تمهيد
قامت دولة الغساسنة للروم مقام دولة المناذرة للفرس، بمعنى أنها كانت دولة حاجزة، اتخذ منها الروم مجنا يقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة، وليثيروهم ضد الفرس ويستعينوا بهم عليهم من جهة أخرى، وتاريخ هذه الدولة غامض، ولا تتفق المراجع العربية مع المراجع اليونانية إلا في النزر اليسير، والمؤرخون العرب أنفسهم يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم وسني حكمهم، فهم عند حمزة الأصفهاني 32 ملكا، وعند ابن قتيبة 11، وعند الجرجاني 9، وعند المسعودي 10، ويرى الأستاذ نلدكه - وهو حجة في تاريخ الغساسنة - أن عدد الملوك لا يتجاوز عشرة حكموا مدة لا تتجاوز قرنا وبعض قرن، بينا يحدد حمزة الأصفهاني لهم ستة قرون، وتقصي هذه الروايات ليس فيه كبير غناء ما دامت لا توجد آثار تتكلم، والغسانيون عند مؤرخي العرب من عرب الجنوب كالمناذرة، ولكن العلماء المحدثين لا يزالون يشكون في هذا، ويرجحون أنهم من عرب الشمال كما بينا سابقا.
ولا نستطيع أن نحدد بدء قيام هذه الدولة بالضبط بسبب الخلافات التي أشرنا إليها، وأقصى ما يمكن أن نستخلصه من المراجع العربية أنه في الوقت الذي هاجرت فيه بعض القبائل إلى العراق، سارت فيه قبائل من قضاعة إلى الشام، فنزلوا في الإقليم المعروف الآن باسم «شرق الأردن» وكانت تسكنه قبائل تعرف بالضجاعمة، فساكنوهم مدة، ثم لم تلبث أن هاجرت قبائل أصلها من أزد اليمن، أقامت مدة في تهامة في ماء يسمى غسان، فعرفوا بأزد غسان. وقبل أزد غسان أن يدفعوا الإتاوة لقيصر الروم، يجبيها منهم الضجاعمة، الذين كانوا عمالا لقيصر على الشام، ولكن - بعد قليل - قامت حرب بين الضجاعمة والغسانيين، بسبب الخلاف على الإتاوة، وانضم الروم إلى الضجاعمة، ولكن الغسانيين صمدوا، فلما رأى ملك الروم صبرهم، وأنهم أقوى من الضجاعمة، آثرهم عليهم وجعلهم عمالا، وبذلك صارت لهم رئاسة العرب في هذه المنطقة، وتعهد الروم بأن يمدوا الغسانيين بأربعين ألف جندي من جند الروم، وتعهدت غسان بأن تمد الروم بعشرين ألف مقاتل إذا اعتدى الفرس على الروم، والظاهر أن الغسانيين - قبل أن يتصلوا بالروم - كانت لهم ملوك، ولكنا لا نعرف من أخبارهم شيئا.
وتكاد تجمع الروايات التاريخية، وما ورد في كتب الأدب على أن جفنة هو جد أسرة الغساسنة، وكان ملكهم يشمل المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهري العاصي والشريعة «الأرنت والأردن»، ومن أطراف العراق بالشمال إلى خليج العقبة في الجنوب.
وسنكتفي بالكلام على ثلاثة من ملوكهم، هم الحارث بن جبلة، والمنذر بن الحارث، وجبلة بن الأيهم.
الحارث الثاني بن جبلة 529-569م
يلقبه مؤرخو العرب بالأعرج، وهو أول شخصية صحيحة في تاريخ الجفنيين، وكان يعاصر الإمبراطور جستنيان وكسرى أنو شروان والمنذر الثالث ملك الحيرة، وقد رقاه الإمبراطور إلى رتبة بتركيوس وفيلارك أو ملك، وهي ثاني رتبة في الدولة بعد لقب الإمبراطور، والظاهر أنه كان يقصد بذلك أن يقيم منه خصما قويا في وجه المنذر ملك الحيرة.
وكان جستنيان قد تهادن مع كسرى أنو شروان، حتى يتمكن من تنفيذ أغراضه في إعادة مجد الدولة الرومانية القديمة بالفتح في أفريقيا وأوروبا، ونجح بلساريوس قائد جستنيان في حروبه، فأدرك أنو شروان أنه تورط في هذه المهادنة فأوحى إلى المنذر الثالث أن يتحرش بالحارث بن جبلة، فادعى ملك الحيرة أن القبائل العربية النازلة على الطريق الحربية بين دمشق وتدمر خاضعة لسلطانه، ونازعه الملك الغساني هذه السلطة، فكان من أمرهما ما بيناه سابقا، وجر النزاع بين التابعين - إذا صح هذا التعبير - إلى النزاع بين الدولتين الكبيرتين، فحمل كسرى على سوريا وآسيا الصغرى وكاد أن يفتح القسطنطينية، فانزعج القيصر جستنيان واستنهض قائده بلساريوس واستنصر بعرب غسان، فمشى جند الروم بقيادة هذين البطلين فأوغلا في أرض الجزيرة، وكأنما أراد بلساريوس أن ينال شرف الانتصار وحده، فخلف الحارث وراءه ولم يتصل به، فدارت الدائرة على الروم واضطر القيصر إلى طلب الصلح.
وقد ذكر المؤرخ تيوفانيس أن الحارث زار بلاط جستنيان في سنة 563م، وكان ظهوره بزيه البدوي ذا أثر في نفوس أتباع الإمبراطور، وقد استطاع الحارث أثناء إقامته في القسطنطينية أن يظفر بتعيين الأسقف يعقوب البردعي المنوفستي العقيدة أسقفا على عرب الشام، وقد عرفت الكنيسة الشامية المنوفستية من ذلك الوقت باسم الكنيسة اليعقوبية.
المنذر بن الحارث
صفحة غير معروفة