ما هي السينما!: من منظور أندريه بازان

دادلي أندرو ت. 1450 هجري
35

ما هي السينما!: من منظور أندريه بازان

تصانيف

تتلقى الكتاب يدان متلهفتان لإنسان (مشتغل بالفكر) يتيح اهتمامه للكتاب أن يتنفس ساعة قبل أن يعاد إلى بنك الذاكرة السرمدي الذي يشكل فيه وحدة مفردة. ومن مسافة محسوبة بإتقان، ينظر رينيه للأسفل على غرفة القراءة، مراقبا البحث عن «السعادة» الذي يشغل جماهير محبي القراءة (الذين يوصفون بديدان الكتب أو بالنحل)؛ حيث ينقب كل منهم في نصه المنفصل. جديتهم واستغراقهم - في طلب الكتب، وتدوين الملاحظات في صمت، وحك رءوسهم - يجعلانهم يبدون غير واعين، مثل الكتب التي يلتهمونها بشغف في بحثهم.

يحقق فيلما رينيه الوثائقيان الخالدان الآمال التي دفعت ألكسندر أستروك قبل عقد تقريبا إلى كتابة بيانه المعنون «من أجل طليعة جديدة: الكاميرا-القلم». تحدى أستروك صناع الأفلام لمناقشة الموضوعات الفلسفية من خلال خطاب سينمائي.

49

وهذا ما فعله رينيه. يمكن اعتبار أفلامه مؤلفات بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فهي مؤلفة على نحو مثير من مواجهة الكاميرا عالما ماديا عنيدا، وواقعا أدبيا عصيا على التغيير بالقدر نفسه (نصوص كتاب راسخين مثل جون كايرول، وريمو فورلاني، وبعد ذلك بفترة قصيرة مارجريت دوراس). حتى حينما كلفوا بإنتاجها، أتاحت حرية الأفلام القصيرة لرينيه وماركر وفرانجو وفاردا وغيرهم استراتيجيات تركيبية جريئة. وحينما منحوا فرصة صنع أفلام روائية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كانوا مسئولين عن ميلاد السينما الحديثة؛ مثل: «كليو من 5 إلى 7» («كليو فروم فايف تو سفن»، «كليو دو سانك آ ست»، 1962)، و«عيون بلا وجه» («آيز ويذاوت افيس»، «لي يو سان فيزاج» 1960)، و«هيروشيما حبي».

50

يعد العنوان الذي منحته فاردا لفيلمها باستمرارية زمنية كاملة، ويحقق ذلك تقريبا، إذ تختزل نصف ساعة فقط من الفترة ما بين الخامسة إلى الساعة السابعة في مساء يوم باريسي عادي. لكن بالنظر من مصفاة نظرة كليو المحدقة، تبدأ المدينة تتكشف. ومثل كاثرين في «رحلة إلى إيطاليا»، فإن هذه الجميلة المنشغلة بذاتها تدرك مع الوقت الغمامة التي تلبسها، وتسمح لنفسها في النهاية بالتفاعل مع العالم الموجود خارج ذاتها، وخصوصا جنديا على وشك العودة إلى الجزائر. ويكون كشفها أكثر إعجازية لأنه معد بدقة في الزمان والمكان. يعتمد «هيروشيما حبي» بالقدر نفسه على إحداثيات دقيقة، إلا أنه يجتمع في هذا الفيلم زمانان ومكانان، في جسدي رجل ياباني وامرأة فرنسية. وكما في «ليل وضباب»، تنافس المشاهد الخام رغبات البشر في التعامل مع كل من الماضي والحاضر (لم تري أي شيء في هيروشيما، أي شيء). لا تحوي «الوثيقة» ولا «الوثائقي» - أو لا يمكنهما أن يوصلا - صدمة ما هو بالأساس الغياب المفرغ من التاريخ البشري بفعل التفجير الذري. لا بد أن رينيه زار متحف السلام الذي سبق افتتاحه عرض الفيلم بفترة وجيزة، ومثل مناسبة لصنع الفيلم في المقام الأول، بوصفه معلما للخواء. لكي يمثل هذا الخواء، كان هناك احتياج لبشر ذوي رغبات عميقة، مثلما كان رينيه يحتاج إلى تصوير أولئك القارئين المتحمسين في المكتبة الوطنية. أتاحت مارجريت دوراس ما كان يحتاجه رينيه، فهي لم تصنع شخصيات بقدر ما صنعت رغبات مجسدة؛ شخصيتين تستكشفان إحداهما الأخرى بلغة الرغبة، وتسبران المواضي التي تفصح عنها كل واحدة منهما مثل باب مفتوح. تسلك كاميرا رينيه عبر هذين البابين، مكتشفة الغياب في قلب الشغف، والموت في قلب الحياة.

تتبع السينما في القرن الواحد والعشرين

ما الذي يعنيه تركيب فيلم في زمننا هذا؟ اسمحوا لي بالعودة إلى فيلم «المصير الخرافي لأميلي بولان»، وهو الفيلم الذي يجعله نجاحه الكبير في مختلف أنحاء العالم مؤشرا جيدا. من البداية، هناك صوت راو يتحدث بسرعة، مصحوبا بمونتاج نشط، يروي الحكاية الخيالية الأخاذة عن فتاة خجولة تتحول أمنيتها في حياة سحرية إلى حقيقة حينما تدرك أنه يمكنها في صمت تحلية حيوات الآخرين بالأعمال الطيبة. يأتيها هذا الإدراك بعد أن يصيبها الهزال وهي نائية في غرفتها المنعزلة، تحلم حرفيا ب «مصير أميلي المحطم»، مشهد ميلودرامي إخباري بالأبيض والأسود، معروض بسرعة على الشاشة في 29 لقطة. هذه السيرة الذاتية التي تشبه القصص المصورة عن حياة افتراضية تقدم لنا النموذج والمحرك لمونتاج جون-بيير جونيه الذي يبني على مدار الفيلم بطريقة سريعة مشاهد تتابعية لشظايا متفرقة بقدر هائل، تؤدي لصنع مشاهد رائعة، واحدا تلو الآخر. أحد هذه المشاهد يخرج مباشرة من رأس أميلي، حينما تحاول تخيل لماذا لم يأتها نينو في موعده. يصاحب صوت الراوي التالي للمشهد 30 لقطة سريعة تأخذنا عبر سلسلة من الحوادث الجامحة:

تأخر نينو لأن ثلاثة مساجين هاربين اقتحموا مصرفا وأخذوه رهينة. ورغم ملاحقة كل ضباط الشرطة في المنطقة لهم، نجحوا في الهروب. لكنه استطاع أن يتسبب في حادث سيارة. حينما استعاد وعيه لم يقدر على تذكر أي شيء. التقطه سائق شاحنة، سجين سابق، ورماه في الحاوية، ظنا منه أنه متمرد، متجها نحو إسطنبول. وهناك قابل مغامرين أفغانيين اقترحوا أن يذهب معهم لسرقة رءوس نووية سوفيتية . لكن شاحنتهم اصطدمت بلغم بالقرب من حدود طاجيكستان، وكان هو الناجي الوحيد. اختبأ في قرية جبلية، وأصبح فردا في ميليشيا طالبان. مع ذلك ظلت أميلي لا تستطيع أن تدرك لماذا أضاعت وقتها على فتى مثل هذا سيقضي ما تبقى من حياته يتناول حساء البورش في إناء سخيف على رأسه.

يصنع جونيه لقطة فردية قصيرة لكل مقطع منفصل في الحلم الذي يروى. وتستخدم مشاهد كثيرة أسلوب لوحة المشاهد المقطعة هذا، مع تحديد بدايات اللقطات ونهاياتها بعناية، وغالبا ما تبرز بصريا أو سمعيا. في هذه الطريقة، تؤكد كل لقطة أو توصل بوضوح فكرة واحدة تسهم في مشهد حدد مساره منذ وقت طويل في مرحلة الكتابة. يعطينا جونيه كثيرا من الرموز لهذا الأسلوب الجمالي في شارة الفيلم: مجموعة من ثمرات الفراولة على أطراف أصابع تبتلع بتتابع سريع، وصفوفا طويلة من الفقاعات البلاستيكية على ورقة، تفرقع واحدة تلو الأخرى، وأكثر هذه الرموز وضوحا وهو صف ملتو من أحجار الدومينو التي تتساقط واحدا تلو الآخر. تمثل هذه الأحجار المتساقطة - وهي أول صورة في الفيلم - الاستراتيجية الشاملة للقطة تسقط إثر لقطة مجاورة لها، وهكذا حتى تحقق المجموعة بكاملها متعة النهائية المنمطة. بالطبع، يجب تنعيم حواف أحجار الدومينو لتصبح متجانسة ثم توضع في صف متماثل. هذه هي وظيفة لوحة المشاهد التي يدعي جونيه بفخر أن تصويره لا يحيد عنها؛ لأنه يجب أن يعمل كل عنصر على نحو قابل للتنبؤ، وكل شخصية يجب أن تظهر بدقة «ما تحب وما تكره» قبل المشاركة فيما هو بحق «تدبيرات» الحبكة.

صفحة غير معروفة