وبعد أن أشار إلى الغزو الحبشي لليمن الذي تم سنة 525م، والغزو الفارسي الذي تم حوالي سنة 575م، قال: إن اليمن رغم ما توالى عليها من أحداث كانت مدنيتها لا تزال أعلى المدنيات في بلاد العرب، بدليل أنها ما فتئت تورد لها بعضا من المصنوعات الهامة مثل السيوف والأقمشة والملابس.
ثم يقول إن أهل اليمن كانوا يشعرون شعورا خفيا بمكانتهم العظيمة هذه وبما قام به أسلافهم من أعمال عظام لم يكونوا يعرفونها على وجه التحديد؛ لأنها لم تكن مدونة، وأنهم من أجل ذلك بعد أن تم الفتح الإسلامي تحت زعامة العرب القرشيين واستقرت شئون الإمبراطورية أرادوا ألا يكون لإخوانهم الشماليين فضل عليهم، وعمدوا إلى الإشادة بفضل أسلافهم، واخترعوا لذلك قصصا أسرف خيالهم فيها إسرافا بعيدا.
تلك وجهة نظر عالم كبير عن علماء التاريخ العربي لخصناها لنعطي صورة مصغرة من وجهات النظر الحديثة لتاريخ الطبقة الثانية من طبقات العرب، أما تاريخ دول اليمن وحضارتها ومظاهر تلك الحضارة في أدوارها المختلفة فسنفصل الكلام عنه في فصل تال. (1-3) العرب المستعربة
ويعرفون أيضا بعرب الشمال، أو العرب العدنانية، أو عرب الحجاز، أو العرب الإسماعيلية، ويغلب في تواريخ العرب تسميتهم بالعرب العدنانية نسبة إلى عدنان من سلالة إسماعيل عليه السلام.
ورد في كتاب سبائك الذهب للسويدي في سياق نسب العرب العدنانية أن عدنان هو ابن أد بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وإذا نظرت في جداول النسب التي وضعها تجد أنه يواصل السلسلة إلى آدم أبي البشر، فيقول: إن إبراهيم هو ابن قارح بن ناحور بن شاروخ بن أرغو بن قالع بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح - عليه السلام - بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن اليارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
ولسنا نشك لحظة في أن هذه الأنساب لا تعتمد على أي أساس علمي، بل إن العلم ليتعارض مع الكثير منها، وإنما أوردناها هنا لبيان وجهة من وجهات النظر القديمة.
وعلى الرغم من أن العلماء المحدثين لا يؤمنون بصحة هذه الأنساب إلا أن الإجماع يكاد ينعقد بينهم على صحة نسب العرب المستعربة إلى إسماعيل عليه السلام.
وتتفق الروايات العربية مع التوراة في قصة إسماعيل عليه السلام في مجموعها مع اختلافات بسيطة، فالتوراة تقول: إن إخراج إسماعيل وأمه هاجر كان إلى برية بئر سبع على مقربة من خليج العقبة، والعرب يقولون: إن إسماعيل أقام بمكة.
وخلاصة قصة إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام أن إبراهيم ولد بالعراق في مدينة أور الكلدانية، لأب نجار كان يصنع الأصنام، فلما شب إبراهيم ساوره الشك في أمر الأصنام، فتغفل القوم وحطمها إلا كبيرها ثم فشل في هداية قومه، وكان نصيبه أن ألقي في النار فنجاه الله منها، ثم فر إلى فلسطين، ومعه زوجه سارة، وارتحل إلى مصر بها، ثم خرج منها وقد أعطاه ملكها جارية هي هاجر، وولدت له هاجر ابنه الأول إسماعيل، ثم ولدت له سارة ابنه إسحاق، وسوى إبراهيم في العطف بين ولديه إسماعيل وإسحاق، فغضبت سارة، فذهب بهاجر وابنها إسماعيل إلى وادي مكة القفر، ثم تفجرت بئر زمزم، وأغرى ذلك بعض القبائل اليمنية الرحل بالسكنى إلى جوار الماء، فسكنت قبيلة جرهم من عرب اليمن، وتزوج منهم إسماعيل زوجة سرحها، ثم تزوج جرهمية أخرى هي بنت مضاض بن عمرو، وولد لإسماعيل من هذا الزواج اثنا عشر ولدا هم آباء العرب المستعربة.
هذا هو هيكل القصة التي سنعود إليها بشيء من التفصيل عند الكلام على تاريخ الإمارة بالحجاز، وهي قصة كما قلنا يكاد ينعقد الإجماع على جملتها، ولكن يبرز لنا من ثناياها سؤال يحتاج إلى جواب وهو: لمن يصح أن تنسب هذه العرب المستعربة؟ أإلى العرب القحطانية؛ لأن زوج إسماعيل الجرهمية كانت منهم؟ أم إلى الكلدانيين؛ لأن أبا إسماعيل كان منهم؟ أم إلى العبرانيين؛ لأن إبراهيم أقام في فلسطين؟ أم إلى المصريين القدماء؛ لأن هاجر أم إسماعيل كانت مصرية قديمة؟
صفحة غير معروفة