شكر وتقدير
مقدمة
1 - بحث الكاميرا في العالم
2 - استكشاف المحرر للشكل
3 - آلة العرض بوصفها مصباحا للمشاهد
4 - تطور موضوعات السينما
شكر وتقدير
مقدمة
1 - بحث الكاميرا في العالم
2 - استكشاف المحرر للشكل
صفحة غير معروفة
3 - آلة العرض بوصفها مصباحا للمشاهد
4 - تطور موضوعات السينما
ما هي السينما!
ما هي السينما!
من منظور أندريه بازان
تأليف
دادلي أندرو
ترجمة
زياد إبراهيم
مراجعة
صفحة غير معروفة
جلال الدين عز الدين علي
إلى ديفيد بروموفيتش وفرانشيسكو كاسيتي.
شكر وتقدير
جاء هذا الكتاب ثمرة الحلقات النقاشية التي قدمتها ضمن برنامج الدكتوراه في دراسات السينما في جامعة ييل. يعرف المشاركون في هذا البرنامج، على مدار السنوات الخمس الماضية، مقدار ما شاركوا به في تصميمه، وفي نقاشه، سواء أأعجبهم هذا أم لم يعجبهم. خضنا نقاشات حماسية حول ما كانت عليه السينما، وما يمكن أن تصبح عليه في حياتهم. أعرف أنهم استفادوا - وإن لم يكن بما يداني استفادتي - من قراءة أعمال كل من: جاريت ستيورات وماري آن دون وديفيد رودوفيك وفيفيان سوبشاك وديفيد بوردويل وفريدريك جيمسون ويوري تزيفيان وجيمس لاسترا وفيل روزين وروبرت راي وكريستيان كيثلي وتوم جاننج وإدوارد برانيجان، ومن مقابلتهم. كما استفادوا بقدر أكبر من زملائي الذين جعلوا برنامج ييل الناشئ نابضا بالحياة والنشاط. كما صقلت أفكاري بفضل المحادثات المستفيضة مع كثير من هؤلاء، وخصوصا: فرانشيسكو كاسيتي ونوا ستايماتسكي وجون ماكاي وتشارلز ماسر وبريدجيت بوكر وديفيد جوسليت. كانت مدينة تورونتو الموطن الثاني الذي ترعرعت فيه أفكار هذا الكتاب؛ إذ تبلور هذا الكتاب عام 2004 في مركز الدراسات الإنسانية في جامعة تورونتو؛ حيث نظم تشارلي كيل حلقة نقاشية مكثفة بحضور ستة طلاب موهوبين. وانتهى الكتاب عام 2009 في جامعة يورك؛ حيث دعتني تيمينوجا تريفونوفا لاختبار الفصول التي كتبتها، في مناخ فكري مثالي. وخلال تحضيري لكل هذه الحلقات النقاشية، نشأت أهم الأفكار التي عنت لي في حوار مثير مع أنجيلا دالي فاتشي، ومن محادثات مستمرة مع جيمس تويدي وناتاشا دوروفيكوفا ودانيل مورجان وبراكاش يانجر ولويس شوارتس. ثم يأتي دور توماس إلسيسر الذي كان دائما صاحب إدراك حاد، وذكاء بلا حد ، في ييل وعبر العالم. وينبغي أن يكون التبادل الأكاديمي دائما غزيرا ومفيدا هكذا.
علمني كثير من الباحثين الفرنسيين، بالمثال كما بالنقاش، أهمية وجود أكثر من توجه لنظرية الفيلم، ومن هؤلاء: ريموند بيلور وروجيه أودان وجاك أومو وميشيل لاني ومارك فرنيه وميشيل ماري وفيليب دوبوا. منذ سنوات مضت، شجعني جون ناربوني، وكذلك أندريه لابارت، فيما كتبته عن الناقد الفرنسي أندريه بازان، وكان رائعا البقاء على تواصل معهم. ذكرني حضورهم بغياب جانين بازان التي كانت صديقة عزيزة. يحزنني ألا أستطيع أن أرسل إليها ما كتبته. أود شكر كل من في دورية «كاييه دو سينما» التي زرتها مرارا كي أستحضر عبق تقاليدها، وأتحدث مع كلودين باكو وإيمانويل بوردو وجون ميشيل فرودون، الذين واصلوا ذلك التقليد على نحو مبهر ووسعوه، حتى حينما كانت ملكية الصحيفة تتبدل. ولعلها تصمد وتستمر في الإسهام في ثقافة فرنسا السينمائية الفريدة. ولسعادتي، قابلت جون ميشيل في أنحاء مختلفة من العالم، وخصوصا في نيو هيفن؛ حيث كان برفقته أكثر من مرة - بفضل دلفين سيل وساندرين بوتو، العاملتين في مكتب الخدمات الثقافية الفرنسية في نيويورك - أرنو ديبليشان الذي أصبحت أكثر إعجابا بأفلامه بعد أن سمعته يتحدث باعتزاز شديد عن بازان وتروفو وداني. لكن الفضل الأكبر أدين به لهيرفي جوبير-لورينسان؛ لمساهمته فيما نعرفه عن بازان، والطريقة التي سنفكر بها فيه في المستقبل. لا أدين له فقط بكثير من الأفكار المكونة لجوهر هذا الكتاب، ولكن أيضا بالطموح للبحث عن جانب من فكر بازان أكثر مدعاة للحيرة، ثم قراءة أعماله في ضوء معايير الماضي المحافظة، وبكامل عطائه. أخذني هذا المسعى إلى أماكن كثيرة، وأفلام كثيرة، وظل يفعل ذلك سنوات كثيرة - وإن لم يكن هذا كافيا بعد - بصحبة ستيفاني.
دعيت لاختبار بعض من هذه الأفكار بصورة مبدئية في معاهد عدة. دعوني أخص بالذكر بعض المحادثات التي لا تنسى في جامعة بيتسبرج مع كولين ماكيب، وفي جامعة ستانفورد مع سكوت بوكاتمان وبافلي ليوي، وفي جامعة كونكورديا مع مارتن لوفيفر، وفي جامعة فاندربيلت مع سام جرجس ، وفي جامعة كامبريدج مع ديفيد تروتر.
طبعت أقسام مختلفة من هذا الكتاب في مطبوعات مثل: «فيلم كوارترلي» المجلد 57 (العدد 3) والمجلد 61 (العدد 4)، و«سينماز» المجلد 17 (العدد 2)، وكتاب «عتبات السينما» (شيكاجو: أودين، 2007).
أما غلاف النسخة الإنجليزية من الكتاب والمأخوذ من كتاب «جمهورية الصور» لآلان وليامز، فهو مهدى من دار نشر جامعة هارفرد؛ وجميع حقوق الطبع محفوظة للرئيس وللزملاء في هارفرد كوليدج. وأعيدت طباعة غلاف كتاب «السينما الفرنسية: من بداياتها حتى الآن» لريمي فورنييه لانزوني بإذن من مؤسسة كونتنيووام؛ وحقوق الطبع محفوظة لكونتنيووام إنترناشونال بابليشينج جروب، 2004.
دادلي أندرو
مقدمة
صفحة غير معروفة
هدف دراسات السينما
لا يظهر جوهر أي شيء في البداية، ولكن في منتصف الطريق، أثناء تطوره، حينما تتأكد قوته.
جيل دولوز، «السينما 1»
1
ما هي السينما؟ دعوني أريكم!
هذه هي المهمة السامية لهذا «البيان»، وهي مهمة أود إنجازها بالاستعانة بأمثلة كثيرة؛ ففي نهاية المطاف، تجسد سعي بازان في 2600 مقال «راجعت»، بكل ما تعنيه الكلمة، عددا ضخما من الأفلام من جميع الأنواع. لكن لهذا الكتاب مهمة أخرى؛ فحتى لو كانت هناك مساحة كافية، فلن أذكر الكثير من الأفلام؛ لأنه ليس أي عنوان ننتزعه من آلاف العناوين التي تتدفق كل عام عبر أجهزة العرض يفي بالغرض؛ وليست كل لفة من أشرطة السيليولويد المصورة تنتمي إلى صنف «السينما» وفق فهمي لتعريفها.
بالطبع، يتعلق الأمر بالتعريف. لذا، دعوني أتحدث بطريقة مباشرة: أخذت السينما شكلها المحدد عام 1910 تقريبا، وبدأت تتشكك في تكوينها في وقت ما في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. لست أول من أصدر هذا الإعلان المتأخر عن ميلادها؛ فقد فعل ذلك إدجار موران عام 1956 في كتابه «السينما أو الإنسان الخيالي»؛ إذ عنون أحد فصوله «تحول السينماتوغراف إلى سينما».
2
والواقع أن موران كان يذكر بتوسع فكرة طرحها أندريه مالرو في مقاله في عام 1940 بعنوان «مخطط لسيكولوجية السينما» الذي ميز بفعالية بين العروض «التقديمية» الجذابة التي أنتجها اختراع الأخوين لوميير وبين «التمثيلات» المكونة من تجميع لقطات تستغرق المشاهد، لكنها تبدو مستقلة عنه.
3
صفحة غير معروفة
وقد برر جيل دولوز في عام 1983 رفض هنري برجسون في عام 1908 للآلة، بالإصرار على أن الفيلسوف لم يأخذ في اعتباره إلا آلة «السينماتوغراف»، ولم يكن قد شعر بعد بالفرق الذي تمثله السينما التي انبثقت بعد ذلك بفترة قصيرة بوصفها طفرة كاملة.
4
صمم دولوز مصنفه المذهل لأنواع الأفلام، مصرحا بمزاعم كبرى عن براعة هذا الفن، مع بدء إدخال العمليات الرقمية في أساليب الإنتاج في الاستوديو، وحينما كانت شرائط الفيديو قد بدأت في تغيير ملامح التوزيع والعرض. بعد دولوز، ظهرت طفرة جديدة سميت إجمالا «الوسائط الجديدة»، وهي التي وضعت هيمنة السينما المتفاخر بها موضع الشك، على أقل تقدير.
والواقع أن دراسات السينما التقليدية تمر بحالة دفاعية؛ لأن «فكرة السينما» آخذة في التغير من حولنا. يجمع الدارسون الشباب، وهم يراهنون على المستقبل، ببلوجرافيات تتحدث عن «اضمحلال السينما وموتها»؛ ويستخلصون دروسا من كتاب سيجفريد زيلينسكي المعنون بجرأة ب «رؤى سمعية: السينما والتليفزيون بوصفهما محطتين في التاريخ».
5
هل مرت السينما بالفعل بتحول لا علاج له؛ لكونها حساسة جدا للتغيرات في التكنولوجيا والثقافة (أكثر حساسية من الرواية على سبيل المثال؟) حتى لو كان هذا صحيحا، فأنا أعتبر أن السينما مميزة داخل نطاق الظواهر السمع-مرئية. يهدف هذا التمهيد إلى فك بعض الخلط في الأفكار المتبقية عقب موجة المد الرقمي. بعد ذلك، يمكنني رسم مخطط جمالي للسينما لا يدين بأي شيء لما هو رقمي، وإن كان من الممكن أن يتعايش مع التكنولوجيات الجديدة ويستفيد منها. في حقيقة الأمر، ليس المد الرقمي موضع نقاش في هذا الكتاب بقدر «خطاب المد الرقمي» الذي قد يقلل بعضه بتكبر من مركزية السينما نفسها أو يتجاوزها.
لا أقصد هنا تنفير المخلصين لمقولات ما بعد الفيلم أو ما قبل السينما بالقول إننا ندرك ما الذي كانت السينما تظنه عن نفسها حينما كانت تتقدم دون أن يتساءل أحد عن هويتها وقدرتها، وحينما حققت إدراكا مكتملا لمكانتها وإمكانياتها، وزادته تفصيلا. يستطيع المرء أن يشير إلى التنوع الكبير في الصيغ التي تندرج تحت أسماء مثل «بدايات السينما» و«الوسائط الجديدة» ويتمتع بتميزها؛ ويركز في الوقت نفسه مع ذلك على ما أصبحت عليه السينما في أيام مجدها وما لم تزل عليه، كما سأوضح. لذا، دعونا نضع المعيار العام نصب أعيننا، ونركز على الهدف دون أن نبدي حنينا إلى الماضي أو نكوصا. فالأفلام التي طورت شكلا متماسكا بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرت فوق القمة سبعين عاما، بوصفها الشكل الفني الأشهر والأكثر حيوية، تبرز بقوة للمشاهدة والمراجعة. ما هو المرشح الآخر الذي يمكن أن يعرفه زيلينسكي بأنه «محطة في التاريخ»، باستثناء الفيلم الروائي الطويل القوي الذي يرى أنه سد الباب لفترة أطول مما ينبغي، مانعا دخول أي وسائط أخرى؟ ماذا أيضا في أذهان النقاد حينما يقولون إن السينما في اضمحلال فيما عدا الأفلام الروائية الطويلة كما عرفناها ودرسناها؟
بالطبع، طالما كانت هناك أنواع أخرى من الأفلام التي تمثل «أفكارا عن السينما» مختلفة عن هذا النوع السائد. ماذا سنسمي منتجات العقد الأول من عمر وسيط السينما، حينما لم تكن كلمة «مبتكر» تنطبق فقط على من يطلبون براءات الاختراع، ولكن أيضا على الحرفيين الذين صنعوا الأفلام، ورواد الأعمال الذين مولوها، ووجدوا جماهير (أو كونوها)؟ أيا ما كان الاسم الذي أطلق على هذا الوسيط، فقد تطور مرتبطا بالممارسات الصحفية والترفيهية والعلمية، وحتى الروحية، التي أثر كل منها في صناعة الأفلام الوليدة وفي مشاهدتها، كل بطريقته. يحدد اسم «سينما العروض الجذابة» فكرة ما عن السينما، كانت منتشرة في تلك الفترة. ويتضمن وينظم استخدامات معينة للتكنولوجيا، وممارسات معينة لصناع الأفلام والعارضين، فضلا عن عادات المتفرجين ورغباتهم التي تتجلى في شهادات كتبها صحفيون ومعلقون ثقافيون؛ بل إنه يتضمن بالفعل، وعلى نحو خاص، البروتوكولات والقوانين التي أرسيت لتنظيم هذه الظاهرة الجديدة.
أصبحت «سينما العروض الجذابة» منذ تطويرها في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، فكرة قوية ومميزة عن السينما. وبغض النظر عن النتيجة، فإن التنوع الرائع الذي ضمته هذه الفكرة المتميزة، حل محله تدريجيا نمط قصصي منظم، أو حول إلى هذا النمط، ثم أصبح بعد ذلك ما سمي «النظام الكلاسيكي»، أو «نظام الاستوديو». ولا تنطبق هذه الفكرة فقط على صناعة ترفيه متكاملة، ولكن على تصور لناتج هذه الصناعة البراق، وهو الفيلم الروائي الطويل. وسواء أصدر هذا الفيلم من أحد استوديوهات هوليوود الثمانية، أم أنتج في أي مكان في العالم، في صورة «الأفلام الاعتيادية»، فإن السينما الكلاسيكية سيطرت على فترة ما بين الحربين العالميتين؛ وبالفعل، مثلت النمط السائد بعد ذلك بفترة طويلة (ولم تزل تعرض، وتستحوذ على نصيب كبير من الشاشات في مجمعاتنا السينمائية اليوم). لكن بحلول عام 1965، أدرك أي شخص له اهتمام عميق بالسينما قيود المفهوم الكلاسيكي. حتى في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، تنافس كثير من الأفلام «غير الاعتيادية» مع الأنواع السائدة، وعادة ما كانت تدعمها الأفكار السياسية أو الجمالية للمنتجين المستقلين أو مؤسسات الدولة. وبمزيد من الإلحاح، سألوا: كيف ينبغي أن تعمل الأفلام في المجتمع؟ وكيف ينبغي أن تصنع وتشاهد؟ وكيف ينبغي أن يكون شكلها وصوتها؟ منذ عشرينيات القرن العشرين حتى ظهور «الموجة الجديدة». كانت هذه الأسئلة يجاب عنها ببدائل جريئة ومتحفظة في آن واحد، حادت بعيدا عن العرف السائد الذي كان هناك إحساس مع ذلك بأنه مهيمن، إن لم يكن حتميا.
وخلال العصر الذهبي لنظام الاستوديو، بقيت أقوى الأفكار البديلة عن السينما، باستثناء الرسوم المتحركة، حية في أنماط غير روائية؛ مثل: الوثائقيات والأفلام التجريبية والأفلام القصيرة، وكذلك في الأفلام التعليمية والصناعية وأفلام الهواة. كل تلك الأنواع، وكذلك الأفكار المستفيضة المتعلقة باستخدامات السينما وقدراتها التي وضعت موضع التطبيق، تجبرنا على النظر إلى الوسيط السينمائي نظرة شاملة وواسعة؛ حيث تحتفظ بمساحة يمكننا رسم مخطط لها على هيئة دوائر متحدة المركز، تقع على مسافات مختلفة من الهدف المركزي، وهو الفيلم الروائي الطويل. هنا، نتبع خطى أندريه بازان الذي ربما أعجبته «عبقرية النظام»، وكتب بكثرة عن تشارلي تشابلن وبريستون ستورجس ووليام وايلر، فضلا عن أفلام الغرب، لكنه شعر بأنه يجب عليه بالقدر نفسه الاحتفاء بالرسوم المتحركة (مثل أعمال نورمان ماكلارين) والمجموعات الأرشيفية (باريس 1900)، وأفلام جون بانلوفي العلمية الغريبة القصيرة. مع ذلك، فإن التركة النقدية - التي منحت طابعا مؤسسيا - المحيطة بالأفلام الروائية الطويلة، تسببت في أكثر النقاشات حدة وقوة في نظرية الفيلم، وهذا بلا شك بسبب التبعات الاجتماعية لشيوع هذ الأفلام، وتداخلها السهل مع جماليات الرواية والمسرح، وكذلك ارتباطها بسوق الترفيه في العالم كله.
صفحة غير معروفة
مثل هذه النقاشات، سواء أكانت بسبب أفكار آتية من داخل عالم الفيلم الروائي التخيلي، أم بفعل تحدي النماذج التي تحيط به من الخارج، جعلت دراسات السينما أحد أكثر المجالات المفعمة بالنشاط في العلوم الإنسانية على مدار العقود الخمسة الماضية. واحتمال اضمحلال هذه النقاشات هو أدعى للقلق من التحول المحتمل لموضوعها؛ ذلك لأن فهمنا المتزايد النضج للطريقة التي عملت بها الأفلام، وكيف أصبحت تعمل بهذه الطريقة، يمكن أن يرشد دراسة أي «سمع مرئيات» تجذب انتباهنا، سواء تلك التي كانت موجودة قبل ظهور الأفلام أو تلك التي ظهرت في هذا القرن الجديد. ومثل عامة الجمهور، انجذب الدارسون والمفكرون نحو السينما الروائية بسبب حجمها الكمي المجرد، وبسبب آثارها النفسية الاجتماعية، وبسبب الجهود الإبداعية الذي بذلها أولئك الذين سعوا لتغيير مسيرتها من داخل الوسيط أو من خارجه. انحرف كثير من أفضل العقول في العلوم الإنسانية عن مساعيهم الأدبية أو الفلسفية أو الثقافية الاجتماعية أو التاريخية لتفسير طبيعة أكثر وسائط القرن العشرين مهابة. لقد أنتجوا في الكثير من الأحيان مقولات ومواقف معقدة وإبداعية وحماسية، كما أنتجوا طريقة في التفكير، ونموا غريزة للنظر والاستماع. وحتى إذا كان معظم ما كتب يمكن تجاهله بلا خسارة حقيقية، فإن هذا الخطاب - هذا الدفع لفهم كيفية عمل الفيلم الروائي - قيم. وسيكون معنى إدراج هذا داخل فكرة أشمل عن تاريخ السمع مرئيات، أو تبديده في مجال الدراسات الثقافية المثير للارتباك، أو أن يصبح - على سبيل المثال - مساحة اختبار أخرى لدراسات الاتصال، هو فقدان شيء كانت قيمته مستمدة دائما من الكثافة والتركيز اللذين تستدعيهما الأفلام وتستلزمهما أحيانا.
شجع ظهور التكنولوجيا الرقمية زيلينسكي وآخرين على رفع أبصارهم عن السينما التقليدية بوصفها الهدف الرئيسي لما أخذ اسم دراسات السينما. وبالفعل، يبدو العمل الأكاديمي مشتتا، على الأقل لحظيا ؛ حيث حيدت مسائل الوسائط الجديدة والعمليات الرقمية الموضوعات النظرية الأخرى في المنشورات والمؤتمرات أو احتلت موقعها. ظهرت مجموعة أخرى من التصورات في كل مستوى، من الإنتاج إلى المشاهدة. وبدلا من تأييد التصريحات التي ظهرت في الألفية الجديدة بشأن التحول الكامل لنطاق الوسائط الإعلامية أو شجبها، دعونا نستغل فرصة الانعطاف الرقمي للسينما الذي لا يمكن إنكاره، لإعادة التفكير في ماضي الفن السينمائي وقدرته الكامنة.
تفترض جماهير اليوم أن صناع الأفلام يصنعون تجارب سمع مرئية بالكامل، مشجعين فكرة أن الأفلام لم تكن دائما إلا مجموعة من المؤثرات الخاصة، أو ما يسمى «أثر السينما»، كما عنون شون كيوبيت كتابه الطموح.
6
هذه هي الرؤية التي يقترحها ليف مانوفيتش بطريقة مباشرة؛ فالأفلام من وجهة نظره أدوات تخدم هدفين؛ وهما: «الكذب، والتمثيل».
7
وبتقديمها بهذا الشكل، تتوافق السينما على نحو مثالي مع التاريخ السياسي والاجتماعي، بينما تنشر الأفلام، بوصفها «آلات عرض الأشياء المرئية»،
8
إما لبناء تمثيلات مصممة سلفا، مضللة لا محالة (أو «متحيزة»، بتعبيرنا)، وإما لاستخراج رد فعل مباشر ومحسوب من المشاهد.
أقصد هنا تقديم فكرة جد مختلفة عن السينما، وهي فكرة لا تتوافق مع أي من عنوان كيوبيت أو نصوص مانوفيتش: فالسينما ليست - أو لم تكن دائما - وسيطا يتعلق بالمؤثرات الخاصة في المقام الأول. الأفلام، التي يهتم بها بعضنا أكبر اهتمام، ويعتبرونها محورية لمشروع السينما كله، لها مهمة أخرى مختلفة تماما عن الكذب أو الإثارة؛ تهدف للاكتشاف والالتقاء والمواجهة والإفشاء. إذا كان هناك شيء يتعرض للخطر بسبب الثقافة السمع-مرئية الرقمية الجديدة، فإنه الشهية لهذه اللقاءات التي يمكن أن تنتجها هذه الرحلات الاستكشافية. من الواضح أن كثيرا من الناس يشعرون أن العالم، والبشر الذين يسكنونه، تم استكشافهم بما يكفي، ولم يعد هناك ما ينتظر إعلانه، على الأقل في وسيط يهيمن عليه الترفيه والإعلان.
صفحة غير معروفة
من قبيل المفارقة أن عددا من رحلات الاستكشاف السينمائي العظيمة الأولى انطلقت في خدمة الدعاية والإعلان. فقد مولت إحدى شركات تجارة الفراء فيلم «نانوك ابن الشمال» («نانوك أوف ذا نورث»؛ روبرت فلارتي، 1922)؛ ومولت شركة ستروين فيلم «الرحلة السوداء» («بلاك جورني»، «لا كروازيير نوار»؛ ليون بوارييه، عام 1924). وكما هو الحال مع صناع الأفلام، تحكم فلارتي وبوارييه فيما لديهما من مواد، وتلاعبا بها ببراعة من أجل التأثير، لكنهما قاما بهذا بقدر من الصعوبة الواضحة؛ حيث تضمنت الصور والأصوات المسجلة نوعا من المقاومة، محدثة اضطرابا معبرا ومهما، أعتزم إبرازه في هذا الكتاب. أصر إدجار موران على ما يأتي تحديدا: أنه بينما تعكس كل الفنون أحلامنا ورغباتنا، تفعل السينما هذا بشكل فريد من خلال العالم المادي نفسه، أو - بمزيد من الدقة - من خلال مضاعفة هذا العالم. لذا فإن كل الأفلام هي عمليات استحضار خارقة تنتمي لنا جزئيا، وجزئيا فقط. هذا الشد والجذب بين ما هو بشري وبين ما هو غريب، بين ما هو شخصي وبين ما هو دخيل، الذي استغل في كل الفترات، وفي نماذج وأنواع لا حصر لها، تزايدت أهميته خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، حتى ظهور «الموجات الجديدة» العديدة في ستينيات القرن العشرين، التي يتجلى فيها بقوة.
يشجعني جاك أومو على حصر نطاق بحثي في: «الفترة من عام 1945 حتى عام 1960 التي هي بلا نزاع أغنى الفترات، من وجهة نظر تاريخ الأفكار، بشأن الفن السينماتوغرافي.»
9
في الحقيقة، أخطط لاستكشاف ما قبل هذه الفترة، وبكل تأكيد، سأستكمل استكشاف تبعات هذه الفترة وصولا إلى وقتنا الحالي. لكن أومو على حق؛ ففترة ما بعد الحرب هذه، التي كان أندريه بازان يمارس فيها هيمنته المعطاءة، ساعدت في تعميق وجدان السينما ووعيها الذاتي، وفي الوقت نفسه، وسعت سلطانها الثقافي حتى أصبحت تقف بفخر بجانب الفنون الأخرى بوصفها مصدرا للفلاسفة والمنظرين وعلماء الاجتماع، وأي شخص مهتم بالموقف الإنساني في الحداثة.
تنطبق فكرة السينما التي عبر عنها بازان بأفضل طريقة على كل الأفلام والأصناف والأنواع، في كل الفترات. إلا أن أبرز الأمثلة التي تظهر هذه الفكرة على نحو واع تخطر على البال؛ مثل «نانوك ابن الشمال»، و«الأربعمائة ضربة» («ذا فور هندرد بلوز»، «ليه كاتر سون كوب»، 1959) المهدى إلى بازان. وإذ يخطو خارج نظام الاستوديو، بل يخطو حقا خارج الاستوديو؛ فإن فيلم «الأربعمائة ضربة» وكذلك بطله الصغير، يبحثان عن الاكتشاف في حد ذاته. في أحد المشاهد الرمزية، يتجول أنطوان دوانيل، أثناء تغيبه عن المدرسة مع «زميله في الفصل»، في حديقة ملاه؛ حيث يدخل آلة طرد مركزي بشرية. يجسد الممثل الصبي جون بيير لو شخصية دوانيل بطبيعته على أرض الواقع، ويجلس في وضع مستو على جانب الجهاز الدوار من الداخل. يبدو هذا الصبي - الذي لم يكن ممثلا بعد - الممدد في وضع النسر كمشهد أمام أعيننا، متسمرا وعاجزا، لكنه يظهر شعورا نقيا على مركبة تدور كالمنظار المحيائي، وهي تحركه. تعرض لقطة عكسية العالم كما يراه دوانيل، انقلبت الكاميرا المعانقة للحائط رأسا على عقب، ودارت بمعدل رهيب. يترنح لو الدائخ خارجا من باب الجهاز الأسطواني، يتبعه فرانسوا تروفو، الذي نلمحه في الخلفية زميل الصبي أو أخاه الأكبر، أكثر من كونه المخرج. في النهاية، سيخرج لو - هذا الصبي المجهول الذي اختير من بين مجموعة من الصبية في صيف عام 1958 - في وضع دوراني إلى نهاية الأرض، حيث يلتفت ليحدق في تروفو والمشاهد في لقطة ثابتة نهائية. ينتهي الفيلم بالخفوت التدريجي على لقطة مقربة لصبي تلقى تعليمه في الشوارع بمواجهة العالم ومواجهتنا. لن يتعرض لتلاعب «المخرج» بشكل كامل، ولن نعرفه نحن تماما.
المشاعر النقية لصبي. «الأربعمائة ضربة».
وجه لو ذو الأربعة عشر عاما، بمنزلة أيقونة لغموض السينما، وسجل للقائنا المبهم مع صبي حقيقي يؤدي دورا في قصة مسقطة على مدينة باريس منذ 50 عاما. اللقطة الثابتة، والتقطع الميكانيكي للأسطوانة، وظهور المخرج الخاطف؛ كل هذا يرفع فيلم «الأربعمائة ضربة» لمستوى تجريدي يخالف واقعية صوره (الصبي والمدينة) والقصة التي يعرضها. هذا فيلم عن تطلعات السينما بقدر ما هو عن تطلعات جون بيير لو الذي لن تعود حياته كما كانت أبدا. إنه تسجيل لمصاعب صناعة الأفلام ومتعها، وكذلك مصاعب المراهقة ومتعها، واللحظة التي ينفصل فيها الصبي اليافع عن والديه. في صدفة رمزية ومؤثرة، توفي بازان في 11 نوفمبر 1958، وهو اليوم الذي بدأ فيه تصوير «الأربعمائة ضربة». سارع تروفو ليكون بجانب معلمه ومربيه في لحظاته الأخيرة. الفيلم الذي طالما قرئ على أنه سيرة ذاتية هو أيضا فيلم عن فكرة السينما التي دعمها بازان ونقلها للابن.
في لحظة وعي ذاتي أخرى، يذهب لو وصديقه ليختبئا في السينما ثم يعودان لاحقا إلى دار العرض، وينزعان صورة للممثلة الفاتنة هارييت أندرسون التي تؤدي دور مونيكا في فيلم «صيف مع مونيكا» («سمر ويذ مونيكا»، «سومارن مد مونيكا»، 1953). من وجهة نظر تروفو وكل النقاد المتجمعين من حول «كاييه دو سينما» في سنواتها الأولى، كانت مونيكا أيقونة للنزعة الجنسية المتحررة، وكان برجمان رمزا لصناعة الأفلام المتحررة. بانجذابه للفيلم نفسه، قال جودار إن بازان علمه كيف ينتبه ويفهم العلاقة المبهرة بين الممثلة والمشاهد غير المتاحة في السينما الكلاسيكية. تومئ هارييت أندرسون لنا برأسها بخبث، مثلما تفعل جولييتا مازينا في نهاية فيلم «ليالي كابيريا» («ذا نايتس أوف كابيريا»، «لي نوتي دي كابيريا»؛ فيليني، 1957)، ودعوني أضف: مثل جون بول بلموندو في بداياته في فيلم «منقطع الأنفاس» («بريثلس»، «آ بو دو سوفل»؛ جودار، 1960).
ممثلة تخرج من تقمص الدور. «ليالي كابيريا».
من الواضح أن بازان أقر الخيال المراهق لممثلة تخرج من الدور، وتكاد تغادر الشاشة، لتتفاعل مباشرة مع المشاهد المتيم. لكن دعونا لا نتسرع في ذم المراهقة، وهي فترة التساؤل والوعي بالذات. أدرك بازان وجودار أن الممثل شخص وشخصية في الوقت نفسه، ليس حيا فقط داخل العالم التخيلي، ولكنه، بوصفه إنسانا، حاضر لدى المشاهد أيضا. لا ينتقص الوعي بالذات من الخيال (بالضرورة على الأقل) لكنه يسمح لنا برؤية الشرارة التي تقفز من العالم إلى داخل العمل. «لإعادة اختراع السينما» أو «لصنع فيلم وكأنه للمرة الأولى»؛ مثل هذه المقولات يمكن أن يعيد اقتباسها فقط من عرفوا تاريخ السينما عن ظهر قلب، ومخرجي «الموجة الجديدة» الذين درسوا في المعهد السينمائي الفرنسي، الذين اعتبروا أنفسهم بفخر أول جيل يمتلك مثل هذه المعرفة. كان الوعي الذاتي يفهم بشكل متناقض بوصفه شرطا لإعادة السحر للسينما.
صفحة غير معروفة
سينما باحثة.
تقلب مزاج لو وبراعته الوقحة يمثلان جنون السينما النابض في دورية «كاييه دو سينما». هذا التوجه، أو دعونا نسميه «خلقا»، كان يرى أنه يسم السينما الفرنسية بأسرها بدرجة كبيرة، حتى إن لقطة «الأربعمائة ضربة» الثابتة الشهيرة تحدق للخارج من غلاف كتاب التأريخ النموذجي لهذه السينما القومية.
10
وكما رأى آلان وليامز، مؤلف هذا التأريخ، بوضوح؛ فالمراهقة فترة نضوج وتمرد وشهوانية أيضا. توضح غزارة الموجة الجديدة النمو المفاجئ الذي مر به الوسيط السينمائي في مفهومه الذاتي الموسع بعد الحرب العالمية الثانية؛ ذلك أن الكاميرا أخذت تحيد عن المنطقة المألوفة، وتواجه عالما صادما في أغلب الأحيان؛ حادت، كما يفعل المراهقون حينما يحيدون عن الأعراف، عن «سينما الأب» التي حجبت الشباب الفرنسي عن الجنس الحقيقي، والموت الحقيقي، والتاريخ الحقيقي. ربما تبدو مواجهة نظرة مونيكا في دار العرض ثم سرقة صورتها بجرأة واصطحابها إلى المنزل لتصبح «فيتيشا» إشارة صبيانية؛ لكنها إشارة إلى لقاء يمكن أن تؤدي قيمته إلى اكتشاف ما، وأحيانا إلى مواجهة. هذه هي القيمة التي يحدد مسار تحليقها مدار هذا الكتاب.
سينما مغرية. •••
بينما يهدف هذا المدار أن يشمل السينما في كل الأزمان والأماكن، فأنا أجعل غالبيته، لأغراض الملاءمة والوضوح، تمر فوق فرنسا، أكثر الملتقيات صخبا بنقاشات الأفكار السينمائية المتنافسة، وأكثر الدول مجلات سينمائية، وأوسعها تنوعا في الأفلام المعروضة، وكما يزعم، أعمقها تغلغلا للفن في الثقافة عموما. ومن أجل الملاءمة والوضوح كذلك، أستعين بأمثلة ناضجة، من قبيل فيلم «المصير الخرافي لأميلي بولان» («لو فابيلو دستان داميلي بولان»؛ جونيه، 2001) الذي أستشهد به مرارا. كيف يمكنني أن أتجنب أميلي التي يزين وجهها المبهج غلاف دراسة مسحية حديثة عن السينما الفرنسية،
11
تتنافس مع كتاب آلان وليامز في مبارزة للصور الأيقونية. يفتخر مخرج فيلم «أميلي»، جون بيير جونيه، بتقديم فكرة محدثة عن السينما، ترفض بوضوح فكرة «الموجة الجديدة»، وتتعرض لانتقادات مجلة «كاييه» خلال ذلك. وبينما اكتشف تروفو لو في تجربة أداء لكثير من صبية الشوارع الفقراء، فإن جونيه، مثل آلاف آخرين، أطال النظر إلى أودري تاتو على لوحة إعلانات فوق ميدان بلاس كليشي.
12
هذا التعارض البسيط، على الرغم من دلالته، سيؤدي إلى تعارضات أخرى لا حصر لها، لا تسفر فقط عن فيلمين مختلفين، ولكن عن فكرتين متنافستين عن السينما تتواجهان اليوم في باريس وجميع أنحاء العالم.
صفحة غير معروفة
أعني بكلمة «فكرة» تصورا مهيمنا يمكن الإحساس به في كل مستوى من مستويات ظاهرة السينما. دائما ما تمتلك القرارات التي يصنعها المنتجون بعض التصورات الضمنية في جوهرها. وعادة ما يتوافق هذا مع ما يفهمه الجمهور عن تجربتهم أو ما ينبغي أن تكون عليه. تدعم الأنماط (الروائي والوثائقي والحركي) والأنواع السينمائية (الخيال العلمي والدرامي الوثائقي والرسوم المتحركة) فكرة ما عن السينما. وهذا ما يفعله كذلك النقاد، والمدونات، والمحادثات العابرة بين الأصدقاء وهم يناقشون ما شاهدوه؛ إذ يستدعون، بل ويوضحون، القيم التي هي على المحك. أوضح جيمس لاسترا كيف أنه في وقت ميلاد الصور المتحركة، ومرة أخرى في الانتقال إلى السينما الناطقة، كان المخترعون والمنتجون والنقاد يحملون أفكارا لم تتوافق تماما.
13
والأمر نفسه يصدق بلا شك على انتقالنا إلى التقنية الرقمية. على الرغم من ذلك، وخلال هذه الانتقالات، وعلى مدار تاريخ وجود الوسيط السينمائي، أثارت السينما (وأكدت أحيانا) ادعاء بشأن الواقعية لم يقدر أي نوع من الفنون قبلها على إثارته. وكان بازان، من بين كل من تفكروا في هذا الادعاء بتعمق، هو الأفضل إدراكا للطريقة التي أزاحت بها السينما، أو يمكن أن تزيح بها، سيطرة الإنسان على العالم الطبيعي والاجتماعي الذي نسكنه، العالم الذي نراه في الأفلام. لا تستنفد الاستراتيجيات التي اشتهر بدعمها، مثل اللقطات الطويلة، والتصوير بالعزل العميق، والقيم الموعودة من مثل هذه التقنيات والأساليب (كشف المتغاضى عنه، والغموض، والغريب) ما تتيحه هذه الفكرة. تجد كل فترة سينماها عالقة بالفعل في شبكة معينة من التكنولوجيات والأساليب والأذواق والأنواع السينمائية؛ وتنطبق فكرة بازان عن السينما فيما وراء شبكة ما بعد الحرب العالمية. وأنا آخذ على محمل الجد واحدة من أكثر مقولات بازان اقتباسا، وهي: «باختصار، فإن السينما لم تخترع بعد.» كان «سعي» بازان لتتبع الطريقة التي يفضي بها ماضي السينما إلى مستقبلها مركزا في سؤال «ما هي السينما؟» وأنا أعتبر هذه «مهمة» لا ينبغي التخلي عنها في فترة تختلف عن فترة عام 1958، حينما شرع فيها بازان. حتى لو كان «وجود السينما يسبق جوهرها»، بحيث لم يكن بازان ليقيم وزنا لأي إجابة عن سؤاله، ولا ليقبل عنوان كتابي المستفز عن عمد، فربما ما زال يمكننا قول شيء جوهري بشأنها. لذا دعونا نقل هذا: إن السينما الحقيقية، مهما يكن مظهرها أو زمنها، لها علاقة بما هو حقيقي. •••
لكي نكتشف هذه الفكرة القوية عن السينما ثم نواجهها، أقترح أن نقوم برحلة قصيرة في مجال خضع بالفعل لسيطرة نظرية الفيلم التقليدية، ولرعايتها على وجه الخصوص. وبينما يمكن تقسيم النقد الأدبي إلى أفكار متعلقة بالنصوص وأفكار متعلقة بالقراءة، مالت نظرية الفيلم للانقسام إلى ثلاثة ميادين من البحث، تتطابق مع مراحل أو لحظات التشكل الثلاث التي يمر بها أي فيلم وهي: التسجيل، والتركيب، والعرض. ويمكن ربط كل مرحلة بجهازها الأساسي المخصص لها: الكاميرا، والموفيولا (آلة التحرير)، وجهاز العرض. يمكن الإلقاء باللوم في محنة نظرية الفيلم، إن لم تكن محنة السينما نفسها، على التعديل والتحديث أو التوقف عن الاستخدام لكل واحدة من تلك الآلات بعد أن حلت تقنية القرن الواحد والعشرين الرقمية محل آلات ترجع بالفعل إلى القرن التاسع عشر. يعتقد أن التقنية الرقمية تتقن أي عمليات كان سلفاها التناظري أو اليدوي معدين لأدائها. تحسن التقنية الرقمية تلك العمليات وتوسعها وتبدلها، مؤدية إلى تحقق السيطرة الكاملة. وتدفعنا مثل هذه الثورة التقنية للعودة إلى العمليات الأساسية للسينما، مرحلة تلو أخرى، لرؤية ما تبقى من ظاهرة السينما بعد التغييرات الكاسحة التي حدثت على مدار العقدين الماضيين.
هذه العمليات هي واجهات تفاعلية بين البشر وعالمهم الخارجي. كل واحدة من تلك الواجهات التفاعلية المسماة بناء على الجهاز السينمائي المناسب لها، تستحق فصلا كاملا من النقاش، في ظل وجود ضغط ناجم عن ظهور التقنية الرقمية على الأفكار التي نضجت في منتصف القرن العشرين. ويفرض فصل إضافي نفسه، وهو مخصص لأولوية «الموضوع» والمكان الخاص الذي يشغله في نظرية الفيلم وفي النقد؛ لأنه إذا كان بازان على صواب، فإن السينما حققت ذاتها - وتستمر في التطور كما هي - من خلال عمليات مواجهتها وتكيفها مع العالم الذي صنعت من أجله. تشكل الموضوعات الرئيسية للفصل الأخير، أي افتقار السينما المتأصل للنقاء وميلها للتكيف، الاتجاه العام لمهمة هذا الكتاب المتناقضة: تحديد السمات الدائمة لظاهرة لا توجد إلا مرتبطة بشيء متجاوز لها.
هوامش
الفصل الأول
بحث الكاميرا في العالم
صناع الأفلام السيئون لا يمتلكون أي أفكار، بينما يمتلك صناع الأفلام الجيدون أفكارا أكثر مما ينبغي، وأما أعظم صناع الأفلام فيمتلكون فكرة واحدة فقط. وهذه الفكرة الراسخة تتيح لهم الثبات على الطريق وهم يجتازون مفازة دائمة التغير وجذابة دائما. وثمن هذا معروف: عزلة من نوع خاص. وماذا عن النقاد؟ ينطبق الأمر نفسه عليهم [لكن لا قيمة لأي منهم] كلهم إلا واحدا. بين عامي 1943 و1958 كان أندريه بازان هذا الواحد ... في العالم الفرنسي ما بعد الحرب، أصبح بازان على الفور وريثا وسلفا في آن واحد. رمزا للريادة والممارسة. (سيرج داني، «كاييه دو سينما»، أغسطس 1983)
هل الكاميرا ضرورية؟
صفحة غير معروفة
بلا أي آلة تسجيل من أي نوع، عرض إيميل رينو صورا متحركة في مسرحه عام 1889. بالرسم والتلوين مباشرة على ألواح زجاجية، صنع رينو مشاهد قصيرة احتاج كل منها اثني عشر لوحا. في النهاية، توصل إلى طريقة يمكنه بها تدوير الزجاج على بكرات، وصنع ثلاثة مشاهد، يتكون كل واحد منها من 500 لوح زجاجي. تعد هذه الألواح بألوانها الزاهية أعمالا مبكرة ثمينة في فن التحريك. حتى بعد عام 1895، تجنب بعض «صناع الأفلام» الجريئون الكاميرا تماما. في عشرينيات القرن العشرين، عرض مان راي وطور ورق تصوير، ورتب عليه مصفوفة من الأجسام. وعرضت مخططاته الرايوجرافية عموما في المتاحف بجانب الصور التقليدية، وكأنهما صنعا بالأسلوب نفسه. استخدم طريقة مان راي عدد من فناني الأفلام التجريبيين، أشهرهم ستان براكيج الذي لصق أجنحة فراشات وأشياء أخرى على شريط فيلم خام، ثم طبعها من أجل فيلمه الرائع «ضوء الفراشة » («موثلايت »، 1963).
مثل هذه الأمثلة الرائعة لفن السينما تبرز بوضوح لأنها مبتكرة ونادرة. وهي تنتمي لما يسمى بجدارة النموذج التجريبي بسبب أنها تختبر تعريف الوسيط السينمائي وهويته الدقيقين. لكنها كذلك تعتمد على التعريف النموذجي للسينما في جزء من تأثيرها. ما الذي سيحدث للسينما لو استغنت أفلام كثيرة أو كل الأفلام عن الكاميرات؟
1
في واحد من أكثر أفلام القرن الحادي والعشرين المتقدمة تقنيا، وهو «بيوولف» (2007)، تلعب الكاميرا دورا مساندا فقط. فالشاشة نادرا ما تعكس المعلومات المرئية التي حملها الضوء في الأساس خلال عدسة الكاميرا، بدلا من ذلك، فما نراه هو صنيعة إعادات ترتيب كمبيوترية لعدد من العناصر البصرية المساهمة، وبعضها فقط منتج بالتصوير السينمائي. يضع الكمبيوتر صورة شاملة ربما تفصل بقدر أكبر بالتصوير الافتراضي؛ لهذا فإن لقطة واحدة طويلة (لم تصور قط بكاميرا في الواقع) تصبح لقطة رئيسية توجه لقطات متتالية مستمدة منها عبر عمليات إعادة ترتيب هندسية. يمكن النظر إلى «المشهد» وكأن كاميرا تحركت من أجل التقاط صور مقربة، أو انتقلت لالتقاط صورة بزاوية 90 درجة، أو ارتفعت ثم دارت في حركة حلزونية؛ لكن كل هذا بلا كاميرا. تستخدم أجهزة الواقع الافتراضي التي نقابلها في المتاحف أو حدائق الملاهي - وكذلك معظم ألعاب الفيديو - الكاميرات بوصفها وسائل مساعدة من حيث الأساس في المرحلة الأولى من إنتاجها. وفي مجال الترفيه السمع-مرئي، تكون الكاميرات في أفضل الحالات غير ضرورية مع تطور تكنولوجيا الكمبيوتر.
على أي حال، فإن تحريك شرائط السيليولويد كان دائما يعني صنع سينما أقل اعتمادا على الكاميرا. بعد تصميم آلاف الصور على أسطح ذات بعدين، تخضع هذه الصور للتلاعب والتتابع لتظهر حية ومتحركة في فراغ ثلاثي الأبعاد حينما تعرض بأكبر سرعة ممكنة على الشاشة. هذا هو أحد الأسباب، وإن لم يكن الأهم، لإعلان شون كيوبيت أن السينما كلها من حيث الأساس نوع من التحريك، وليس العكس.
2
وإذا كانت هناك حتى الآن ضرورة للكاميرات لصنع الصور المتحركة والأفلام التقليدية كذلك؛ فالسبب الوحيد وراء هذا هو تحويل ما صنعه الفنان على شريط السيليولويد بطريقة ملائمة ليخرج من جهاز العرض. واليوم، تعرض الشاشات الصور المتحركة التي صممت على الكمبيوتر مباشرة، مستغنية عن الكاميرات. ترى هل يمكن أن تتبع السينما كلها هذه الطريقة يوما ما؟ يعتبر تصريح كيوبيت أحد أذكى التصريحات المستفزة التي أثارتها التقنية الرقمية المقصود منها تغيير المشهد النظري تماما.
وبالفعل فإن المنظرين التقليديين؛ إذ أدركوا أن الصور المتحركة ربما تنتج بلا تدخل مادي، تحول هاجسهم إلى ذعر. ألا تتطلب السينما مصدرا أو مرجعا في العالم؟ وحتى لو التقطت الصور المتحركة بالكاميرا (الرقمية)، فهي تخضع للتلاعب بها متى أريد هذا، كما يحدث في الرسوم المتحركة. مع ذلك، فإن الأفلام الوثائقية لم تكن في صدارة النقاش كما هي الآن، حيث عادت الأسئلة عن الأثر، والذاكرة البصرية، والأصالة - ملمحة في الغالب إلى أندريه بازان - للمثول بقوة. قلل فيليب روزن وتوماس إلسيسر، على سبيل المثال، من شأن الحديث المنذر بنهاية السينما الذي واكب ظهور الكاميرات الرقمية الأولى، قائلين إنها في الأساس تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تؤديها أسلافها التناظرية وهي تسجيل العالم الظاهر أمامها.
3
وكما فعلت في الماضي عموما، فإن الإشارات الضمنية أو الضمانات غير النصية بشأن مصدر صورها، تصحب معظم الوثائقيات المصورة رقميا، منبهة الجمهور لموثوقيتها. ويعتمد النوع المنشق المسمى بالوثائقيات الساخرة على القاعدة التي تتباهى بها.
صفحة غير معروفة
ذلك أن الجمهور استعاد ثقته بالصور المتحركة عموما. ولم لا؟ يشتري عدد لا حصر له من الآباء الكاميرات لتوثيق ميلاد أطفالهم، أو أعياد ميلادهم في أفلام منزلية يختلف نمطها تماما عن الصور المتحركة. ليست الكاميرا لازمة للحياة العائلية فقط، ولكن للوله الشديد بالهوية العائلية والتماسك العائلي. يعد تليفزيون الواقع هوسا بالترفيه يعتمد بالقدر نفسه على الكاميرا. تراقب مدن العصر الحالي بالكاميرات أكثر مما كانت تراقب في أيام شريط السيليولويد. وكما أحيت الكاميرا واقعة الاعتداء على رودني كينج، فإن مجال الكاميرا اتسع؛ لأن نشر الديمقراطية يجعل كل سكان العالم مراسلين محتملين. تبث الأخبار العاجلة صورا لوجه سارق بقليل أو كثير من الوضوح، التقطتها كاميرا مخبأة فكرت وكالة ما في تركيبها . اضطرت محاكم القانون إلى إعادة تقييم حالة الدليل السمع-مرئي بسبب هذه الزيادة في مصادر الأدلة المرئية، ولأنه محل للشك بسبب سهولة التلاعب به.
4
يبدو أن الكاميرا أصبحت اليوم أكثر من مجرد بقايا ثقافة سينمائية آخذة في التلاشي.
فهم صناع الأفلام الروائية سريعا قوة الكاميرا الرقمية واستغلوها. يضمن فيلم فيرنر هيرتزوج «الرجل الأشيب» («جريزلي مان»، 2005) بطريقة فعالة سجلا رقميا كمادة أولية في أعماق بحثه السيليولويدي في حياة موضوعه، وهو نصير للطبيعة مهووس، ومصور هاو التهمه دب كان يحب تصويره.
5
وفي الفيلم الياباني «الحلقة» («رينج»، «رينجو»، 1998)، يسبب شريط فيديو الموت لمن يشاهدونه. في هذه الأمثلة وكثير غيرها، تتنافس صور من كاميرات هواة مع تلك التي صورت بشكل احترافي، مقدمة مستويين وجوديين مختلفين. ومما يثر الدهشة أن الصورة الإلكترونية تشير ضمنيا في جميع الأحيان تقريبا إلى مستوى بدائي من الواقعية يجب أن يتأقلم معه شريط السينما الروائية. نعم، «وجودية الصور الفوتوغرافية» أصبحت مركز النقاش مرة أخرى؛ حيث تصبح أهمية هذا الوجود والأسئلة المتعلقة بمرحلة التسجيل في صناعة السينما متزايدة القوة.
مسلمة «كاييه»
دعونا نرسم خطا عند مرحلة التحريك من غير كاميرا. بالأحرى، دعونا نرسم الخط الذي يفصل تصورا للسينما عن آخر. يرقى ما أسميه «نهج كاييه» إلى مكانة دراسة لنسب «فكرة عن السينما»، سبقت فكرة السينما بوصفها قصة مصورة، وتتعايش الآن جنبا إلى جنب مع فكرة «السينما بوصفها قصة مصورة متحركة»، وهو ما يمكن أن أصف به معظم الترفيه السمع-مرئي الحالي. انطلاقا من مؤسس الدورية، أندريه بازان، مررت مجموعة نقاد «كاييه دو سينما» المرموقين (تروفو، وروفيت، ورومير، وشابرول، وجودار) الفكرة إلى سيرج داني، أبرز خليفة لبازان، حتى وصلت إلى جان ميشيل فرودون، محرر الدورية في وقت كتابة هذا الكتاب. إنها فكرة مجسدة في أفلام المخرج الإيطالي روبرتو روسيليني، ومن خلاله تنتقل إلى مخرجي «الموجة الجديدة» الأصلاء الذين ما زال أربعة منهم يعملون؛ وتستمر في إلهام مخرجين (أمثال أرنو ديبليشان، وأولفييه أساياس، وخو شياو شيان، وعباس كيارستامي، ولارس فون ترير، وجيا تشانج -كه ، وكثيرين غيرهم في أنحاء العالم). زعم داني ذات مرة أن هذه الفكرة قائمة على مسلمة؛ لذا دعونا نبدأ بهذه المسلمة: «مسلمة «كاييه» هي أن للسينما صلة جوهرية بما هو واقعي، وأن الواقعي ليس ما هو ممثل - وهذا أمر نهائي.»
6
ألقى داني بهذه المسلمة في وجه ما يسمى «سينما المظهر» التي ظهرت في ثمانينيات القرن العشرين، تلك التوليفات الساحرة، من «المغنية» («ديفا»، 1981)، و«مترو الأنفاق» («صبواي»، 1985) التي أتت من صناعة الإعلانات، وكان من شأنها أن تفضي في النهاية إلى ظهور «أميلي» (المصير الخرافي لأميلي بولان، 2001). وأنا ألقي بها في مواجهة خطاب مفرط في الثقة عن التقنية الرقمية.
صفحة غير معروفة
دفع القلق الناتج من احتمالية حدوث تحكم إخراجي كامل في الصورة والمشاهد مناصري الواقعية مثل أنيت كون وجون-بيير جيون، وكذلك صناع أفلام «دوجما 95»، إلى نشر مفاهيم بازان، في فعل دفاعي للحفاظ على الخط الآخذ في التلاشي ضد هجوم سينما ما بعد فيلمية متبجحة، تتفاخر بتلفيق الصور والتلاعب بها وبالجماهير كما تشاء. وبمواجهة الكمبيوتر القوي، يتمسك التقليديون بأن الكاميرا أداة فريدة تلتقط التكوين البصري للحظة ما، بما قد يكشف حقيقتها. هذه هي النظرة الكاشفة إلى السينما التي كان بازان متعلقا بها على الدوام، وإن لم يكن هذا دقيقا تماما.
وربما كان جيون أشد المؤيدين اليوم للاحتفاظ بهذه النظرة؛ إذ يستنكر الطريقة التي حولت بها التقنية الرقمية الانتباه من التصوير إلى المونتاج.
7
حينما كان صانع أفلام كلاسيكي يصرخ: «هدوء في الموقع!» كان يتخلص من كل ما هو غير ضروري، حتى يعزل المكان المقدس، ولحظة الإبداع المقدسة؛ لتثبيتهما على نحو دائم على شريط السيليولويد. كان الممثلون يبذلون أقصى جهدهم، ويعيدون المشهد مرة تلو أخرى أحيانا حتى يخرج المشهد بطريقة جيدة، بينما تتحرك الكاميرا وطاقم الصوت في صمت وفق مسارات متقنة ليجعلوا المناخ في موقع التصوير (سواء في استوديو أو في موقع خارجي) يشبع الصورة أثناء تسجيل أدق انثناءات الممثلين؛ اللحظة المهمة التي تغدو فيها ابتسامة ما مرتبكة، أو يرتعش فيها جفن، سواء عن قصد أو عفويا . أما اليوم، فمواقع التصوير صاخبة، ويمكن أن يصبح مشهد فردي مهلهل أساسا للمشهد النهائي بعد تصحيحه، سواء بالتحرير داخل الإطارات نفسها (بإبدال إيماءة خاطئة أو إزالة شائبة ما) أو بتكوين المشهد كله من أجزاء المشاهد للوصول إلى شيء لم يحدث قط في الواقع. في أكثر إنتاجات اليوم تكلفة، غالبا ما يحل تصوير الممثلين أمام شاشات خضراء محل تفاعلهم وجها لوجه واستجاباتهم البدنية لتصميم المشهد. ما زال سحر السينما موجودا - فهذا ما يجذب الملايين إلى دور العرض - لكن مصدره لم يعد في موقع التصوير، ولا في اللحظة التي سجلت فيها الكاميرا شيئا لا يتكرر. فقد انتقل السحر إلى الكمبيوتر، حيث تكون الموسيقى التصويرية تلفيقات إضافية مصنوعة من عشرات المسارات الصوتية، وتكون الصورة مركبة من عناصر عدة، وليست وحدة متكاملة.
قدمت الحجة المؤيدة للسينما التقليدية الفوتوغرافية بالفعل في مشهد فيلمي في قلب فيلم ريتشارد لينكليتر «حياة يقظة» («ويكينج لايف»، 2001)، وهو العمل الذي يصنف، للمفارقة، بأنه فيلم صور متحركة. من منظور الطائرة المروحية، تهبط «الكاميرا» للأسفل لتقدم الشخصية الرئيسية في الفيلم التي تقترب من دار عرض تعلن ظلتها اسم المشهد: «اللحظة المقدسة». وحالما تتطلع الشخصية من أحد مقاعد دار العرض، يسهب مفكر (يقدم صوته ونص كلمته كافح زاهدي) يظهر على الشاشة داخل الشاشة في الحديث عن رؤية أندريه بازان الغامضة للعالم. يشير زاهدي إلى أن الكاميرا فقط هي التي تستطيع أن تعيدنا إلى الواقع الكامل الذي يحيطنا لكننا نتجاهله عموما؛ إذ ننغمس في مشاريعنا الشخصية الصغيرة. تستطيع الكاميرا أن تصلنا بعالم المظاهر اليومية، وبآنية لحظات فردية غنية لدرجة أنها تسخر من الإيقاع المحموم الذي تتطلبه خططنا منا. يشكل هذا رؤية عامة بقدر كاف لأفكار بازان، أو نزعة «بازانية» مبسطة،
8
ولا بد أن لينكليتر يعلمها؛ لأنه يضعف من هذه العبارات المبتذلة بالتصريح بها خلال مونولوج سريع لشخص مفرط النشاط، ظاهر الاعتداد بالذات، ولا يفصح عما بداخله بسهولة. ثانيا: لا يكاد زاهدي يمثل شخصية على الإطلاق، لكنه صوت مرتبط بمجموعة من الخطوط النابضة المتموجة التي تتخذ شكلا بشريا؛ لأن فيلم «حياة يقظة» مصنوع بتقنية الروتوسكوب من بدايته لنهايته. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الصور المتحركة ربما يكون قائما على التصوير السينمائي، فهو يعطي الانطباع بأنه خاضع للتلاعب، حتى وزاهدي يعظ بجمالية قائمة على تجنب التلاعب.
بدلا من نسب آراء زاهدي إلى بازان، ربما يكون من الأفضل نسبها إلى إريك رومير الذي كانت السينما برأيه دائما فن «الإظهار». تشيد مقالات رومير المبكرة مثل «العصر الكلاسيكي» بالسينما وتعلي من شأنها على الأدب؛ لأنها لا تقدم لنا دلالة فعل ما ولكن رؤية الفعل. نرى شخصية ما (ممثلا) وهو يؤدي شيئا ما، ونرى فورا ملاءمة هذا الفعل أو خطأه.
9
لم يستغل أي مخرج «التجلي»، بالمعنى الذي قصده جويس، أكثر مما فعل رومير، سواء أكان هذا كشفا لحقيقة من حقائق الطبيعة - مثل الصمت الذي يسبق الفجر في فيلم «المغامرات الأربع لرينيت وميرابل» («فور أدفنتشرز أوف رينيت آند ميرابل»، «4 أدفنتور دي رينيت إي دي ميرابل»، 1987)؛ أو لون الشمس الغاربة في فيلم «الشعاع الأخضر» («ذا جرين راي»، «لو رايون فير»، 1986) - أم حقيقة موقف اجتماعي ظنت الشخصية أنها فهمته (كل أفلام الحكايات الأخلاقية الست). لا يعرض رومير فقط دراما بين شخصيات، ولكن دراما بين لغة محملة بالإشارات بكثافة، وصور رائقة، مثلما يحدث في اللحظة الرئيسية في فيلم «ركبة كلير» («كليرز ني»، «لو جينو دو كلير»، 1970)، حينما يصف برنارد فعلا بسيطا شهدته الكاميرا، وهو لمسه ركبة فتاة وهما يحتميان من عاصفة مطيرة مفاجئة، ويحاول تقييم أهميته. بشكل عرضي، تنتهي مجموعة أعمال رومير النقدية المعنونة «ذائقة الجمال» بقسم طويل عن جون رينوار الذي يعتبر أستاذ رومير بلا منازع، رغم تعارض مزاجيهما. تعلم رومير جنبا إلى جنب هو وبازان إكبار الجودة الحسية في لقطات رينوار، وجرس الأصوات - المسجلة مباشرة دائما - ومفارقة قصر نظر الشخصية في عالم غني ومتسع.
صفحة غير معروفة
الحقيقة والمظهر. «قواعد اللعبة».
لكن رؤية رومير لرينوار هي نفسها رؤية قاصرة، مثل رؤيته لبازان. فيما يخص رينوار، عالم المظاهر يخدع في أغلب الأحيان، ولا يرقى إلى الحقيقة في أي حال. انظر لخطأ كريستين أثناء تجسسها على زوجها وعشيقته السابقة بعد رحلة الصيد في فيلم «قواعد اللعبة» («ذا رولز أوف ذا جيم»، «لا رجل دو جو» 1939). على الرغم من منظارها المكبر - بل بسبب هذا الجهاز الذي يرمز للكاميرا - تسيء فهم ما تراه، فتجلب التعاسة للجميع. يتمسك بازان بالرؤية نفسها حينما يكتب في مقال «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية»: «يستمر النقاش بين أنواع الواقعية في الفن بسوء فهم، وخلط بين الجماليات وعلم النفس، بين واقعية حقيقية - هي الحاجة لإعطاء تعبير دال للعالم بجوهره وماديته - وبين واقعية زائفة للخداع، تهدف إلى خداع العين (أو العقل في هذه الحالة)؛ محتوى واقعية زائفة بتعبير آخر بمظاهر وهمية.» لو أمكن أن تكون المظاهر واقعية زائفة لدى بازان ورينوار (ورومير كذلك)، فما الذي حدث لتجلي العالم الطبيعي الذي صنعته الكاميرا؟ هذا سبب وجيه لكون أفلام رومير تتسم بالثرثرة.
لا شك أن بازان عبر عن نظرة إيجابية للصورة السينمائية المجردة. تستطيعون رؤية هذا من خلال كثير من مقالاته، ومع ذلك فهو ينحاز إلى المخرجين الذين لا «يؤمنون» بالصورة ولكن بالواقع.
10
وهو يثبت مرة تلو أخرى أن الواقع الذي يحرزه أي فيلم هو بالضبط ما ليس ظاهرا في صوره. هذا هو بازان الذي تمثل الشاشة من وجهة نظره السالب الفوتوغرافي للواقع، شيئا أساسيا، ولكنه تمهيدي للواقع الذي يسعى المخرج لتقديمه. «بازان الغامض»، دعونا نسميه هكذا، عاد إلى النقاش الجاد عن السينما بفضل جيل دولوز وسيرج داني، اللذين أدركا كلاهما ولع بازان بفلسفة تتعلق بالافتراضي، أصبحت مهيمنة. لم يخف دولوز أبدا ما يدين به نهج «كاييه» ولبازان صراحة، حينما توصل إلى نظرية للصورة الافتراضية في كتابه «الصورة-الزمن». وعاد داني ليعتنق أفكار بازان مرة أخرى في الثمانينيات من القرن العشرين، بعد أن ترك «كاييه» وبدأ في تقييم المجتمع التليفزيوني الذي كان يعلق عليه لجريدة «ليبراسيون». كتب داني قائلا: «رؤية بازان للسينما - المرتبطة بشكل وثيق بفكرة السينما بوصفها «فن التقاط الصورة» - تواجه اليوم بحالة للسينما لا تلتقط فيها الصورة بالضرورة من العالم الواقعي. تتجاهل الصورة الإلكترونية ما تعكسه مرآة الواقع. وللمفارقة، فبسبب هذا تظل أفكار بازان جوهرية.»
11
لذا، دعونا نرجع إلى مسلمة «كاييه» تلك: «أن للسينما صلة بما هو واقعي، ومع ذلك، فالواقعي ليس ما هو ممثل.» الواقع أن داني تبنى هذه القاعدة من رومير الذي أقر رثاؤه لبازان في عدد «كاييه» لشهر يناير 1959 بصراحة بأن «كل مقال، وكذلك مجمل أعماله، يمتلك قوة برهان رياضي حقيقي. فكل عمل بازان يتمحور حول فكرة واحدة، هي تأكيد «الموضوعية» السينمائية، بالطريقة نفسها التي تتمحور بها الهندسة حول خصائص الخط المستقيم.» ويذهب داني لما وراء رؤية رومير الإقليدية حينما يلمح بأن فهم بازان للسينما ربما يكون أقرب لعلم التفاضل والتكامل، حيث تصبح الأعداد السلبية والتخيلية فاعلة، وحيث يصبح الخط المقارب هو أقرب ما يمكن من الموضوعية. كان داني من أوائل من أدركوا أن بازان، إلى حد كبير على الأقل، هو منظر الغياب، وكانت التصنيفات السارترية الواضحة عن الوجود والعدم تفسح المجال لديه لمفاهيم وسيطة بأسماء مثل «الأثر» و«الانشقاق» و«الإرجاء». ولنتذكر أن بازان زعم أن صور الأشخاص الفوتوغرافية لا تمثل موضوعاتها؛ ولكنها «ظلال رمادية أو بنية، تشبه الأشباح ... يسكن فيها الوجود المربك للحيوات في لحظة محددة في زمن امتدادها.»
12
تواجهنا السينما بشيء صامد، بالتأكيد، ولكن ليس بالجسد الصلب للعالم بالضرورة. من خلال السينما «يظهر» العالم؛ أي أنه يتخذ الصفات والمكانة التي تميز «شبحا».
الأشباح هي بالضبط ما يتحدث بازان عنه في مقاله «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية» الذي يعتبره بعض الكتاب أكثر المقالات التي كتبت عن السينما تأثيرا، وهي كلمة نادرا ما تذكر. تخيلوا تأسيس نظرية فيلم لا تعتمد فقط على الصورة، ولكن على ما هو طيفي أيضا! يتكرر ظهور الطيفي في مجمل عمل بازان، حتى في المراجعات السريعة للأفلام الأقل أهمية. في مراجعة خاطفة لعنوانين غير مهمين، وضع إصبعه على قيمة غير ملموسة شعر بها فيهما؛ حيث وجد أن بعض الأفلام «مثل مدفع جوفه محاط بالبرونز» تعرف بالفراغ في مركزها. في الفرنسية ، يسمى جوف المدفع «روحه»؛ لذا، وبالقياس، يمكن تعريف جوهر أفلام معينة بأفضل ما يكون بالمادة المحيطة به، ما هو واضح على الشاشة معلنا عن روح خفية.
صفحة غير معروفة
13
من وجهة نظر بازان، المركز الفارغ لأي تمثيل بصري هو الروح الخاوية للمومياء، وهو المثال الذي يبدأ به بازان مقاله الرائع: «تكمن في أصل الرسم والنحت عقدة مومياء ...» تقبع المومياء مغطاة بالضمادات الملفوفة حولها مثل أمتار من شريط فيلم
14
على عمق كبير داخل هرم مجوف، تحميها متاهة (دعونا نسميها خطوط الحبكة) من سارقي القبور (دعونا نسميهم النقاد). لسنوات، قيل: إن واقعية بازان الساذجة اعتبرت أن المرئي هو الواقعي، الصورة الكاشفة التي نصل إليها بعد حل متاهة السرد أو تبديدها؛ في حين كانت دائما روح المومياء هي ما كان يبحث عنه عبر ما يظهر على الشاشة. ولا عجب أن بازان أصبح أشد المدافعين عن فيلم روسيليني «رحلة إلى إيطاليا» («فوييدج تو إيتالي»، «فوياجيو إن إيتاليا»، 1953). في مشهد ذروة الفيلم، يظهر قالبان من الجبس لجثتين يتم استخراجهما بالتدريج في مدينة بومبي الرومانية ليخاطبا (ويتهما) بطلي الفيلم إنجريد برجمان وجورج ساندرز. وهكذا فإن الفراغ في قلب السينما يستجلب امتلاء العالم الأخلاقي الذي يخاطبنا.
كشف القلب الفارغ. «رحلة إلى إيطاليا».
يعد مقال بازان عن «الأنطولوجيا» المكون من إحدى عشرة صفحة الأهم من بين أربعين مقالا كتبها أثناء الاحتلال النازي لفرنسا. وبجانب المنشورات التي يحفل بها نادي السينما، والمراجعات المنشورة في الصحف التي كانت هجومية حقا، كان مقال «الأنطولوجيا» مختلفا تماما؛ حيث أعد بعناية شديدة من أجل نسخة خاصة من مجلة «كونفليونس» المرموقة بعنوان «مشكلات التصوير». وبدلا من الطاقة الشبابية التي كانت تميز معظم كتاباته المبكرة - وهو المتوقع من متحمس للسينما في الخامسة والعشرين من عمره - يجد القارئ نوعا من السوداوية في المقال عن التصوير. والواقع أن نشر هذا المقال تضمن الموت والتأجيل؛ حيث اجتاحت المليشيا الفرنسية المطبعة في مدينة ليون التي كان من المفترض أن تخرجه في مايو عام 1944؛ وأعدموا الناشر، وتسببوا في تأخير ظهور المقال لما يزيد على العام.
15
وأنا أرجع تاريخ تصور فرضية المقال الرئيسية بشأن الأثر الفوتوغرافي إلى أوائل عام 1944؛ لأنه يظهر نقلة مذهلة حينما يقارن بمقاله الأكاديمي بعض الشيء، الذي نشر في نوفمبر عام 1943 بعنوان «من أجل جمالية واقعية». ربما كان مناخ الاحتلال بدأ في التأثير فيه، بإضفائه قناعا خادعا من الهدوء، وهمساته، وشفراته السرية، ومقاومته، وتخفياته. أثناء القبوع في غرف باردة بعد بدء حظر التجوال، كتب مقال «الأنطولوجيا» متمرد فقير، أكاديمي فاشل، مبهور بالظواهر الوجودية. لكن دعونا نترك جانبا سيرة الحياة من أجل الفيلولوجيا، لنوضح بالتفصيل (بالمعنى الفوتوغرافي) أساس هذا المقال، الذي يقبع في أساس الحداثة السينمائية.
اقتفاء أثر بازان
داخل نادي السينما الذي كان يديره في متحف «ميزون دي ليتر» بالقرب من جامعة السوربون، كان بازان متحمسا من آن لآخر لرؤية جون بول سارتر حينما يحضر. هل تواصل هو وسارتر؟ بعد مرور بضع سنوات سيتجادلان بشأن فيلم «المواطن كين» («سيتيزن كين»، 1941)، وينشر سارتر عن طيب خاطر توبيخ بازان له في مجلة «لو توم مودرن».
صفحة غير معروفة
16
لكن في عام 1943، لا بد أن بازان الشاب كان سعيدا لمجرد أن يمنح وجود سارتر الهيبة لناديه الناشئ. كان ذلك العام الذي ظهر فيه كتاب سارتر «الوجود والعدم: مقال عن علم الوجود الظاهراتي». لكن عمل سارتر السابق، أي مقاله الممتاز عن فوكنر، وكتاب «التخيل»
17
الذي نشر في عام 1940، هو ما يمكننا أن نشعر به في مقال بازان المتشكل بتمهل؛ حيث يناقش علم ظواهر الصور الناشئة عن اللوحات والتصوير. ويمكن الشعور بتأثير كتاب «التخيل» على امتداد مقال «الأنطولوجيا». وكان للكتاب أن يساعد أيضا رولان بارت في تأليف «الكاميرا لوسيدا» وهو كتاب مكرس بوضوح لكتاب «التخيل». وبالفعل، فإن مقال بازان «الأنطولوجيا» يتوسط ما بين سارتر وبارت. يستشهد به بارت - الذي كان دائما بخيلا في ذكر مراجعه - مرة واحدة، ورغم ذلك فهو في قلب كتاب «الكاميرا لوسيدا». نشعر بفكر سارتر في كتابات بازان، وبفكر بازان في كتابات بارت. وهكذا تنتقل الحياة الآخرة ذات الطابع الشبحي الكامنة في الحضور النصي.
18
ظهر لي ذلك الشبح وأنا أعد مقدمتي النسختين المعاد إصدارهما من جزأي كتاب «ما هي السينما؟» فحصت عن قرب نسخة بازان الشخصية من كتاب «التخيل» التي منحتني إياها أرملته تذكارا. وبفحص الكتاب صفحة صحفة (باستثناء الصفحات - المهمة للغاية - التي لم يقرأها؛ وأعلم هذا لأنها لم تفتح بالسكين) وجدت تخطيطاته تحت الكلمات بالقلم الرصاص، وبعض تعليقاته في الهوامش. يبدو أن بازان اشترى هذا الكتاب مباشرة في أول عام لصدوره، وهو عام 1940. ويبرز بعض جمله وأمثلته في مقال «الأنطولوجيا». زعم بازان الجريء بأن «التصوير بطبيعته الخالصة ينبع من وجود الشخص المصور؛ إنه هو الشخص المصور»
19
يردد صدى ما ذكره سارتر الذي يبدأ قسما من كتابه بهذه الطريقة: «من خلال صورة بيير أتخيل بيير ... تظهر [الصورة] لنا في أغلب الأحوال كأنها بيير شخصيا. أقول: «هذه صورة لبيير»، أو باختصار أكثر: «هذا هو بيير».»
20 (وضع بازان خطوطا تحت هذا القسم بأكمله.)
في الفقرة الثانية من مقال «الأنطولوجيا»، يمكن للمرء الشعور بروح سارتر ترفرف عن قرب. يكتب بازان عن «الدب الطيني المخترق بسهم، الذي يفترض العثور عليه في كهوف ما قبل التاريخ، وهو بديل للحيوان الحي الذي سيضمن صيدا ناجحا.»
صفحة غير معروفة
21
استخدم سارتر الصورة نفسها، «تمثال الشمع المثقوب بدبوس، وثيران البيسون المقدسة المرسومة على الجدران لجعل الصيد وفيرا.»
22
وضع بازان خطوطا تحت هذه الجملة، ووضع الفقرة كلها بين قوسين، ثم غيرها ليخدم غرضه المختلف. أعلم أن بازان اشتبك مع هذا الكتاب لأنه في نسخته من «التخيل» المطوية بعناية عند صفحة 38، وجدت موميائي؛ ورقة من الملاحظات كتبها بازان بعناية وعنونها: «التصوير الفوتوغرافي؛ «الممثل التناظري»؛ «النظير» (سارتر)». يبدأ بازان ملاحظاته بقبول تفرقة سارتر بين الصورة بصفتها «لا شيء» شفاف، أو أداة تحيل نظير موضوعها مباشرة إلى الوعي، وبين فكرة الصورة بوصفها «شيئا ما» أبيض وأسود تتسبب خواصه المادية (علامات الإضاءة والظل) في رؤيتنا له بشكل لحظي في هيئة جسم؛ مثل أي جسم آخر، مثل بساط أو قطعة من ورق الحائط. لا يهتم بازان ولا سارتر بالصورة بصفتها جسما؛ لكن النظير هو ما يثير اهتمامهما كليهما، لكن النظير يشير إلى اتجاهين مختلفين، ويختلف هذان الرجلان في كيفية مناقشته. يرفعه سارتر مباشرة نحو التخيل حيث يثير هذا ارتباطات بطريقة متميزة من الأنواع الأخرى من الوعي بالصورة. أما بازان فيذهب في الاتجاه الآخر نحو مصدر الصورة، موضحا كيف أن نظير الصورة يهبط بنا مرة أخرى إلى العالم الذي انتزعت منه. برأي سارتر، تخفت الصورة بسرعة إلى العدم للدرجة التي تنجح فيها في جعلنا ننتبه إلى النظير الذي يستهلكه بدوره التخيل الحر حيث تفعل الذاكرة والعاطفة والصور الأخرى فعلها. أما بازان الأقل اهتماما بحرية الخيال فيركز على قوة الصورة في تضخيم إدراكنا أو ملاحظتنا، وهو ما «يعلمنا» ما لم تكن أعيننا لتلحظه وحدها. يوسع التصوير نطاق ما يسميه سارتر «التدرب على الرؤية»، وهو أمر نفاه عن الصورة العقلية. يقول بازان إن تخيلاتنا يمكنها استيعاب الواقع الذي تلمح إليه الصورة. خذوا، على سبيل المثال، الصور غير الاحترافية التي تؤخذ في لحظة وقوع كارثة أو خطر. في مثل هذه الحالات، ربما تبدي لنا الصورة القليل جدا لكنها تؤدي الوظيفة نفسها تماما التي تؤديها «النسخة السالبة» من «المغامرة المحفورة بعمق».
23
لا شيء أكثر من ذلك يمكن للمصور أن يصنع له فيلما من حدث نشعر بأن تأثيره أشد بسبب الصورة المهتزة والحذف. تعلمت أفلام الرعب أن تنتج أثر مثل هذه الصور المشوشة.
تتيح صفحة ملحوظات بازان مثالا مختارا بذكاء لصورة، وهي فرن لاندرو؛ المعروف باسم اللحية الزرقاء. هذا الجسم سيئ السمعة، نقلته الشرطة من مكانه الحقيقي في عام 1921، وهو قبو لاندرو، ليوضع في قاعة المحكمة؛ حيث استخدم لتأييد الادعاء. والآن، بعد مرور عقدين، أصبحت الصورة التي تبرز هذا الشيء وثيقة الصلة بقضية أخرى؛ قضية فلسفية. هكذا انتزع الفرن مرتين من السياق الذي اختير من أجل استحضاره (تلك الأوقات في القبو - وهي عشر مرات لتوخي الدقة - التي كان يشعل فيها، كما يقال، للتخلص من الضحايا النساء). يصف بازان الصورة بأنها «وثيقة»، تدخل من مكان آخر يعلن عن الحاضر ، واضعا حرية التخيل في موضعها الصحيح. بازان هنا أقرب كثيرا إلى برتون، ودالي، وباتاي، وبنيامين، منه إلى سارتر. في عام 1943، أطلق أصدقاء بازان عليه لقب سريالي ممارس،
24
ونشر جورج باتاي مقال بازان المعنون «أسطورة السينما الشاملة» في عام 1946.
25
صفحة غير معروفة
أما عن بنيامين، فإن بازان لا يذكره بالمرة، لكن لا بد أنه اجتذبته حاشية كتبها مالرو عن بنيامين في مقال «مخطط لسيكولوجية السينما»
26
الذي صدر عام 1940، وهو مقال حفظه بازان عن ظهر قلب، ويستشهد به في بداية مقاله المعنون «الأنطولوجيا». وبالفعل فإن الحاشية النهائية التي كتبها بازان في النسخة الأصلية من المقال التي صدرت عام 1945 تفصل أفكار بنيامين الشهيرة (دون ذكره) حول تجاوز اللوحات بفعل نسخها المصورة. درس كلا الرجلين بمثابرة أعمال بودلير الذي بشر بالوعي بالذات الاغترابي الحديث. أشاد كلاهما بما كان بودلير يخشاه، وهو اضمحلال أهمية العبقرية الفنية أمام شلال المجتمع الجماهيري التكنولوجي. على سبيل المثال، عبر كلا الرجلين عن الصدمة التي يمكن أن تحدثها صور من الماضي للحاضر.
27
ومثلما كان بازان يبحث عن أفلام تأتي إلى الشاشة بظواهر عجز الفن عن الاستيعاب الكامل لها، فإن بنيامين انتقى الوثائق المهملة وغيرها من فتات الحضارة ليتحدى «القصص الرسمية» الناعمة التي ينسجها الروائيون، والمؤرخون، والسياسيون بالطبع. بشعوره بأنه غريب، كان بنيامين منجذبا إلى تكنولوجيات من قبيل السينما، وإلى الحركات التقدمية مثل السريالية؛ لأنها تجاهلت الثقافة الكلاسيكية أو قوضتها. واعتبر أن رواية برتون «نادية» مهمة؛ لأنها كانت تعتمد على الصدفة لتسلط الضوء على أماكن وأشياء مهملة أو منسية أو خفية.
28
وضع برتون صورا في نص الرواية، وكانت صورا غريبة عن أشياء مثيرة للإزعاج، تفسر فجأة بلا مقدمات كلامه ورؤيته.
صورة فرن لاندرو من الصور التي يمكن لقوتها الكهربية التي تراكمت داخل الموقف الذي شحنها في البداية أن تشتعل بالشرر لتصعق المشاهد بقوة غير إنسانية.
29
توضح الصفحة الأخير من مقال «الأنطولوجيا» ولاء بازان: «من وجهة نظر السريالي، أنهيت التفرقة المنطقية بين التخيلي والواقعي. ينبغي الإحساس بكل صورة وكأنها جسم، وبكل جسم وكأنه صورة. لهذا فإن التصوير الفوتوغرافي تقنية مميزة للممارسة السريالية؛ لأنها تنتج صورة تسهم في وجود الطبيعة؛ صورة هي هلوسة موجودة بالفعل.»
صفحة غير معروفة
30
يفند بازان هنا بوضوح، باتباعه السرياليين، تصنيفات سارتر الأساسية للحضور والغياب باستخدام أثر هلوسة؛ وبرأيه، فهذه هي الحالة الاعتيادية للتصوير الفوتوغرافي. سيستهدف سارتر لاحقا السريالية ببعض من أشرس هجماته بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. كان بإمكان فيلسوف كلاسيكي مثل سارتر أن يرجع الأمور في عام 1943 لتصنيفين وهما «الوجود والعدم»، لكن، كما رد بازان بعد سنوات، «من وجهة نظر رجل الشارع ... يمكن أن تكون كلمة «الحضور» اليوم ملتبسة ... لم تعد كلمة مؤكدة كما كانت لأنه لا توجد مرحلة متوسطة بين الحضور والغياب ... من الخطأ قول إن الشاشة عاجزة عن وضعنا «في حضرة» الممثل. إنها تفعل هذا كما تفعله مرآة - يجب الاعتراف بأن المرآة تعيد حضور الشخص المنعكس فيها - لكنها مرآة بانعكاس متأخر، أو ورق الألومنيوم الذي يحفظ الصورة.»
31
يعتبر لويس-جورج شفارتس هذه المقولة نبوءة واضحة بفلسفة دريدا عن الأثر والإرجاء.
32
لا يتوقف بازان عند الصورة، وهي وسيط لم يناقشه مرة أخرى بشكل مباشر. في صفحة الملحوظات تلك، انتقل مباشرة للوثائقيات التي كتب أنها «تكمل» الوثيقة بوضعها في محيطها الزماني والمكاني. كان بإمكان الصورة أن تساعد السرياليين جيدا؛ لأنها تنتزع من السياق بالكامل. تكتسب صورة بوافار الشهيرة المقربة لإصبع قدم مفصول عن الجسد التي نشرتها مجلة باتاي «دوكيمون» قوة شاذة. علاوة على ذلك، فإن الصور جاهزة للانتقال لسياقات أخرى كما يحدث في مونتاج الصور. لكن كل إطار من فيلم وثائقي مصور بكاميرا 35 مليمترا يرتبط بالإطار المجاور له، وكل لقطة تشي بوجود علاقات تماس تصف عالما حقيقيا مترابطا. يجعلنا بازان نتأمل لقطة شاملة في قبو لاندرو؛ حيث يمكن أن يحتل هذا الفرن مكانه بين أشياء أخرى كان «اللحية الزرقاء» الغامض يجمعها أو يستخدمها. وقد يتبع ذلك لقطات له في بيته، ثم المبنى والحي الذي كان يقيم فيه. هذا النوع من التوثيق الكلاسيكي يثبت موضوعه في المكان، رغم أنه غائب عنا في الزمن. تقول الفيلسوفة الفرنسية ماري جوزيه موندزان إن الفيلم الوثائقي يتصور موضوعه بدلا من أن يتضمنه، ويحيط غيابه بالضوء والظل.
33
الصورة والفيلم - الوثيقة والوثائقي - كلاهما يفصلان بالتساوي عن موضوعاتهما من حيث الزمن. فمن خلال التصوير في يوم، والتحميض لاحقا، لا مفر من الشعور بهما على مسافة زمنية. وكلما زادت هذه المسافة زاد سحر الصورة في أغلب الأحيان؛ حيث تبدو روح الشخص الذي تصوره وقد التقطها الضوء والظل اللذان التقطتهما الكاميرا هما أيضا في لحظة معينة صارت بعيدة. يغير التليفزيون كل هذا، كما يشير بازان في الجملة الأخيرة المفاجئة في صفحة ملحوظاته؛ لأنه إذا ما عرض في التليفزيون «يصبح الوثائقي معاصرا للمشاهد» الذي «يدفع للمشاركة في حدث» يحدث مباشرة أمام الكاميرا. يعمل التليفزيون بشكل أساسي على عرض ما سجل في وقت سابق، لكن أهميته النظرية من وجهة نظر بازان تكمن في قدرته على عرض التواقت، وهو ما لم يزل يستغل في الأحداث الرياضية، وحفلات توزيع جوائز الأوسكار، والأخبار القصيرة خلال الكوارث، وهكذا. في آخر حياته القصيرة خاصة، حينما كان يضطر مرارا إلى لزوم الفراش، كان لدى بازان الكثير ليقوله عن التليفزيون، شأنه شأن سيرج داني الذي ترك مجلة «كاييه دو سينما» ليبدأ في النقد التليفزيوني. برأي الرجلين، فإن مشهد السينما المتأخر متأصل في طبيعتها التأملية بالأساس. تعود الصورة لنا بعد فترة، مرددة صدى من الماضي، وسامحة للمشاهد بأن يتأمله بدوره أكثر من أن «يشارك فيه» كما نفعل مع التليفزيون الحي. التليفزيون حاضر أمامنا، ومذيع الأخبار يتحدث إلينا في بيوتنا في هذه اللحظة عينها؛ بينما نتوجه إلى دار السينما حينما نريد، وننقل حينئذ إلى زمن آخر «يعاد تقديمه»، ولا «يقدم» مباشرة على شاشة عاكسة.
تستغل السينما الحديثة، من الواقعية الجديدة، مرورا ب «الموجة الجديدة»، وحتى يومنا، هذا الفرق في التركيب الزمني للصورة المرئية مرارا. وبينما يذكر فيلم «الأربعمائة ضربة» بسبب صورته النهائية الثابتة - الخاتمة الفوتوغرافية للفيلم - فإنه يحوي أيضا المشهد المميز الذي يظهر فيه أنطوان دوانيل يرد على عالم نفس اجتماعي. يحاكي الحوار المرتجل ، والقفزات في الصورة التي تدل على الحذوفات في لقطة فردية طويلة، الطبيعة المباشرة للتليفزيون الحي، ويساعدان على ترسيخ حساسية تروفو الخاصة تجاه التعايش ما بين التلقائية والرثاء؛ ما بين الحياة والاعتراف بمرورها. هناك مجموعات أخرى لا تحصى من التضاد بين الصور يمكنها التنافس على شاشة السينما.
34
صفحة غير معروفة
تنافس الصور في العصر الحالي
على الرغم مما كان يظن حتى الآن، فإن الخط الجمالي الذي قدمته نظرية بازان، وفصله سيرج داني بعد ظهور الموجة الجديدة يبرز الأثر والتأخر، لا المشهد والحضور. يعمل ما أسميته «نهج كاييه» عمل ممر رئيسي إلى هذا المبدأ الجمالي، مع أنه يكاد يكون طريقا مفردا. يمكنكم أن تروه في ميول تلك الدورية؛ حيث ناصرت في الثمانينيات والتسعينيات، على سبيل المثال، أفلام عباس كيارستامي ذات النزعة الاختزالية، بينما كانت «سينما المظهر» الرائجة محل ارتياب على الفور. قاد داني اتجاها مضادا لهذه السينما في مراجعات لاذعة استهدفت صور جان جاك بينيكس، وجون-جاك أنو، ولوك بوسون. تغمر نرجسية عميقة فيلم «الأزرق الكبير» («ذا بيج بلو»، «لو جراند بلو»؛ بوسون، 1988) حيث يعرض الفيلم حلما أنويا بعدسة مقياس 70 مليمترا، ينغمر فيه المشاهد المتصلب لساعات في المعادل السينمائي للسائل السلوي المحيط بالجنين، لكنه لا يواجه شيئا. أما فيلم «الدب» («ذا بير»، «لور»؛ أنو، 1988) فهو يطرد التفاعل البشري تماما، متجنبا أي «مكافأة للوعي» من جانب صانع الفيلم أو المشاهد. تمتع «سينما المظهر» مشاهدها بصورة مليئة عن آخرها بالمتعة الذاتية.
تفجر عداء داني في مراجعة لفيلم أنو «الحبيب» («ذا لفر»، «لامو»، 1992، المقتبس من رواية مارجريت دوراس). قدمته هذه الإدانة البارعة في وقت متأخر لقراء الإنجليزية؛ حيث نشرت ترجمتها في مجلة «سايت أند ساوند» عقب موته.
35
أشار داني إلى أن «الحبيب» تلفيق بصري، وتقديم توكيدي للذات لرؤى وأجسام يمكن إدراكها (السلع التي يعرضها الفيلم ويتحول إليها في حقيقة الأمر). بدلا من ذلك، ينبغي أن تستخدم السينما الغياب الخلاق في قلب الصورة لسبر أغوار الرواية والواقع. السينما التي يهتم لأمرها تحث المشاهد ليضع نفسه خلف الصورة، ويتخذ موقفا تجاه الواقع الذي تستحضره الصورة لكنه لا يتحقق أبدا. «الحبيب» فيلم عن المؤثر المرئي. كل لقطة تخطو قدما بمفردها، مقدمة نفسها مثل سلعة استهلاكية على لوحة إعلانات. يسأل داني: كيف يمكن لمثل هذه الأفلام أن تتصل باللقطات المجاورة، أو توحي بها، وهي تعرض وكأنها مكتفية بذاتها؟ هذه سينما بلا نوافذ؛ حيث يكون كل شيء يظهر هو ما نريد رؤيته (أو رأيناه بالفعل)؛ نسخة تليفزيونية من السينما، نهنئ فيها أنفسنا بإدراك ما هو مألوف بالفعل، العالم المرئي الذي يحيطنا ويطمئننا. يلحظ داني ببديهة رائعة اضمحلال دور الشخصيات الثانوية في السينما الفرنسية منذ ظهور «الموجة الجديدة». مثل هذه الشخصيات كانت تستخدم للطفو كالسحاب على الشاشة كما ذكر. حتى حينما كانت أعيننا مثبتة على النجوم، كنا نستطيع رؤية الحركة المستقلة للشخصيات الثانوية وهي تدخل إطار رؤيتنا ثم تخرج من الصورة. أما اليوم فإن ظهرت هذه الشخصيات تكن مقيدة بأداء وظيفة ما.
مات داني في وقت أبكر مما كان يمكن أن يجعله يخوض الجدل عن فيلم «أميلي»، لكن يمكننا التأكد من أنه لو كان حيا لأشار إلى التوزيع الصارم لكل شخصية، سواء أكانت رئيسية أم ثانوية، وكذلك السحب المثبتة حرفيا لكي تأخذ الأشكال الجديرة بالمعانقة والاحتضان من أجل إمتاعنا. في «أميلي»، نظام العالم بأكمله - الإنسان، والحيوان، والطبيعة - نظم من أجل راحتنا. وبقدر ما يمكن أن يكون ممتعا، حافلا بتاريخ الفن، والرموز السينمائية التخيلية، صنع «أميلي» لتملقنا. في مقدمة الفيلم، تتودد لنا أميلي واصفة نفسها بأنها مشاهدة أفلام ثاقبة النظر، وهي تهمس من مقعدها في دار عرض سينمائي: «أحب أن ألحظ التفاصيل التي لا يلحظها أي شخص آخر.» ولإثبات هذا، تحدد مصادفة حدثت في لقطة شهيرة من فيلم تروفو «جول وجيم» (1962)؛ حشرة ظهرت أمام الكاميرا بشكل ما وهي تزحف على زجاج في المستوى الخلفي للقطة، متجهة مباشرة تجاه فم جين مورو المثير المفتوح ليتلقى قبلة جيم الحانية. فاجأ تروفو الحشرة، أو للدقة فإن الحشرة هي التي فاجأت تروفو. سألت المصور السينمائي للفيلم، راءول كوتار، حول هذه «الغلطة»، فزعم أنها نتيجة عرضية لمعجزة اتحدت فيها الطبيعة (ضوء صبح جميل ورائع وغير متوقع) مع الخيال.
36
وأثناء عمله بسرعة قبل خفوت الضوء، صور كوتار العاشقين في صورة مظللة، لتدخل الحشرة اللقطة بشكل غير مخطط له. كانت اللقطة معبرة لدرجة جعلت تروفو لا يفكر في إعادتها. هذا هو نوع الصدف التي حلم بها السرياليون.
مثل أميلي، اعتاد السرياليون مسح الشاشة بأعينهم للبحث عن تفاصيل غير مرئية حتى للمخرج، ممارسين ما سماه كريستيان كيثلي «الإدراك البانورامي».
37
صفحة غير معروفة
بتصوير الفيلم بأبعاد الشاشة العريضة (1 :2,35 ) لتعزيز هذا النوع من الإدراك بعينه، ولتشجيع حدوث هذه الصدف الإعجازية، يتجنب تروفو التخطيط المسبق المفرط التي يمثله جونيه. وإذ يرغب جونيه في كسر سيطرة «الموجة الجديدة» التي اشتهر بذمه لها، فإنه لا يشوه فقط فيلم «جول وجيم» لكنه ينقل ممثلة من فيلم تروفو إلى فيلمه هو؛ كلير مورييه، التي أدت دور والدة أنطوان دوانيل الساخطة في فيلم «الأربعمائة ضربة» تؤدي دور رئيسة أميلي، صاحبة المقهى العالمي. ولعل موقع المقهى في شارع لوبيك مناسب تماما، بالقرب من المكان الذي تجسس فيه أنطوان دوانيل على والدته - كلير مورييه هذه نفسها - وهي تقبل عشيقها (ناقد «كاييه»، جون دوشيه). ولعل أميلي أيضا، لهذا الأمر، تعيش في مبنى مجاور للشقة الحقيرة التي يعيش فيها دوانيل في حي كليشي. بعد بداية مسيرته في الإعلان وأفلام الاستوديو ذات الأسلوب الرفيع، مثل فيلم «داليكاتسن» (1991)، احتفى جونيه بعمله الأول «في الهواء» الطلق بتوثيق انهيار «الموجة الجديدة» على شوارع باريس.
لكن باريس جونيه لا تبدو مثل باريس تروفو أو رومير أو جودار. لقد رتبت، ولا يرجع الفضل في ذلك فقط لجهود أندريه مالرو في تنظيف المدينة في ستينيات القرن العشرين. تخلص جونيه رقميا من أي عنصر قبيح أو غير لائق، إطارا تلو الآخر. ولم تكن الحشرة التي فرحت أميلي برؤيتها في فيلم «جول وجيم» لتنجو من تنظيف جونيه للصور. تتفاخر المراجعة المنشورة في مجلة «سايت آند ساوند»: «الصور الجميلة للشوارع المرصوفة، والسلالم الباريسية المنحدرة، والمخابز على النواصي، والأسواق المنتشرة في الشوارع؛ بجانب المناظر المشهورة في البطاقات البريدية لكاتدرائية العذراء، وكنيسة القلب المقدس، وجسر الفنون، ومناظر الأسقف الباريسية، والمقاهي الأليفة، ومحطات المترو المصممة على طراز الفن الحديث ... يسكن هذه الأماكن «بسطاء» باريس.»
38
ربما يشعر المشاهدون بفيلم «أميلي» يمارس سحره عليهم، لكن لم يكن هناك أي شيء سحري في إنتاجه. بتحكمه في كل عنصر من عناصر الصوت والصورة، بنى جونيه فكرته الخيالية بدقة صانع الساعات، حيث نعمت كل لقطة لتتخذ موقعها، بحيث ترتبط باللقطة التالية لها بلا حكاك. على العكس، كان تروفو يبحث عن هذا الحكاك في كل مرحلة من مراحل الإنتاج.
39
وجد أن سيناريو كل فيلم من أفلامه الثلاثة الأولى أسهل مما يمكنه أن يقبله؛ ولذا كان يعمل خلال التصوير ضد الاتجاه العام لما سبق أن كتبه. شخصية كاثرين التي مثلتها جين مورو في «جول وجيم»، التي كانت محبوبة للغاية على الورق، جعلها صعبة الاحتمال قرب نهاية فيلم. وأبطأ تروفو كذلك من إيقاع ذلك الفيلم لوضع مقدمة الفيلم الجذلة في موضعها الصحيح، وليضيف إلى الغموض الجاذبية. لا الجاذبية ولا الغموض يميز شخصية أودري توتو، ولا فيلم جونيه، ما عدا مقاطع الفيديو المصورة بالأبيض والأسود التي ترسلها أميلي للرسام المنعزل، دوفايال، وتظهر أطفالا يسبحون بالحركة البطيئة، ومغني أغنيات حزينة، زنجيا بساق صناعية يؤدي رقص النقر بالقدم. هل قدم جونيه هذه المقاطع الجرثومية لتلويث الرضا الذاتي المميز لصوره السيليولويدية المصففة بعناية؟ باضطرابه بسبب هذه الرسائل من عالم خارج مرسمه، يعود دوفايل بإلهام متجدد لنسخته من لوحة رينوار «جماعة القارب» («لو دوجونيه دي كانوتييه»، «ذا بوتينج بارتي»، 1871)، معتزما فهم غموض إحدى الشخصيات، «الفتاة حاملة الكأس» التي يراوغه عمقها. أثناء ذلك، تقف أميلي في خلفية المشهد ممسكة بكأس. وحيثما تخفق لوحات دوفايال، ستحل سينما جونيه اللغز في النهاية.
محاكاة مضحكة لرينوار الأب. «أميلي».
يستعين جونيه هنا ببيير-أوجست رينوار لمباركة «أميلي»، وربما لاستنساخ تعاطفه الكبير، وجمال نظرته، وشفافية صوره. ينضم إلى أولئك الذين اعتبروا رينوار دائما رجلا محبا للحياة، ومفتونا بالطريقة التي يبدو عليها الرجال والنساء بالدرجة الأولى، وجمال الزهور والمناظر الطبيعية، وبلاغة الإشارات ... وباختصار، بالمظهر المتألق للعالم. لكن رينوار، طبقا لما يقوله ابنه، كان يسعى وراء شيء أعمق. إذا كان هناك أي صانع أفلام نسخ رينوار فهو ابنه؛ بالطريقة التي استخدم فيها - مثلما فعل والده - التعاطف والجمال أسلوبا للتنقيب فيما كان يصوره وخلاله. في أولى صفحات سيرة حياته، بعنوان «رينوار أبي»، يكتب جون: «أحببت لوحات أبي بشدة، لكنه كان نوعا من الحب الأعمى. والحق أقول إنني كنت جاهلا تماما بماهية الرسم. كنت لا أكاد أعرف ما الذي يدور حوله الفن عموما. كل ما استطعت إدراكه من العالم نفسه هو المظاهر الخارجية. الشباب مادي. الآن أدرك أن الرجال العظماء ليس لهم وظيفة في الحياة إلا مساعدتنا في رؤية ما وراء المظاهر: إراحتنا من بعض من عبء المادة - «تخفيف العبء» عن أنفسنا كما يقول الهندوس.»
40
هل تعلم رينوار هذه الفكرة من مقالات بازان العظيمة حول أفلامه، خصوصا فيلمه «الهندي» بعنوان «النهر» («ذا ريفر»، «لو فلوف» 1951)؟ قبل عقد من كتابة جون عن والده، كتب بازان عن الابن قائلا: «رينوار يفهم أن الشاشة ليست مستطيلا بسيطا ولكنها سطح مماثل لشباك الرؤية في كاميراه. إنها المضاد الكامل للإطار. الشاشة قناع لا تقل وظيفته في إخفاء الواقع عنها في كشفه. أهمية ما تكشفه متناسبة مع ما تتركه مخفيا. هذا الشاهد الخفي مصنوع حتما ليرتدي غمامة.»
صفحة غير معروفة