الفيلم الحديث: بين الكلاسيكية والطلائعية
لو كان بإمكانكم سؤال بازان عن مصدر التغيير الذي تمكن من استشعاره فيما يدور من حوله، لما كان ليشير لأول وهلة إلى التصوير، أو إلى تصميم المشهد، أو التمثيل، أو التحرير؛ بل كان من شأنه أن يشير إلى ما سماه «الموضوع». ومثلما يجيء النضج، فوجئ الوسيط السينمائي في منتصف أربعينيات القرن العشرين بإدراك أنه نضج بعد مواجهات مباشرة مع موضوعات مثيرة للتحدي، نادرا ما كان يستطيع تفاديها. كان تعقد موضوعات رينوار وويلز هو ما دفعهما إلى التخلي عن أساسيات النظام الكلاسيكي في فيلميهما «قواعد اللعبة» و«المواطن كين». ثم نشبت بعد ذلك مباشرة الحرب العالمية. وبطبيعة الحال، استلزمت الحرب الحديثة وسائل تمثيل حديثة. تمدد المكان، وتقلص الزمان، وانتزع كلاهما بوضوح من سيطرة الإنسان. ولذا، وبلا تجاهل، برهن مالرو على النزعة الإنسانية البطولية في فيلم «الأمل» (هوب) وهو واحد من أوائل الأفلام شبه الوثائقية الكثيرة التي جاهدت لتمثيل الحياة في الظروف البشعة والحافلة بالقتل التي تحملها كثير من الناس (أو فشلوا في تحملها) منذ عام 1936 حتى عام 1945. كان بازان يعتقد أن الواقعية الجديدة نتجت مباشرة من الحضور الطاغي للحرب والمقاومة؛ حيث تبنت جوانب من الصحافة ومن الرواية الأمريكية القاسية، بينما بدت المعايير المعتادة في كتابة السيناريو والتصوير والتحرير هزيلة وقاصرة عن الموقف تماما.
انجذب صناع الأفلام بقوة لمهمة جديدة بفعل الحرب. حتى مخرجو هوليوود الجسورون، مثل جون فورد وجون هيوستن، تجرءوا على تجربة أساليب التصوير والتحرير الارتجالية ليصوروا ويحاكوا الفوضى التي تطوعوا بدخولها («معركة ميدواي»، 1942؛ «معركة سان بييترو»، 1945).
1
على الرغم من ذلك، حالما انتهى ذلك الحضور الطاغي، أعقبت ذلك أزمة حتمية في الموضوعات. ما الذي ينبغي تمثيله الآن بشأن الطرف الآخر في الحرب؟ بعد مرور جيل كامل، عاد جيل دولوز بذاكرته إلى هذه اللحظة بوصفها لحظة تأسيس «الصورة- الزمن» بما أن «الكليشيهات» لم تعد قادرة على الحفاظ على الأفلام كما هي، ولم تعد الشخصيات قادرة على التحكم في مصائرها بالطريقة التي استمرت في سنوات السينما الخمسين الأولى؛ إذ أصبح كثيرون يهيمون ببساطة في الأرض الأوروبية المقفرة، ويعملون عمل المراكز العصبية لتسجيل «الأحداث البصرية والصوتية الخالصة». ومع ذلك، لم يكن هذا الإدراك يحتاج انتظار صياغة دولوز؛ لأن هذه الأزمة كانت محددة في ذينك الزمان والمكان، في العنوان الكامل لبيان ألكسندر أستروك المحتفى به في مارس 1948: «من أجل طليعة جديدة: الكاميرا-القلم». كتب الكثير عن «الكاميرا-القلم»، وخصوصا عن المرونة المكتشفة حديثا للسينما، القادرة - كما يفترض - على التجريدات والتعبيرات الشخصية عن اللغة المكتوبة. لكن الجزء الأول من عنوان مقال أستروك «طليعة جديدة» هو الذي يستجدي الانتباه؛ لأنه يصف ثورة، ليست في شكل الفيلم ولكن في موضوعه.
لم يصف أستروك ثورة بقدر ما أشار إلى «التكوين» المتغير للأفلام المعروضة على الشاشات الباريسية بعد عام 1945، حينما أتيحت فجأة أفلام «الأمل»، و«قواعد اللعبة»، و«المواطن كين»، وانضم إليها فيلم بريسون «سيدات غابة بولونيا» («لي دام دي بوا دي بولوني»، 1945)، وفيلم جون كوكتو «الجميلة والوحش» («بيوتي آند ذا بيست»، «لا بيل إ لا بيت»، 1946). كانت هذه كلها أفلاما روائية طويلة، بل حتى تجارية، لكنها كانت مكثفة ومبدئية، مقارنة بأول جيل من الأفلام الناطقة. وكانت هذه الطليعة ألطف بوضوح من سلفها الجريء في عصر السينما الصامتة، حينما شوه مان راي، وفرناند ليجر، ومارسيل دوشامب، وجون إيبستين، وجرمين دولاك، ولويس بونويل، قواعد الشكل السينمائي أو دمروها، ليس فقط من أجل الشهرة، ولكن من أجل «خمس دقائق من السينما الخالصة» (سانك مينوت دو سينما بور) على الأقل (وهو عنوان فيلم من عام 1926). كان المخرجون الطليعيون في عصر السينما الناطقة أكثر تميزا بالتأكيد من أسلافهم المبهرجين، ومع ذلك، كانت طموحاتهم تضاهي طموحات لحظتهم التاريخية التي عرفت بالمقاومة والتحرير؛ حيث كانت الآمال المعقودة على السينما عظيمة بقدر آمال إعادة البناء الاجتماعي والسياسي عقب الحرب.
يظهر البعدان المزدوجان لمصطلح الطليعة - الاجتماعي والجمالي - في بيان بازان «دفاعا عن الطليعة» الذي أتى في مقدمة الكتالوج الفخم الذي أعد من أجل «مهرجان الأفلام المنبوذة»، وهو مهرجان مضاد لمهرجان كان، أقيم في مدينة بياريتز الفرنسية في صيف عام 1949. عرض هناك فيلم بريسون «سيدات غابة بولونيا» ضمن مجموعة من التحف السينمائية التي أسيء فهمها؛ مثل: «لاتالانت» (فيجو، 1934)، و«صفر للسلوك» («زيرو دو كوندوي»؛ فيجو، 1933)، و«آل أمبرسون الأجلاء» («ذا ماجنيفيسنت أمبرسونز»؛ ويلز، 1941). رأس كوكتو رسميا هذا الحفل من المخرجين الجريئين، وكان من بين أولئك الذين أتوا من باريس إلى هذا المنتجع الأطلنطي، مساعد بازان الجديد، فرانسوا تروفو، ذو التسعة عشر عاما الذي قابل لأول مرة صديقي إريك رومير الشابين مثله: جان-لوك جودار، وجاك ريفيت. وكان من شأنهم جميعا أن يبثوا الحيوية والأفكار في نوادي السينما الحديثة في باريس؛ مثل نادي «أوبجيكتيف 48» الذي نظم، قبل إقامة مهرجان بياريتز، عروضا أولى رائعة لأفلام مثل «بايسا»، حيث قدم روسيليني إلى جمهور فرنسي مذهول.
وكما كان مهرجان بياريتز يهدف لمواجهة مناخ مهرجان كان التجاري، استهدف مهرجان كان التصدي لصنوف الترفيه التي تنتجها هوليوود التي كانت تجتاح القارة الأوروبية. هذا الكفاح الأوروبي من أجل سينما مهمة فنيا ومستقلة خيض تحت راية «المخرج الأصيل». أصبح هذا المصطلح، الذي مثل إشكالية نقدية وقانونية منذ عشرينيات القرن العشرين، موضع تركيز بعد الحرب، بسبب الدمار الذي حل ببنية الاستوديو في أوروبا، وتداعيات قضية نقل ملكية استوديوهات باراماونت في هوليوود؛ حيث أصبح الكتاب والممثلون في حل من عقودهم، بينما أصبح المنتجون مضطرين إلى التفاوض مع «العاملين الإبداعيين» على نحو فردي. في فرنسا، وحتى قبل الحرب، كانت الإنتاجات الأكثر طموحا دائما ما تطرحها «فرق» مكونة من كتاب سيناريو، ومخرجين، وممثلين رئيسيين، وأحيانا مصورين ومؤلفين موسيقيين. كان هؤلاء «المؤلفون» الجمعيون يستأجرون الاستوديوهات بدلا من الإذعان لأوامر رؤساء شركات الإنتاج. أما بعد انتهاء الحرب، ومع اتساع تصدعات النظام السينمائي،
2
توقعت المواهب الجديدة أن تسيطر على النظام، مدفوعين بنقاد صاعدين مثل أستروك وبازان، اللذين عرفا، بتعمقهما في تاريخ السينما، أن الأفلام الطليعية تميزت بأنها أعمال أصيلة فريدة، ليست محل تفاوض ولا تحتمل التفاوض؛ وهكذا بعثا المصطلح مرة أخرى في عام 1948، لتعزيز تصور الفيلم الروائي الطويل بوصفه نتاج قوة إبداعية فريدة. لذا، كانت فكرة الطليعة وسيلة لمساعدة المخرجين على خوض إنتاجات بالحجم الكامل في زمن كانت فيه النظم الراسخة مهددة بوضوح.
صفحة غير معروفة