استمتعت في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، بعدد من الحوارات مع الدكتور بول إيكمان، أحد رواد الدراسة العلمية للوجدان، أو ما يسمى ب «علم الأعصاب الوجداني». من وجهة نظر الدكتور إيكمان، ليست عواطفنا، التي يصفها بأنها سريعة الزوال، هي الأكثر ضررا على رفاهيتنا، بل حالاتنا المزاجية. فبينما تأتي العواطف وتختفي بسرعة، تكون الحالات المزاجية أكثر ديمومة، ونظرا لأنها كامنة إلى حد كبير وتحدد حالتنا الذهنية لكن دون أي تركيز خاص، فقد تكون خفية أيضا إلى حد ما عن إدراكنا الواعي ومن ثم تصعب معالجتها. يقول الدكتور إيكمان إن الحالات المزاجية هي التي تجعلنا أكثر عرضة لانفعالات معينة، وإنها ما يجب أن نحول انتباهنا إليه. وأنا أعتقد أن هذه الملاحظة مفيدة.
وفقا لفهمي، أرى أن العواطف، والحالات المزاجية، والسمات الشخصية يمكن التعامل معها جميعا على أنها ظواهر تجمع بينها صلة قرابة وتقع على تسلسل متصل، حيث تزيد قدرة كل منها على الاستدامة بدرجة أكبر من سابقتها. لهذا السبب، فإن الطرق الأساسية للتعامل معها تتماثل إلى حد كبير. لكن مسألة الحالات المزاجية تثير أيضا مسألة المستوى العام لطاقة الشخص، الجسدية والنفسية على حد سواء. ولذا؛ يركز التقليد البوذي تركيزا كبيرا، لا سيما في سياق تدريب العقل، على مواجهة المشكلتين المتقابلتين المتمثلتين في فرط التراخي أو البلادة أو الكسل من ناحية، والإثارة المفرطة من ناحية أخرى. وأنا أعتقد أن لهذا النوع من النصائح، التي أناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الحادي عشر، بعض التأثير على مسألة التعامل مع حالاتنا المزاجية. علاوة على ذلك، بالرغم مما قد يبدو من صعوبة الخروج من إحدى الحالات المزاجية، أعتقد أننا جميعا شعرنا بتحسن في حالتنا المزاجية بسرعة كبيرة استجابة لبعض الأخبار الجيدة. يدل هذا على أن الحالات المزاجية لا تتسم بما قد تبدو عليه من استقرار واستمرارية. أحيانا تنشأ الحالة المزاجية نتيجة بعض المشاعر المكبوتة بداخلنا، وعندما تتحرر تلك المشاعر عن طريق التحدث إلى شخص ما، أو ربما الاعتذار عن شيء تندم عليه، أو حتى مشاركة مزحة ما، قد يتغير مزاجك سريعا. ربما يكون هذا الارتياح مؤقتا بالطبع؛ أي كالراحة التي نشعر بها عند تناول المسكنات. ومن ثم، نجد في النهاية أن الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع الحالات المزاجية هي التعامل مع المشاعر المسببة لها نفسها.
لا شك أن التعامل مع ميولنا إلى السلبية يمثل تحديا كبيرا. ففي مواجهة عقبات الحياة اليومية، يمكن أن نقع جميعا بسهولة كبيرة في العادات النفسية السلبية القديمة مثل الإحباط أو الغضب أو القنوط. ولذا؛ فما نحتاج إليه هو تجديد جهودنا باستمرار كي نعيش وفقا للقيم التي نريد دعمها.
الفصل العاشر
تنمية القيم الداخلية الأساسية
لنتذكر النهج ذا الشقين للممارسة الأخلاقية الحقيقية: العمل على كبح جماح مشاعرنا الهدامة من ناحية، والعمل بنشاط على تنمية صفاتنا الداخلية الإيجابية من ناحية أخرى. في الفصل السابق، ناقشت مسألة المشاعر الهدامة واستكشفت سبلا قد تمكننا من خلال الوعي بالمشاعر وتنظيمها، من التعامل بأسلوب بناء مع التحديات التي تطرحها. وفي هذا الفصل أعالج الشق الآخر لهذا النهج. من الصفات الإيجابية التي توجد بداخلنا طبيعيا، تلك الصفة الأكثر أهمية على الإطلاق؛ الرأفة، وقد تحدثت عنها بالفعل بشيء من التفصيل. ذكرت أيضا شيئا عن فضيلة العفو في سياق العدالة. وفيما يلي سأعرض مناقشة موجزة لبعض القيم الإنسانية الرئيسية الأخرى : الصبر أو التحمل، والرضا، والانضباط الذاتي، والكرم. (1) الصبر والتحمل
في سياق الأخلاق العلمانية، ربما يكمن الترياق للمشاعر الهدامة التي تتصل بحياتنا اليومية على نحو ملح للغاية ومباشر، فيما يسمى في اللغة التبتية «سوي با». على الرغم من أن مصطلح «سوي با» عادة ما يترجم إلى الصبر، فمعناه ينطوي أيضا على فضائل التسامح والتحمل والعفو. وما يعنيه حقا هو القدرة على تحمل المعاناة. إنه يشير إلى عدم الاستسلام لدافعنا الغريزي للاستجابة إلى الصعوبات التي تواجهنا على نحو سلبي. بالرغم من ذلك، فإن مفهوم «سوي با» لا يمت بأي صلة للسلبية أو الضعف. فهو ليس مرادفا للتسامح مع شيء ما لأنك لا تمتلك القدرة على المقاومة فحسب. ولا هو يعني تحمل الظلم على مضض وكراهية. إنما يستلزم الصبر الحقيقي قوة عظيمة. فهو في جوهره ممارسة لضبط النفس استنادا إلى الانضباط الذهني. وينطوي الصبر أو التحمل على جوانب ثلاثة علينا مراعاتها: التحمل تجاه من يتسببون لنا في الأذى، وتقبل المعاناة، وتقبل الواقع. (1-1) الصبر على مرتكبي الأذى
مثلما اقترحت بالفعل، فإن التفكير في حقيقة أن كل شيء يعتمد على عدد كبير من الأسباب والظروف يمكن أن يساعدنا كثيرا في تحمل الأخطاء التي يلحقها بنا الآخرون. عندما يجرحنا الناس بطريقة ما، سيكون من المفيد أن نتذكر وجود مجموعة كبيرة من العوامل قد أسهمت في سلوكهم. وعندما نواجه العداوة أو عدم الاحترام، يجدر بنا التفكير في السبب وراء تصرف الأشخاص العدوانيين أو غير المحترمين بتلك الطريقة. فالأرجح أن سلوكهم يعكس الصعوبات التي يواجهونها هم أنفسهم. وربما يخفف هذا الإدراك من غريزتنا للانتقام.
ومن المفيد أيضا أن نتذكر أن الغضب ليس شيئا يريده أي شخص في الواقع. عندما نغضب نحن على سبيل المثال، فهل نفعل هذا لأننا نريد ذلك؟ لا. إنما يحل علينا لا إراديا. فالغضب كالإصابة بالمرض، كلاهما ليس بالشيء الذي نفعله عمدا. علاوة على ذلك، نظرا إلى أن مرتكبي الأذى هم مثلي ومثلك تماما، بشر يتطلعون إلى السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة، فهم أيضا يستحقون رأفتنا واهتمامنا. ولذلك، فإن الطيبة والعفو ملائمان أكثر من الغضب في الاستجابة للعداء.
كما هو الحال مع ممارسة العفو، فإننا بحاجة إلى التمييز بين الفعل والفاعل، بين الأذى والشخص الذي ارتكبه. فبينما نظل راسخين في معارضتنا للفعل الظالم نفسه، نستطيع الاحتفاظ أيضا بحس الاهتمام والرأفة لمرتكب ذلك الأذى. (1-2) الصبر عبر تقبل المعاناة
صفحة غير معروفة