ونصف في الفقرات التالية أهم مظاهر الحضارة في دول بلاد اليمن القديمة منذ أقدم العصور إلى أن ظهر الإسلام. (4) الحكومة والحالة الاجتماعية
كانت حكومات اليمن تقوم على قبائل لا تربط بينها روابط القربى بقدر ما تربط روابط المصلحة، وكان نظام الحكم ملكيا وراثيا في الأبناء أو الإخوة، وفي بعض الأحيان كان يشرك الملك ابنه معه في الحكم على غرار ما كان يصنع ملوك الأسرة الثانية عشرة المصرية، وكان للنساء حق وراثة العرش كالرجال، كما حدث في الدولة المصرية القديمة أيضا، ولكن الملكية لم تكن مطلقة، بل كانت مقيدة؛ إذ كانت توجد مجالس لها صفة نيابية تمد الملك بالمشورة والنصيحة وتساعده في المسائل التشريعية، تؤيد ذلك النقوش التي كشفت كما يؤيده القرآن الكريم في قصة سليمان وملكة سبأ التي أشرنا إليها آنفا؛ إذ قالت لما ألقي إليها كتاب سليمان يطلب إليها فيه أن تأتي مسلمة:
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (الآية 32 من سورة النمل). فالنقوش هنا تتفق مع ما جاء في القرآن تماما.
ثم إن نظام الحكم الذي كان في قتبان وفي غيرها من الحكومات كان يسمح لمجلس من الشيوخ بأن يهيمن إلى حد ما على تصرفات الملك ولو أن السياسة العامة كانت تقررها جمعية عمومية من رجال القبائل.
وكانت الأوامر الملكية تصدر على هيئة مراسيم، وتكتب في غالب الأحيان على لوحات من البرونز أو الحجر وتعرض في الطرق العامة أو المعابد ليراها الناس جميعا، وقد عثر المنقبون على مجموعة كبيرة من هذه اللوحات التي كثيرا ما كانت تزخرف من أعلاها أو أسفلها بنقوش مختلفة يمثل بعضها أبا الهول المجنح أو النخيل أو غير ذلك، وكان الملوك يلبسون مآزر محوكة بالذهب ويتحلون بأساور ثمينة في أذرعهم، ويمكننا أن نستنتج من رسوم الملوك على النقود أنهم كانوا يرسلون شعور رءوسهم ولا يرسلون شواربهم أو لحاهم، كما كان يفعل قدماء المصريين.
وساد الحكم الإقطاعي في اليمن، فكان الملك على رأس المملكة والبلاد تقسم إلى مخاليف «جمع مخلاف»، وكل مخلاف يقسم إلى محافد «جمع محفد»، وكل محفد يقسم إلى قصور أو حصون، وأصحاب المخاليف يسمون أقيال «جمع قيل»، وأصحاب المحافد يسمون أذواء «جمع ذو»، وفي الغالب كان المحفد ينسب إلى أشهر قصر فيه، والمخلاف إلى أشهر محفد فيه، وفي بعض الأحيان كان ينسب كل إلى إله المنطقة، وكثيرا ما كان يطغى أحد الأقيال على مخلاف جاره إذا أنس من نفسه قوة فيضمه إليه، بل وكان يطمع بعض الأحيان أحد الأقيال في الملك، فينزل الملك عن عرشه ويتولى مكانه، وكان يساعد هؤلاء أن الملوك قلما كانوا يعتنون بتنظيم الجند لقلة الحروب والفتوح، ويشبه هذا النظام كثير الشبه النظامي الإقطاعي الذي قامت عليه الأسرة الثانية عشر في تاريخ مصر القديم، أو النظام الإقطاعي في العصور الوسطى في أوروبا، وكانت طبقات الشعب تشبه طبقات النظام الإقطاعي فكان هناك أشراف وملاك ورقيق عدا جاليات الأجانب، وكانت تفرض على الأراضي ضرائب ثلاث، وليست لدينا معلومات عن قيمة هذه الضرائب، ولكن النقوش تدل على أنها كانت تحدد والمحاصيل في الحقول، وكان للكهنة الحق في فرض الضرائب وفي أخذ الزكاة، وكان يسخر الناس في تشييد المباني العامة.
وذكر استرابون أن الرياسة في العائلة كانت لأكبرها سنا، وأن أموال العائلة ومتاعها كان شركة بين أفرادها، وأن زواج الأخت وزواج الأم وجمع المرأة بين أزواج عدة كان معروفا، كما كان يعاقب بالموت من يتزوج من غير أسرته، وبعض هذا كان شائعا عند قدماء المصريين، فقد كان الأخ يتزوج أخته والابن يرث أباه في زوجاته، ولا نعلم مبلغ صحة ما ذكر عن اليمانيين. (5) التجارة والزراعة والصناعة والفنون
قامت حضارة بلاد اليمن على التجارة بحكم توسطها بين أمم العالم القديم، فكانت تأتي إليها المتاجر من الهند وجزائر الهند الشرقية وبلاد الصين وسواحل أفريقيا، فترسو بها السفن على شواطئ اليمن ثم تنقل إلى صنعاء أو مأرب حيث تحملها ظهور الإبل في قوافل ضخمة إلى الشام والعراق ومصر وحوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت سبأ تتقاضى مكوسا وضرائب جمركية على البضائع المارة بها، وكانت قوافلها تحمل متاجر البلاد الشمالية إلى اليمن، كما كانت تحمل معها بعض الإماء من غزة أو يثرب أو غيرها للخدمة في المعابد، وكان أكثر ما تحمله القوافل إلى الشمال الذهب والقصدير والعاج والتوابل وريش النعام والقطن والحجارة الكريمة، وكان من بين ما تحمله إلى الشمال بعض ما تنتجه أرض اليمن نفسها كالبخور والمر واللادن والعطور والطيب والصموغ مما كان يحتاج إليه في المعابد، وكانت ترجع القوافل بحاصلات الشمال التي أهمها الحنطة والزيوت والخمور والمنسوجات والأصباغ والآنية وسبائك الفضة، وكانت التوابل والبخور من السلع المقدسة التي لا يجوز أن يتجر فيها كل إنسان، والتي كانت قاصرة - كما ذكر بليني - على ثلاثة آلاف عائلة من الأشراف كانوا يدفعون عنها زكاة لمعبد شبوة.
أما الصناعة فقد اشتهرت بها بلاد اليمن من قديم، فكانت تنسج المواد الخام التي كانت تستوردها من الهند، والبرد اليمنية مشهورة، وأكثر منها شهرة السيوف التي كانت تصنع هناك، وقديما كانوا إذا أرادوا امتداح سيف قالوا: «سيف يماني»، وكذلك كانت تدبغ الجلود وتصنع منها الدروع السميكة.
ووجه أهل اليمن قديما عناية للزراعة، ولم يكونوا يزرعون السهول المنبسطة فحسب؛ بل كانوا يزرعون سفوح الجبال أيضا بعد تهيئتها طبقات الواحدة تلو الأخرى ، وقد عنوا عناية كبيرة بمسائل الري وحفر القنوات لتوصيل الماء إلى مدرجات السفوح المنزرعة، كما أنشئوا مئات السدود لخزن الماء في أيام المطر ورفع مستواه ليصل إلى السفوح، وكانوا يعنون بوجه خاص بزراعة النباتات النادرة والفواكه والكروم، حتى لقد ذكر الهمداني صاحب كتاب صفة جزيرة العرب أسماء أكثر من عشرين صنفا من العنب.
صفحة غير معروفة