وأصبح على عم حسن ألا ينتقل من مكانه إلا إذا عرف صميدة وتابعه إن لم يكن بنفسه فبعينيه، وأصبح على صميدة أن يظل مفتح الأعين لا يغمض له جفن، إذا نام كان على حسن أن يظل مستيقظا قابعا بجوار زميله، ولا ينام عم حسن وإلا وحماية صميدة تحوطه، ومع هذا ما يكاد الانتباه يغفل حتى يرفع عم حسن يده مستجيرا، ويعرف صميدة أن الرجل جاء ومضى كما تأتي ريح وتمضي، وأنه لا بد همس لعم حسن مثلما يهمس كل مرة بتهديده، وبأن صبره قد نفد وأنه لا محالة قاتله .. والعناد ذلك الشيء المستبد الخارق يزداد نموا كالمارد العملاق في جوف صميدة حتى ليصبح هو الذي يسيره ويخضعه، وكلما ازداد استبدادا وازداد التهديد حدة، كلما أصبح على حركات عم حسن وسكناته أن تخضع أكثر وأكثر، حتى ليكاد يشير لصميدة لينبهه أنه يريد فتح الفم أو التنفس!
وكان طبيعيا أن تخلو عشة عم حسن من رفاق الطريق، ليس فقط لكل ما تقدم، وإنما لأن صميدة قد أصبح يتوجس لدى قدوم أيهم وبعينيه النفاذتين يتفحص ملامح وجهه ليعرف قربها أو بعدها عن الملامح كما رآها وكما أصبح يعتقد أنها قريبة الشبه جدا من ملامح أي قادم يراه، أو على الأقل باستطاعة أيهم أن يحيل ملامحه إذا أراد لتصبح «سادة» كريهة كملامح ذلك الرجل الكريه.
وفي صباح جميل، كل ما فيه جميل، إلا ما هما فيه. مال عم حسن على صميدة وقال: ح نقعد كتير على كده؟ - لغاية ما يبان ونخلص عليه. - بعد يوم .. اتنين .. سنة .. سنتين؟ - حتى لو بعد عشر سنين. - طيب معاك، ساعتها صحيح ح نخلص عليه، إنما إحنا ح نكون رخرين خلصنا، تعرف مين ساعتها ح يبقى انتصر .. العند .. إحنا ح نكون متنا من زمان واللي عايش فينا العند وزي ما خلص عليه .. خلص علينا .. سيبني أمشي! - وتروح فين؟ - دنيا الله واسعة يا أخي .. وإذا كان في الحتة دي عدو فالطريق مليان أصحاب ورفاق .. الدنيا حلوة يا ابني وحرام تعادي فيها حتى اللي يعاديك .. عايز تغلبه سيبه ينفلق ويعاديك، واوعى تعاديه أنت لتخسر نفسك. •••
وذات يوم، وصميدة نائم، كان عم حسن يلقي بنفسه مرة أخرى إلى أيد الناس، والسائق يساعده على جمع حوائج.
وحين استيقظ صميدة ولم يجد عم حسن أو عشته أصابه ذهول أوقف تفكيره، كأنما أحس أنه فجأة فقد كل ما له على ظهر الدنيا، وحين أفاق، أحس لومضة، بالارتياح؛ فقد شعر أن العناد ينسحب من جسده، ومعه تنسحب ملامح الرجل الكريه التي لم تغادر خياله لحظة، تنسحب معه فتهزمه، لومضة أحس أن الحياة قد بدأ يعود لها طعمها الحلو، كان عم حسن قد ذهب حقيقة وذهب معه سحره، ولكن المكان عند التقاطع قد عمر، ودبت فيه الأرجل وحفل بالعشش التي كانت إحداها قد بدأت تتحول إلى بناء ذي سقف وأبواب. لومضة عابرة أحس بكل هذا، غير أنه أفاق تماما من ذهوله حاول أن يجري وأن يسأل، ومن السائقين والعابرين يستقصي، لا ليعرف مكانه البعيد، وإنما على أمل، أن يعرف مكانه ليترك كشكه ويذهب خلفه، وإلى الآن لم يزل صميدة مؤمنا وواثقا أن عم حسن لا بد حي يرزق، ناصبا عشته عند تقاطع ما في الطريق، ولا تزال كلما مرت به عربة نقل، قبل أن يأخذ أرقامها ويرد تحية سائقها يسأله إن كان قد رأى أو التقى بعم حسن، وبعضهم يقول إنه من سنة رآه وآخر من شهور، وإجابات كثيرة يظفر بها، مرة يجده في دمنهور وأخرى في طريق البدرشين .. آه .. لو فقط يعثر له على مكان أكيد!
يناير 1965م
صفحة غير معروفة