلك.
على المستوى المادي الأساسي، لا يوجد فرق نوعي بين المادة التي يتكون منها جسم الإنسان والمادة التي تتكون منها كتلة من الصخر على سبيل المثال. فمن حيث التكوين المادي، تتألف كل من كتلة الصخر وأجسامنا البشرية في جوهرها من مجموعات من الجسيمات الدقيقة. يقترح العلم الحديث أن جميع مواد الكون هي مواد يعاد تدويرها على نحو لا نهائي. والأكثر من ذلك أن العديد من العلماء يذهبون إلى أن ذرات أجسامنا نفسها كانت ذات يوم في نجوم بعيدة في الزمن والمكان.
ومع ذلك، فمن الواضح أن الفئة التي ينتمي إليها الإنسان تختلف تماما عن الفئة التي تنتمي إليها كتلة صخرية. إننا نولد، وننمو، ثم نموت، وكذلك هي الحال في النباتات وجميع الحيوانات الأخرى. لكننا بخلاف النباتات، نتمتع أيضا بتجربة واعية. فنحن نشعر بالألم ونختبر المتعة. إننا كائنات واعية، وهو ما نسميه في اللغة التبتية «سيمدن».
خلال إحدى المناقشات العديدة التي أجريتها مع صديقي الراحل عالم الأعصاب فرانسيسكو فاريلا، تحدثنا عما يميز أشكال الحياة الواعية عن أشكال الحياة النباتية. وحسبما أتذكر، فقد اقترح معيارا لهذا التمييز: «قدرة كيان ما على تحريك نفسه من مكان إلى آخر»، أو كلمات أخرى بهذا المعنى. إذا كان الكائن الحي يستطيع نقل جسمه بأكمله من مكان إلى آخر للهروب من الخطر والبقاء على قيد الحياة، أو للحصول على الغذاء والتكاثر، فيمكن إذن اعتباره كائنا واعيا. أثار هذا التعريف اهتمامي لأنه يشير، حتى من وجهة نظر علمية، إلى أن ما يميز مثل هذا الكائن الحي مرتبط بالقدرة على الشعور بالمتعة والألم، وبالاستجابة لهذه المشاعر، حتى وإن كانت هذه الاستجابات غريزية في معظمها أو حتى بأكملها. فعلى مستوى أساسي للغاية، تعد قدرة المرء على الاستجابة لبيئته المحيطة من خلال التجربة الواعية هو ما يمكننا اعتباره «العقل»، بالمعنى الأوسع للكلمة.
صفحة غير معروفة
ليس هذا بالمكان المناسب للشروع في معالجة مطولة للقضية الكبيرة المتمثلة فيما يشكل «العقل»، والطرق التي يتميز بها العقل البشري عن غيره من عقول الكائنات الأخرى؛ ولذا سأكتفي بذكر القليل عن هذا الشأن هنا.
إن المكونات الأساسية للتجربة البشرية، وفقا للعلم الحديث، هي بيانات حواسنا: البصر، والسمع، واللمس، والتذوق، والشم. وفي مستوى آخر من الإدراك، تكمن خبراتنا الذاتية لهذه الأحاسيس الأساسية، وهو المستوى الذي يتحدد فيه إن كنا نختبرها كتجارب ممتعة، أو مزعجة، أو محايدة، أو مزيج من هذا كله. وحسبما نعرف حتى الآن، فإننا نتشارك في هذا النوع من الإدراك للتجربة الحسية من متعة أو ألم مع حيوانات أخرى. فيبدو أن الطيور والثدييات على سبيل المثال، تدرك التجربة الحسية على نحو شبيه للغاية بطريقة إدراكنا لها، بينما يبدو أن أنواعا أخرى من الحيوانات، مثل الأسماك والحشرات، تختلف عنا اختلافا كبيرا في هذا الصدد.
وبصرف النظر عن اتساع نطاق الوعي وتنوعه عبر أنواع الحيوانات المختلفة، فمن الواضح أن جميع الكائنات التي تتمتع بتجربة واعية تتجه نحو السعي وراء التجارب الممتعة وتجنب التجارب غير السارة أو المؤلمة. وفي هذا الجانب الأساسي، لا نختلف نحن البشر عن الحيوانات الأخرى. فعلى غرار الحيوانات، نسعى لتجنب المعاناة وننجذب انجذابا طبيعيا نحو التجارب الممتعة أو السعيدة.
لكن إذا كان هذا التوجه الأساسي سمة مميزة للكائنات الواعية في العموم، فإن البشر يشكلون فئة خاصة نسبيا. فلا شك أن الخبرة الإنسانية تنطوي على ما هو أكثر من الاستجابة للتجربة الحسية. نحن لسنا كالكلاب أو القطط، على سبيل المثال، التي تستجيب بشكل عام لتجاربها بناء على غريزتها فقط. لقد تطور لدينا، نحن البشر، على مدى عدة آلاف من السنين، تعقيد هائل يميزنا عن جميع الحيوانات الأخرى. وينعكس هذا الاختلاف في الحجم الكبير لأدمغتنا ذات القشرة الجبهية المتطورة بدرجة أكبر كثيرا مما هي عليه في أدمغة الأنواع الأخرى. (2) الوعي البشري والتعاطف
في مناقشتي لتعقيد العقل البشري، لا أقصد عملياتنا الفكرية أو العقلانية فحسب وقدرتنا على التفكر الذاتي، وإنما النطاق الكامل لتجربة الوعي التي نختبرها، والتي لا تقتصر على الأفكار والخيال والذاكرة فحسب وإنما تشمل المشاعر والعواطف أيضا. الواقع أنني حين أتحدث عن «العقل» أو «التجربة» بهذه الطريقة العامة نوعا ما، أفكر عادة في الكلمتين التبتيتين: «سم» (العقل) و«شيبا» (الإدراك)، وكلتاهما لا تشير فحسب إلى الأنشطة الفكرية السائدة التي عادة ما ترتبط بكلمات مثل «العقل» و«ذهني» في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الغربية، بل إلى جميع مجالات تجربتنا الداخلية، بما في ذلك المشاعر والعواطف التي غالبا ما توصف في تلك اللغات على أنها أمور متعلقة بالقلب.
منذ حين، بدأ العلماء الغربيون في إجراء اختبارات عصبية علمية على ممارسي التأمل لوقت طويل من التبتيين، وذلك لقياس الآثار البيولوجية لممارساتهم التأملية. قيل لي إن العلماء في إحدى المناسبات، كانوا يتحدثون عن تجربتهم مع مجموعة من الرهبان في دير «نامجيال» هنا في دارامسالا. ولتوضيح تقنياتهم، ارتدى أحد العلماء على رأسه قبعة بيضاء تبرز منها كتلة كبيرة من الأسلاك والأقطاب الكهربائية. وعندما رآه الرهبان على هذا، انفجر بعضهم في الضحك. ظن العلماء أنهم كانوا يضحكون على المنظر الغريب لعالم غربي بأسلاكه المتصلة برأسه. لكن اتضح أنهم كانوا يضحكون أيضا لدهشتهم من أن الأسلاك كانت متصلة بالرأس فقط دون أي جزء آخر من الجسد. فعلى أية حال، إذا كان الغرض هو قياس صفات مثل الرأفة أو الحنان الناشئ عن الحب، أفلا يكون لأجزاء أخرى من الجسم، كالقلب، الأهمية ذاتها؟ في هذه الأيام، صرنا على دراية أفضل بالنماذج العلمية المعاصرة ولم نعد نندهش كثيرا من المركزية التي يوليها العلم الحديث للدماغ. وقد غير العلماء أيضا طرقهم إلى حد ما؛ إذ تشمل الآن إجراء قياسات للكشف عن التغيرات في القلب.
عند التطرق لما يميز عقل الإنسان عن عقول الكائنات الأخرى، تظهر على الفور بعض السمات الرئيسية. فنحن البشر نتمتع بقدرة قوية وبارعة على التذكر، وهي على ما يبدو أكبر بكثير من تلك الموجودة لدى العديد من الحيوانات الأخرى؛ مما يسمح لنا بالذهاب بأفكارنا إلى الماضي. ونحن نتمتع أيضا بالقدرة على الذهاب بأفكارنا إلى المستقبل. علاوة على ذلك، فإن لدينا خيالا قويا للغاية وقدرة شديدة التطور على التواصل باستخدام لغة رمزية. ولعل الأمر الأكثر تميزا هو أن لدينا القدرة على التفكير المنطقي؛ القدرة على التقييم النقدي ومقارنة النتائج المختلفة في كل من المواقف الحقيقية والخيالية. وبالرغم من أن الحيوانات الأخرى قد يكون لها بعض هذه القدرات بدرجة محدودة، فهي لا تتطابق مع البشر في مستوى تعقيدها.
إلى جانب هذه السمات، لدينا خاصية أخرى أساسية للغاية في هويتنا كبشر؛ وهي قدرتنا الغريزية على التعاطف. لسنا وحيدين في ذلك بالطبع. فبعض الحيوانات تصدر عنها سلوكيات يبدو أنها تدل على التعاطف. ومع ذلك، فهي سمة إنسانية جوهرية. عندما نرى شخصا يتألم، حتى وإن كان غريبا في الشارع أو ضحية لكارثة طبيعية نشاهدها في التلفزيون أو نسمع عنها في الراديو، فإننا نستجيب استجابة غريزية لمعاناته. ولا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، بل نشعر أيضا بدافع غريزي للقيام بشيء حيال الأمر؛ لمساعدة ذلك الغريب في الشارع، أو للتخفيف من معاناة من نراهم على شاشات التلفزيون، وذلك بصرف النظر عما إذا تصرفنا بناء عليه أم لا.
ينطبق الأمر نفسه عندما نرى الناس ينتصرون على الشدائد؛ إذ تتيح لنا قدرتنا الفطرية على التعاطف مع تجارب الآخرين أن نشاركهم فرحتهم. أعتقد أن جزءا من السبب في أن الكثيرين منا يحبون مشاهدة الأفلام، والألعاب الرياضية، والمسرحيات، وقراءة الكتب المسلية، وغير ذلك؛ هو أنها، بخلاف ما تقدمه لنا من إثارة، تمنحنا الفرصة للشعور بأفراح الآخرين وأحزانهم كما لو كانت أفراحنا وأحزاننا. إننا نستمتع بطبيعتنا بتجربة التعاطف، وننشدها كثيرا في حياتنا. ومن الأمثلة على هذا، ذلك السرور الذي يشملنا حين يفرح الأطفال الصغار؛ إذ نحب أن نرى وجوههم متوهجة عندما نبتسم لهم، أو نعطيهم شيئا، أو نحكي لهم قصة. وعلى غرار ذلك أيضا، فإننا نستمتع تلقائيا بسعادة أحبائنا. الجميع يفضل رؤية الآخرين مبتسمين على رؤيتهم عابسين.
ولأننا حيوانات اجتماعية؛ أي نظرا لأن بقاءنا وازدهارنا يعتمدان على كوننا جزءا من مجموعة أو مجتمع، فإن لقدرتنا على التعاطف آثارا عميقة على طلبنا للسعادة والرفاهية. (3) السعادة والمعاناة
صفحة غير معروفة
أعتقد أن الزعم بأننا جميعا نسعى إلى حياة سعيدة هو زعم لا يحتاج إلى تبرير. ما من أحد يتمنى الصعوبات أو المشكلات. وهذا شيء تؤكده بنية أجسادنا. ذلك أن العلوم الطبية تشير على نحو متزايد إلى أن الشخص الذي يشعر بالسعادة والسكينة، وتخلو حياته من الخوف والقلق، سوف يتمتع بفوائد صحية ملموسة. من المنطقي كذلك أنه حتى الأشخاص المصابون بالمرض يكونون أفضل كثيرا إذا كانوا يتمتعون بمنظور إيجابي. ولهذا؛ ثمة حقيقة بسيطة في رأيي تتمثل في أن جسدنا البشري هذا ينشد الحياة السعيدة. فالعقل السعيد هو عقل سليم صحيا، والعقل السليم صحيا مفيد للجسم.
غير أن سعادة الإنسان ومعاناته ليستا مباشرتين، وذلك على العكس من الحيوانات الأخرى. فقد يجد الكلب السعادة عندما يتناول وجبة جيدة ثم يذهب إلى الشرفة للاستلقاء. وعلى الرغم من أننا قد نستوعب مثل هذه المتع البسيطة، فمن الجلي أنها ليست كافية بأي حال من الأحوال لتحقيق الرضا الحقيقي للبشر.
إن السعي البشري الدائم لتحقيق السعادة وتجنب المعاناة لا يفسر أعظم الإنجازات البشرية فحسب، بل يفسر أيضا التطور الذي شهده دماغنا الكبير هذا على مدى آلاف السنين. أعتقد أنه حتى مفهوم الدين ذاته قد نشأ عن هذا السعي. ذلك أننا نواجه حتما في مسار الحياة مشكلات تفوق قدرتنا على التحكم. ولهذا؛ فللحفاظ على الأمل وارتفاع معنوياتنا، نطور مفهوم الإيمان، ولكي ندعم الإيمان نلجأ إلى الصلاة، والصلاة عنصر جوهري في الدين. وعلى المنوال نفسه أقترح أن الإنجازات البشرية الاستثنائية في العلوم والابتكارات التكنولوجية على مدى القرون القليلة الماضية قد نشأت عن الرغبة في التغلب على المعاناة وتحقيق السعادة.
وعلى أية حال، فبالرغم من أن تطورنا العقلي الاستثنائي يميزنا - نحن البشر - عن أشكال الحياة الأخرى ويدفع النجاح المذهل لنوعنا، فإن هذا التعقيد العقلي ذاته، هو في الوقت نفسه مصدر للعديد مما نواجهه من المشكلات والصعوبات الأكثر استمرارا. معظم المشكلات التي نواجهها في العالم اليوم، مثل الصراع المسلح والفقر والظلم والتدهور البيئي، قد نشأت واستمرت بفعل النشاط البشري المعقد. علاوة على ذلك، فإن المصادر الأشد إلحاحا للمعاناة الداخلية على المستوى الفردي؛ الخوف والقلق والتوتر على سبيل المثال، ترتبط هي أيضا ارتباطا وثيقا بتعقيد عقولنا وبمخيلاتنا المستعدة للإثارة. (4) المساواة الجوهرية
إننا جميعا متماثلون جوهريا في سعينا لتحقيق السعادة وتجنب المعاناة؛ ومن ثم متساوون. هذه نقطة مهمة. ذلك لأننا إذا تمكنا من دمج إدراكنا لهذه المساواة الإنسانية الجوهرية في نظرتنا اليومية، فأنا واثق تماما من أن ذلك سيعود بفائدة كبيرة علينا كأفراد، لا على المجتمع بشكل عام فحسب. أنا عن نفسي متى ما التقيت بالناس، سواء أكانوا رؤساء أم متسولين، من السود أم من البيض، قصار القامة أم طوالا ، أغنياء أم فقراء، من هذا الشعب أم من شعب آخر، من معتنقي هذا المعتقد أم ذاك، أحاول أن أتعامل معهم بوصفهم بشرا فحسب يسعون، مثلي، لتحقيق السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة. أجد أن تبني هذا المنظور يولد شعورا طبيعيا بالقرب حتى مع أولئك الذين كانوا حتى تلك اللحظة غرباء عني تماما. فعلى الرغم من كل السمات الفردية التي نتمتع بها، وبغض النظر عن التعليم الذي تلقيناه أو المكانة الاجتماعية التي ربما نكون قد ورثناها، وبصرف النظر أيضا عما حققناه في حياتنا، فنحن جميعا نسعى لإيجاد السعادة وتجنب المعاناة خلال حياتنا القصيرة هذه.
ولهذا كثيرا ما أشير إلى أن العوامل التي تقسمنا هي في الواقع أكثر سطحية بكثير من تلك التي نشترك فيها. فرغم جميع السمات التي تميزنا: العرق واللغة والدين والنوع الاجتماعي والثروة وكثير غيرها، جميعنا متساوون من حيث إنسانيتنا الأساسية. والعلم يثبت هذه المساواة. فقد أظهر تسلسل الجينوم البشري، على سبيل المثال، أن الاختلافات العرقية لا تشكل سوى جزء ضئيل من تركيبتنا الجينية التي نتشارك جميعا في الغالبية العظمى منها. حقيقة الأمر أنه على مستوى الجينوم، تظهر الاختلافات بين الأفراد أكثر وضوحا مما هي عليه بين الأعراق المختلفة.
في ضوء هذه الاعتبارات، أعتقد أنه قد حان الوقت لكل منا كي يبدأ في التفكير والتصرف على أساس هوية مترسخة في عبارة «نحن بشر».
الفصل الثالث
البحث عن السعادة
بالأمل وحده يحيا الإنسان، وينطوي الأمل في تعريفه على التفكير في شيء أفضل. وفي رأيي أن بقاءنا على قيد الحياة نفسه يعتمد على فكرة ما بشأن تحقق السعادة في المستقبل. غير أننا إذا قبلنا أن البشر يميلون جوهريا نحو نشد السعادة وتجنب المعاناة، فسيظل علينا استكشاف ما تعنيه السعادة، والمصادر التي يمكن أن نستقيها منها. إن السعادة مصطلح عام إلى حد ما، ومن ثم فقد يساء فهمها. ينبغي أن نوضح على سبيل المثال، أننا في السياق العلماني لهذا الكتاب لا نتحدث عن المفاهيم الدينية للسعادة المطلقة، بل عن البهجة البسيطة أو السعادة التي نفهمها جميعا بالمعنى العادي أو في سياق الحياة اليومية.
صفحة غير معروفة
مثلما أشرت سابقا، فإن تحقيق السعادة لكائنات مثلنا على هذه الدرجة من التعقيد ليس بالأمر السهل. فعلى عكس سعادة الكلاب أو القطط على سبيل المثال، تستلزم السعادة البشرية ما هو أكثر من الإشباع البسيط للشهوة الحسية. فما هي إذن مصادر سعادة الإنسان؟
هناك ثلاثة عوامل تسهم بدرجة كبيرة في رفاهية الإنسان تطرح نفسها على الفور، وأعتقد أن معظم الأشخاص سيوافقون عليها، وهي: الثروة أو الرخاء، والصحة، والصداقة أو الرفقة. (1) الثروة والصحة والصداقة
فلنبدأ إذن بالثروة. هل يؤثر وضعنا المادي في سعادتنا؟ حسنا، إنه يؤثر بالطبع! من الحماقة أن ننكر أهمية العوامل المادية في رفاهيتنا. ففي نهاية المطاف، حتى الناسك الذي يعيش معتزلا في كهف جبلي يحتاج إلى الطعام والكساء. وبدون مستوى معين من الراحة المادية، لا يمكن للناس العيش بالكرامة التي نستحقها جميعا كبشر. فالمال بلا شك عامل مهم في سعينا لتجنب المعاناة وتحقيق السعادة.
لكن كم يكفينا من المال؟ في اللغة التبتية، نشير إلى المال في بعض الأحيان بالاسم المستعار «كونجا دوندوب». يبدو هذا اللقب للأذن التبتية كأي اسم شخصي عادي، لكنه يعني شيئا أشبه بأنه «القدر الذي يجعلنا جميعا سعداء ويمكنه تلبية جميع رغباتنا». ونظرا إلى أن المال يمنحنا الخيارات والحرية، فمن الطبيعي أن يجده الناس شديد الجاذبية لا يستطيعون فيما يبدو الاكتفاء منه. ومن حين لآخر، أمازح جمهوري التبتي بشأن إخلاصهم ل «كونجا دوندوب». ففي جزء من ممارستنا الدينية التقليدية، عادة ما نتلو - نحن التبتيين - إحدى تعويذات المانترا المرتبطة ببوذا الرأفة: «أوم ماني بادمي هم». نتلوها كثيرا طوال اليوم، همسا في كثير من الأحيان، حتى عندما نكون مشغولين بأشياء أخرى: نقول: «أوم ماني بادمي هم، أوم ماني بادمي هم.» لكن عندما يتلوها الناس بسرعة، تدغم الأصوات بعض الشيء فتصبح: «أوم ماني بادمي، أوم ماني بادمي ... ماني بادمي ... أوم ماني ... ماني ... ماني»، وعند هذه المرحلة يبدو الأمر كما لو أنهم يتحدثون الإنجليزية، ويقولون: «ماني، ماني، ماني»؛ أي «المال ، المال، المال»!
لكن مرة أخرى، وبغض النظر عن المزاح، لا شك أن الثروة والرخاء يعودان بالفوائد. فنحن البشر نحتاج إلى مأوى لائق، وبيئة صحية، وطعام مغذ، ومياه نظيفة. هذه هي احتياجاتنا الأساسية، ومن ثم فهي متطلبات أساسية لسعادة الإنسان.
بالرغم من ذلك، فمع أن المزيد من فوائد الثروة، مثل منزل جديد، أو سيارة جديدة، أو ربما هاتف جديد، قد توفر بعض الارتفاع المؤقت في مستوى راحتنا أو تكيفنا اليومي، ليس هناك ما يضمن أنها ستجلب أي إشباع دائم أو أنها ستسهم في تعزيز الشعور العام بالرفاهية. حقيقة الأمر أن الحصول على الكثير جدا من الممتلكات غالبا ما يؤدي إلى مزيد من القلق، والإجهاد، والتوتر. ويمكن لهذه العوامل بدورها أن تغذي مشاعر الغضب والاستياء أيضا.
من المثير للاهتمام أن الأدلة التي جمعها علماء النفس والاجتماع في السنوات الأخيرة تشير بوضوح كبير إلى أن المقتنيات المادية ليس لها سوى تأثير مؤقت على ما يسمونه «الازدهار النفسي». تشير تلك الدراسات إلى أنه بعد تلاشي الإثارة الأولية الناتجة عن عملية شراء جديدة، سرعان ما تعود سعادتنا إلى مستواها السابق. في اللغة التبتية المنطوقة، لدينا تعبير يجسد هذه الظاهرة جيدا، ولا أعرف له مكافئا دقيقا في لغات أخرى. عندما يكون الشخص منجذبا بصفة خاصة إلى الإثارة الناتجة عن اقتناء أشياء جديدة، نسمي ذلك الشخص «أسار تسابو»؛ أي «أسار جدا»، حيث «سار» تعني «جديد». والمعنى الضمني هو أن مثل هذا الشخص ليس طماعا فحسب، بل سريع الانفعال أيضا ومتقلب؛ فدائما ما يسير وراء أحدث التوجهات أو أحدث الأدوات. وأعتقد أن الثقافة الاستهلاكية الحديثة تميل إلى تشجيع هذا النوع من التقلب.
من الصراع على الموارد في العالم الطبيعي إلى الصراع داخل العائلات، غالبا ما تكون القيم المادية مصدرا للمشكلات. غير أن الثروة المادية ليست بضمان للسعادة. فقد قابلت في الواقع بعض الأشخاص الشديدي الثراء وحتى أصحاب المليارات الذين اعترفوا أنهم لا يشعرون في حياتهم بالرضا أو السعادة على المستوى الشخصي. تنسج الثروة حول الأشخاص ما يشبه الشرنقة ؛ مما يجلب شعورا بالوحدة في كثير من الأحيان. ومن ثم فإن «كونجا دوندوب» ليس بالصديق الذي يعتمد عليه، والذي يجلب أيضا الكثير من المعاناة. وبينما يمكن للثروة المادية أن تكون مصدرا لقدر كبير من التوتر والتعاسة، فإن الثروة النفسية، القائمة على الحب والرأفة، لا يمكن أن تصبح كذلك. من الواضح إذن أي نوعي الثروة ينبغي أن نسعى إليه حقا.
لكنك قد تقول إن الثروة تمنح حقا نوعا من الأمان والرضا الدائم إلى حد بعيد. ربما يكون هذا صحيحا، لكن ما مدى الأمان الذي يمكن أن توفره الثروة المادية؟ إن الكوارث الطبيعية المتكررة تذكرنا على الدوام بمدى هشاشة الأمن المادي الذي نشعر به.
ولهذا، فالأكثر أهمية من المال، أو الممتلكات، أو المكانة هو حالتنا المعنوية أو النفسية. سيكون أفراد الأسرة الفقيرة سعداء إذا شعروا بالعاطفة والطيبة والثقة فيما بينهم. وقد يعيش جيرانهم الأغنياء في رفاهية، لكن إذا أحاط الشك أو الاستياء بعقولهم، فلن يشعروا بسعادة حقيقية. وذلك أمر بديهي. ولذا فإن المستوى النفسي أمر جوهري في نهاية المطاف.
صفحة غير معروفة
إن الأبحاث الحديثة في مجال العلوم الاجتماعية لم توضح أن الفوائد النفسية للثروة هي أمر مؤقت فحسب، بل أوضحت أيضا أن المستوى العام للرضا في المجتمع عندما تكون الثروة موزعة بالتساوي بين السكان يكون أكبر مما هو عليه عندما تكون هناك فوارق كبيرة بين الأغنياء والفقراء. ومرة أخرى يشير هذا إلى أنه لا يمكن قياس الرفاهية بأسس مادية موضوعية؛ إذ يعتمد على مجموعة من العوامل السياقية التي تؤثر على الموقف النفسي للفرد تجاه علاقتنا بتلك الثروة. •••
وماذا عن الصحة؟ هل الصحة مصدر للرفاهية؟ لا شك أنها هي أيضا كذلك. فمثلما اختبر معظمنا بنفسه، عندما نشعر بألم مستمر أو انزعاج، فقد يصبح حفاظنا على السلوك الإيجابي أمرا شديد الصعوبة. ولذلك، فالاعتناء بصحتنا البدنية أمر بالغ الأهمية. علينا أن نأكل جيدا، وأن ننام جيدا، وأن نمارس بعض التمارين. وإذا مرضنا، فيجب أن نستشير طبيبا مؤهلا مناسبا وأن نتبع العلاج الموصوف. وهذا جانب واضح من الأمر . ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الصحة بوصفها أمرا بدنيا خالصا، ولم نهتم إلا بحالة أجسامنا وأهملنا ما سوى ذلك من العوامل النفسية والعاطفية، فإننا نكون مخطئين. ذلك أنه لا يوجد ارتباط ضروري أو مباشر بين الاستمتاع بصحة بدنية جيدة وبين السعادة. فبالرغم من كل شيء، أليس ممكنا لشخص يتمتع بجسم سليم وقوي أن يكون غير سعيد؟ الحق أنه أمر شائع للغاية. وهل يكون من غير الممكن بالقدر نفسه أيضا أن يشعر شخص يعاني صحة ضعيفة، بل سيئة للغاية، بالسعادة؟ أنا واثق من إمكانية حدوث هذا. هل ذلك الضعف البدني الذي يصيب العجائز على سبيل المثال، ينطوي بالضرورة على التعاسة؟ بالطبع لا! ولذا، على الرغم من أن الصحة البدنية تسهم بالتأكيد في سعادة الإنسان، فهي ليست مصدرها المطلق. أما المصدر الحقيقي للسعادة، فنؤكد مرة أخرى أنه يتعلق بحالتنا النفسية، ونظرتنا، ودوافعنا، ومستوى مودتنا تجاه الآخرين. •••
والآن لنتناول الصداقة. مما لا شك فيه أن وجود دائرة قريبة من الأصدقاء؛ الأشخاص الذين يمكننا قضاء الوقت معهم وتبادل الخبرات، أمر مهم للغاية. ونظرا لأننا حيوانات اجتماعية، تشكل علاقاتنا مع الآخرين جزءا أساسيا في تحقيقنا للرفاهية. بالرغم من ذلك، علينا أن نفكر مليا فيما يميز الصداقة الحقيقية عن العلاقات السطحية التي لا تجلب سوى المنافع الاجتماعية السطحية. لا شك أن المال والمكانة الاجتماعية والمظهر، كلها من الأمور التي تجلب معها قدرا كبيرا من الاهتمام في المجتمع البشري. لكن ما الهدف الحقيقي لهذا الاهتمام؟ أيمكن ألا يكون هؤلاء الأشخاص أصدقاء حقيقيين لنا بل أصدقاء لأموالنا، أو مكانتنا، أو مظهرنا الجيد؟ وإن كان الأمر كذلك، فماذا سيحدث إذا انحسر معين ثرواتنا أو نضب؟ ماذا لو فقدنا مظهرنا الجيد أو أموالنا؟ هل سيظل هؤلاء الأصدقاء موجودين عندما نحتاج إليهم، أم أنهم سيتلاشون من حياتنا؟ مكمن الخطر أن هؤلاء الأصدقاء سيختفون سريعا.
من الجلي أن الصداقة الحقيقية لا تقوم إلا على الثقة والمودة، ولا يمكن أن تنشأ إلا على أساس من الشعور المتبادل بالاهتمام والاحترام. ومن ثم؛ فإن مشاعر الثقة والحنان الناشئ عن الحب، التي تقاوم مشاعر العزلة أو الوحدة، لا تنبع من مجرد الوجود الخارجي للآخرين أو من المظهر الخارجي للصداقة، بل مما يبديه الشخص نفسه من الاهتمام والاحترام تجاه الآخرين. إن مصدرها الجوهري يكمن بداخلنا.
خلال إحدى زيارتي إلى إسبانيا منذ عدة سنوات، التقيت راهبا مسيحيا قضى خمس سنوات يعيش ناسكا في صومعته. سألته عما كان يفعله خلال كل هذه الفترة. فأجاب أنه كان يتأمل في الحب. عندما قال هذا، بلغة إنجليزية أضعف حتى من لغتي، رأيت عمق المشاعر في عينيه حتى إنه لم يكن يحتاج إلى قول أي شيء أكثر من ذلك. إنه مثال على شخص عاش بمفرده لكنه لم يشعر بأي وحدة. إن الحنان أو الرأفة هما ما يربطنا بالآخرين قبل أي شيء. فقد يشعر بعض الأشخاص ممن يبدو أن لديهم الكثير من الأصدقاء والمعجبين بعزلة شديدة مع ذلك. وأود أن أذكر مثل هؤلاء الأشخاص أن الترياق الوحيد لمثل هذه الوحدة هو موقفهم الداخلي من المودة، والاهتمام، والحنان تجاه إخوانهم من البشر. (2) مستويان من الرضا
تكشف هذه الاعتبارات أننا حين نتحدث عن السعادة، فإننا غالبا ما نخلط بين حالتين مختلفتين تماما ومستقلتين إلى حد كبير، ومستويين، من الرضا. فمن ناحية ما، لدينا تلك المشاعر الممتعة التي تنبع من التجارب الحسية. وتسهم كل من الثروة والصحة والصداقة إلى حد كبير في تكون مثل هذه المشاعر لدينا. ومن ناحية أخرى، ثمة مستوى أعمق للرضا لا ينبع من المحفزات الخارجية بل من حالتنا النفسية ذاتها. هذا هو المستوى الثاني من الرضا، الذي ينبع من داخلنا، وهو ما أعنيه عندما أتحدث عن السعادة البشرية الحقيقية.
نظرا لأن النوع الأول من الرضا يعتمد على التحفيز الحسي، فإنه هش وعابر بطبيعته. ذلك أن هذه المتع لا تدوم إلا بقدر دوام التحفيز الحسي، وعندما يتوقف التحفيز، لا يكون لها أي دور دائم في إحساسنا العام بالرفاهية. على سبيل المثال، يقضي كثير من الناس وقتا طويلا في مشاهدة الفاعليات الرياضية. لكن ما الذي يتبقى لهم بعد انتهاء الفاعلية؟ ما المنفعة الطويلة الأجل التي اكتسبوها؟
تنبع جميع المتع القائمة على التحفيز الحسي عن إشباع رغبة ملحة بمستوى ما. وإذا أصبحنا مهووسين بإشباع تلك الرغبة، فسيتحول هذا في النهاية إلى شكل من أشكال المعاناة. حتى المتعة التي نشعر بها من تناول الطعام تتحول إلى معاناة إذا أفرطنا في الأكل.
لا أريد بهذا أن أقول إن مثل هذه المتع عديمة القيمة تماما، وإنما أرغب فحسب في توضيح أن الرضا الذي تجلبه هو رضا عابر وينطوي على دورات من الرغبة الملحة تتولد من تلقاء نفسها. وفي عالم اليوم المادي الذي نغفل فيه عن القيم المعنوية في كثير من الأحيان، من السهل للغاية أن نقع في عادة السعي المستمر وراء التحفيز الحسي. غالبا ما ألاحظ أنه إذا لم يكن الناس يستمعون إلى الموسيقى، أو يشاهدون التلفزيون، أو يتحدثون في الهاتف، أو غير ذلك من الأفعال، فإنهم يشعرون بالملل أو القلق ولا يعرفون شيئا آخر يقومون به. وذلك يشير إلى أن إحساسهم بالرفاهية يعتمد بشكل كبير على مستوى الرضا الحسي.
فماذا عن المستوى الآخر؛ المستوى الداخلي للرضا؟ من أين ينبع؟ وكيف يمكن الوصول إليه؟ حسنا، إن السعادة الحقيقية تستلزم أولا راحة البال أو درجة من الهدوء النفسي. وعندما يتحقق ذلك، تهون المشقة. فمع القوة النفسية والاستقرار المستمدين من السلام الداخلي، يمكننا أن نتحمل جميع أنواع الشدائد.
صفحة غير معروفة
يمكن توضيح الدور الذي تؤديه عقولنا في تقرير سعادتنا بسهولة كبيرة. تخيل فردين قد شخصا بالمرض العضال نفسه، لنقل إنه شكل متقدم من أشكال السرطان غير القابل للعلاج. يتلقى أحدهما هذا الخبر بمشاعر الغضب والإشفاق على الذات، مع هوس بالتركيز على وضعه الظالم، بينما تلقاه الآخر بتقبل هادئ. في كلتا الحالتين، فإن الحالة المادية، من حيث الصحة البدنية والمعاناة، واحدة. غير أن الشخص الأول يتجرع مزيدا من الألم النفسي والعاطفي، أما الشخص الهادئ فهو أفضل استعدادا لمواصلة الحياة والاستمرار في الاستمتاع بالأشياء التي تجلب له الفرح، كالأسرة مثلا أو الإخلاص لقضية معينة، أو القراءة. والفرق الوحيد بينهما هو نفسية كل منهما.
مع المرونة الداخلية، يصبح من الممكن الحفاظ على درجة من السعادة حتى في الظروف الشديدة الصعوبة. ومن دون هذه القوة الداخلية، لا يمكن لأي قدر من الإشباع الحسي أن يجعلنا سعداء.
بالرغم من ذلك، إذا كان السلام النفسي هو خط دفاعنا الأول ضد المشقة والمعاناة، فثمة عوامل جوهرية أخرى تسهم هي أيضا بشكل كبير في مستوى سعادتنا وفرحنا الحقيقيين. تشير الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن العامل الرئيسي من بينها هو الإحساس بالغاية الذي يتجاوز المصلحة الذاتية الضيقة والشعور بالتواصل مع الآخرين أو الانتماء إلى مجتمع ما. وأنا أعتقد أن أساس هذين العاملين هو الرأفة أو المودة، وذلك هو ما أنتقل إليه الآن.
الفصل الرابع
الرأفة: أساس الرفاهية
مثل جميع الثدييات الأخرى، نولد - نحن البشر - من أمهاتنا، ونظل لبعض الوقت بعد الميلاد معتمدين اعتمادا تاما على اهتمام أمهاتنا أو غيرهن من مقدمي الرعاية البالغين. لمدة تسعة أشهر نتغذى في أرحام
لنا ولا قوة. لا يمكننا الجلوس أو الزحف، فضلا عن الوقوف أو المشي، فلا يمكننا البقاء على قيد الحياة من دون عناية الآخرين واهتمامهم بنا. وفي حالة الضعف المطلق تلك، يكون أول عمل لنا كأطفال حديثي الولادة هو الرضاعة من أثداء أمهاتنا. وبلبنهن نتغذى ونحصل على القوة. والواقع أن فترة الاعتمادية لدى صغار البشر طويلة على نحو خاص. وينطبق هذا علينا جميعا، بما في ذلك حتى أسوأ المجرمين. فلولا الرعاية المحبة التي نتلقاها من الآخرين، لما عاش شخص منا أكثر من بضعة أيام. ونتيجة لهذه الحاجة الشديدة إلى الآخرين في المرحلة المبكرة من نمونا، فإن النزعة نحو العاطفة جزء من تكويننا البيولوجي.
تلك سمة نتشارك فيها مع العديد من الثدييات الأخرى، ومع الطيور أيضا؛ أي مع كل تلك الكائنات التي يعتمد بقاؤها في مراحل النمو المبكرة على تلقي الرعاية من الآخرين. ومن الجلي أن جميع هذه الحيوانات تعرف شكلا من أشكال الشعور بالاتصال أو الترابط. حتى إذا كنا لا نستطيع أن نسمي هذا الشعور بالعاطفة على نحو صريح، فجميع هذه الكائنات تتمتع بشكل ما من مشاعر القرب. وفي المقابل، نختلف نحن عن السلاحف أو الفراشات، التي تضع بيضها ثم تتركه ولا ترى نسلها بعد ذلك أبدا. لا توجد لهذه الحيوانات فترة تنشئة، ولهذا فإنني أتساءل إن كان بإمكانها إدراك العاطفة أم لا. منذ عهد قريب خلال حديث في جامعة أكسفورد، اقترحت بشيء من المزاح أن يجري العلماء الحاضرون بعض الأبحاث في هذا الشأن. هل تتعرف تلك الحيوانات التي لا تتطلب أي فترة للتنشئة على والديها، على سبيل المثال؟ أشك في ذلك نوعا ما. وهو شيء سأكون مهتما للغاية برصده.
أما بالنسبة إلى البشر، فمن الجلي مع فترة تنشئتنا الطويلة أن اهتمام الآخرين وعاطفتهم يؤدي دورا جوهريا لبقائنا ورفاهيتنا. إن الأبحاث الطبية الحديثة توضح أن الاتصال الجسدي من الأم أو من الشخص المقدم الرعاية خلال فترة الطفولة المبكرة يمثل عاملا جوهريا في زيادة حجم الدماغ. ويؤكد علم النفس الحديث أن الرعاية التي نتلقاها في سن الرضاعة والطفولة تترك أثرا عميقا في تطورنا العاطفي والنفسي. يشير هذا البحث أيضا إلى أن الأشخاص الذين يفتقرون إلى العاطفة في فترة الطفولة أكثر عرضة لأن ينتابهم في الحياة بعد ذلك شعور مترسخ بانعدام الأمان.
ثمة برنامج سمعت عنه منذ بضع سنوات يعمل على تحسين الرعاية التي تقدمها دور الأيتام في بعض الأماكن المضطربة في أمريكا اللاتينية. وبالرغم من أن التدابير التي يدعمها هذا البرنامج هي ثمار أبحاث علمية ونفسية مهمة، فهي أيضا أمور بسيطة للغاية وتدركها الفطرة السليمة؛ إذ تعكس جميعها الدور الجوهري للدفء البشري والعاطفة في تطورنا النفسي والبدني. تتضمن هذه التدابير، على سبيل المثال، إسكان الأطفال في مهاجع أصغر وأكثر حميمية، وتوزيعهم في مجموعات صغيرة على أفراد مقدمي الرعاية؛ حتى تتاح لهم الفرصة لتطوير علاقة شبيهة بالعلاقات الأسرية الطبيعية. وفي حالة الرضع، يحث مقدمو الرعاية على ممارسة المزيد من الاتصال الجسدي والتحدث مع الأطفال والنظر في عيونهم أثناء تغيير حفاضاتهم وما إلى ذلك من الأعمال. وهذه التدابير، على الرغم من بساطتها، يمكن أن تحدث تأثيرا يدوم مدى الحياة.
صفحة غير معروفة
يتضح اعتمادنا على الآخرين بأكبر درجة في مرحلة الطفولة، لكنه لا ينتهي عندها. فكلما واجهنا صعوبات في الحياة، لجأنا إلى الآخرين للحصول على الدعم. عندما نمرض، على سبيل المثال، نذهب إلى الطبيب. وعلى مدار حياتنا بأكملها، تستفيد حتى صحتنا البدنية من مشاعر المودة والدفء البشرية البسيطة. إن التعافي من المرض في حد ذاته لا يقتصر على تلقي العلاج الطبي المناسب أو وضع المواد الكيميائية المناسبة في مجرى دمائنا، بل يعتمد أيضا إلى حد كبير على الرعاية البشرية التي نتلقاها.
تعززت هذه الفكرة لدي مؤخرا عندما خضعت لعملية جراحية في دلهي لإزالة المرارة. كان من المفترض أن تكون عملية جراحية بسيطة، لكن حدثت بعض المضاعفات، وما كان ينبغي أن يستغرق عشرين دقيقة قد استغرق أربع ساعات، واضطررت إلى قضاء بضعة أيام للتعافي في المستشفى. ومن حسن الحظ أن الأطباء والممرضات هناك كانوا طيبين وعطوفين معي للغاية، وأتذكر الكثير من الفرح والضحك. فلا يساورني كثير من الشك في أن بيئة الدفء الإنساني والسعادة التي ساهموا في خلقها ساعدت في التعجيل بشفائي.
نحن نعتمد أيضا بشكل كبير على دفء مشاعر الآخرين وعطفهم عندما نصل إلى نهاية حياتنا. كم هو من الأفضل كثيرا أن نخرج من هذا العالم محاطين بالحب والعاطفة وفي بيئة من السلام والسعادة، عن أن نكون محاطين باللامبالاة أو العداء وفي بيئة من النزاع والاستياء! من وجهة نظر عقلانية بحتة، ينبغي ألا نكترث لمشاعر الآخرين تجاهنا عندما نكون على وشك الموت؛ إذ لا يمكن لمواقفهم أن تؤثر فينا عندما نرحل. لكننا في الحقيقة نهتم بالأمر كثيرا. فعند لحظة الموت، تهمنا النوايا الحسنة للآخرين على نحو كبير. وهذه ببساطة إحدى حقائق الطبيعة البشرية.
ليس البشر وحيدين بالطبع في هذا الاعتماد على دفء مشاعر الآخرين ومودتهم. ذلك أن الدراسات العلمية تسفر عن استنتاجات مماثلة فيما يتعلق بالثدييات الأخرى المختلفة التي تحتاج أيضا إلى فترة التنشئة. على سبيل المثال، سمعت مؤخرا عرضا تقديميا لبعض العلماء بشأن سلوك القردة. وقد لاحظوا أن القرود الصغيرة التي عاشت مع أمهاتها كانت في الغالب أكثر مرحا وأقل مشاكسة من تلك التي انفصلت عن أمهاتها عند الولادة. فقد أظهرت تلك التي انفصلت عن أمهاتها سلوكا عدوانيا؛ مما يشير إلى أنها مضطربة عاطفيا وتفتقر إلى الشعور الداخلي بالأمان. وأظهرت دراسة أخرى دور العناية بالتنظيف في التطور البدني المبكر للفئران. فحتى الفئران التي جرت تربيتها خصيصا لتكون قلقة، قد أظهرت استجابة إيجابية لسلوك اللعق بغرض التنظيف، وانحسر سلوكها القلق تدريجيا تحت تأثير هذا الاهتمام. لقد تمكن العلماء أيضا من تتبع التغيرات الجسدية في أدمغة هذه الحيوانات التعسة، وأوضحوا أن التنظيف قد أطلق بالفعل مواد كيميائية مهدئة في الدماغ وخفض من مستويات هرمونات التوتر في الجسم.
لا أقصد من هذا كله أن أقترح أن رفاهيتنا سلبية تماما أو تعتمد على الطريقة التي يعاملنا بها الآخرون. فالأهم حتى مما نتلقاه من دفء ومودة هو ما نمنحه للآخرين من دفء ومودة. فمن خلال تقديم الدفء والعاطفة، ومن خلال الاهتمام الحقيقي بالآخرين؛ بعبارة أخرى، من خلال الرأفة، نصل إلى شروط تحقيق السعادة الحقيقية. ولهذا السبب، فإن منح المحبة أهم حتى من أن يكون المرء محبوبا.
الكثيرون من الناس يفترضون خطأ أن الرأفة ممارسة دينية. وليس ذلك بصحيح. فبالرغم من أن الرأفة جوهرية في التعاليم الأخلاقية لجميع التقاليد الدينية الكبرى، لكنها ليست قيمة دينية في حد ذاتها. فالكثير من الحيوانات تدركها وتقدرها مثلما قلت، وتمتلك الثدييات القدرة على ممارستها بالطبع.
يفترض الكثير من الناس أيضا أن الشعور بالتعاطف مع الآخرين هو أمر جيد للآخرين فقط وليس لأنفسهم. وهذا أيضا غير صحيح. ذلك أن مسألة ما إذا كانت طيبتنا ستجلب النفع للآخرين أم لا، تعتمد على العديد من العوامل التي سيكون بعضها خارج نطاق سيطرتنا. لكن سواء أنجحنا في تحقيق النفع للآخرين أم لا، فإن المستفيد الأول من ذلك التعاطف هو أنفسنا دائما. عندما تنشأ فينا الرأفة أو الدفء ويتحول تركيزنا بعيدا عن مصلحتنا الذاتية الضيقة، فإن الأمر يغدو وكأننا فتحنا بابا داخليا. تقلل الرأفة من خوفنا، وتعزز ثقتنا، وتجلب لنا قوة داخلية. وبتقليلها لانعدام الثقة، تجعلنا منفتحين على الآخرين وتجلب لنا إحساسا بالتواصل معهم وشعورا بوجود هدف في الحياة ومغزى منها. ثم إن الرأفة تمنحنا أيضا هدنة من الصعوبات التي تواجهنا.
منذ وقت مضى، في أثناء زيارتي لبود جايا، وهو موقع حج بوذي مهم في الهند، أصبت بعدوى شديدة في الجهاز الهضمي. كان الألم شديدا لدرجة أنني اضطررت لإلغاء سلسلة التعاليم بأكملها التي كان من المقرر أن ألقيها هناك. شعرت بالأسف الشديد لإحباط آلاف الأشخاص الذين سافروا من أجل الحضور، وكثير منهم من أماكن بعيدة. غير أنني اضطررت للذهاب إلى المستشفى بشكل عاجل. وكان هذا يعني مروري بالسيارة عبر أفقر المناطق الريفية في الهند.
كان الألم يعتصر بطني. وفي كل مرة تهتز فيها السيارة على الطريق، كنت أشعر بأن الألم يغمرني. وعندما نظرت من نافذة السيارة، رأيت مشاهد من الفقر المستشري. رأيت أطفالا يعانون نقص التغذية يركضون عراة في التراب. ولمحت رجلا عجوزا للغاية يرقد على سرير نقال بالقرب من الطريق. بدا وحيدا وليس لديه من يعتني به. وبينما استمرت السيارة في طريقها، لم أستطع التوقف عن التفكير في مأساة الفقر والمعاناة الإنسانية. وقد لاحظت بعد ذلك أنه عندما تحولت أفكاري من معاناتي إلى التأمل في مصاعب الآخرين، هدأ ألمي.
إن الملاحظة المتمثلة في أن اهتمامنا بالآخرين يسهم في تحقيق رفاهيتنا لها أيضا ما يدعمها من الأبحاث العلمية. ذلك حيث توجد الآن أدلة علمية متزايدة على أن الحب والطيبة والثقة وما يشبهها من المشاعر، لا تعود بالفوائد النفسية فحسب، بل تعود أيضا بفوائد ملحوظة على الصحة البدنية. إنني أعرف دراسة حديثة تبين أن تحري تنمية الحب والرأفة يمكن أن يؤثر حتى في حمضنا النووي نفسه. وقد لوحظ هذا التأثير في أجزاء حمضنا النووي المعروفة باسم «التيلوميرات»، التي تربط العلوم الطبية بينها وبين عملية التقدم في العمر.
صفحة غير معروفة
علاوة على ذلك، تبين أيضا أن المشاعر السلبية مثل القلق والغضب والاستياء تقوض من قدرتنا على مكافحة المرض والعدوى. فقد أخبرني أحد أصدقائي من العلماء مؤخرا أن مثل هذه المشاعر السلبية المستمرة تلتهم جهازنا المناعي في حقيقة الأمر.
منذ سنوات، حضرت عرضا تقديميا في نيويورك اقترح فيه أحد علماء الطب أن الرجال الذين يكثرون في استخدام ضمائر المتكلم، مثل «أنا»، و«لي»، بدرجة لا تتناسب مع الضمائر الأخرى، هم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالنوبات القلبية. لم يقدم العرض حينها تفسيرا للأمر، لكني كنت أرى أن دلالته واضحة إلى حد كبير. إن كثرة استخدام ضمائر المتكلم تشير على الأرجح إلى مستوى عال من التركيز على الذات. والأرجح أن هؤلاء الأشخاص أكثر عرضة للإجهاد والقلق اللذين يصاحبان التمركز حول الذات. ومن المعروف بالطبع أن الإجهاد والقلق مضران بالقلب. بالرغم من هذا، فأولئك الذين يكثرون من الحديث عن أنفسهم صادقون على الأقل، وذلك في رأيي أفضل من التظاهر بالتعاطف مع التمركز حول الذات في حقيقة الأمر!
إن تلك العلاقة التي لا تنفصم، بين الحالة العقلية والوجدانية من ناحية وبين الرفاهية والصحة من ناحية أخرى، توحي لي بأن بنية أجسامنا نفسها، ترشدنا إلى المشاعر الإيجابية. فمثلما أقول في كثير من الأحيان، يبدو أن تقدير الحب والعاطفة يسكن في خلايا دمائنا.
حسنا، ينبغي التوضيح أنه ما من خطأ جوهري في السعي وراء المصالح الفردية. وإنما هو على العكس من ذلك تعبير طبيعي عن نزعتنا الأساسية في السعي وراء السعادة وتجنب المعاناة. الحق أن اهتمامنا باحتياجاتنا الخاصة هو ما يمنحنا القدرة الطبيعية على تقدير مودة الآخرين وحبهم. ولا تصبح غريزة المصلحة الذاتية هذه أمرا سلبيا إلا عندما نفرط في التركيز على الذات. فعندما يحدث هذا، تضيق رؤيتنا؛ مما يقوض قدرتنا على رؤية الأمور في سياقها الأشمل. وفي ظل هذا المنظور الضيق، يمكن حتى للمشكلات الصغيرة أن تحدث إحباطا هائلا، ويعتقد المرء أنها لا تطاق. وعندما تظهر تحديات كبرى حقيقية ونحن في مثل هذه الحالة، يكمن الخطر في أننا سنفقد كل أمل، ونشعر باليأس والوحدة، ويستنزفنا الإشفاق على الذات.
المهم في الأمر أنه عند السعي وراء مصلحتنا الذاتية، يجب أن نكون «أنانيين حكماء» وليس «أنانيين حمقى». والأنانية الحمقاء هي السعي وراء مصالحنا الخاصة بطريقة محدودة قصيرة النظر. أما الأنانية الحكيمة فهي التحلي بنظرة أشمل وإدراك أن مصلحتنا الفردية الطويلة الأجل تكمن في صالح الجميع. إن الأنانية الحكيمة تعني أن نتحلى بالتعاطف.
إذن، فقدرة الإنسان على الاعتناء بالآخرين ليست شيئا تافها أو شيئا يمكن الاستهانة به. وإنما هي ملكة ينبغي الاعتزاز بها. إن التعاطف من عجائب الطبيعة البشرية، إنه مورد داخلي نفيس، وهو أساس رفاهيتنا والانسجام في مجتمعاتنا. ولهذا، إذا كنا نسعى لتحقيق السعادة لأنفسنا، فعلينا أن نتحلى بالتعاطف، وإذا كنا نسعى لتحقيق السعادة للآخرين، فعلينا أيضا أن نتحلى بالتعاطف! (1) محبة أم
كانت أمي هي أول من علمني الرأفة. كانت زوجة مزارع بسيطة وأمية لا تفقه القراءة والكتابة، لكني لا أستطيع تصور مثال أفضل منها على شخص متشبع بروح الرأفة حتى أعماقه. كل من قابلها قد تأثر بلطفها ومودتها. كان هذا على النقيض من أبي، الذي كان حاد الطباع بدرجة كبيرة، حتى إنه كان يصفعنا أحيانا ونحن أطفال. ولأنني ابن أمي، فقد كنت محظوظا بما يكفي لتلقي جرعة خاصة من عاطفتها، وأنا على يقين من أن هذا ساعدني على أن أكون أكثر تراحما. ومع ذلك، فربما أكون قد أسأت استغلال طيبتها من وقت لآخر حين كنت طفلا. فعندما كانت تحملني على كتفيها، كنت أقبض على أذنيها بيدي. وعندما كنت أريدها أن تذهب إلى اليمين، كنت أجذب أذنها اليمنى. وعندما كنت أريدها أن تذهب إلى اليسار، كنت أجذب أذنها اليسرى. وإذا ذهبت في الاتجاه الخطأ، كنت أحدث جلبة كبيرة. وبالطبع كانت تكتفي بالتظاهر بعدم فهم إشاراتي، وقد تحملت نوباتي الصاخبة دون أن تغضب. الحق أنني لا أتذكر أن أمي فقدت أعصابها مع أي شخص. كانت شخصا لطيفا للغاية، ليس مع أطفالها فحسب، بل مع كل شخص قابلته.
لا شك أن حب الأم لطفلها هذا هو حب بيولوجي إلى حد كبير. فغريزة الأمومة قوية للغاية، وتساعد الأم على التغاضي عن تعبها البدني وإرهاقها خلال رعايتها لطفلها. وليس لهذه التضحية بالنفس علاقة بمستواها التعليمي، أو بفهمها للأخلاق، أو بأي شيء آخر، بل هي أمر طبيعي تماما.
لقد تذكرت قوة عاطفة الأم تجاه طفلها حديث الولادة في أثناء رحلة جوية بين اليابان وأمريكا قمت بها مؤخرا واستغرقت ليلة كاملة. جلس في الصف المجاور لي على متن الطائرة زوجان شابان بصحبتهما طفلان صغيران. كان الطفل الأكبر في الثالثة أو الرابعة من عمره تقريبا، بينما كان الأصغر لا يزال رضيعا، ربما يبلغ من العمر سنة واحدة. فور أن أقلعت الطائرة، بدأ الطفل الأكبر يركض هنا وهناك، ممتلئا بالطاقة والإثارة. استمر الأب في ملاحقته وإعادته إلى مقعده. في إحدى المرات، قدمت للصبي حلوى. أخذها دون أن يقول أي شيء، ثم واصل السير في الأرجاء. في هذه الأثناء، كان الطفل الأصغر يبكي، وتناوب الوالدان على تهدئته وحمله ذهابا وإيابا في الممر. في النهاية، نال التعب من الصبي الأكبر ومكث لينام، لكن الرضيع كان لا يزال قلقا واستمر في البكاء. في البداية، ساعد الأب في الاعتناء بالرضيع، ولكنه في النهاية جلس هو أيضا لينام. في الصباح، لاحظت احمرار عيني الأم. لم تنم، وقضت الليلة بأكملها في الاعتناء بالرضيع، لكني لم ألحظ أي أثر للاستياء أو المرارة عليها؛ فقد كانت لا تزال ترعى أطفالها بحنان وتفان رائعين. أنا عن نفسي لا أتصور أنني أستطيع أن أكون صبورا إلى هذا الحد!
إن هذا النوع من سلوك المحبة غير المشروطة؛ سلوك الأم تجاه مولودها، هو ما أعنيه عندما أتحدث عن الرأفة بصفتها مصدر جميع قيمنا الأخلاقية أو الروحية المشتركة. هذا هو الحب الذي يتجلى في الرمز المسيحي للعذراء مع طفلها يسوع، وهو ما أجده قويا للغاية. (2) مستويات الرأفة
صفحة غير معروفة
إنني أميز بوجه عام بين مستويين من الرأفة. الأول هو المستوى البيولوجي الذي كنت أصفه، وتمثله عاطفة الأم تجاه وليدها. والثاني هو المستوى الممتد، الذي يجب تنميته عمدا.
على الرغم من أن الرأفة في المستوى البيولوجي يمكن أن تكون غير مشروطة، كحب الأم لطفلها، فهي أيضا متحيزة ومحدودة النطاق. ومع ذلك، فهي ذات أهمية قصوى؛ لأنها البذرة التي يمكن أن تنمو منها الرأفة غير المنحازة. فيمكننا أن نستند إلى قدرتنا الفطرية على الود، ثم نعمل على تمديدها باستخدام ذكائنا وقناعتنا.
بشكل عام، ننزع - نحن البشر - بدرجة كبيرة لأن نشمل باهتمامنا الأشخاص الأقرب إلينا أولا، ثم توسعة هذا الاهتمام ليشمل مجتمعنا الأوسع؛ أي أولئك الذين نتشارك معهم في اللغة، أو المكان، أو الدين، على سبيل المثال. ذلك طبيعي تماما ومن شأنه أن يكون فعالا إلى حد كبير. فعندما ينبع حافز الأفراد من الإخلاص لقضية ما أو من مشاعر القرب تجاه مجموعة بعينها، يصبحون قادرين على فعل أشياء عظيمة. يمكن لمثل هذه المشاعر أن تجمع الناس معا وتساعدهم على تجاوز مصلحتهم الذاتية الضيقة. وبهذا المعنى، تصبح هذه المشاعر نافعة. بيد أنه من المؤسف أن مثل هذه العلاقات القائمة على الأسرة أو المجتمع أو الأمة أو اللغة أو الدين، غالبا ما يصاحبها تمييز متصاعد بين «نحن» و«هم». المشكلة هي أننا عندما نرى أنفسنا من منظور هذه المجموعة أو تلك فقط، فإننا نميل إلى نسيان هويتنا الأوسع كبشر.
من العناصر الأساسية في هذه المشاعر المتحيزة هو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «التعلق». ذات مرة، في مؤتمر علمي في الأرجنتين، أخبرني أحد معلمي صديقي فرانسيسكو فاريلا أنه كعالم ينبغي ألا يتعلق كثيرا بمجال بحثه؛ لأن هذا قد يشوه قدرته على تقييم الأدلة بموضوعية. حين سمعت هذه الكلمات شعرت على الفور أنها لا بد أن تنطبق أيضا على المجال الديني. فبصفتي بوذيا على سبيل المثال، يجب أن أسعى جاهدا ألا يكون تعلقي بالبوذية مفرطا. لأن ذلك ما سوف يعيق قدرتي على إدراك قيمة التقاليد الدينية الأخرى.
علاوة على ذلك، ففي ظل عنصر التعلق، غالبا ما تعتمد عاطفتنا تجاه الآخرين واهتمامنا بهم على علاقة هؤلاء الآخرين بنا . إننا نهتم بمن يعتنون بنا ويعاملوننا جيدا. بالرغم من ذلك، فعندما تعتمد عاطفتنا على تحقيق أهدافنا وتوقعاتنا الشخصية، التي نسقطها على الآخرين، فستكون دائما شديدة الهشاشة. ومن ثم، فما دام الآخرون يحققون توقعاتنا، يسير كل شيء على ما يرام، لكنهم حالما يتوقفون عن ذلك، من السهل أن تتحول عواطفنا إلى استياء، بل وحتى كراهية.
وعلى العكس من ذلك، فإن الرأفة الشاملة الممتدة ليست متجذرة في أي عنصر يتعلق بالذات، بل في الإدراك البسيط المتمثل في أن الآخرين جميعهم بشر يطمحون مثلنا تماما إلى تحقيق السعادة وتجنب المعاناة. ومع هذا النوع من الرأفة، يكون شعورنا بالاهتمام بالآخرين مستقرا تماما ولا يتأثر بأي موقف قد يتخذونه منا. حتى لو هددنا الآخرون أو أساءوا لنا بالكلام، فإننا نظل نشعر بالرأفة تجاههم ونظل مهتمين بصالحهم. ومن ثم، فإن الرأفة الحقيقية لا توجه نحو سلوك الأشخاص بل نحو الأشخاص أنفسهم.
لما كانت مشاعر الاستياء والغضب والعداوة لا تعود علينا بأي نفع، فمن الجلي أنه من مصلحتنا أن ندعم موقفنا تجاه جميع الآخرين بهذا النوع الحقيقي غير المشروط وغير المتحيز من الرأفة. ولا شك بأن ذلك سيجلب لنا المنافع.
ما أطالب به هو أن نتجاوز شعورنا المحدود أو المتحيز بالقرب من هذه المجموعة أو تلك أو بهذه الهوية أو تلك، وأن ننمي بدلا من ذلك الشعور بالقرب من العائلة البشرية بأكملها. فمن الممكن أن يؤدي الموقف القائم على «نحن» و«هم» إلى الصراع وحتى الحرب، وهو ما يؤدي إليه بالفعل في كثير من الأحيان. ومن ثم؛ فالأفضل كثيرا والأكثر واقعية هو الموقف القائم على «نحن جميعا». •••
قد يبدو للبعض أن فكرة الرأفة العالمية هذه مثالية للغاية وربما حتى دينية. غير أنني لا أعتقد أنها مثالية للغاية. فالكثير من الأشياء التي نتعامل معها الآن كأمور مسلم بها، مثل فكرة التعليم الشامل، كانت لتبدو مثالية للغاية في الماضي، لكنها تعد الآن أفكارا عملية تماما وضرورية بالفعل. أما عن القول بأن فكرة الرأفة العالمية هي فكرة دينية، فأنا لا أوافق هذا الرأي. لا شك أن الإيثار والخدمة التي يوليها بعض الأشخاص للآخرين هي أمور متجذرة في نسكهم الدينية، مثلما نجد في مبدأ خدمة الرب. لكن في الوقت نفسه، يوجد اليوم عدد لا يحصى من الأشخاص في العالم ممن يهتمون بالبشرية جمعاء، وهم مع ذلك لا يتبعون أي دين. يرد على ذهني الآن جميع الأطباء وعمال الإغاثة المتطوعين في أماكن مثل دارفور أو هايتي أو في أي مكان به نزاع أو كارثة طبيعية. ربما يكون بعضهم من المؤمنين، لكن الكثيرين منهم ليسوا كذلك. إن اهتمامهم لا يقتصر على هذه المجموعة أو تلك، بل هو موجه ببساطة إلى البشر. إن دافعهم في ذلك هو الرأفة الحقيقية؛ العزم على التخفيف من معاناة الآخرين.
ولهذا؛ لا يساورني أدنى شك في إمكانية تعزيز الرأفة العالمية ضمن إطار علماني بحت. لقد قال لي صديقي القديم البروفيسور بول إيكمان ذات مرة، وهو أحد الرواد في مجال علم العاطفة، إنه حتى تشارلز داروين، مؤسس النظرية الحديثة في التطور، كان يرى أن «حب جميع الكائنات الحية هو أنبل صفات الإنسان».
صفحة غير معروفة