بعد حرب اليهود والرومان (70م) - التي انتهت بخراب فلسطين ودمار هيكل بيت المقدس، وتشتت اليهود في أصقاع العالم - قصدت جموع أخرى من اليهود بلاد العرب للمزايا السالفة.
ولم يلبث اليهود الذين نزحوا إلى المدينة أن استفادوا بذكائهم: فاقتنوا الضياع والأموال، وأصبحت تجارة المدينة بأيديهم، وتكاثر عدد النازحين منهم إلى المدينة، وظهر منهم عدة قبائل، أشهرها قريظة والنضير، ثم نزل المدينة بعد ذلك الأوس والخزرج بعد سيل العرم، واستوطنوها إلى جوار اليهود، وعاشوا في ضنك من العيش، وهوان وإذلال من اليهود، وكان على اليهود ملك شديد ، استبد بالنازحين فاستجاروا بالتبابعة في رواية، وبالغساسنة في رواية أخرى، فجاءوا لنصرتهم، فكانت بين الفريقين حرب انتهت بقتل زعماء اليهود وأشرافهم بالخديعة، وأصبح الأوس والخزرج بعد ذلك أعز أهل المدينة، وتحالفوا مع اليهود، ثم دب دبيب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتنازعوا السلطان، فجرت بينهم الوقائع، وكانت بينهم حروب طويلة، أشهرها المعروفة بيوم سمير ويوم السرارة ويوم حاطب ويوم بعاث.
وما زال الخلاف قائما بينهم، يستعين فيه بعضهم ببعض قبائل اليهود على بعض، حتى كان اعتناقهم للإسلام، وهجرة النبي
صلى الله عليه وسلم
إليهم سنة 622م؛ فآخى بينهم، وتناسوا ما كان بينهم من عداوة وأحقاد كادت أن تأتي عليهم.
ونحن نلخص في الفقرات التالية أشهر هذه الحروب أو الأيام كما أطلق عليها مؤرخو العرب. (19-1) يوم سمير
سببه: أن رجلا يقال له: كعب بن العجلان من بني ذبيان - نزل على مالك بن العجلان زعيم الخزرج محالفه، وأقام معه، فخرج كعب يوما إلى السوق، فرأى رجلا من غطفان ومعه فرس وهو يقول: «ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب.» فقال رجل: فلان الأوسي، وقال غيره: فلان الخزرجي، وقال ثالث: فلان اليهودي أفضل أهلها، وقال رابع: مالك بن العجلان. فدفع الغطفاني الفرس إليه، فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكا أفضلكم، فغضب لذلك رجل من الأوس يقال له سمير وشمته وافترقا، ثم حدث بعد ذلك أن كعبا قصد سوقا لهم بقباء، فقصده سمير وانتظر حتى خلت السوق فقتل كعبا، وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى آل سمير يطلب قاتله، فقالوا: لا ندري من قتله، وترددت الرسل بينهم، هو يطلب سميرا وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب، فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، ولج الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وافترقوا، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا، حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس، ثم أرسلت الأوس تطلب أن يحكم بينهم المنذر بن حرام الخزرجي جد حسان بن ثابت الشاعر ، وأجابهم إلى ذلك، وحكم المنذر بأن يعطوا كعبا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وفرحوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد تمكنت البغضاء والعداوة في نفوسهم. (19-2) يوم السرارة
وسببه أن رجلا من بني عمرو من الأوس قتله رجل من بني الحارث من الخزرج، فعدا أهل القتيل على القاتل وقتلوه غيلة، وعرف ذلك أهله، فكانت حرب بين الفريقين شديدة، حمل راية الخزرج فيها عبد الله بن سلول، وراية الأوس حضير بن سماك، وصبر القوم بعضهم لبعض أربعة أيام، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك. (19-3) يوم حاطب
توالت الحروب بعد يوم السرارة، حتى إذا مرت مائة سنة من يوم سمير - إذ بحرب تعرف بيوم حاطب وقعت بين فريقين، وسببها: أن حاطبا الأوسي - وكان شريفا سيدا في قومه - أتاه ضيف من بني ثعلبة، ثم غدا يوما إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد الخزرجي، فقال لرجل من اليهود: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي، فأخذ الرداء وكسعه، فنادى الثعلبي: يا لحاطب، كسع ضيفك وفضح؛ وعرف حاطب بالأمر، فجاء وضرب اليهودي بالسيف فقتله، وعلم يزيد الخزرجي فأسرع خلف حاطب فلم يدركه، فقتل رجلا من أهله، فقامت الحرب بين الأوس والخزرج، وسعى بينهما جماعة من فزارة بالصلح فلم تفلح مساعيهما، واستمرت الحرب بينهما سجالا، يوما للأوس ويوما للخزرج، حتى انتهت بظفر الخزرج؛ وتجددت الحرب بعد ذلك، وكان الفريقان يتصالحان على الديات، وطال أمر الحرب حتى سئمت الأوس، فصارت إلى قريش بمكة تطلب محالفتها، فأجابت قريش طلب الحلف، ثم تحللت منه، فطلبت الأوس إلى بني قريظة وبني النضير الحلف على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك - ثم عادوا فنقضوا. (19-4) يوم بعاث
وتجدد الحلف بين قريظة وبني النضير من جهة، وبين الأوس من جهة أخرى، وأشعلوها حربا على الخزرج، انضمت فيها إلى الأوس طوائف أخرى من اليهود وغيرهم، وانضم إلى الخزرج جهينة، وتداعى الفريقان إلى القتال، فكان بينهما يوم بعاث - وهو ناحية من أعمال قريظة على طريق مكة من المدينة غربا، وكان على الأوس حضير بن سماك «والد أسد بن حضير»، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان، وكان حضير يحقد على الخروج أشد الحقد، فلما بدأ القتال دارت الدائرة على الأوس، ففروا نحو نجد فعيرهم الخزرج، فلما سمع حضير تعييرهم - برك وطعن بسنان رمحه فخذه وصاح: والله لا أعود حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا، فعاد الأوس إلى القتال مستبسلين مستيئسين حتى هزموا الخزرج شر هزيمة، وأخذوا يحرقون نخلهم ودورهم، وإن كادوا ليهلكوهم - لولا أن صاح صائح فيهم: يا قوم إن جوارهم خير من جوار الثعالب، فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس زعيمها حضيرا مجروحا فمات، وكذلك مات عمرو بن النعمان رئيس الخزرج، واستعادت اليهود بعد هذا مكانها بيثرب، وأضحى الأوس والخزرج أجراء عند اليهود، فأدركوا أنهم أخطئوا في تطاحنهم، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم يجمع شملهم، وحدث أن نفرا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد عليه السلام، فسألهم عن شأنهم ودعاهم إلى الله فعرفوا أنه النبي الذي كانت تواعدهم به اليهود، فأجابوا دعوته وأسلموا.
صفحة غير معروفة