مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
1 - دراسات تمهيدية
2 - الوطن العربي
3 - الشعب العربي
4 - تاريخ اليمن
5 - تاريخ الأنباط
6 - تاريخ تدمر
7 - تاريخ الحيرة
8 - تاريخ الغساسنة
صفحة غير معروفة
9 - تاريخ كندة
10 - تاريخ الحجاز
11 - الحجاز في فجر ظهور الإسلام
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
1 - دراسات تمهيدية
2 - الوطن العربي
3 - الشعب العربي
4 - تاريخ اليمن
5 - تاريخ الأنباط
صفحة غير معروفة
6 - تاريخ تدمر
7 - تاريخ الحيرة
8 - تاريخ الغساسنة
9 - تاريخ كندة
10 - تاريخ الحجاز
11 - الحجاز في فجر ظهور الإسلام
عصر ما قبل الإسلام
عصر ما قبل الإسلام
تأليف
محمد مبروك نافع
صفحة غير معروفة
مقدمة الطبعة الثانية
لم يعد التاريخ ولا طرائق بحثه ودراسته في جيلنا الحالي - كما كان في أجيال مضت - مقصورا على تدوين الأسماء وذكر السنوات وتقرير الحوادث؛ بل أصبح علما في معناه الأعم الأوسع يتناول كل معارفنا عن الإنسان: أعماله، وأفكاره، وآماله، وأحاسيسه، ويبين لنا كيف كان يعيش الفرد، من عامة الناس أو خاصتهم، في حقبة ما من الزمن، وماذا كانت النظم التي يخضع لها والمهن التي يحترفها والتطورات والتغيرات التي ساهم - بطريقة محسوسة له أو غير محسوسة - في إحداثها، وماذا استفاد من الأجيال السابقة له، وأفاد الأجيال التالية في كل ناحية من نواحي التقدم الإنساني والرقي الاجتماعي.
وهذا الكتاب يعالج فترة هامة من التاريخ العربي كانت تبدو حتى أوائل هذا القرن عديمة الأهمية تلك هي فترة «تاريخ العرب في عصر ما قبل الإسلام»، ولكن دراستها وتوضيحها من الناحية التاريخية أصبح ضرورة لازمة، وخاصة في هذه الأيام الأخيرة التي يقف فيها العالم العربي، بل العالم الإسلامي أجمع في مفترق الطرق لا يدري أيها يسلك، ولا إلى أين يلقي عصا التسيار وهو يجتاز فترة من اليقظة والازدهار والتقدم السريع في مدارج الحضارة العالمية غب التحرر من ربقة الاستعمار البغيض. أقول: أصبحت دراسة تلك الحقبة ضرورة لازمة لمن يريد أن يدرس تاريخ العرب والإسلام دراسة صحيحة؛ ذلك لأن الإسلام أحدث ثورة كبرى في عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والعقيدة، ولا يمكن أن يعرف مدى هذا التغيير الذي أحدثه الإسلام، ولا تفهم دقائقه إلا إذا عرفنا البيئة التي ظهر فيها والملابسات التي اكتنفت ظهوره في بلاد العرب نفسها قبل أن تخفق رايته على ربوع العالم المتمدين آنئذ عقب انتشاره.
إن المؤرخين كثيرا ما يجانبهم الصواب ويعوزهم العطف والرفق في أحكامهم فلقد مر حين من الزمن كان المؤرخون فيه يطلقون اسم «العصور المظلمة» على العصور الوسطى، تلك التي تلت سقوط الدولة الرومانية الغربية على أيدي القبائل المتبربرة وما تلا ذلك السقوط من اضطراب في الأنظمة، وتدهور في الثقافة؛ ولكن البحوث والدراسات التي تمت منذ أواخر القرن الماضي قد أثبتت أن العصور الوسطى لم تكن كلها فترة ظلام، بل على النقيض كان الشطر الأكبر منها يزخر بالنشاط والإنتاج والرقي، وتدين حضارتنا الحالية إليها - لا إلى اليونان والرومان كما كان يظن - بالشيء الكثير.
كذلك درج المؤرخون القدامى - من بدء تدوين التاريخ الإسلامي حتى أوائل هذا القرن - على اعتبار «عصر ما قبل الإسلام» - وكان أكثرهم لا يعرف حدوده ومدلوله - عصر همجية وإفلاس حضاري وتدهور أخلاقي وانحطاط في مجال السياسة والدين، فشوه هؤلاء المؤرخون تاريخ عصر ما قبل الإسلام في قسوة ظاهرة، ولست أشك في أنهم فعلوا ذلك بنية حسنة هي رغبتهم في تمجيد الإسلام ورفع شأنه، ولكنهم بنيتهم الطيبة هذه لم يحققوا كل غرضهم؛ بل إنهم كثيرا ما أتاحوا فرصة للمغرضين من المستشرقين للطعن على الإسلام واتهامه بأنه دين بدائي جاء لشعب بدوي؛ مع أن الإسلام نشأ في أهم مركز حضري في بلاد العرب وهو مكة، وكانت تعاليمه وتوجيهاته حضرية في أساسها، وقد حطم البداوة واتجاهاتها الفردية، وقضى على العصبية المذمومة، وأحل محلها رابطة الدين والعقيدة.
نحن لا ننكر أن صفة «الجاهلية» بمعناها الحرفي هذا كانت تنصب على بعض أجزاء البيئة العربية، وفي بعض فترات من تاريخها، ولكن الذي ننكره هو التعميم، ولو كان العصر كله جاهلية لما أقر الإسلام، لا الكثير من نظم المجتمع وتقاليده فحسب، بل بعض ما يتصل بالدين وشعائره وطقوس العبادة وغير ذلك من الفضائل.
وإذا كانت الشعوب العربية والإسلامية تتطلع إلى استعادة مجدها وتقلد زمام الأمور في بلادها، فإن الواجب يقضي على رجالها أن يقبلوا على تاريخهم يتلمسون الأسس التي شيدت عليها مكانتهم الرفيعة في عالم العصور الوسطى.
وهذا الكتاب الذي أقدم طبعته الثانية للقراء الآن هو محاولة لإلقاء ضوء - وإن يكن خافتا - على تاريخ بلاد العرب في العصر السابق للإسلام، وهو محاولة متواضعة ما في ذلك شك رسمت فيها صورة سريعة لأولئك العرب الذين جعل الإسلام منهم أمة واحدة فحملوا رايته وثبتوا في عواصم العالم المتمدين المعروف أن ذاك ما تضمنته مبادئه من سلام وأمن وعدل وإخاء كان العالم كله - لا بلاد العرب وحدها في حاجة إليها.
والله جل جلاله أسأل أن يوفقنا إلى خير ما نرجو، وأن يكلأنا بعين رعايته الصمدانية؛ إنه سميع مجيب.
محمد مبروك نافع
صفحة غير معروفة
مصر الجديدة
28 من جمادى الأولى سنة 1371
24 من فبراير سنة 1952
مقدمة الطبعة الأولى
لم يعد خافيا أن العرب قد أصبحوا - وخاصة في الآونة الأخيرة - يثيرون اهتمام العالم أجمع؛ ذلك لأنهم أدركوا أنهم عادوا الآن، كما كانوا من قبل، يتحكمون تحكما خطيرا في مصائر العالم من الناحيتين الحربية والاقتصادية، بحكم موقع بلادهم الجغرافي، وتوسطها بين الشرق والغرب.
ولقد أصابت العرب في القرون القلائل الأخيرة إغفاءة طويلة، فلم يقدروا خطورة موقفهم بالنسبة للأمم الأخرى، فاستهدفت مصالحهم للعبث كما تعرضت مكانتهم للتجاهل، ولكنهم عندما أخذوا - منذ أواخر القرن الماضي - يستيقظون من سباتهم ويتحركون من رقدتهم ليلموا شعثهم، بدأت القوات المتصارعة في العالم تخطب ودهم، وتتلمس رضاهم، واتجه العلماء في الغرب - وهم دائما الرواد الممهدون - إلى العناية بدراسة أحوالهم الحاضرة، وتاريخهم القديم.
وإذا كان هذا شأن أهل الغرب في العناية بتاريخ العرب، فكم بالحرى يجب أن يكون شأننا ونحن ننتسب إلى ذلك الشعب العريق أو نفخر بأن نكون من سلالته.
وقد حاولت في هذا الكتاب الذي أضعه بين أيدي القراء، أن أرسم صورة واضحة لتاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ دولهم، في الجنوب، والشمال والوسط، والأدوار التي لعبها هؤلاء وأولئك في معترك الحياة العالمية من سياسية واقتصادية، منذ فجر التاريخ إلى مبعث سيد الخلق محمد
صلى الله عليه وسلم .
وما أحسب أني في حاجة إلى القول بأنه لا يلمس الصعوبة التي يعانيها من يتصدى للكتابة في تاريخ العرب في عصر ما قبل الإسلام إلا من كابدها.
صفحة غير معروفة
ولست أدعي أني قد أحطت بما لم يحط به أحد، أو أنني وفيت الموضوع من جميع نواحيه، بل أشهد أن هذا الحقل من حقول المعرفة التاريخية - بسبب قلة الكشوف والبحوث، ولأسباب أخرى - لا يزال بكرا، لم تقلب أرضه إلا فئوس قليلة، وبحسبي أن أكون أحد العاملين في هذا السبيل.
والله العلي القدير أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه الخير، وأن يهبنا من لدنه العون والقوة.
محمد مبروك نافع
القاهرة في
8 رجب سنة 1367 / 17 مايو سنة 1948
الفصل الأول
دراسات تمهيدية
(1) اضطراب تاريخ العرب قبل الإسلام وغموضه
لا يلقى الباحث في التاريخ القديم عناء وجهدا كاللذين يلقاهما عند تعرضه للبحث في تاريخ العرب قبل الإسلام، ولا يرجع السبب في ذلك إلى إيغال تاريخهم في القدم؛ فإن تاريخ أجدادنا الفراعنة أشد إيغالا في القدم من كل تاريخ في الأرض؛ إذ يرجع تاريخهم الثابت المؤكد إلى القرن الخامس والأربعين قبل الميلاد، هذا عدا تاريخهم الأسطوري الذي يمتد وراء ذلك بعشرات القرون، ولقد كان هذا التاريخ الفرعوني قبل نحو قرن ونصف غامضا مضطربا شأن القديم من تاريخ العرب اليوم، ولكن كشف حجر رشيد سنة 1798 ميلادية وفك طلاسمه بعد ذلك والتمكن من معرفة الكتابة المصرية القديمة وقراءة ما حفر على جدران الهياكل والمقابر والتماثيل وغيرها من الآثار التي تملأ ربوع البلاد، والتي صانها جفاف جو مصر وحفظها من الفناء، وترجمة البرديات التي لا حصر لها والتي وجدت مدفونة وفي حالة حفظ جيدة مع مومياء الفراعنة؛ كل ذلك ألقى ضوءا وهاجا على التاريخ المصري القديم الذي كان غامضا ومكن علماء التاريخ من تصحيح ما ورد عنه في كتب المؤرخين القدامى من خطأ وتخليط حتى ضاقت دائرة التناقض والاختلاف، وأصبحت الاختلافات في تاريخ الفراعنة لا تعدو ما يعترضنا من اختلافات في التاريخ الحديث، بل وفي التاريخ المعاصر.
وشأن تاريخ بابل وأشور والفرس وغيرها من دول الشرق القديم شأن تاريخ مصر إلى حد كبير.
صفحة غير معروفة
أما تاريخ العرب القدامى فشأنه يختلف عن ذلك كثيرا. حقيقة أن هناك كشوفا تمت في بعض بلاد اليمن وفي شمالي شبه الجزيرة، وأن الخطوط العربية القديمة هنا وهناك قد فكت طلاسمها؛ ولكن على الرغم من ذلك لا يزال المؤرخ يتهيب الكتابة في تاريخ العرب قبل الإسلام؛ لأن ما تم من الكشوف لم يكن كافيا، وإن كان قد أماط اللثام عن وجود دول كان يجهلها مؤرخو العرب واليونان جهلا تاما، ولأن الشطر الأكبر من وسط شبه الجزيرة وأطرافها لا يزال بكرا لم تقلبه فأس منقب، ولم تزل الرمال عما هو مطمور تحته من آثار قد تتسامى في عظمتها إلى آثار بابل ومصر.
وسنبين فيما يلي مصادر التاريخ القديم عامة والتاريخ العربي القديم لنرى إلى أي مدى أفادتنا الأخيرة في دراسة تاريخ العرب القدامى. (2) مصادر التاريخ القديم
مصادر التاريخ القديم كثيرة:
أولها ما كتبه الأقدمون عن أنفسهم، فإن كان خطهم لا يزال مستعملا أمكن بطبيعة الحال قراءته ومعرفة كل ما كتبه القوم عن أنفسهم، ومثال ذلك الخط اليوناني، وإن كان غير مستعمل وتمكن العلماء من حل رموزه كالخط الهيروغليفي، والخط المسماري كانت أهميته كمصدر للتاريخ كالخط المستعمل تماما، أما إذا كان غير مستعمل ولم يتمكن العلماء من فك طلاسمه فإنه يكون عديم الفائدة أو قليلها كمصدر من مصادر التاريخ.
وثاني مصادر التاريخ هو ما خلفه القوم وراءهم من آثار مختلفة كالمعابد والمسلات والتماثيل والمقابر وغيرها، فإن وجود هذه الآثار وبخاصة إذا كانت في حالة جيدة تساعد على تفهم حالة الحاكمين والمحكومين الذين شيدوها، ثم هي - بما تحمل في الغالب من نقوش وكتابات - تنقل إلينا معلومات وأخبارا قد لا يتطرق الشك إليها، وتعتبر المدافن بصفة خاصة عند المصريين القدماء من أهم المصادر؛ لأن المصريين كانوا يؤمنون بالبعث، وكانوا يعتقدون أن الأرواح ستعود إلى الأجساد، ومن أجل ذلك كانوا يضعون مع الميت في قبره أسلحته وملابسه وأثاثه وطعاما وشرابا وغير ذلك من الآنية.
أما ثالث مصادر التاريخ فهو ما كتبه مؤرخون قدماء، ولكنهم جاءوا بعد الأزمنة التي وصفوها، وهؤلاء المؤرخون إما وطنيون كتبوا عن تاريخ بلادهم أو أجانب كتبوا عن تاريخ بلاد غير بلادهم، وقد تكون كتاباتهم خطأ أو مغرضة كما قد تكون صحيحة، فهي على كل حال في حاجة إلى التمحيص، وقد كانوا بطبيعة الحال يعتمدون فيما يكتبون على ما شاهدوه بعيونهم أو نقل إليهم عن طريق الرواية، أو كان مسجلا على الآثار، وقد كانت مهمة معظمهم شاقة نظرا لعدم توفر وسائل البحث لديهم كما هي متوفرة لدى المؤرخين المحدثين الذين يستطيعون في معظم الحالات قراءة الكتابات القديمة ومعرفة ما دون الأقدمون عن أنفسهم.
وقد يضاف إلى هذه المصادر الثلاثة مصدر رابع وهو الأقاصيص المتداولة التي تمثل في الغالب صفحات من الحياة اليومية للناس، إلا أنه من الصعب استخلاص حقائق تاريخية ثابتة منها نظرا لما كانت تحشى به هذه الأقاصيص عادة من المبالغات والأكاذيب وهي تنتقل من جيل إلى جيل.
والتاريخ الأسطوري «الميثولوجي» لكل أمة - وهو يسبق عادة تاريخها الحقيقي - إن كان يدل على شيء فهو يدل على ميولها وأمانيها ومبلغ إدراكها وطرائق تفكيرها.
أما مصادر التاريخ العربي القديم فهي: (1)
الكتب المقدسة. (2)
صفحة غير معروفة
التفاسير. (3)
مؤرخو اليونان والرومان. (4)
مؤرخو العرب. (5)
النقوش الكتابية. (6)
آثار الجنوب. (7)
آثار الشمال. (8)
الآثار خارج الجزيرة. (9)
المستشرقون المحدثون. (10)
الأدب العربي. (2-1) الكتب المقدسة
وأقدم هذه الكتب التوراة وفيها شيء كثير عن أحوال الأمم العربية في سفر التكوين أول أسفارها الذي ذكر الكثير من أخبار سام وأولاده، وقصة إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، كما جاء فيها ذكر بلقيس ملكة سبأ وقصتها مع سليمان عليه السلام في سفر الأيام الثاني، وغير ذلك من أخبار الملوك والقبائل في سفر نحميا وغيره.
صفحة غير معروفة
أما القرآن الكريم فهو أصدق المصادر المقدسة، وقد جاء فيه ذكر بعض القبائل البائدة كعاد وثمود اللتين انفرد بذكرهما دون بقية الكتب المقدسة، كما جاء فيه بعض أخبار ملوك اليمن كقصة ملكة سبأ، وقصة إسماعيل جد العرب العدنانية، ومسألة سيل العرم وغير ذلك، وقد أيدت الكشوف الحديثة صحة ما ورد في القرآن عن مساكن ثمود وسيل العرم وغيرها.
ويجب أن نلاحظ أن المستشرقين لا يعتبرون الكتب المقدسة من مصادر التاريخ التي يصح الاعتماد عليها. (2-2) التفاسير
وأقصد بها الشروح المسهبة والتعليقات الطويلة التي اعتبرها المفسرون مكملة وموضحة لما أجملته آي القرآن المحكمة الرصينة؛ فإن الشطر الأكبر من هذه المبالغات والخرافات إنما هو من ابتداع خيال المفسرين، ومما دسه عليهم اليهود والمجوس لأغراض في نفوسهم فهذه يجب الحذر منها وعدم الأخذ بها، وقد يكون المفسرون حسني النية، وإنما لجئوا إلى هذه المبالغات لإظهار أن القوم وصلوا إلى درجة كبيرة من العظمة، وأن القصاص الذي نزل بهم عندما عصوا أمر ربهم ولم يستمعوا لأنبيائه كان يتناسب مع ما وصلوا إليه من عظمة. (2-3) مؤرخو اليونان والرومان
جاء ذكر العرب عرضا في تاريخ هيرودوت (المتوفى سنة 406ق.م) أثناء كلامه عن الحرب بين قمبيز والمصريين في القرن السادس قبل الميلاد.
وأشار أرطستيني (المتوفى سنة 194ق.م)، وديودور الصقلي (المتوفى سنة 80ق.م) إلى العرب في كتبهم.
وأفرد استرابون اليوناني (المتوفى سنة 24م) فصلا في مؤلفه الجغرافي ذكر فيه مدن العرب وقبائلهم وشيئا عن أحوالهم التجارية والاجتماعية.
وخصص بطليموس الجغرافي الشهير الذي مات سنة 140م جزءا من كتابه ذكر فيه قبائل بلاد العرب ومدنها وحدود موضعها بالدرجات كما شرح الكثير من أحوال العرب التجارية وغيرها، وفصل ما أجمله سابقوه تفصيلا.
وعلى الرغم من تشتت ما كتبه هؤلاء اليونان والرومان وغيرهم كيوسفيوس اليهودي (المتوفى سنة 93م) فإنهم بلا شك قد ألقوا ضوءا وإن يكن خافتا على تاريخ العرب القديم. (2-4) مؤرخو العرب
لم يكتب مؤرخو العرب تاريخا خاصا لبلاد العرب قبل الإسلام، ولم يتجاوز كل ما كتبوه أن يكون مقدمات لتواريخهم المفصلة الدقيقة للعصر الإسلامي، وحتى هذه المقدمات فإنها لم تكن مفصلة ولا دقيقة، وأوجه الخلاف بين المؤرخين في أسماء الدول والملوك وحوادث التاريخ ومدد الحكم كثيرة، وفي بعض الحالات يظهر التناقض بينا.
وأكثر ما اعتمد عليه مؤرخو العرب في رواية تاريخ العصور السابقة للإسلام هو الأدب العربي من نظم ونثر الذي كان يتناقله الرواة مشافهة، كما أنهم اعتمدوا على بعض آثار اليمن حيث كان الخط المسند لا يزال يقرؤه بعض علماء القرى، وكذلك اعتمدوا على بعض كتب النصارى التي وجدت في الأديرة والكنائس في العراق والشام، وعلى ما تلقطوه من أفواه اليهود في اليمن والحجاز وغيرها.
صفحة غير معروفة
ولقد حشا هؤلاء المؤرخون أخبارهم بالمبالغات والخرافات كما فعل المفسرون تماما.
وإن المتصفح لما كتبه أمثال ابن إسحاق «المتوفى سنة 151ه»، وابن هشام «المتوفى سنة 218ه»، وابن قتيبة «المتوفى سنة 276ه»، واليعقوبي «المتوفى سنة 177ه»، والطبري «المتوفى سنة 310ه»، والمسعودي «المتوفى سنة 346ه»، وياقوت «المتوفى سنة 626ه»، وابن الأثير «المتوفى سنة 650ه»، وأبو الفدا «المتوفى سنة 735ه»، وابن خلدون «المتوفى سنة 807ه»؛ أقول: إن المتصفح لما كتبه هؤلاء العمد الأفاضل ليعجب للدقة التامة والتحري الصحيح الذي عالجوا به تاريخ الإسلام في معظم الحالات بقدر ما يأسف على الإهمال والخلط الذي صحب كتابتهم عن عصر ما قبل الإسلام، ولعل لهم العذر؛ فقد كانت الأخبار تتناقل على الألسنة بدون تدوين أو ضبط، كما أن الخط العربي في أول الأمر كان مهملا فكانت الباء والتاء، والحاء والجيم والخاء، والسين والشين ... إلخ يلتبس في قراءتها.
وقصارى القول أن ما كتبه مؤرخو العرب عن عصر ما قبل الإسلام يجب أن لا يؤخذ على علاته، وأن يتناول بمنتهى الحيطة والحذر. (2-5) النقوش الكتابية
وهذه هي التي ألقت أول ضوء وهاج على التاريخ الصحيح لبلاد العرب قبل الإسلام.
إن أول ما حصل عليه من النقوش الكتابية من بلاد العرب كان صورة محشوة بالأغاليط لخمسة نقوش حصل عليها سيتزن
Seetzen
سنة 1811، ثم بدأ البحث العلمي بعد ذلك إذ حصل هاليفي
Halévy
على 600 نقش في سنة 1869، ثم أخذ عدد النقوش يزداد بالتدريج حتى حصل جلازر
Glaser
صفحة غير معروفة
فيما بين عامي 1882-1888 على 1023 نقشا آخر كانت هي وما سبقها عمدة العلماء في كل المعلومات عن تاريخ العرب قبل الإسلام، وهذه النقوش مكتوبة بلغات عدة أهمها اللغة المعينية، واللغة السبئية، ولهجة أخرى من اللهجات المعينية، وقد عدت كلها من باب التساهل حميرية، وهي كلها لغات سامية تمت بصلة إلى الأكادية «البابلية الأشورية»، وإلى الإثيوبية الحبشية، مما يشعر أن موجة من موجات الثقافة ربطت ما بين العراق وبلاد العرب وشرق أفريقيا، ومما هو جدير بالذكر أن لغتي مهرة «جنوب بلاد العرب» وسوقطرا الحاليتين تضمان عناصر تشبه عناصر هذه اللغات القديمة، أما خط هذه النقوش فهو تطور من الخط الفينيقي الذي كان مستعملا في القرن الثامن قبل الميلاد وما بعده وهو الأصل في الخط الذي لا يزال مستعملا في الحبشة، وتزخرف بعض هذه النقوش رسوم لحيوانات ونباتات مما يشير إشارة واضحة إلى مدى تأثير الفن الأشوري المتأخر فيها.
وننتقل الآن إلى الكلام في الآثار، وقد آثرنا أن نقسمها إلى آثار الجنوب وآثار الشمال. (2-6) آثار الجنوب
كانت بلاد اليمن وحضرموت أهم أجزاء بلاد العرب التي كثر مرتادوها من علماء الآثار، والتي كثرت دراساتهم فيها، ولا غرو فهي غاصة بآثار الحضارتين المعينية والسبئية، ولقد زار آثار مأرب عاصمة سبأ القديمة أكثر من واحد من العلماء نخص بالذكر منهم أرنو
Arnaud
وهاليفي
Halévy
وجلازر
Glaser ، وجمعوا من بين أنقاضها عددا من النقوش المعينية والسبئية محفورا على الحجر الجيري أو البرونز، ولقد درس أرنو دراسة تفصيلية سد مأرب المشهور ورسم أول خريطة له، كما درس بعض آثار صنعاء والخريبة وحرم بلقيس وقاسى في أثناء أبحاثه هذه مر العذاب، وكان ينقل الرسوم سرا تحت خطر القتل، وأصابه في أثناء العمل رمد أودى ببصره.
وقفى على أثره هاليفي، فجاس خلال اليمن وزار كثيرا من الآثار، ونقل نقوشها، وتمكن من كشف مدينة معين عاصمة دولة المعينيين التي ذكرها اليونان وكان العرب لا يعرفونها.
وكان لجمعية الآثار السامية فضل كبير في حل طلاسم الكثير من النقوش التي عاد بها المستكشفون، وكان علماء الألمان أصحاب القدح المعلى في ذلك، ولا تحمل الآثار التي حصل عليها تواريخ تدل عليها، ولكن العلماء يرجعونها إلى الفترة ما بين سنة 800ق.م، سنة 600م. (2-7) آثار الشمال
صفحة غير معروفة
لم يكن نصيب الشمال من اهتمام علماء الآثار بأقل من نصيب الجنوب، وذلك على الرغم من أن وسائل البحث العلمي ومسهلاته لم تكن ميسورة لدى هؤلاء العلماء، فلقد كشف العلامة دوتي
Doughty
سنة 1876 عددا من المقابر النبطية المحفورة في مدائن صالح ورسمها ونقل نقوشها، كما كشف برتن
Burton
سنة 1877 مقابر نبطية أخرى أثناء فحصه عن مناجم الذهب في مدين، وعثر بعض الكاشفين على مقابر رومانية في حدود الحجاز الشمالية، وفي تيماء عثر هوبير سنة 1883 على النقش السامي المشهور المحفوظ الآن في متحف اللوفر، وعثر دوتي أثناء جولاته بين خيبر والحائل على عدة قبور قديمة معلمة بحجارة مستطيلة رأسية، وفي بعض بلاد نجد كشف بلي
Bely
عن عمود مسيحي حطمه الوهابيون، وتوجد في وادي سرحان بعض الآثار الرومانية والعربية القديمة وهي أبنية من البازلت عليها نقوش، وعلى مقربة من الطائف عثر دوتي على مشروع تمثال هائل على صورة آدمي يرجع إلى عصر ما قبل التاريخ، وقد قرر هو وآخرون أنه كان بالطائف تمثالان من الحجر لا شكل لهما كان يعبدهما القدماء على أنهما اللات والعزى وقد حطمهما الوهابيون، ويظن أن ثالث هذين التمثالين - وهو تمثال مناة الذي قد يرجع إلى عصر ما قبل التاريخ أيضا - يوجد إلى الجنوب من الطائف، وقد كان لأمنا «حواء» قبر في جدة حطمه الوهابيون سنة 1927.
هذا؛ وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن الآثار خارج شبه الجزيرة، يجدر بنا أن نشير إلى أن العلماء يرجحون أن مدنا هائلة لا تزال مطمورة تحت رمال «الربع الخالي»، وأن أكبر خدمة تؤدى لتاريخ العرب قبل الإسلام هي أن تعبد للعلماء سبيل الكشف عن هذه الآثار.
ولقد أرسلت كلية الآداب في صيف 1936 بعثة للتنقيب عن آثار اليمن. (2-8) الآثار خارج الجزيرة
أو بعبارة أدق المصادر المنقوشة على الآثار خارج بلاد العرب، والتي تشير من قرب أو بعد إلى أحوال العرب وتاريخهم، فقد حصل في آثار بابل على نقوش بالخط المسماري تشير إلى دول تولت حكم بابل يرى بعض المؤرخين أنها عربية، كما أن بعض المؤرخين يحاول أن يصف الهكسوس الذين فتحوا مصر في أواخر الأسرة 13 (حوالي سنة 1675ق.م) بأنهم عرب مع أن الكشوف الحديثة تؤيد أنهم من آسيا الصغرى، وأنهم تحركوا على أثر اضطرابات هجرية كان منشئوها سهول أوروبا الوسطى.
صفحة غير معروفة
وفي رأينا أن ما نقل من الآثار خارج بلاد العرب لا يمكن أن يؤخذ منه ما يفيد بصيغة الجزم تاريخ العرب قبل الإسلام. (2-9) المستشرقون المحدثون
وهم جماعة من العلماء الأوربيين عكفوا على دراسة اللغة العربية وغيرها من اللغات الشرقية حتى حذقوها، ثم تخصص كل منهم بعد ذلك في دراسة فرع من فروع الأدب أو التاريخ العربي أو الشرقي في مصادره الأصلية فلم يتركوا - في صبر وجلد - شاردة منه ولا واردة إلا فحصوها ووزنوها بميزان النقد العلمي الحديث، وقد أنفق الكثير منهم عمره في ترجمة مرجع عربي أو شرقي إلى لغته الأصلية سواء أكانت الألمانية أم الفرنسية أم الإنجليزية أم الإيطالية والتعليق عليه ومراجعته على المصادر الأصلية الأخرى المطبوع منها والمخطوط، وقد كتب الكثير منهم كتبا في الأدب العربي أو التاريخ الإسلامي، تستهوي الباحث بحسن ترتيبها، وجمال تبويبها، وتركيز المعلومات فيها تركيزا لا يجهد القارئ في البحث ولا يكلفه عناء الاستقصاء، وتجعل بعض المحدثين من رجال عصرنا يعيشون عالة عليها يلتمسون العلم من أسهل مناهله وأقرب موارده، ولئن كان البعض من هؤلاء المستشرقين يركب هواه في بعض الأحيان فيخون العلم في سبيل تحقيق غرض ديني في الغالب، إلا أن الجمهرة منهم تغلب فيهم النزاهة العلمية وبخاصة إذا كان الموضوع الذي يعالجونه غير شديد المساس بالدين.
وفي موضوع كموضوع تاريخ العرب قبل الإسلام، أرى أن الاعتماد عليهم - وبخاصة لأنهم أعرف الناس بالكشوف الحديثة في بلاد العرب - يكون اعتمادا مأمون العاقبة إلى حد كبير. (2-10) الأدب العربي
قلت في فقرة [مؤرخو العرب]: إن من أكثر ما اعتمد عليه مؤرخو العرب في رواية تاريخ العصور السابقة للإسلام هو الأدب العربي، من نثر ونظم، الذي كان يتناقله الرواة مشافهة، وأقرر الآن هنا أنه في ضوء البحث العلمي الحديث يصعب الاعتماد على الأدب العربي كمصدر هام من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام لعدة أسباب:
منها أن هذا الأدب لا يرجع إلى أكثر من عصر الجاهلية وهو جزء من عصر ما قبل الإسلام يقدر له العلماء زمنا يتراوح بين قرن ونصف وقرنين ونصف قبل ظهور الإسلام مباشرة، بينما يقدر العلماء لعصر ما قبل الإسلام مدة تتجاوز الثلاثين قرنا تمتد من سنة 1500ق.م إلى سنة 622 ميلادية.
ومنها ما تسرب في السنوات الأخيرة إلى هذا الأدب من الشك؛ إذ يرى فريق من المستشرقين وبعض المحدثين وعلى رأسهم أستاذنا الدكتور طه حسين أن الشعر الجاهلي - لأنه كان يتناقل مشافهة دون تدوين، وبسبب الخلاف الكبير في بعض رواياته، ولأسباب لغوية أخرى - إنما هو كله أو الشطر الأكبر منه ملفق أتقن تزويره حماد الراوية وخلف الأحمر من الرواة في القرن الثامن الميلادي.
وإذا كانت نظرية تلفيق الشعر الجاهلي خاطئة فإن ما وصل إلينا منه مع ذلك - إذا استثنينا بعض القصائد كالقصيدة الحميرية التي يعدد فيها أسماء الملوك المثامنة والأذواء المستقلين من حكام اليمن - ليس فيه غناء كبير فيما يتعلق بالتاريخ السياسي وأسماء الدول والملوك؛ إذ هو قاصر على وصف بعض أخلاق العرب ومعتقداتهم الدينية وعاداتهم وغير ذلك.
أما ما ينسب إلى بعض قوم طسم وجديس من الشعر وغيره، فلا يعدو في نظرنا أن يكون نسيجا جميلا من خيال الشعراء أو الرواة المتأخرين. (3) موطن الجنس السامي الأول وهل هو بلاد العرب
ليس من شأننا في هذا البحث أن نتعرض لمسألة الطوفان، وهل كان عاما شمل الكرة الأرضية أم كان قاصرا على منطقة دجلة والفرات، وإنما يكفي أن نذكر هنا ما روته التوراة من رسو سفينة نوح عليه السلام بعد انحسار الطوفان على جبل أراراط في هضبة أرمينيا «الإصحاح الثامن من سفر التكوين»، ومن ثم تفرق أبناء نوح، فسار يافث إلى الشرق وسار حام إلى الغرب، أما سام فإنه نزل إلى الجنوب، واختلف الباحثون في المكان الذي استقر فيه الساميون الأول، وتتلخص آراؤهم في القول بأن الساميين قد أخذوا نشأتهم الأولى في واحد من الأماكن المختلفة الآتية: (1)
عند مصب النهرين. (2)
صفحة غير معروفة
في بلاد كنعان. (3)
في بلاد الحبشة. (4)
في شمال أفريقيا . (5)
في بلاد العرب.
وأنصار الرأي الأول يعتمدون على قصة التوراة السالفة الذكر، ويحددون بابل مستقرا أول لبني سام بعد نزوحهم من جنوب أرمينيا.
وأصحاب الرأي الثاني يرون أنه في الوقت الذي دخل فيه الساميون العراق كانت تلك البلاد آهلة بالسومريين المتمدينين، وأن الساميين في سوريا أنشئوا مدنية أقدم من مدنية ساميي العراق، وإذا فبلاد كنعان هي المهد الأول للأمم السامية.
وأتباع الرأي الثالث يعتقدون أن الجنسين السامي والحامي كانا في العصور القديمة في أفريقيا، ويعتمدون على الصلات اللغوية بين اللغات السامية والحامية.
وأصحاب الرأي الرابع يجعلون مهد الساميين الأول في شمال أفريقيا، ولا يزيدون شيئا على ما ذكره أنصار الرأي الثالث.
وأنصار الرأي الخامس يؤكدون أن أواسط الجزيرة العربية منذ عصور ما قبل التاريخ كانت آهلة بالسكان، وأن منها ابتدأت هجرة الساميين إلى أطراف الجزيرة وما وراءها، ومن معضدي هذا الرأي الدكتور العناني، وهو يدلل على صدق النظرية بأدلة ترجع إلى الجهة اللغوية ووحدة التفكير واتحاد العقلية والاشتراك في نوع الخيال عند جميع الأمم السامية واصطباغ كل ذلك بصبغة واحدة أصلها وحي الصحراء وقوامها حياة البداوة، وأن الشعوب السامية التي تحضرت في أطراف الجزيرة ظلت محتفظة بنوع التفكير والخيال السالف الذكر (راجع الباب الثاني من الجزء الأول من كتاب الأساس للأستاذ الدكتور العناني والأستاذين محرز والإبراشي).
وممن يؤيد هذا الرأي أيضا الأستاذ جورج سمث
صفحة غير معروفة
George Smith
إذ يذكر في كتابه «الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة»: أن الشام هو الطرف الشمالي للوطن السامي الأكبر وهو جزيرة العرب، وآخر معضدي هذا الرأي أيضا الأستاذ فلبي
الذي صدر كتابه عن عصر ما قبل الإسلام أخيرا سنة 1947 فقد ذكر في فاتحة هذا الكتاب وعنوانه
Back ground of Islam
ما نصه: «إلى أن يثبت أن الساميين جاءوا إلى بلاد العرب من بلاد غيرها يلزمنا أن نعتبر جزيرة العرب الوطن الأصلي للساميين، ولعله من الممكن تحديد هذا الوطن في القسم الجنوبي من هذه الجزيرة.»
ولقد كان الرأي الأكثر رجحانا حتى العقود الأولى من هذا القرن هو الرأي الأول الذي يعتمد على قصة التوراة السالفة الذكر، ولكنها أصبحت مرجوحة الآن وتغلب عليها الرأي الخامس القائل بأن بلاد العرب هي مهد الجنس السامي؛ إذ استبعد أن ينتقل شعب من طور الرقي الزراعي على ضفاف نهر إلى طور البداوة في أرض مراع أو صحراوات، وهذه النظرية الحديثة تقرر أن بلاد العرب في الأزمان السحيقة كانت - بسبب اختلاف مناخها في ذلك الوقت عن ما هو الآن - أكثر خصبا مما هي عليه الآن، وأن نجدا كانت إذا زاد عدد سكانها زيادة لا تحتملها قدرة الأرض على إعالتهم ينبعث الناس منها في هجرات على شكل تقاطر تدريجي، كما هو حال الهجرات في أيامنا هذه إلى البلاد المجاورة، وكانت شبه الجزيرة تشبه حوضا ضخما يفيض بالبشر ويقذف ما يطفح به إلى الخارج، وكانت الفترة بين الموجة الهجرية والتي تليها نحو 1000 سنة، ويحددون منتصف الألف الرابع قبل الميلاد بدأ لتلك الهجرات التي حفظها لنا التاريخ، والتي لا بد أن تكون قد حدثت هجرات قبلها قبل عصر التاريخ.
ففي سنة 3500ق.م تقريبا حدثت هجرة سامية إلى الشمال الشرقي إلى وادي الفرات الأدنى حيث بلاد بابل، وفي نفس الوقت تقريبا تحركت هجرة سامية أخرى إلى الشمال الغربي حيث بلاد مصر.
وحوالي سنة 2500ق.م أي بعد ألف سنة تقريبا من الهجرات السابقة تحركت هجرة سامية أخرى إلى الشمال، وهي التي أحلت معها العاموريين والكنعانيين والفينيقيين في بلاد سوريا وسواحل البحر الأبيض الشرقية.
وحوالي سنة 1500ق.م تحركت هجرة إلى بلاد فلسطين وجنوب سوريا، وهي التي حملت معها الآراميين في الأولى والعبرانيين في الثانية، وفي نفس الوقت تقريبا تحركت هجرات سامية أخرى إلى الجنوب حيث بلاد اليمن.
وحوالي سنة 500ق.م كانت هجرة الأنباط إلى الشمال الشرقي من شبه جزيرة سيناء وعاصمتهم بطرة أو «البتراء» تقع في جنوب بلاد الأردن الحديثة.
صفحة غير معروفة
وبعد سنة 600 ميلادية كانت حركة الغزو الإسلامي الرائعة التي امتدت شرقا وغربا فكان من نتائجها تكوين الإمبراطورية العربية التي لم تسبقها إمبراطورية في عظم مساحتها، وتمشيا مع هذه النظرية يحق لنا أن نتساءل هل حدثت موجات هجرية بعد نحو ألف سنة من هذا الفتح؟ ونحسب أن الجواب على ذلك قد نجده في الحضارمة سكان السواحل الجنوبية لبلاد العرب الذين استوطنوا بعض جزائر إندونيسيا وسواحل أفريقيا الشرقية، وباستعراضنا أهمية هذه الهجرات في التاريخ نجد أن الحضارات القديمة كانت نتيجة امتزاج هذه الشعوب السامية مع السكان الأصليين في البلاد التي نزحوا إليها، ومكانة المصريين القدماء والبابليين والعبرانيين في التاريخ العالمي مشهورة ليس هنا مقام التعرض لها. (3-1) معنى كلمة عرب
ذكر الأستاذ نلدكه
Noldeke
في تاريخ المؤرخين للعالم أن الظاهر أن كلمة «عرب» معناها «صحراء».
وكان ورودها لأول مرة بنفس هذا المدلول في النقوش الأشورية التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.
وفي التوراة وردت في سفر أرميا في الإصحاحين الثالث والخامس والعشرين بما يستفاد منه أن المقصود هم سكان البادية، وفي بعض نقوش دارا كان يقصد من لفظ «عرباية» صحراوات العراق والشام وسينا، ويفهم مما كتبه هيرودت أنه كان يقصد بالعرب سكان المنطقة الممتدة بين الفرات في الشرق والنيل في الغرب، ولفظ «عرب» في التاريخ القديم كان يرادف لفظ «بدو» أو «بادية» في هذه الأيام، ويرى بعض علماء العبرية أن كلمة عبري ترتبط بكلمة عربي ارتباطا لغويا متينا؛ لأنهما مشتقان من أصل واحد وتدلان على معنى واحد، وأنهما مشتقان من الفعل الثلاثي «عبر» بمعنى قطع مرحلة من الطريق أو الوادي أو النهر من عبره إلى عبره أو من عبر السبيل شقها؛ وذلك لأن العرب والعبرانيين كانوا في الأصل من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان، بل ترحل من بقعة إلى أخرى بإبلها وماشيتها للبحث عن الماء والمرعى.
ويرى بعض المؤرخين - ويجاريهم فريق من المستشرقين - أن كلمة عرب مشتقة من يعرب بن قحطان، وأنه أطلقها على بعض أقاليم تهامة ومن ثم شاعت على العرب، وفي كتب العرب القدامى أن العرب إنما سموا بالعرب؛ لأنهم كانوا موسومين بين الأمم بالإعراب وهو البيان.
وهناك رأي يقول: إن كلمة عرب مشتقة من «غرب»، وأن العرب إنما سموا بذلك لارتحالهم من وطن الساميين الأصلي وهو ما بين النهرين إلى الغرب؛ إذ اللغة السامية لا غين فيها فعرب ترادف غرب.
وبمناسبة لفظ «عرب» نذكر أن أهل بابل وبعض السوريين القدامى كانوا يطلقون على العرب لفظ
Taits
صفحة غير معروفة
التي يرجح أنها مشتقة من طيء سكان شمال نجد.
وهناك لفظ آخر هو
Saracens
كان يطلقه الرومان على البدو المجاورين لبلادهم في الصحراء الممتدة غرب الفرات، ثم شاع استعماله بعد ذلك فصار يطلقه الأوربيون على العرب كافة ثم على المسلمين بدون تمييز ثم على أهل الشرق جميعا، ولعله مشتق من لفظ شرق العربية، وإن كان يحاول البعض أن يقرر أنه مشتق من لفظ «صحراء» أيضا.
الفصل الثاني
الوطن العربي
(1) موقع شبه جزيرة العرب وحدودها
تقع شبه جزيرة العرب في الطرف الغربي من قارة آسيا، وهي مستطيل غير متوازي الأضلاع شماله فلسطين وبادية الشام، وشرقه الحيرة ودجلة والفرات وخليج فارس، وجنوبه المحيط الهندي وخليج عدن، وغربه البحر الأحمر.
ويبلغ طوله أكثر من ألفي كيلومتر، وعرضه أكثر من ألف وخمسمائة من الكيلومترات، ومساحته تزيد عن مساحة الهند.
وبلاد العرب جزء من صحراء كبرى ممتدة في شمال أفريقيا وغرب آسيا ولا يفصلها عن آسيا إلا حوض النيل وأخدود البحر الأحمر الذي تحفه الصخور النارية على جانبه.
صفحة غير معروفة
ويطلق العرب على بلادهم اسم جزيرة العرب، وفي هذه التسمية كثير من التسامح؛ إذ الواقع أنها لم تتم إحاطتها بالماء، ويعلل جغرافيو العرب تسميتها بالجزيرة «لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أطرافها وأقطارها فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر؛ وذلك لأن الفرات يقبل من بلاد الروم مارا ببلدة قنسرين، ثم ينحط على أطراف الجزيرة وسواد العراق، حتى إذا قارب البصرة اتحد بدجلة وصبا معا في خليج عمان من بحر الهند، ويأخذ البحر في ذلك الوضع مغربا طائفا ببلاد العرب، منعطفا عليها إلى بلاد عمان والشحر وحضرموت إلى تهائم اليمن، ويمضي إلى ساحل مكة وساحل المدينة، ثم ساحل الطور وخليج أيلة وخليج القلزم، والنيل حتى بحر الروم الذي تقع عليه سواحل الأردن وبيروت وسواحل دمشق وسواحل قنسرين، وهي الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا إلى أعلى أطراف الجزيرة وسواد العراق، إلخ.» (راجع معجم البلدان لياقوت وصفة جزيرة العرب للهمداني).
وهذا التحديد وإن كان يسهل فهم تسمية البلاد العربية بالجزيرة إلا أنه يتطلب أن تعتبر ولايات الشام وفلسطين والأراضي المصرية الواقعة شرقي فرع دمياط من ضمن بلاد العرب، وهذا غير مرض عند الجغرافيين المحدثين، ولا هو منطبق على المصطلح الجغرافي ولا على الواقع. (2) بلاد العرب في نظر الجغرافيين القدامى
فيما خلا الجزء الجنوبي الغربي حيث بلاد اليمن والجزء الشمالي المتاخم للشام ومصر كانت بلاد العرب مجهولة تماما لدى القدماء، فلم تطأها أقدامهم؛ إذ عصمتها الصحراوات والبحار المحيطة بها من الغزو الاستعماري أو الغزو الديني، كما عصمها كذلك ترامي أطرافها وعدم جودها بما يغري الغزاة على تجشم المصاعب في سبيل غزوها.
ورد في القاموس الكلاسيكي للأستاذ وليم سمث
William Smith
أن بلاد العرب كانت تنقسم قديما إلى ثلاثة أقسام: (1)
بلاد العرب الصخرية
Arabia Petraea
وهي عبارة عن المثلث المنحصر بين خليجي البحر الأحمر «شبه جزيرة سينا»، والمنطقة التي تليه إلى الشمال والشمال الشرقي، وكانت عاصمتها مدينة بطره
وقد سميت بهذا الاسم إما نسبة إلى عاصمتها أو إلى طبيعة المنطقة الصخرية. (2)
صفحة غير معروفة
بلاد العرب الصحراوية
Arabia Deserta
وهي تشمل بادية الشام وجزءا من داخل شبه الجزيرة. (3)
بلاد العرب السعيدة
Arabia Felix
وهي تشمل بقية أجزاء البلاد ما عدا الجزأين السابقين.
وجهل القدماء بداخل بلاد العرب هو الذي دعاهم إلى احتسابه ضمن بلاد العرب السعيدة «أو الخضراء» مع أنه في الواقع يعتبر من بلاد العرب الصحراوية، أما ما يصح أن يطلق عليه اسم بلاد العرب السعيدة فهو الجزء الجنوبي الغربي حيث بلاد اليمن التي كانت فيها حضارة معين وسبأ. (3) وصف بلاد العرب الطبيعي
يمكن بالإجمال وصف بلاد العرب بأنها هضبة مرتفعة لا يقل ارتفاع أي جزء فيها عن 1500 قدم عن سطح البحر.
وهذه الهضبة تنحدر انحدارين أحدهما نحو الغرب والآخر نحو الشرق، ويبدأ الانحداران من سلسلة جبال تقع في غرب شبه الجزيرة وتعرف باسم جبال السراة، وهي تمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب حيث تصل إلى أعلى ارتفاعها وهو عشرة آلاف قدم «أو أكثر من 3000 متر».
أما الانحدار الغربي فهو شديد، وتحصر سلسلة الجبال فيما بينها وبين ساحل البحر الأحمر واديا ضيقا متوسط عرضه خمسة عشر ميلا (نحو 29ك.م)، وأقصى اتساع له ثلاثون ميلا «نحو 57ك.م» تتخلله عدة وديان لا يستفاد منها، بل قد تعوق سير القوافل في بعض الأحيان.
صفحة غير معروفة
وأما الانحدار الشرقي فهو انحدار تدريجي لا يكاد يلمس ويصحبه انحداران آخران أحدهما ناحية الشمال الشرقي، والآخر ناحية الجنوب الشرقي.
وهذا الوصف الذي ذكرناه يظل صحيحا اللهم إلا في الجنوب الشرقي حيث تبرز سلسلة من الجبال في عمان هي المعروفة باسم الجبل الأخضر يبلغ ارتفاعها نحو عشرة آلاف قدم أيضا «أو أكثر من 3000 متر».
وإذا استثنيت بلاد اليمن وعمان وبعض الوديان الواقعة في سلسلة الجبال الغريبة أمكننا وفي نجد والأحساء أن نصف بلاد العرب بأنها قفر مجدبة.
وتسقط الرياح الموسمية الجنوبية الآتية من ناحية الحبشة بعض الأمطار في بلاد العرب وتستفيد بلاد اليمن بأكبر قسط منها؛ إذ تصدها الجبال العالية، فيزرع هناك البن والحبوب والفاكهة، وفي الجهات التي هي أقل مطرا من هذه المنطقة تنبت أشجار الصمغ والبخور.
أما عمان فتحمل إليها الرياح الموسمية الشمالية الشرقية بعض الأمطار، وأما حضرموت فلا تستفيد من هذه الرياح الموسمية بسبب محاذاة جبالها لمهب الرياح.
وحيثما يسقط المطر في بلاد العرب ينبت الكلأ وتتيسر سبل الحياة، وفيما عدا ذلك فكل البلاد عبارة عن صحراء شاسعة بعثرت فوق أديمها بعض الواحات التي يوجد فيها بعض الماء، وتكثر فيها زراعة النخيل وبعض البقول وتحف بها بعض المراعي وتربط طرق القوافل هذه الواحات بعضها ببعض، وفي غير هذه الأماكن لا يقع بصرك على سكان.
والوصول إلى عمان ميسور من ناحية البحر حيث يعيش فريق من السكان على صيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ في الخليج الفارسي، أما عن طريق البر فترتبط باليمن عن طريق شبوة ولكن الطريق طويل وشاق.
وتغطي الحشائش حافة الصحراء الجنوبية التي تفصل بين عمان واليمن وبينها وبين نجد.
وليس في بلاد العرب أنهار ولا غابات، وأقصى ما وصل إلى عملنا هو وجود بحيرتين أو ثلاث بحيرات صغيرات في منطقة الأحساء. «والأحساء والحساء - كما في كتب العرب - جمع حسى وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا أمطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء فمنعته الصلابة أن يغيض ومنع الرمل السمائم أن تنشفه فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء».
وقد قسم الأستاذ فلبي
صفحة غير معروفة