حالة تلبس
الزوار
معاهدة سيناء
قصة ذي الصوت النحيل
الورقة بعشرة
فوق حدود العقل
هذه المرة
لغة الآي آي
اللعبة
لأن القيامة لا تقوم
الأورطي
صاحب مصر
حالة تلبس
الزوار
معاهدة سيناء
قصة ذي الصوت النحيل
الورقة بعشرة
فوق حدود العقل
هذه المرة
لغة الآي آي
اللعبة
لأن القيامة لا تقوم
الأورطي
صاحب مصر
لغة الآي آي
لغة الآي آي
تأليف
يوسف إدريس
حالة تلبس
حينما ضبط المنظر. لم يكن عميد الكلية هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه، ولكنه الطفل الذي ولد وتربى في «سوهاج» ومنذ أن بدأ يعي فهم أنه قد يكون مباحا للرجل وعيبا للشباب ومحرما تحريما قاطعا على الأطفال ولكنه للنساء جريمة، أكثر من جريمة، قد يوازي هتك العرض، فما بالك وهي ليست رجلا ولا طفلا ولا حتى سيدة ولكنها فتاة، بنت لا تتعدى السابعة عشرة بأي حال.
وحين وصل الغضب قشرة العقل المكتسبة، وانفعل العميد الذي فيه، كان أكثر ما ضايقه أنها لا بد في السنة الأولى، طالبة جديدة، يعني بالأمس فقط كانت طفلة في ثانوي.
ورغم كل غضبه لم يتحرك إلا حينما تحرك الوالد الذي فيه وتململ، وأدرك كالمدهوش، أنها تكاد تكون في سن ابنته «لمياء»، حينما فقط استدار مغادرا النافذة في طريقه إلى حيث أزرار الجرس الموضوعة في مكانها الخالد الذي يتوارثه العمداء فوق المكتب.
وربما لو كان في الحجرة أحد .. أستاذ أو لجنة أو حتى لو كانت في انتظار مقابلة كائن ما لكانت الحركة قد اكتملت وكانت يده حتما قد وصلت إلى الزر. والساعي المرابط أمام الباب حضر والفصل لأسبوع أو لأكثر من الكلية أو حتى الزجر والضرب قد حدث.
ولكنه كان وحده في حجرة العميد الواسعة المهولة ذات النافذة الجانبية الضيقة. والحجرة تغري بالتريث، والنافذة الضيقة تغري بتدقيق النظر وفي حالته كان الإغراء كبيرا بإعادة النظر.
وعاد إلى استمرار النظر.
الحجرة في دور أول لا يرتفع عن الأرض قليلا. والفناء الخلفي الذي تطل عليه النافذة الجانبية خال تماما من الطلبة فهو في العادة مكان غير مرغوب من الطلبة، والساعة اقتربت من الثالثة. واليوم الدراسي انتهى، ولولا مراجعة جدول الامتحان لما كان هو نفسه قد بقي إلى هذا الوقت ولما قام من النافذة منهكا يتثاءب ويتمطى ويأخذ فكرة عن الجو بالخارج. ولما شاهدها، تلك الطالبة الصغيرة التي ما إن بدأ عقله يتساءل عما أتى بها إلى هذا المكان المهجور، وبعد انتهاء الدراسة، حتى كان الغضب قد اجتاحه. وجدها بكل بساطة وتحت أنف نافذته تخرج - بل أخرجت فعلا - علبة سجائر من حقيبة يد مستطيلة ضخمة، وعبثت بكراريس المحاضرات المختلطة بأدوات التجميل قليلا، وما لبثت أن أخرجت علبة كبريت أيضا.
طالبة. واضح تماما أنها لا بد في السنة الأولى. تدخن وتحمل معها في الحقيبة علبة سجائر وعلبة كبريت؟!
هكذا من النظرة الأولى تفجر الغضب.
ولكن النظرة التالية كانت نظرة مذهولة يستبعد تماما أن يصدق أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث، مؤجلا التصديق إلى أن يراها فعلا وهي تدخن .. خاصة والفتاة كانت لا تزال ممسكة السيجارة في يد والكبريت في يد أخرى، وكأنما لم تقرر بعد ماذا تفعل بشأنهما.
وتأملها العميد، كانت طالبة عادية، لا يمكن إذا رآها في مجموعة أن تستوقف النظر، شعرها مهوش على طريقة الجيل الجديد في الأناقة، وعيناها ذابلتان، لا بد من المذاكرة والسهر، متكئة، تكاد تكون مستلقية - بعد يوم متعب حافل - على الأريكة التي لا يستعملها أحد، ولكن شبابها الفائر يكاد يقفز من وجنتيها المحمرتين رغم قمحية بشرتها، ومن جسمها البارز في أكثر من مكان من ملابس الطالبة الرخيصة التي ترتديها.
وبوغت العميد حقيقة وهو يلحظ فجأة أنها بأصابع اليد الواحدة .. أصابع تلون سبابتها آثار الحبر، قد فتحت علبة الكبريت، وباليد الأخرى، بيد ثابتة لا اضطراب فيها ولا خوف، وبحركات تلقائية ليس فيها من مجهود الإرادة شيء، ثبتت السيجارة في فمها وأدارتها دائرة كاملة بين شفتيها، وكأنما لتبلل - كالمدخنين العتاة - فمها (الفلتر)، وبنفس التؤدة والتلقائية، وبضربة لا أثر للتدبير فيها، أشعلت العود ولم تقربه من السيجارة في الحال، أهملته بين إصبعها قليلا، وكأنما تستمتع برؤيته يحترق. ثم ما لبثت ببطء، ودون أن تنظر، وبعينين هائمتين في جدار الفناء البعيد، أن قربت العود بحيث لامست شعلته طرف السيجارة دون أن تحيد يمينا أو يسارا، وكأنما يدها مدربة على الطريق. وجذبت نفسا واحدا اشتعلت بعده السيجارة. وبالدخان الخارج، بعد ابتلاعه، من فمها، أطفأت العود، ثم ما لبثت أن ألقته في إهمال غريب فوق عشب الممشى القريب.
وجن جنون العميد، إنها مدمنة داعرة الإدمان أيضا، إنه هو نفسه يدخن ولا يفعل شيئا كهذا، إنه يشعل سيجارة كلشنكان ويدخنها كيفما اتفق، ولكن هذه، متى وكيف وفي أي بؤرة فساد تعلمت كل هذا. إنها حتى لا تشعل الكبريت كالنساء التي قرأ مرة أنهن يشعلن العود من الناحية البعيدة خوفا غريزيا من ناره على ملامحهن وشعرهن، وفقط بعد الاطمئنان إلى شعلته بعد خفوتها يجرؤن على تقريبه منهن، أما هذه ال... الطالبة، طالبة أولى هذه .. لا تخاف العود ولا النار، ويبدو أنها لا تخشى شيئا في الوجود .. إنها لا يمكن أن تكون في السابعة عشرة .. سن ابنته .. لا بد أنها أكبر بكثير .. بسنتين لا بد، أو حتى بأيام .. إنها جرثومة، إن الفصل أسبوعا واحدا لا يكفي أبدا .. الرفد النهائي هو ما يجب عمله، لا أقل من الرفد النهائي.
ولكنه لم يعرف كيف حدث هذا، فقد وجد شيئا أكبر بكثير من كل غضبه وكل حماسه للضغط على الجرس واستدعاء الساعي واتخاذ بقية الإجراءات، شيئا أجبره على أن يقف في مكانه لا يتحرك وينتظر ويعاود الرؤية.
ورفعت الفتاة يدها إلى فمها مرة أخرى، ولكنها انتظرت قليلا بفم السيجارة قريبا من فمها، ثم بدا وكأن الوقت قد حان، وهكذا ببطء لا تلكؤ فيه أسبلت جفونها حتى كادتا تغلقان تماما، ثم ضمت شفتيها حتى ضاقت الفتحة بينهما وتكرمش غشاؤهما، ومن الفتحة الضيقة أدخلت فم السيجارة، وجذبت نفسا، لا لم يكن جذبا، كان امتصاصا، ليس امتصاص دخان، لكأنه رشف أعظم سعادات البشر، رشفة ببطء وباستعذاب وبملايين الأفواه، كل خلية من خلاياها بدت وكأنما أصبح لها فم تجذب به وترتشف ويتموج جسدها كلها تموجا غير منظور، وعلى دفعات وكأنه عطشان يجرع أعذب الماء ويريد أن يستمتع بكل قطرة من قطراته، حتى إذا ما بدا أن كل دقيقة فيها قد أخذت كفايتها وظفرت بسعادتها الخاصة، رفعت السيجارة عن فمها ببطء وكبرياء، وعينين قد فتحتا ببخل شديد، وكأنها تخاف أن تهرب من فتحتيهما النشوة.
واستحال غضب العميد إلى لحظة صدمة مفاجئة تكاد تتحول إلى ذعر .. خوف شديد أن يستمر في الرؤية، خوف الخائف على نفسه هو من استمرارها، والفناء بدا له كالبقعة المهجورة المقطوعة عن العالم، يحفل بسكون، وزمتة، ورائحة ربيع مقبل مخيف، وقرب أيام نهاية العام والامتحان، والفتاة كأنها جنية من جنيات الظهر، انشقت عنها خرابة الفناء فجأة، متكئة - تكاد تكون مستلقية - فوق الأريكة ذات الحديد المتراكم فوقه الزمن والصدأ، الناقص مقعده خشبة الوسط.
وبرهبة المذهول هذه المرة راح يترقب كيف تخرج النفس .. فمها المضموم أبقته مضموما هنيهة، ثم فتحته نصف فتحة، وبحركة فيها كسل أنثوي ضاقت له عيناه راحت توسع من فتحته قليلا قليلا، في نفس الوقت الذي كان صدرها قد بدأ يتسع وكأنها بسبيلها إلى التنهد حرقة ولوعة، ربما على فراق تلك السحابة الدخانية الصغيرة التي فجرت في جسدها المستلقي تعبا واسترخاء حيوية وأضافت إلى صباها صبا يتسع حتى ليجذب الدخان إلى أعمق أعماقها، ليلامس أقصى أرجائها وليلتقي بكل جزء من صميم صميمها لقاء الوداع. وفي نفس الوقت الذي يعود فيه الصدر إلى وضعه الطبيعي وحجمه، يكون الدخان هو الآخر قد بدأ يخرج، من الشفتين المنفرجتين أضيق أوسع انفراج .. تخرج دفعاته الأولى مرسلة على سجيتها دون ضغط أو إكراه، تصنع دوائر لولبية وضبابات ثم تتلوها الدفعات الخارجة بالإرادة متأنية موجهة قد شحب دخانها وتغير لونه وكأنما امتصت منه كل النضرة والحياة.
قطعا لا بد من فصلها. في منتصف السيجارة تماما والجريمة سيدق الجرس ويهمس إلى الساعي ويذهب الرجل ويطبق عليها وساعتها سيعرف اسمها ويفصلها.
ذلك كان قراره، ولكن ما ضايقه في الحقيقة أنه بدا وكأنه قرار شخص آخر، بعيدا جدا، ذلك البعد الذي أصبح بين عقله وإرادته، إرادة لا يدري لماذا هي رخوة لا تستطيع أن تنفذ أمرا وكأنما هي واقعة تحت تأثير مخدر سخيف ملعون لا يعرف كنهه، إدارة لم تعد تستطيع أن تفعل إلا أن تنظر وتستمر تنظر.
وأخذت الفتاة نفسا آخر، وهذه المرة أخرجت دخانه من فمها وأنفها معا، أنف فتحاته صغيرة دقيقة كأنها براعم، فتحات يخرج منها الدخان باهتا معتصرا ليصطدم بالدخان الخارج من الفم الضيق المضموم المكرمش.
وأحس العميد بأشياء داخله تتنبه. وتلفحه سخونة ليس مبعثها الجو .. وبسرعة في دقات القلب لا علاقة لها بمرض الضغط.
وتوالت الأنفاس، وفي كل مرة تجذب النفس على مهلها وبتلذذ سعيد تنغلق له عيناها، وكأن شفتيها المضمومتين على فم السيجارة تبتهلان لشيء أو ترشفان شيئا، رحيق السعادة ربما أو إكسير الحياة ويسترخي جسدها ويتدغدغ للنفس ثم تبدأ عملية الإخراج، وتفعل هكذا كله باندماج شامل تام وبلا إرادة .. وبطبيعية لا تكلف فيها ولا اصطناع، والأنفاس تتوالى ويستحيل ما يحسه العميد إلى تيار غريب يجوب جسده كله مع كل نفس، ولا يوقظه من تعب يوم أو إنهاكه ولكن يوقظ أجزاءه وأجهزته من رقدة عمر طويل، ويمحو هكذا في ومضة آثار سنين وأمراض ومشاغل وحياة تصلبت وجفت واستحالت إلى درب ضيق محدود، من ناحية منه زوجة جف منها ماء الحياة ولم تعد تفعل إلا أن تناكف وتضايق، وفي الناحية الأخرى عمل وروتين لا جدة فيه ولا أمل. وصراع، وما بينه وبين رئيسه مدير الجامعة من حزازات، وهو كالبندول رائح غاد بينهما، الكلية تدفعه إلى البيت والبيت يدفعه إلى الكلية، بندول عجوز مصاب بأكثر من مرض ووجع وفي صدره أحقاد.
ومنتصف السيجارة الذي كان قد حدده وصلته الطالبة، ولكنه كان في حال لم يعد يعرف إن كان ما يحسه سخطا أم إعجابا أو إن كان انفعاله انفعال نشوة أم اشمئزاز، كل ما أصبح يفعله، حتى ولو لم ترض إرادته، أن يظل يرى الفتاة ويراقبها .. جسده نفسه، عيناه، أنفاسه، لسانه الذي بدأ يجف في حلقه، ساقاه اللتان شدت عضلاتهما واشرأبت، كلها تراقب، كلها مع الفتاة وسيجارتها في التحام لا يمكن فصله أو إنهاؤه، التحام متواصل حي ينبض نفس نبضها حين تطبق بفمها الضيق على فم السيجارة وتجذب وتدوخ بالنشوة ثم حين تفتحه نصف فتحة أو بأنفها أو بهما معا تخرج اللوعة والحرقة والنفحات الهاربة وفي أعقابها تلك التي تدفعها لتخرج برفق وحنان وتؤدة .. نبض متوال متسارع، والتحام ذو حرارة مستمرة متزايدة تتصاعد إلى أعلى مراتب عقله وتذيب، تذيب أشياء كثيرة، تذيب أفكارا تحجرت كالمومياء المصبرة وأصبحت حكما وعقائد، وتفتح مناطق حاصرتها التقاليد وعزلتها، وتفد الأفكار بسهولة وتنطلق بسهولة ويبدو المستحيل ممكنا، ولماذا الحرس والساعي والتأنيب والفصل؟ ألأنها تدخن وسنها سبعة عشر عاما ولأنها طالبة، وما الفرق بين أن تدخن وهي طالبة وتدخن وهي خريجة وكله تدخين في تدخين، ولماذا نحرمه على جسد شاب فائر، ونحلله لسيدة أو لعجوز تسعل وتكح وتبصق كلما جذبت نفسا، أليس هو قائل نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثته يرى أن مشكلة مجتمعه الأساسية أن أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مظلمة مضت، وأن بلاده لا يمكن أن تصل إلى أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري إلا إذا تم التحرر وعاش الناس فيه بتقاليد عصرهم نفسه وقيمة وأنواع حرياته .. بإعطاء أفراده حتى حرية الخطأ وألا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورثهم صوابنا نحن وخطأنا، بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنه الصواب وما يرون أنه الخطأ.
وبدأ جسد الطالبة الصغيرة يتململ ويتلوى، ونهمها إلى جذب الأنفاس يشتد ويتلاحق وكأن في داخلها تحفر فجوات هائلة تحدث فراغات سريعة مذهلة تطلب الامتلاء، لا بالدخان ولكن بالمتعة الحادثة من حريتها في أن تنفرد بنفسها وبالسيجارة، وتمتص منها ما تشاء، وتبتلع ما تشاء، والعميد يحس بجفاف ريقه يزداد وحنجرته تتسع وتزداد قدرتها على الرنين، وكأنها تستعد لإطلاق صرخة العمر، وعرق غريب ذو رائحة نفاذة لم يشمها من سنين ينبت تحت إبطيه، وعرق آخر أكثر غزارة يبلل وجهه ويضبب زجاج نظارته، حتى ليخرج منديله بسرعة المحموم ويمسح زجاجها لكي لا ينقطع أبدا إبصاره. والدنيا حافلة بمؤامرة صمت تام، سكون غريب لا يمكن أن يكون إلا بفعل قوة خارجية قاهرة، سكون مركز في تلك البقعة من الفناء الخلفي، سكون ليس خارجه سوى العدم، سكون عالم خال من الحياة تماما ليس فيه حياة سواه وسواها، هي في أقصى درجات الاستمتاع، وهو في أقصى درجات الانفعال .. وبينهما، تفصلهما تماما، وتربطهما تماما، تلك السيجارة. والحياة تبدو حلوة جدا، كل لحظة فيها عمر بأكمله، وإرادته قادرة على اكتساح الجبل، ولا شيء في الوجود مستحيل، ولن يرضى بأقل من أجمل وأغنى بنات العالم زوجة له، وخمس سنوات فقط يصبح فيها أعظم علماء مصر، بل الشرق والغرب معا، وماذا تكون جائزة نوبل مكافأة له. وحقيقة ما هذه الحزازات بينه وبين المدير أليس هو أكبر منها وأقدر بكثير، ولماذا الحزن والمرارة لكل ما فات والآتي أروع منه بكثير ولماذا التعنت مع أستاذ القسم المساعد، لماذا لا يعطيه الفرصة، إنه شاب ومن حقه أن يطمح إلى كرسي الأستاذ .. المشاكل نحن نخلقها حين نفتقر إلى التفاؤل، والتفاؤل هو الإرادة، وبالإرادة القوية تصبح الحياة كالبساط الممهد، بساط الريح .. عش واضحك وامرح واطلب القمر يأتك .. أرده إرادة قوية حقيقية يأتك .. وكله .. كل ما في الحياة آت لا ريب فيه.
واقتربت السيجارة من نهايتها، وتلاحقت أنفاس الفتاة في صعود القمة، ومضى جسدها يتهدج، وقد أصبح كله صدرا يلهث، وشفاها بدأت من الجرعات المتلاحقة ترتعش وتضطرب، اضطراب الحمى، حمى شملته هو كله .. والينبوع الخفي فيه يتفجر بأقصى قوته ويصل به إلى قمة الانفعال تلك التي ينتفي معها الزمن، ولو للحظات يتوقف الزمن، يغرب إلى ما وراء الإدراك، ويصبح الحاضر مجرد لون، لون أحمر مدمم في لون الشفق.
وأخذت الفتاة، من السيجارة التي كادت نارها تحرق الأصابع، نفسا، كآخر شهقة ثم سكنت تماما، وكأنما غابت عن الوجود. ومن بين إصبعيها اللذين انفرجا استرخاء انفلتت بقية السيجارة واستقرت ذابلة ممصوصة مغضنة على الأرض.
وأحس العميد بعد الرعود والانفجارات والحمى بسلام مفاجئ ممتد كأنه سيبقى إلى الأبد، يشمله ويجعله يتمنى أن يكف الكون عن حركته لتبقى اللحظة في ديمومة لا تنتهي.
ولكن الديمومة انتهت، فلأمر ما بدت الفتاة وكأن العيون المستترة التي تحس الخطر دون أن تراه قد أدركت شيئا فقد ضمت جفنيها بشدة ثم فتحتهما على آخرهما ليلتقيا، هكذا، كالطلقة المصوبة بدقة، بعيني العميد في تطلعهما من خلف زجاج النظارة.
وللأزمن التقت النظرات، ولكنه لم يكن لقاء ولا وقتا، ولا شيئا يقاس، كان ارتطاما، سقوطا من حالق ربما، ماء باردا كالثلج، برودة الواقع الذي ترتجف لهوله المدارك، الثلج الصاعق.
وتكهربت النظرتان بخجل، لا قبل لأيهما به، خجل سريع مغور جارح.
وفي جزع هائل انتفضت الفتاة جالسة، وقد غاص قلبها، وبيد ترتجف بالرعب دلقت كل محتويات حقيبتها لتستخرج في لمح البصر كتابا، تعود معه تنكب، كالطالبة المجتهدة على صفحاته.
وكانت حركته ليعود عميدا أبطأ .. ممزوجة بخجل أعظم وبتأنيب أشد هولا، وتحرك خافض البصر طويلا نحيلا عجوزا محني الأكتاف حاملا متاعب الدنيا كلها من جديد، وليس في رأسه واضحا سوى الواجب، وما لا بد من عمله .. والدائرة البيضاء الملساء الصغيرة فوق مكتبه، والعقاب.
وبإصبع عادت إليها كل عصبيتها، وكأنما تمتد من صدر ضاق بالدنيا، ضغط على زر الجرس.
ولكن إصبعه كانت لا تزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه
ديسمبر 1962م
الزوار
ما كاد آخرهم يخرج، ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كالقطار المزدحم حين يصل إلى محطة النهاية، حتى التفتت «مصمص» (وهو ليس اسم دلع ولكنه اسمها الحقيقي) إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت عال: بقى اسمعي يا ...
واحتارت قليلا هل تقول لها يا بت يا سكينة، أم سكينة فقط .. وسكينة كان اسمها سكينة وهي سكينة فعلا. وهو اسم قد يبدو ريفيا، ولكنها لم تكن ريفية النشأة أو الملامح. كانت من مدينة ما، واحدة من عشرات مدننا أنصاف الكبيرة، مؤدبة جدا، خجولة جدا ورقيقة أيضا. وكانت تحتل السرير المجاور لمصمص المرأة الضخمة الكبيرة الصدر والثديين التي يميل لونها إلى السمرة، ودائما ترتدي قميص نوم أبيض.
والسريران كانا في عنبر واحد من العنابر الكبيرة التي تحفل بها مستشفياتنا العامة والمركزية والجامعية والصدرية، العنبر المعهود ذو الاثنين والعشرين سريرا .. عنبر الحريم، يسمونه .. له تومرجية سليطة اللسان ومنفوخة الجسد مكورة كالبطة. وتومرجي أعمش مفروض أن لا يدخل العنبر وأن يقتصر عمله على المطبخ ودورة المياه، ولكن أحدا لم يعلن يوما هذا المفروض وأحدا لم ينفذه.
وكانت سكينة الضعيفة الرقيقة الحنونة تحس إذا أطلت النظر إليها أو عمقته أن هناك فعلا أناسا ضعفاء محتاجين إلى الشفقة، كانت مريضة بمرض مزمن، ولها في المستشفى ثلاثة أشهر، وأمنيتها الكبرى أن تغادره وتخرج، ولكنهم لا يخرجونها ولا يصرحون لها بالخروج، ولا يفعلون هذا بعنف أو بحزم كما قد يعتقد البعض، إنهم يفعلونه بأنصاف الابتسامات أحيانا وبهز الرءوس والطبطبة أحيانا أخرى .. وأحيانا بمجرد القول: حالا .. إن شاء الله تخرجي .. أما سبب بقائها أو إبقائها فهو أن مرضها من نوع غريب يحلو للأستاذ أن يحاضر طلبته وأطباءه الصغار عليه .. وأن يريه لزملائه الكبار، كما لو كان يريهم قطعة نادرة ضمن مجموعة أصداف أو طوابع بريد يقتنيها.
وسكينة لم تكن مقطوعة من شجرة .. كان لها إخوة. في الحقيقة أخ واحد غير شقيق وأختان. وكان لها خالات وعمات وقريبات كأي إنسان منا وكل إنسان. ولكن رغم هذا كله فلم يكن لها زوار بالمرة. طوال الأشهر الثلاثة التي مكثتهم بالمستشفى لم يزرها أحد .. من يوم أن أتى بها أخوها وأودعها العنبر لم تر وجهه. تلك حقيقة تعرفها هي .. ويعرفها حتى الجميع، التومرجية السليطة اللسان تعرفها .. وقد تكون مشكلة الخروج تلح على سكينة في أحيان كشيء لا بد منه ولا بد من حدوثه ولا بد أن تكلم الطبيب الكبير بشأنه، ولكن مشكلتها الأكثر حدة في الواقع أن يزورها أحد .. أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد يدا توقظها من النوم أو الغفوة وتقول لها: قومي يا سكينة .. جالك زوار .
طوال أيام الجمع والاثنين، والحقيقة طوال أيام الأسبوع، يفد العشرات والمئات والآلاف على المستشفى ويوزعون على عنابره ثم على أسرته، وقد يخص كل سرير زائر أو خمسة أو عشرة .. ما عدا سريرها هي، لم يكن يهوب ناحيته أحد، أو للدقة كان زوار جارتها مصمص يتخذون سريرها كأريكة يجلسون عليها، وهي من خجلها لا تعترض أو تأتي بحركة تسبب حرجا لأحد، كانت تغادر الفراش نهائيا وتذهب تتمشى في الطرقة أو تخرج إلى شرفة العنبر القذرة هناك، حيث تتخذ مستودعا لأكوام الزبالة وقشر البرتقال والموز واليوسفندي الآتي لا بد مع كل زيارة.
وهناك .. في تمشيها هذا، كانت سكينة تحزن وتنقبض وتحس أنها مظلومة، وأن لا بد ثمة خطأ في الكون جعلها تبقى بغير زوار .. إن أخاها باستطاعته أن يخطئ مرة ويزورها، وكم زارت هي أخوتها وبنات خالاتها وكان واجبهم في هذه الحالة أن يردوا الزيارة. ماذا حدث حتى جمد قلوبهم، وقساها؟ ماذا حدث حتى نسيها الجميع هكذا، ونسوا أنها في مستشفى! ماذا حدث حتى تنقطع صلتها هكذا بعائلتها وأقربائها وحتى بصديقاتها وبالدنيا كلها؟ لم تكن تدري، حتى مجرد إرسال خطاب، ما أرسل لها أحد خطابا أو بعث بسلام!
إحساس لم يكن يشاركها فيه أحد .. كانت أعمق أعماق قلبها هي التي تكتئب وتحزن فقط .. أما كل ما على السطح من وجه وملامح فقد كان يلتف دائما بابتسامة لا فرق بينها وبين مئزر الصوف الذي تتلفع به.
وطالت المدة ثلاثة أشهر .. وأربعة وخمسة، والمرضى يتغير معظمهم حتى لم يبق من القدامي سوي جارتها مصمص، والوضع على ما هو عليه، وضع عجيب غريب. فهي صحيح ضيقة بالمستشفى والبقاء فيه، تريد بشق النفس أن تخرج وتغادره. ولكنها في نفس الوقت، وإذا ما سألت نفسها لا تعرف أبدا لمن وإلى أين تذهب وماذا بالضبط ستفعل .. لقد كانت قبل دخولها تحيا مع أخيها تخدمه، في انتظار أن يتزوج هو، أو يأتيها هي عريس، ولكنها مرضت وكانت تقضي الليل كله تنهج وتكح حتى ضاق بها الأخ وانتهز أول فرصة أدخلها المستشفى، ربما كي لا تعالج بقدر ما يتخلص منها ومن حشرجات أنفاسها. بل إنها سمعت أنه بعد دخولها المستشفى تزوج وعزل من البيت .. وشقيقاتها كلهن متزوجات، وهي ليست جميلة حتى يرحب بها زوج أي أخت، بل لقد ذبلت وكبرت حتى على الزواج، فإلى من تذهب وإلى أين؟
وضع عجيب غريب، فهي ضيقة بالمستشفى ضيقا لا حد له، ومستسلمة لهذا الضيق والحياة في المستشفى استسلاما لا حد له أيضا، كالسجين الذي يتوق إلى الخروج من السجن إلى الحياة والحرية، ولكنه حين يجد أنه إذا خرج فلن يعرف ماذا ولا كيف يفعل بحريته تلك، يستسلم للسجن. يضيق به ويستسلم له ويكاد يجن بين الضغطين.
ولم تأت المسألة فجأة .. بل وإلى الآن لم تفكر فيها سكينة تفكيرا جديا أو تدبرت ما فعلت، ولكنها هكذا جاءت .. مصمص كانت زوجة أحد المعلمين الكبار الذين لا يقل عدد أقربائهم وأنسبائهم وأولادهم ونسائهم وبناتهم عن المئات بأي حال من الأحوال، ولهذا كان لا يمر يوم دون أن يزور مصمص لا أقل من خمسة أو ستة زوار.
يوم العطلات والأعياد يرتفع الرقم حتى يصل إلى الخمسين .. وكان يبدو على مصمص أنها في الوقت الذي تعتب فيه على فلانة الفلانية لأنها لم تزرها، ما يكاد الزوار يغادرونها حتى تلهث تعبا وحتى تغمغم ببرطمة لا يفهم منها سوى الضيق الشديد بالزيارة والزوار، والمسألة بدأت بأن راحت سكينة تسأل مصمص عن الزوار إذا قدموا، من هم، وما هي درجة قربهم لها، وماذا يشتغلون. ولم يكن الأمر مجرد سؤال. دأبت سكينة على ملاحظتهم بدقة ومعرفتهم بالاسم، حتى لتطفح السعادة من وجهها حين تقول لمصمص بعد خروج زائر: مش ده كان مصطفى ابن خالتك اللي بيشتغل في السكة الحديد؟
فتبهت مصمص وتقول: الله .. وانتي إيه اللي عرفك؟
حينئذ تحس سكينة الناحلة الهادئة الساكنة بسعادة داخلية لا حد لها .. غير معقول بالمرة أو مقبول فقد أصبحت لمجرد أنها عرفت من الزائر وخمنته وجاء تخمينها بالضبط مطابقا للحقيقة.
ولكن هذه السعادة، بالتكرار، لم تعد تحدث. ووجدت سكينة نفسها مدفوعة إلى خطوة أخرى كي تحس بنفس سعادتها السابقة. فبدأت تقدم مساعدات، وتسرع مثلا وتحضر كراسي لزوار مصمص، أو إذا أرادت الأخيرة أن تعزم عليهم بالقهوة أو الشاي أو الغازوزة أسرعت سكينة إلى البوفيه .. تحضر الطلبات بنفسها .. وكانت مصمص تأخذ الأمر في أوله باعتبار أنه نوع من الطيبة من سكينة لا أكثر، ولكنها بدأت تعجب فعلا وقد راحت سكينة تقوم بأعمال غير معقولة أبدا؛ تأخذ الأطفال من الأمهات الزائرات وتداديهم أو تذهب بهم إلى دورة المياه، وتلعب مع الأبناء الكبار وتقول لهذا الزائر .. والنبي وحياتك ابقى سلم على فلانة وفلان وكأنهم أقرباؤها هي!
بدأت مصمص تستعجب، ومصمص لم تكن سهلة ولا طيبة ولا مسكينة أبدا، إنها جهنم الحمراء إذا انفتحت، وإذا رأت في الأمر ما يريب .. وكانت سكينة قد زودتها في نظرها كثيرا وبشكل أصبح لا تفسير له ولا تبرير، تجلس مع الأقرباء والأصهار طوال الزيارة. ولا تغادرهم للحظة وكأنها منهم وعليهم. يتحدثون عن أدق أمورهم العائلية الخاصة فلا تخجل ولا تبتعد. بل أكثر من هذا بها وتناقشها مناقشة المتحمس الغيور، وتبدأ الآراء أيضا .. وتنتظر مصمص على أحر من الجمر أن «تحس» سكينة مرة فتقوم أو تغادر الفراش، أو على الأقل تولي انتباهها إلى الناحية الأخرى بلا فائدة، إذ كانت سكينة لا تفعل شيئا من هذا أبدا، بل تظل طوال الجلسة بأكملها، وبعد الجلسة أيضا، تتحدث وتعقب وتحاول أن تدخل مع مصمص في أخص الشئون وفي الغويط. ومصمص، تكظم وتكظم. فصحيح أن سكينة تتدخل، ولكنها تفعل هذا وهي راقدة في نفس فراشها لا تغادره. بالعكس إن زوارها هم الذين يجلسون على فراش سكينة، وبهذا يعطونها الفرصة للاندماج والتدخل.
بل تطور الأمر إلى ما هو أكثر، وبدأت سكينة تقتنص زائرا أو زائرة من الجالسين على فراشها وتنخرط في حديث لا ينقطع معه أو معها، بحيث تنتهي الزيارة وهم لم يتبادلوا كلمة واحدة مع قريبتهم مصمص، وكأنهم جاءوا لزيارة سكينة أصلا.
ولقد تكرر الأمر مرة ومرة، ومصمص صابرة تكظم، إلى أن كان هذا اليوم الذي قررت أن تنفجر فيه، وهكذا ما كاد آخر زائر في يوم الزيارة يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كقطار وصل إلى محطة النهاية حتى التفتت مصمص إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت بالغ العلو. - بقى اسمعي يا ...
واحتارت قليلا .. أتقطع العشم والعلاقة والعيش والملح مرة واحدة وتقول يا بت يا سكينة، أم تكتفي بنهرها وتقول يا سكينة فقط، فإذا قالت لها يا سكينة فكيف تستطع أن تصب عليها بهذه البداية ما يتفجر به صدرها الضخم العالي الأسمر من غضب وضيق، احتارت مصمص .. وكالبندقية صوبت عينيها إلى سكينة وكأنما لتزيد برؤيتها لها جرأتها وعنف انفجارها .. كانت قد قررت أن توقفها عند حدها، وأن تنذرها بأنها إذا استمرت في اقتناص زائر أو أكثر من زوارها هكذا، فسوف تمرمط الأرض بزوارها. زوار سكينة إذا جاءوا، والعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.
صوبت مصمص عينيها إلى سكينة لتجدها راقدة في سريرها نصف مغطاة الجسد تحملق أمامها كمن يجتر ذكرى لحظة سعيدة مرت .. وفجأة اكتشفت مصمص الجهنمية أن تهديدها الذي يكاد يفلت من فمها لا معنى له بالمرة. أجل هكذا. في وضمة مفاجئة اكتشفت مصمص أن سكينة لا يأتيها زوار ولا ينتظر أن يأتيها أحد .. وهكذا بعد أن كانت قد استدارت واستدار السرير لاستدارتها وقالت: بقى اسمعي يا ...
وحين التفتت سكينة بدهشة ونوع من الذعر تسأل: نعم يا ست مصمص .. لم تغير مصمص رقدتها ولا رفعت عينيها عن وجه سكينة .. كل ما في الأمر أن صوتها انخفض فجأة حتى كاد لا يسمع.
وقالت: لا .. ولا حاجة .. ده كانت كلمة كدة وعدت!
قالت هذا وهي ترمق الفتاة بعينين مشتتتين فوق وجهها. يكاد يطفر منهما الدمع .. وظلت مثبتة عينيها فوق وجه سكينة، لا ترفعهما، وكأنها تراها لأول مرة .. رفيعة نحيلة مقطوعة من شجرة!
ديسمبر سنة 1962م
معاهدة سيناء
الأبطال هنا ثلاثة .. لا بل أربعة، إذا حسبنا «المكنة» التي كان لها دور لا يقل خطرا عن دور الإنسان .. وأول الثلاثة هو «ماشنسكي» الروسي الذي يسميه العمال في المعسكر «ماشا»، وهو أحمر الوجه فاقع الحمرة، تلك التي تميز وتقف حدا فاصلا بيننا نحن شعوب آسيا وأفريقيا وبين الأوروبيين .. والثاني كان «بيل» أو إذا أحببت الدقة «وليم» الأمريكي المعضم، ذو القتب والنظارات والجسد الرشيق النحيل الذي ربما طال في الهواء لو نفخته. أما الثالث فلم يئن بعد أوان الحديث عنه .. أما رابعة الأربعة، المكنة. فهي آلة ضخمة جدا في حجم البيت الصغير أو أكبر قليلا وثمنها كذا عشرة آلاف جنيه، وأصلها روسي. أنتجتها مصانع ليننجراد وجاءت إلينا كجزء من القرض. وجاء معها ماشنسكي ليديرها ويشرف عليها ومن أول يوم له في المعسكر ألغى العمال والموظفون كلمة ماشنسكي نهائيا واستبدلوها بوعي أو لا وعي بكلمة «ماشا» .. والمكنة وماشا والمعسكر كله هناك .. على مدد السفر .. بعيدا جدا، قرب حدودنا الشرقية المطلة على ساحل البحر الأحمر.
وذات يوم حدث للمكنة، مثلما يحدث لأي مكنة في الدنيا، أن تعطلت ووقف ماشا أمامها يدور حولها ويفتح مفاتيح ويغلق صمامات، ويختبر ويجس، وأخيرا نطق وقال للمهندس المصري المشرف على المعسكر (وهو رجل في حوالي الأربعين، وشعره أسود تماما وله كرش، وكان زمان يعتبر نفسه دون حوار) قال ماشا بوجه صارم مبتئس: إن الآلة قد كسرت فيها قطعة مهمة جدا، ولا يمكن أن تعمل إلا إذا جيء لها بقطعة الغيار تلك.
وهكذا أرسل إلى مركز المؤسسة رسالة مستعجلة بطلب النجدة .. وبقي هو والخمسمائة عامل والخمسون موظفا وتكنيكيا في انتظار رد القاهرة .. وهدأت الحركة في المعسكر، فلا حفر ولا ضوضاء آلات ولا أصوات مكن، ولا أغاني عمل، لا شيء سوى مواويل الحظ والكسل تنطلق خافتة من عقيرة حمدان أبو طالب صعيدي قنا القح والمغني شبه الرسمي للمعسكر.
هدءوا جميعا ينتظرون، ولكنه انتظار بلا أمل، فلم يكن أحد يتوقع أو يصدق أن الروتين في المركز سيحقق المعجزة، وأن قطعة الغيار ستصل بأسرع وقت، كما طلب السيد عبد الحميد في استغاثته.
ورغم أن رسالته أوقعت مركز المؤسسة بالقاهرة في دوامة حرج شديد، إذ إن قطع غيار هذه الماكينة بالذات لا توجد إلا في روسيا، ودون إحضارها من هناك مصاعب نقدية ومصرفية واقتصادية لا تعد ولا تحصى، بحيث لا أمل في حضورها قبل ستة أشهر أو سنة.
رغم هذا، إلا أن قطعة الغيار أحضرت على وجه السرعة، وجاءت في وقت كان المعسكر كله قد جاءه أمر بالاستعداد للرحيل وإنهاء العملية، وقد رأى المركز أن يستغني عن الحفر في تلك المنطقة كلها.
أما كيف أحضرت تلك القطعة، فلا أحد يدري للآن، ولا أحد يدري كيف تسرب الخبر إلى شركة «إنترناشيونال» الأمريكية، ولا كيف استطاعت بين يوم وليلة أن تتصل بالمركز وتخبره أنها على استعداد لتوريد قطعة الغيار اللازمة، وفي الحال.
وبين تهييص وطبل وأغان وفرحة، وصلت قطعة الغيار إلى المعسكر، ووصل معها المستر «وليم»، أو كما أصبح هو يطالب الذين يعملون معه بأن يطلقوا عليه الاسم الذي تعود الناس أن ينادوا به وليم وهو «بيل». ما كاد يظهر المستر بيل بالعربة وفوقها الصندوق الخشبي الضخم الذي يحوي قطعة الغيار حتى اعتقد الجميع أن خلاص، المشكلة انتهت، وليس هناك سوى بضع ساعات يتم فيها تركيب قطعة الغيار ويستأنف العمل سيره.
وبأنفسهم ذهب العمال وعلى رأسهم السيد عبد الحميد، يزفون الخبر لماشا، الذي لم يكن قد غادر من لحظتها حجرته. وكانوا يتوقعون أي شيء إلا ما حدث، إلا أن يزجرهم ماشا ويهب في وجوههم، ثم ينطلق خارجا ذاهبا إلى حيث قد تجمع حول المكنة عدد كبير من الناس يحيطونها ويحيطون بيل وصندوقه الخشبي معها. وما كاد يصل حتى صرخ ماشا في الجميع قائلا: لا .. لا يمكن. - لماذا يا ماشا؟ - مستحيل أن تصلح قطعة غيار أخرى غير القطع الروسية للمكنة. - ولماذا لا نجرب ونرى؟ - لا .. لا يمكن.
وقلت إننا لا نيئس، وعلى هذا بينما كان ماشا يرفض ويصر على الرفض، كان العمال يفكون الأسلاك من حول الخشبة ويخرجون قطعة الغيار من الصندوق ويضعونها أمام ماشا قائلين: فلنجرب.
ولكن ماشا أصر على الرفض قائلا: إن المكنة السوفيتية لا تصلح لها إلا قطع غيار سوفيتية.
قال هذا وهو يشد على كلمة سوفيتية الأولى والثانية.
وانقضى يوم، وكاد يوم آخر ينقضي، والتوتر لا يزال قائما على أشده، والعمل معطل تماما، والعمال جالسون القرفصاء، ورءوسهم بين ركبهم يسلون بعضهم البعض ويضحكون، وكلما خرج ماشا من حجرته أو دخل لا بد يلمح هذا العدد الضخم من العمال، والظاهر أن شيئا قد تغير في تفكيره. إذ فوجئ الجميع به يخرج إليهم قائلا: لأجل خاطرهم فقط، ولأجل أن يثبت لهم أنه على حق، وأنهم على خطأ سيجرب أمام أعينهم قطعة الغيار الأمريكية.
وهاص المعسكر فجأة.
وكان لا بد لاختبار قطعة الغيار الجديدة من عقد «كونسنتو» هندسي من ماشا وبيل والمهندس المصري المختص. مؤتمر ظل ماشا في أوله ينظر شزرا وباحتقار شديد إلى بيل، وبيل يقابل نظراته بعينين كأنهما فوهتا مسدسين من مسدسات رعاة البقر في أفلام السينما. ولكن الحقيقة أن تلك النظرات لم تستمر كثيرا، فسرعان ما أدرك ماشا أن بيل يفهم حقيقة الميكانيكا، وأن الناس في الولايات المتحدة ليسوا جهلة كما كان يظن، واكتشف بيل هو الآخر أن ماشا الروسي ليس مجرد أسطوانة مسجل عليها أقوال ماركس ولينين، وإنما هو آدمي أيضا، يغضب أحيانا ويثور، وأحيانا يرضى ويبتسم، ابتسامة صافية جدا كابتسامات الأطفال.
وكان عمل المهندس المصري أول الأمر أن يمنع الاحتكاك المباشر، ويلطف الكلمات الحادة، ويقول لبيل: طب امسحها في دقني أنا، ويقول لماشا: معلشي عشان خاطري، إلى أن بلغ مراده وبدأ الجو يهدأ، وبدأ الاثنان يتناقشان المناقشة الهندسية الخالصة.
وثبت من المناقشة ومن الاحتكام للمقاسات، ومن التجربة العملية، أن قطعة الغيار الأمريكية تصلح لتحل محل القطعة الروسية.
وتهلل وجه المهندس المصري طربا للنتيجة، النتيجة التي كان مفروضا أن يسر لها ماشا وبيل، ولا أحد يدري إن كان أيهما قد تولاه السرور، إنما الذي لا شك فيه أن أحدا لم يكن ليستطيع أن يمنع الصدام الذي نشب حالا.
فما دامت قطعة الغيار قد أثبتت صلاحيتها؛ فلا بد إذن من تركيبها وتسيير المكنة بها ، من يركبها ؟ ذلك هو الصدام المروع الذي نشأ.
ماشا يقول: إن المكنة روسية وأي تغيير فيها أو تبديل يجب أن يتم بمعرفته هو. وبيل يقول: هذه المكنة كانت روسية وهي الآن وبغير قطعة الغيار الأمريكية مجرد كتلة من الحديد الخردة، ولا بد له هو أن يتولى عملية التركيب والتشغيل.
ويثور ماشا ويقول لا يمكن أن أسمح لمندوب شركة أمريكية احتكارية رأسمالية متعفنة أن يعيث فسادا في مكنة أنتجتها أيدي الطبقة العاملة السوفييتية.
ويستشيط بيل غضبا ويقول: أيها الشيوعي ال...
وترتفع أكثر من مائة يد صعيدية وبحراوية، أيد مشققة وأيد ناعمة مثقفة، تحول بين الاثنين وتلطف الموقف.
ويعود العبوس العظيم يحتل وجه السيد عبد الحميد؛ فخلاف ماشا وبيل ليس نقمة، ولكنه نعمة تهبط أول ما تهبط فوق رأسه.
وتطور الخلاف وتبودلت الكلمات الزاعقة الطائشة، حتى عاد المعسكر إلى انقسامه، فلازم ماشا غرفته، وجلس بيل جلسة المتحفز أمام بابه، ووقف السيد عبد الحميد ينقل بصره بين المكنة المفتوحة البطن وبين قطعة الغيار الراقدة بجوارها، وهو لا يحس مطلقا بالشمس المنصبة فوق رأسه. وبآخر ما يستطيع من جهد حاول مرة أخرى أن يجمع ماشا وبيل كي يتفقا ويركب أحدهما أو كلاهما القطعة ويستأنف العمل، ولكنه ما كان يجمعهما إلا ليتشادا ويتفرقا.
وكل منهما يقف موقفا صلبا عنيفا، وكأنما قد استحضر في جسده الواحد عناد أمته بأسرها كل طاقتها على القتال. أجل .. في تلك البقعة النائية من شبه جزيرة سيناء، وتحت لفح نيران حامية تتأجج من صفرة الأرض وزرقة السماء، هناك حيث لا حياة ولا جمال، ولا شيء سوى الرمل والصحراء والجبل والعمل، هناك حيث المعسكر مقاما، كان يقف ماشا وبيل وجها لوجه، شابان متقاربان في السن، لهما نفس المهنة وربما نفس الهوايات، ولكن كلا منهما مستعد أن يقتل الآخر مثلا لو ظل الآخر على صلفه وعناده .. كل منهما عنيد صلب، يريد أن يذبح الآخر ويصفي دمه، كل منهما يعتقد أنه على حق، وأنه لو تراجع قيد أنملة فكأنما كرامة بلده وشعبه هي التي تتراجع.
والحقيقة أن السيد عبد الحميد لم يكن يقف يرقب المكنة وقطعة الغيار وحده، كان يقف معه محيي الدين، أو كما يسميه العمال «النمس»، وهو رغم نهمه الشديد وحبه لالتهام الطعام، رغم تزويغه من الشغل كلما عنت له فرصة، إلا أنه دائما جلاب المشاكل، عمل مع ماشا فالتقط منه الصنعة وعمل مع الألمان فتعلم الميكانيكا. ورغم هذا فيدوبك كان يفك الخط. ولكنه كان يقرأ الصحف بمهارة، متحمسا، أسمر، مبتور البنصر الأيمن، غزير العرق، شعره أكرت، قد أصبح له لون الصحراء الأصفر من كثرة ما علق به من تراب وغبار. ولكن أحدا في ذلك الوقت لم يكن يلقي بالا كثيرا إلى النمس أو إلى السيد عبد الحميد، فالجميع، حلقات، حلقات، مشغولون بتتبع أخبار المعركة الدائرة بين ماشا وبيل، وآخر أنواع الشتائم التي كان يطلقها كل منهما خلف الآخر وأمامه .. وعدد صفائح البيرة التي يقذفها ماشا، وعدد جرعات بيل.
واستمر الأمر هكذا، طيلة اليوم، وحتى غربت الشمس، وجزءا لا بأس به من الليل.
وفي الصباح فوجئ الجميع بشيء لم يكن يتوقعه أحد .. فوجئوا بالمكنة، منذ الصباح الباكر. تدور وقد ارتفع صوتها وتوالت تكتكاتها تشق عنان السماء.
كان النمس، على ضوء كلوب، وبمساعدة زميل له، قد قام، من وراء بيل وماشا ومن وراء الباشمهندس، في الليل، بتركيب قطعة الغيار الأمريكية والتصرف في أجزائها وصواميلها حتى طابقت تماما المكنة الروسية.
وعلى صوتها هب الجميع من النوم غير مصدقين. وتجمعوا بعيون نصف مغمضة يرقبون المكنة الدائرة وبجوارها النمس، وعلى وجهه الطويل ترتسم ابتسامة ظفر عريضة والزيت يقطر من سواعده وجبهته ويديه.
ومن بين الوجوه، مئات الوجوه، تطلع ماشا إلى بيل، وبدا من نظرتهما المتبادلة كمن سيوشكان على الانفجار ضحكا أو غيظا. •••
وظلت المكنة بعد هذا تدور. وإلى الآن وهي لا تزال دائرة. نصفها أمريكي ونصفها روسي، والذي يديرها هو النمس بعينه وسمرته، وبنصر يمناه المبتور.
ديسمبر سنة 1962م
قصة ذي الصوت النحيل
في مثل هذا الأوان (بصوت واهن كأنه الحفيف غير مبال باهت، محدود) .. بدأ كل شيء وكانت المشكلة دائمة أن يبدأ كل شيء، مشكلتي ومشكلة زوجتي والآخرين، سأتحدث بالتفصيل عنهم. كنت هناك وكانت الدنيا ليلا أسود يخيف، مليئا بالأشياء التي تخيف .. هناك كلام لا بد أن أقوله لأي أحد، لا بد أن يعرف واحد على الأقل كل شيء المهم كل شيء.
نفس العمارة، عمارتنا التي نسكنها الآن، قلت لسايس الجاراج والبوابين كل شيء، ووعدوني هم أنهم ساعة ما يرونهم سيخبرونني بكل شيء، بالتفصيل كل شيء. السكان القاطنون فوقنا كويسين وعرفنا نتفاهم بسهولة، إنما السكان اللي تحت، تحتنا، ناس كتير ساكنين في الشقة الواحدة ييجي خمسين نفرا، كتير قوي زي النمل، لو شفت عنيهم، عيون غويطة، إذا بصيت فيها تغرقك وتبلعك، وبقهم واسع قوي، يبلع البطيخة يبلع كل شيء، إنما أصلهم عمرهم ما شافوا نفسهم أبدا، لو شافوها مرة واحدة كان خلاص انتهى كل شيء.
شكسبير في روايته بيقول العين ترى كل شيء ولا ترى نفسها. إنما عيني أنا بتشوف كل حاجة. كانت هي اللي شافتهم. أول عينين شافوهم. ومن ساعتها وفيه قدام عيني ضباب كتير كتيب زي ضباب الصيف في يوم حر، ما اعرفش ليه ما اتخنقوش من الضباب، بالعكس كانوا بيستخبوا مني فيه. حاولت استرضاهم، بعت لهم زوجتي يعني .. شتموها. دول ولا كأن البلد بلدهم لوحدهم .. أصلنا اتاكلنا أونطة واحنا خلاص بننتهي، وكل يوم عامل زي ما يكون بيقطع فينا كل يوم حتة لما ح ييجي اليوم اللي ما يفضلي فينا حاجة. وبيسلطهم علينا وكل يوم تأميم، هم سمعوا حكاية التأميم دي وخرجوا لك من الضباب وحاصروني. عايزين مني إيه؟ ما تعرفش، ما عندهم البلد واسعة وغنية قوي لو حاولنا نبيعها تتباع بكام، بمليون مليون مليون مليون، إنما دلوقت مصر دي ما تساويش عندي حاجة أبدا .. سرقوها اللصوص. أمال نسميهم إيه .. لصوص، نهب، سلب .. قشوطة، ده فيه أسرار كتير قوي بس مش قادر أقول كل حاجة. أنا حاولت كتير معاهم بالذوق بالحيلة ما فيش فايدة، عايزين كل حاجة حتى ابني كانوا عايزين يأخذوه ؛ لولا وديته عند عمته في مصر الجديدة.
ضحكوا على الخدامة وبنجوها وجت لنا مبنجة إما سابتوش بالزعيق دور وبالمحايلة دور، كانت النتيجة إنهم قالوا على اللي قالوه. ولما حصلت الحكاية كنت أتوقع طبعا إن مراتي تقف جنبي، تلاقي عيلة مراتي حد منهم مسلطها علي .. طبعا كان لازم تأخذ موقفا، إما تبقي معاهم وإما تبقى معايا .. للأسف ده يحصل منها .. جايز يكون حد من عندنا اتهمهما بأنها السبب في الحالة اللي أنا فيها دي، وجه رده عليها خلاها تتنرفز وتأخذ الجانب التاني. وكل اللي بيحصل لنا ده من غلطنا إحنا .. لو كنا سبقنا وضربنا قبل ما نضرب ما كنش حصل حاجات من دي، ولا كانوا جابوا سيرة للملكة فريدة، أصلها ساكنة قدامنا وعمرها ما ظهرت لنا وشفناها، فإيه الداعي يشركوها في الموضوع .. وأنت عارف بقى .. أطلع ألاقيهم مراقبين .. أدخل، عينيهم ورايا .. أصل عينيهم صعبة قوي، وخصوصا عينين السكان التي تحت دول. كل عين كأنها ماسورة بندقية، والنظرة منها بتيجي منشنة تمام في الصميم .. مش ع الحسد يعني .. حسد إيه .. كانت تبقى أهون .. ده فيه حاجة تانية أكثر م الحسد كتير .. حاجة زي النار لما بتولع بتقضي على كل شيء .. لما ظهرت الحكاية واتأكدت إن الملكة فريدة مالهاش ذنب، بره الموضوع خالص، وإن اللي تحت هم اللي كانوا ملفقين التهمة، أخويا الكبير جه وقال لي لازم نعزل خلاص، ما عدناش قادرين نقف قصادهم وإننا لازم نسلم ونعزل.
قلت له مش ممكن يهزمونا .. أنا لا يمكن أعزل .. أنا شاب في الأربعين إنما خلوني شيخ في الثمانين .. نعزل ليه؟ ونهزم نفسنا بأيدينا ليه؟ مش كفاية هو علينا؟ هو فاكر نفسه كل حاجة؟ هو فاكر إن أي حاجة عايز يعملها يقدر يعملها، هو فاكر إن الناس رغيف عيش يفضل يقطعه بالسكينة حتة حتة لغاية ما يخلص عليه، هو عايز يعمل مننا بني آدمين زي الحيوانات من غير إرادة ممكن يسوقها زي ما هو عايز، بيسلطهم علينا .. السكان اللي تحت بيسلطهم علينا ويراقبونا ويأكلونا بعنيهم أكل ، عينيهم سوادها كله جوع وبياضها أسود من سوادها .. أنا بأرفض للنهاية، أنا إنسان لي كيان وعيلتي ولي أرضي، حتى لو خدوها برضك بتاعتي.
أنا حاولت كتير أتجنبهم، وقعدت على طول في البيت عشان ما اقابلشي حد فيهم طالع السلم واللا في الأسانسير. أصل لما حد منهم كان يبص لي كنت بحس إني بغرق وغرقان لشوشتي في نار سودة جوة عينين ثابتة زي عينين الميتين، اسأل بتوع الجاراج يقولوا لك. بقوا يجيبوا سلالم حبل علشان ينطوا علينا من الشبابيك فسمرنا الشبابيك، وبقوا ييجوا لنا من تحت عقب الباب، فبقيت أحط أكياس رمل ورا الباب، وأحط الكنبة كمان عشان ما يقدروش يزقوها، لما ليقوا مفيش فايدة بقوا يسلطوا علي التمرجي يديني الحقنة. وكانوا يدوبوا مية عينيهم فيها ويحقني بيها في العضل، أقوم أحس بعد كدة بيهم، هنا، جوايا، وآخرتها قالوا لكل الناس إني عيان، والناس صدقوهم. تصور المصيبة الناس تصدقهم وتكدبني أنا، كل الناس تصدقهم، حتى مراتي أنا تصدقهم، وتتفق مع الدكتور إنهم يدوني حقنة بنج عشان ما أقاومش، كانوا عايزين يدوني الحقنة عشان ما اقدرش أعمل حاجة قدام السكان اللي تحت .. خطة موضوعة .. وللأسف زوجتي اشتركت بعبط وهبالة فيها .. يخدروني أنا عشان دكهم يهجموا عليا ويأكلوني. أنا عندي كلام كتير عايز أقوله، كلام خطير، ده خسر كل حاجة حتى مراتي، عايز أقوله لأي حد، يعرف الحقيقة عشان ييجي اليوم اللي كل الدنيا تعرفها فيها، لازم حد يعرف إحنا قاومناهم إزاي، وإننا رغم كل شيء ما عزلناش، وإن الملكة فريدة ما لهاش ذنب في الموضوع اللي حاولوا يعملوه بينا وبينهم، واسأل البوابين وبتوع الجاراج.
أنا زهقت خلاص من محاربتهم، بيتهيألي إني أسلم زي أخويا وأعزل، واللا أسلم ليه، ده يبقى انتصار لهم ويفرحوا فينا، بس أنا خلاص بعدوني عنهم ومش قادر ولا عارف أقاوم، تفتكر كل شيء انتهى .. تفتكر انتهى كل شيء .. صحيح كل شيء أصبح لا شيء .. تصدقها انت دي .. هو احنا عقب سيجارة نتشرب ونتفعص ونصبح لا شيء، إزاي الناس حواليه ساكتة وكأن ما فيش حاجة حصلت .. إزاي بياكلوا ويشربوا وهم مبسوطين .. هم مش عارفين إن كل شيء أصبح لا شيء، أنا لسة عندي كلام كتير وخطير عايز أقوله بس (مستمرا بصوت واهن كأنه الحفيف، غير مبال، باهت، محدود) لازم حد يعرفه، لازم حد يعرف الحقيقة التي ما حدش راضي يعرفها.
ديسمبر سنة 1962م
الورقة بعشرة
كان صلاح زوجا، وكانت له ابتسامة، ليست كالابتسامات الحية تولد طفلة طازجة وتتفتح فجأة على الوجه ثم تزول، ابتسامة كانت لا تظهر ولا تختفي ولا تولد أو تموت، ولكنها محنطة على وجهه كالمومياء. وكانت بالضبط تعبر عن حياته فهو الآخر يحيا كالمومياء المحنطة، أو على الأقل كان هذا رأيه في نفسه؛ فهو زوج، وهو كمعظم الأزواج ساخط على الزواج، يحس أن حياته المملة الرتيبة تقتله، تميت فيه الحياة بالتدريج.
ولهذا كانت أمانيه.
وهز رأسه وحسرات كثيرة تتبعثر من فمه ومن قلبه. مستحيل. كيف يحتفل بعيد زواجه من روحية. وكيف يهديها شيئا هي التي لم تفكر في إهدائه إلا الكلمات السامة المنتقاة، والشخطات التي لا رحمة فيها ولا عاطفة.
وهكذا لم تطل حسراته؛ فقد أعاد العشرة جنيهات إلى الخزانة، وأغلق أدراجه، وكان موعد الانصراف قد حان، فأخذ طريقه إلى الباب، والشارع؛ ومن ثم إلى البيت وهو يحس بمغص حاد ينتاب قلبه، ومرارة تملأ نفسه، وكأنه ذاهب لقضاء بقية اليوم في السجن المؤبد الذي عليه أن يقضي بقية عمره فيه.
ولكنه طوال الطريق كان يفكر في الورقة ذات العشرة جنيهات، والإهداء الذي كتبه عليها ويقول لنفسه: نعم .. لا بد أن هناك حياة أخرى .. حياة مليئة بالهدايا، والحفلات، والبسمات.
ومع أنه كان فاقد الأمل في حياته تلك وزوجته، إلا أنه لم يمنع نفسه من تمني شيء: أن تكون روحية قد تذكرت المناسبة وأعدت له مفاجأة، أو على الأقل استعدت لتحتفل بالعيد.
غير أن المفاجأة التي كانت تنتظره، أنه لم يفاجأ بجديد. فما أن فتح الباب حتى طالعة صراخ الأولاد، وحتى طالعته روحية نفسها واقفة في وسط الصالة ، وشعرها واقف أيضا، وهي تحاول أن تضرب ابنه الأصغر، والولد يصرخ، وهي تصرخ والجدران تتهاوى وتستغيث، والأبواب تتخبط، ورائحة القلي والطبيخ يتعلقون برجليه ويتعثر في أرجلهم، وألف مشكلة وكارثة ومطالبة لا بد تنتظره.
إنها خانقة، تلك الحياة، وتلك الزوجة.
ألا تعرف ما هو اليوم؟
أجل، اليوم، اليوم يوم عشرة واللبان لم يأخذ نقوده، وبائع الثلج والأولاد جننوني، ولا شيء آخر؟ لا شيء إلا الهم والغم والدروس التي يجب أن تأخذها بنتك قبل الامتحان لتنجح. إنه يكرهها. إنها لم تعد امرأة يشتهيها، ولا حتى صديقة يأنس إليها. ما الذي يربطه بها وكل ما بينهما حرب مستعرة مستمرة، وخلاف يتجدد في كل ثانية. كل يوم يفكر عشر مرات في طلاقها أو الانتحار، وكل يوم لا يطلقها ولا ينتحر، وكل يوم يفكر في حياة جديدة وزواج جديد، وكل يوم لا ينفذ حرفا واحدا من القرارات الحازمة الباترة التي اتخذها! كل يوم يفكر حتى في خيانتها، وكل يوم لا يخونها. ما الذي يربطه بها، حتى الأولاد، إنه يكرههم من أجلها ويكرهها أكثر من أجلهم، ومع هذا لا يتركهم جميعا و«يهج»، ولا يتركونه، ما الذي يبقي هذه العائلة السخيفة متماسكة، وكل ما فيها يتنافر مع كل ما فيها. الخلاف البسيط يؤدي إلى نقار، والنقار إلى شجار، ثم يتطور الأمر ويغادر المنزل غاضبا، وحين يصل السلالم تخرج منه الزوجة، وتقطع الشجار وتقول: إياك تنسى تشتري البزازة؟
ويخرج وهو مصمم على ألا يعود ولا أن يشتري البزازة. ولكنه ما إن يلمح أجزخانة حتى يتوقف، ثم يتصور خيبة أملها حين يعود بلا بزازة؛ فيدخل ويشتريها.
لماذا يشتريها؟ ولماذا - وكل ما بينهما حرب - يراعي شعورها، وتراعي - أحيانا - شعوره؟ ما كنه تلك العلاقة الغريبة التي تجمعهما.
لماذا يستسلم لتلك الحياة، لماذا لا يبدأ حياة جديدة، لماذا لا يبدؤها فورا والآن؟
ولكنه لم يبدأ شيئا أبدا، فقد دخل كالعادة، وحل بعض المشكلات، وعقد بعضها، وتبودلت بضع زغرات وتلميحات وشتائم، وتغدى، وكالعادة نام، وحين استيقظ بعد الظهر؛ كان قد نسي كل شيء عن 10 مايو وعيد زواجه، وعشرة الجنيهات وكلماته المكتوبة فوقها بخط أنيق. •••
ومرت الأيام، وهو لا يحس بمرورها. فمن يوم أن تزوج لم يعد يحس بالزمن، وكأنما فقد ذاكرته، حتى إنه لا يذكر ماهية نفسه قبل الزواج، وكأنما وعى فوجد نفسه زوجا.
مرت الأيام وهو دائب الإحساس، أنه يذوب ويذوب، ويفقد ذاته ونفسه، حتى فوجئ ذات يوم بشيء استغرب له جدا.
كان يفحص مبلغا واردا إلى البنك، وإذا به يعثر على ورقة من ذات العشرة مكتوب على دائرتها البيضاء: إلى زوجتي العزيزة .. بمناسبة عيد زواجنا الخامس.
ولم يكن الخط خطه.
واحتجز الورقة، وظل يقرؤها ويضحك من أعماقه.
كان أحدهم - لا ريب - قد ساقت إليه الصدف الورقة التي كتب عليها الإهداء، فظن أن أزواجا صالحين يهدون زوجاتهم أورقا كتلك في أعياد زواجهم، ففعل مثلهم، وكانت النتيجة هذه الورقة.
ظل يضحك ويلعن الزوج المغفل الذي صدق النكتة.
وبعد أن انقشعت موجات ضحكه أحس بشيء قليل من الندم. فقد أدرك أنه بطريقة أو بأخرى قد خدع ذلك الزوج، وأنه قطعا مسئول إلى حد ما عن تلك الخديعة. •••
غير أنه بمرور الأيام تضاعف ضحكه وتضاعف تأنيبه لنفسه، فقد تبين أنه لم يضحك على زوج واحد فقط، ولكنه خدع كثيرين، فقد وجد إهداءات كثيرة مكتوبة على أوراق بنكنوت من ذوات العشرة والخمسة والخمسين، وأحيانا المائة. ولم يعد يستطيع كتمان الأمر عن زملائه، فأطلعهم على الأوراق، وحكى لهم القصة، وهو لا يتمالك نفسه. وطبعا ضحك الزملاء كثيرا. وتبادلوا الضربات على الأكتاف، وقال أحدهم إن أعظم زوجة في العالم لا تساوي قرش صاغ واحد، فما بالك بعشرة أو بخمسة أو بخمسين جنيها.
وأصبحت المسألة مصدرا لا ينضب للضحك، فما يكاد يرد إلى صلاح ورقة عليها إهداء؛ حتى يشير بالورقة إلى زملائه من بعيد، وكأنما يقول: وآدي مغفل جديد.
ولكن عدد المغفلين كثر بشكل أفقد المسألة ما كانت تثيره من ضحكات، بل كثر بشكل أزعج صلاح نفسه، لقد قرأ يوما إهداء وكان موجها من زوجة إلى زوجها.
وأصبح تأنيب الضمير على الخدعة التي ابتكرها لا يكفي، أصبح لا بد من التفكير، ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ وهل هي مجرد محاكاة لما فعله، أم لا بد أن في المسألة سرا خطيرا لا يدريه؟
وكان عليه لكي يكشف السر، إن كان هناك سر، أن يجرب .. وبهرته الفكرة، وأحس لها بحماس شديد. •••
كان يوم 10 مايو قد اقترب، وعام جديد قد أضيف إلى عمر زواجه، فلماذا لا يفعلها ويجرب؟
أجل، فليجربها في عشرة جنيهات. ولكن تفكيره ما إن حوم حول الرقم حتى هبط حماسه في التو. عشرة جنيهات؟! إنها تكاد تبلغ ثلث مرتبه أو نصفه. إذا كان لا بد من التجربة فليجربها في جنيه مثلا. ولكن، أيصح أن يهدي زوجته جنيها واحدا في عيد زواجها. المسألة حتى من الناحية الشكلية محرجة، ولكنه إذا نظر إليها من الناحية الأخرى، فإنه لا يمكنه أن يهديها عشرة جنيهات مرة واحدة. فهو لا يهدي زوجته، إنه يهدي غريمه، فلتكن خمسة إذن. تكفي خمسة .. إنها كافية جدا.
وهكذا جاء يوم 10 مايو، وجاءت الساعة الثامنة منه، وصلاح عائد إلى البيت وفي جيبه الورقة والإهداء على دائرتها البيضاء حبره لم يجف بعد، وكل ما يحسه هو الفرحة لأنه مقبل، في حياة قاتلة الملل، على تجربة جديدة، وحب استطلاعه يكاد يطل من عينيه إذ ترى ماذا ستفعل روحية؟ وهل يغمى عليها.
وكالعادة فتح الباب، وواجه سوق روض الفرج المعتاد، وبعد أن تم الغذاء والحساب والعتاب، ناداها على حدة في غرفة النوم، ومع هذا أصر ابنه المتوسط على عدم مغادرة الحجرة، وأمسك بروب أمه واستمات عليها. وظل صلاح يتعثر نصف ساعة في كلمات لا معنى لها، ثم أخرج الورقة ذات الخمسة جنيهات، ووضع الدائرة البيضاء أمام عينيها لترى الإهداء.
وبدت الصدمة واضحة على ملامحها، وظلت واقفة في مكانها لا تتحرك، كان لسانها أول ما تحرك فيها، وأول ما فعله اللسان أن فتح له محضرا طويلا عريضا. وراحت تسأله وتضيق عليه الخناق لتعرف من أين جاء بالخمسة جنيهات وميزانيته كلها تعرفها بالمليم والصلدي. وقال لها إنه استلفها لتخصم على شهرين من مرتبه. ومعنى هذا أن ينقص إيرادهم في الشهرين القادمين. وهكذا شبت النار، وبعد لحظات قصار أصبح الحديث اتهامات متبادلة، وشتائم وتهديدات، وأيمانات مغلظة، خرج على إثرها صلاح من الحجرة غاضبا لاعنا تاركا الجنيهات الخمسة تنعي من أهداها.
وجلس في الصالة يغلي وينفخ .. لا فائدة على الإطلاق. إنها حرب لا هوادة فيها. إنه عسكري في جيش وليس زوجا في بيت، إنه لا عمل له إلا الدفاع عن نفسه، والحرب أدابته وهدته، وأتت عليه. حتى العسكري يحظى بهدنة وراحة، أما هو فمعركته لا تتوقف.
وبينما هو يغلي وينفخ، كان عقله يعمل ويحلم، أجل، لا بد أن هناك حياة غير تلك، حياة رحبة، لا قتال فيها ولا خناق ولا ملل، حياة مليئة بالبريق وبالرائع الجديد، ولا ينقصها سوى الجريء الذي ينهي حياته وجبنه وينطلق إليها.
وبوغت حقا حين رأى روحية قد خرجت من حجرة النوم ووقفت قبالته على بابها لا تتحرك، والورقة في يدها. ورمقها وهو يلعنها. لا بد أنها الآن اطمأنت أن الجنيهات الخمسة لم تضع، وأنها على أية حال باقية في البيت. ولكيلا يلعنها، فقد أصبح يضايقه حتى أن يلعنها، حول وجهه عنها.
غير أنها سألته وهي واقفة من بعيد إن كان جادا حقا في كلامه وإهدائه. وطبعا زفر ولم يجب. ولكنها ظلت تلاحقه بالسؤال، ولأنه يعرف أنها إن صممت على شيء فلا بد أن تعرفه، ولو فرقعت مرارته وحطمت رأسه، فلكي يخلص منها قال لها: أيوه يا ستي هدية بحق وحقيق .. بمناسبة عيد الزفت الزواج.
وفوجئ حين وجدها تنخرط فجأة!! لا ليس فجأة .. فقد حدثت في وجهها تغييرات متوالية مضحكة وانقباضات وانبساطات وتجعيدات، ثم انخرطت في بكاء ضاحك. تضحك وتبكي، وتبكي وتضحك، وشعرها منكوش، وروبها مفتوح، والولد لا يغادر مكانه بين ساقيها.
وأخيرا قالت إنها قد أعدت له هدية هي الأخرى. إه يا ستي. وناولته الورقة. وتحت إهدائه وجدها قد كتبت: إلى زوجي العزيز الغالي المحب بمناسبة قراننا .. من المخلصة جدا زوجتك.
وفرت الدموع في الحال من عينيه. لا لأن ما كتبته كان غريبا ولكن لأنه صدر منها وبخطها. ما أروع كلماتها. إلى زوجي العزيز الغالي، حتى أخطاءها الإملائية، حتى إمضاءها، حتى طريقتها الساذجة في التعبير عن نفسها، ولو كانت أجمل امرأة في العالم هي التي كتبت له هذا لما بدا أروع من كلمات روحية، روحية ذات الخرابيش والصوت الحاد اللافح، إنه شيء لا يحتمل، أبدا لا يحتمل.
وأخذها على كتفه وقبلها. واحمر وجهها جدا وهي تقبله، وربما كانت هذه أولى قبلاتها له. وربت على كتفها، وربتت على ظهره، وبكيا، وتعانقا وكما يضيء البرق فجأة، تزاحمت الخواطر في عقله. إن حياته معها كره في كره، وخلاف في خلاف، ومواقع إثر مواقع، هذا صحيح .. ليلة أن صفعها مثلا وخربشته بأظافرها وتدشدش طقم الشاي، ليلة أن اختلفا حول اسم تامر، ليلة أن اصطدمت بالمرحومة أمه، ألف ليلة وليلة من الألم القاسي الممض.
العجيب أنه لا يحس شيئا من هذا الألم الآن، وكأن الألم في حينه يصبح ذكرى بعد حينه فكل، ما يحسه الآن أنه كان شابا، وأنها كانت صغيرة، وأنهما كانا طائشين، وما أعذب الطيش حين تمضي أيامه ويصبح مجرد لحظات تستعاد. إن الخلاف ينفر؛ ولكن العجيب أن خلافاتهما كانت تقربهما أكثر. والخلاف يقولون إنه يخرب البيوت، والخلاف عمر بيته؛ فقد كان لهما حجرة واحدة والآن عندهما ثلاث، ولم يكن هناك أولاد والآن لهما أربعة، وحين تزوجها لم يكن معه إلا التوجيهية والآن معه بكالوريوس، وهي تزوجته وهي مدللة لا تعرف سوى قلي البيض وتخطيط الحواجب، والآن بشهادته أمهر خياطة وطباخة، وكانت بالكاد لا تقرأ إلا «حواء» لتعرف الموضة، وهي الآن تناقشه في السياسة وتبزه تلك التي يعتبر نفسه ضليعا فيها.
ألف خاطر عن له، لو كان قد تزوج مطيعة لا ترفض له رغبة أو طلبا لما تحرك من مكانه وموضعه، ولما تحركت هي الأخرى. إنه مغفل. أيكون ما يعيش فيها هو سعادة الواقع وهو لا يدري؟! إنه كان يفكر دائما كأحد طرفي الخلاف، ولكنه أبدا لم يفكر كزوج لا بد له زوجة ولا تتم سعادتهما إلا معا، ولا يسعد الشخصان معا إلا إذا اقتربا، احتكا واختلفا، ونتج عن احتكاكهما موجات من الرضا والغضب، والسخط والألفة، والحب والكره.
أتكون هذه الموجات هي نفسها السعادة التي طال سمعه عنها.
أتكون كالشرر لا يحدث إلا إذا طرق الحديد بالحديد والحجر بالحجر.
تلك المرأة التي يضمها بين يديه الآن، رفيقة العمر، التي صاحبته لحظة بلحظة وساعة بساعة، لا بد أنها كانت تقاسي مثله، وكانت تكرهه مثلما يكرهها، وتحملته مثلما تحملها. وكل ذلك قد مضى، ويمضي، ويصبح ذكريات أهم ما فيها أنها مرت وطعمها الآن، من طعم العمر المولي، ألذ وأطيب وأمتع طعم. إنها الآن بين يديه ضعيفة، مستسلمة، قد أسعدتها هديته البسيطة إلى درجة البكاء والنشوة.
ألف خاطر وخاطر، وعاطفة قوية مبهمة تتفجر في نفسه، وإعزاز غريب مفاجئ لروحية يكتشف أنه يملأ صدره. أيكون كل ما كان بينهما من خلاف وتعنت وكره هو الحب، الحب الأكبر. أكان من حمقه يحلم بالحياة السعيدة الأخرى والحياة الأخرى هو فيها، ويفكر في الهجرة إلى دنيا جديدة وهو يغمض عينيه عن دنيا الحقيقة الجديدة، ويقول إن إنهاء حياته الخاملة تلك في حاجة إلى شجاعة، والشجاعة هي أن يتقبل حياته هذه، ويؤمن أن روحية زوجته والأولاد والبيت بيته هو دعامته والمسئول عنه.
ألف خاطر وخاطر، وهما واقفان، بين دهشة الأولاد، متعانقان، وكأنهما كانا غائبين لعشر سنوات مضت، وكل هذا بغلطة، بلفتة، بنكتة، بكلمات قليلة على ورقة. •••
ولم تكف أوراق البنكنوت ذات الإهداءات عن الورود لصلاح، مكتوبة على أوراق من فئة العشرة والخمسة والجنيه والخمسين قرشا بعض الأحيان. وكلما قرأ صلاح الإهداء، وتأمل اللحظة التي لا بد سبقته واللحظة التي أعقبته، كانت سعادة غامرة تملأ جوانحه، وكأنه قد اخترع اختراعا للسعادة البشرية، أو اكتشف اكتشافا، ولفرط سعادته باكتشافه حاول ذات يوم أن يبدأ في عد الأوراق ذات الإهداءات؛ ليعرف كم من السعادات تسبب فيها وأحدثها.
ولا يزال صلاح إلى الآن يعد. ويبدو أنه لن يتوصل أبدا إلى معرفة الرقم الصحيح؛ فالأوراق لم تكف أبدا عن الورود.
يناير 1957م
فوق حدود العقل
دونت الاسم والسن والمسكن مرتين وفي صفحتين متقابلتين كما تقضي التعليمات، ولم يكن قد بقي سوى سؤال واحد أو سؤالين عن سلوك الشاب، وأوقع، وينتهي الأمر. ولكن الأمر في ذلك اليوم لم ينته أبدا .. إلى الآن، وأنا لا أعرف ماذا حدث بالضبط وجعلني أشك .. كانت وقفة الشاب عادية .. نفس الوقفة التي وقفها قبله كثيرون، والتي أعرف أن كثيرين غيره سيقفونها .. نفس النظرة الذاهلة الباحثة عن لا شيء!
سألت .. بصوت ضجر، وأذن متعبة، وعقل كان عليه أيضا أن يتلقى الكلمات الكثيرة وينقيها من الضجة، ويترجهما إلى اصطلاحات يمليها على قلمي المشروع ليسد بها الخانات وينتهي كل شيء!
سألت: ما الذي فعله؟ وجاءتني الإجابة .. قام في الليل وأمسك بالسكين وحاول ذبح زوجته التي لم يدخل بها إلا من أسابيع. وحين حاولوا منعه كاد يفتك بهم، تغلبوا عليه وأخذوا السكين منه .. اتجه إلى النافذة يريد أن يلقي بنفسه منها، فاضطروا حينئذ لتكتيفه وضربه والاستغاثة بشرطة النجدة.
وتوقف القلم وعدت أسأل: متى؟ منذ بضع ليال، وبدأ القلم يضيق بوقفته التي طالت دون أن يسد خانة .. وقلت أخيرا: ليس هذا بكاف .. هل تكررت أعماله هذه؟ هل فعل شيئا آخر؟ .. وجاءتني الإجابة: يوهوه! كتير .. يقوم في الليل ويظل يصرخ ويوقظ الجيران، ويتصور أشياء لا وجود لها؛ يعتقد أن إخوته يتآمرون عليه ويريدون انتزاع أرضه التي ورثها عن أبيه، وكثيرا ما يكلم الهواء على أنه الأب الذي مات من عام ويشكو له هذا الأخ أو ذاك!
بارانويد شيزوفرينا .. جنون الاضطهاد .. هكذا خمنت، وكتبت، وأحكمت الحيثيات .. وآخر ما كان قد تبقى ليصدر حكمي بتحويل الشاب إلى مستشفى الأمراض العقلية، ونقله من خانة العقلاء إلى خانة المجانين .. سؤال، مجرد سؤال واحد ألقيه على «المتهم» بمرضه، للتثبت من التشخيص لا أكثر، ولكي يطمئن ضمير القاضي الذي في. - صحيح كنت عايز تقتل مراتك؟
ولم تأتني إجابة ما. وسألت مرة أخرى. وجاءت نهنهة .. إجابة ليست غير متوقعة، فما أكثر ما تأتي إجابة المجانين على هيئة بكاء.
ورفعت عيني، وكأنما إيذانا بانتهاء الجلسة .. كان الوضع لم يتغير .. حجرة مفتش الصحة في المكتب البالي الحافل بالازدحام والضجيج، الباب نصف مفتوح يطل منه وجه التومرجي تزاحمه عشرات الوجوه، والكنبة البلدي بملاءتها الدمور، ولوحة كشف النظر، التي حال لونها واصفر وأصبح بنيا، بارزة من ركن الحجرة .. كعلم مرفوع بالتسليم والإذعان لوطأة الزمن.
وفي الوسط تماما .. كان الشاب نحيلا في «قميص الكتاف» القذر الواسع، مقيد اليدين بأكمام القميص الطويل من الخلف، وبجواره العسكري المعهود، فلا بد مع كل مجنون يرسله القسم من عسكري، ولكنه هذه المرة طويل، مهيب الطلعة، أنيق البزة، يصلح ليكون على رأس قرة قول شرف، أو ليتقدم موكب المحمل.
تأملت المشهد برهة، ثم قلت: خذوه!
قلتها وأنا حزين، نفس الحزن الذي يراودني لثانية في كل مرة تخرج من فمي الكلمة، حزني على دنيانا التي فقدت عقلا، وما أشد حاجتنا إلى كل عقل.
تكاسل الشاب قليلا، ودفعه العسكري بغلظة غير عادية. واستعد التومرجي وفتح الباب، وتراجعت الوجوه، وكادت الحجرة تخلو .. لولا أني تذكرت الخانة التي كنت أنسى ملئها دائما، الخانة التي يقيد فيها اسم قريب المريض الذي أدلى بالمعلومات عنه، وعنوانه.
وقلت: استنى .. فين قرايبه؟
وجأر صوت عيد التومرجي، كالمبلغ في صلاة الجمعة، الذي يعيد كل ما يقوله الإمام: استني .. فين قرايب المريض؟
وسأل العسكري: حضرتك عايز قريبه مين؟
قلت: قرايبه اللي كانوا بيقولولي على مرضه دلوقت. - أنا اللي بقول لحضرتك. - أنت قريبه؟ - أنا أخوه. - أخوه؟!
مرة ثانية رحت أنظر إلى العسكري. وأخيه المريض، ولا أكاد أصدق! - انت أخوه صحيح؟ - أنا ح اكدب يا دكتور؟ الكرنيه أهه، شوف سيادتك!
في الواقع لم أعد السؤال للتأكد، أعدته فقط لأسكت إحساسا حقيقيا بالشفقة، لا على المريض، وإنما على أخيه .. إن الجنون هو المرض الوحيد الذي يمرض فيه الشخص ويحس آلام مرضه الآخرون .. إن المجنون لا يتعذب، العذاب يحل بأهله وأقربائه وذويه .. فهذا العسكري، تراه كم تألم وهو يستصحب أخاه إلى القسم مجنونا، ثم ، وهو يمضي أوراقه من الرؤساء، ثم وهو يقف أمامي يحكي بلسانه ما فعله ويدلل على جنونه، ويعريه، خاصة وهو لم يكن عسكريا عاديا؛ إذ اكتشفت أن على ذراعه أشرطة أربعة، كان واضحا أنه مهتم بها، وبمركزه .. وقد صنعها من حرير أحمر أنيق.
ولكن إنسانيتي لم تستغرق سوى لحظة، عدت بعدها أطمئن على الروتين؛ فالمفروض ألا يرسل المريض مع أقربائه. لا بد من عسكري يوفد لحراسته، حتى لو كان قريبه ضابطا أو شاويشا .. الروتين هو الروتين.
وسألت: أين العسكري؟
ومن بين الوجوه الكثيرة المتزاحمة على الباب، برز وجه ما لبث أن أصبح له جسد رسمي أسود، وبندقية، أعقبتها خبطة قدم، وتحية، ولم يكتمل الروتين إلا بتأنيبه، وإلا باعتذاره لم يكسر القاعدة وينتظر بالخارج إلا بناء على رجاء من الأخ الباشاويش. - خلاص يا دكتور نمشي؟
قالها الأخ مترددا، محرجا، وكأنما يستعجل مغادرة الحجرة وإنهاء الموقف .. ولكني لم أكن معه، كنت أحدق في الأخ المريض الذي بدأت ألحظ عليه أشياء .. كان في وجهه ورقبته كدمات وآثار ضرب، ورقبته بالذات كانت بها عضة واضحة، اشتركت في صنعها قواطع وأنياب، ولم يكن قد كف عن البكاء.
ووجدت نفسي أسأله عما يبكيه، وأنتظر إجابة من الإجابات المريضة المعتادة .. ولكنه ازداد بكاء ولم يجب .. وأعدت السؤال، وأيضا لم يجب، رفع رأسه وبجانب وجهه ألقى على أخيه الشاويش نظرة، انفرطت على إثرها دموع كثيرة من عينيه بلا كلام .. ووجدت نفسي أنظر أنا الآخر إلى الشاويش، ودهشت قليلا حين وجدته يصوب أشعة محمية من عينين واسعتين مبحلقتين، وكأنما يأمر بها أخاه أن يكف عن البكاء، ويكف عن النظر إليه.
ومرة أخرى وجدت نفسي أسأله عما يبكيه، وهذه المرة أيضا لم يجب .. غير أنه بلمحة جانبية خاطفة ألقاها على أخيه سكت، وعاد ينكس رأسه إلى الأرض.
وأحسست، رغم الصمت المستتب، أن الجو مشحون .. وأنني أنا الآخر بدأت أنتبه، وأتفرس، وأحاول أن أستخلص من الصمت سره.
وفجأة التفت المريض كلية إلى أخيه الشاويش، وقال: خذ الأرض يا أخي في ستين داهية .. هات عقد البيع دلوقت وأنا أمضي لك عليه، إنما بلاش تبهدلني كدة يا بدري وأنا أخوك!
وكف عن البكاء. وخفت أن يكون ما قاله مقدمة لنوبة، وما أبشع نوبات مرضى الاضطهاد .. إنها النوبات التي يقتلون فيها ويعتدون ويصبحون كالوحوش الهائجة التي لا يوقفها خوف أو تهديد، خير ما تفعله حينئذ أن تقتنع بكلامه .. وتجاريه، وقلت: هو عايز ياخد أرضك؟
وبانفعال حقيقي، كانفعال البشر العاديين، وجدت كل ذرة من جسده تنتفض داخل قميص الكتاف، وصدره يكاد يمزق القماش صاعدا هابطا لاهثا وهو يقول: ده يا بيه أخويا ابن أمي وأبويا، وأبويا مات وساب لنا تسع قراريط، واحنا ثلاث أخوات .. بدري دهه اللي بيشتغل شاويش وبياخد له ييجي عشرين جنيه من الحكومة، وواحد تاني، وأنا الصغير .. كل واحد منا نابه ثلاث قراريط! ليه وليه إلا بدري أخويا عايز ياخدهم مني عشان يبقى حداه ربع فدان، بقي له ست أشهر وهو كل يوم يهددني ويضربني وآخرتها عايز يوديني السراية .. عشان يستولي عليهم .. كدة يا بدري .. روح يا شيخ الله يسامحك.
كان بدري قد هم أكثر من مرة أن يقاطع أخاه، ولكني بإشارات قاسية كنت أزجره وأرغمه على السكوت، وما كاد أخوه ينتهي حتى انطلق كالبركان المتفجر يقول: بلاش فضايح يا محمد، كفاية بقى الحتة كل يوم تتفرج علينا .. جاي هنا كمان عايز تفرج علينا الدكتور؟!
ثم التفت إلي كمن لا حيلة له، قائلا: أهو زي ما انت شايف كدة يا بيه .. كل ساعة على ده الحال .. لما أنا نفسي قربت أتجنن.
وسألته: إنما صحيح أبوكم فات لكم تسع قراريط؟ - وحياة سعادتك ولا سهم .. حتى اسأل مراته .. يا فرحانة .. يا فرحانة .. تعالي هنا.
ودخلت فرحانة .. كالعروسة الحلاوة الملفوفة في ملاءة من ورق سولوفان، لا يخفي بقدر ما يظهر ويجمل ويجعل الريق يسيل. - انت مراته؟ - قسمتي يا بيه؟ - هو صحيح بيعمل الحاجات اللي قال عليها أخوه؟
قلت هذا وأنا أتفرس فيها، وأعجب بيني وبين نفسي لزوجة يجن زوجها ويمرض، وتذهب معه إلى مكتب الصحة بهذه الحواجب المرسومة والروج الموضوع بصبر وأناقة والبال الخالي .. الخالي حتى من نظرة تلقيها على الزوج المريض! - يا بيه .. أنا في عرضك .. دي مش مراتي .. دي مراته هوه!
هنا فقط التفتت إليه، ودبت على صدرها بيد مثقلة بالغوايش والخواتم قائلة: هي حصلت يا محمد؟ بقى ما نتاش عارفني كمان؟! اخص عليك! - والله ما هي مراتي يا ناس .. مراتي حابسينها في البيت وجايبين دي تعمل مراتي .. يا بدري أنا ف عرضك، إن كنت عاوز الأرض خدها .. هات العقد وأنا أمضي لك عليه!
ولدهشتي .. وجدت بدري يأخذ كلامه جدا، ويلتفت إليه قائلا، بعينين ناريتين: أرض إيه يا بني اللي آخدها؟ ما ربك غانيها من غير أرض .. أنا بتاع كلام من ده؟!
وربما كلامه هو الذي شجع الزوجة ودفعها لأن تقول: أرض إيه يا محمد اسم الله عليك .. عقلك يا خويا أحسن من ستين أرض .. مش عيب تقول على أخوك كدة؟ ربنا يشفيك! يا بيه ده موتني م الضرب ليلة امبارح .. أنا راجل كلوباتي على قد حالي وهوه شاويش في البوليس ومخوف الحتة .. وعاوز يأخذ التلات قراريط بالقوة .. ياخدهم ياخدهم .. بس بلاش توديني السراية وأنا مضروب يا عالم وجسمي مكسر .. اتفضل شوف! - والله يا بيه أنا ما ضربته ولا مديت إيدي عليه. ده حصل وإحنا بنحوشه وهو رافع السكينة على مراته دي .. ده طول الليل قاعد يهربد في نفسه ومطلع عنينا معاه .. كدة واللا لأ يا فرحانة؟
وهزت فرحانة رأسها وبكت وأخرجت من صدرها منديلا صغيرا أبيض جففت به الدموع.
وبدأت الحجرة تمتلئ بالضباب .. أتفرس في وجه الشاويش فأجده ضخم الجسد، ناصع البدلة، مدبب الملامح، صاعق النظرات، أشرطته الأربعة نافرة على كتفه، تكاد تضيء بنور أحمر وهاج، وبجواره أخوه الصغير، ملفوفا كرطل العظم المشفى في خرق بالية وقميص كتاف. وبينهما فرحانة، تبكي بحرقة وتندب حظا لا يعرف صاحبه. والعيون كلها زائغة، لا فرق بين عيون بدري العاقل أو محمد المجنون، والأعصاب مشدودة، والحقيقة قد بدأت تضيع، حتى من العسكري الواقف يحرس هذا كله ويحمي القانون، ومني أنا صاحب أسوأ موقف الوحيد من بين الحاضرين جميعا، الذي كان عليه أن يقرر، في دقيقة أو جزء منها، أين يكمن الحق، ويحكم بين أخوين لم يرهما إلا منذ دقائق، وكل منهما يكذب الآخر، ولا بد أن أحدهما على الأقل كاذب، والآخر إما مجرم أو مجنون .. وبدأ شيء يبرز وسط الضباب .. ولم يكن شيئا .. كان رجلا، ارتفع صوته بالخارج، قائلا للتومرجي: اوع .. ثم ما لبث أن اقتحم الحجرة، وانتصب قريبا من الأخوين على هيئة عسكري آخر، ضخم أيضا وطويل، وعلى صدره كوردونات خضراء كتلك التي يرتديها حرس مجلس الأمة أو الوزراء لا أعرف، وكان شاحب اللون يلهث، وقبل أن يلتقط أنفاسه بدأ يتكلم، موجها كلامه للأخ الشاويش الأكبر قائلا: بقي كدة يا بدري عايز تعملها وتودي محمد السراية؟ الله يلعن أبو الأرض .. دول ثلاث قراريط يا بدري تعمل في أخوك كدة عشانهم.
وقبل أن أسأله عمن يكون .. تطوع هو بتقديم نفسه قائلا: إنه الأخ الثالث الأوسط، وإنه علم منذ قليل أن بدري قد استصحب محمدا بالقوة ليدخله السراية، فجاء يجري ليمنع الجريمة.
وبكى، وضايقني بكاؤه، وصرخت فيه، ماذا يبكيه وهو الراجل الوافر القوة والقدرة، وإذا به يقول: ما يغركش يا بيه .. أصل أنا أعصابي تعبانة شوية، واتعالجت عند الدكتور ناشد فهمي، المدرس بتاع الأمراض النفسانية في الدمرداش.
قلت في سري: المسألة إذن وراثية .. وخيط الجنون يسري في العائلة، وسألت: اتعالجت من إيه؟ - أصلي حصل لي انهيار في أعصابي .. أصلي قتلت مرة حرامي، ومن يومها وأنا بدوخ، وكل ما اشوف بندقية نفسي تغم عليه!
ولا بد أن روح الهزل هي التي تستبد بنا أحيانا .. فقد وجدت نفسي أنسى الموقف تماما، ولا يعود يهمني سوى حالة هذا الأخ الأوسط الذي بدأ يرتجف أمامي ويهتز، وأكاد أضحك كلما قارنت بين جسده الضخم المهيب وصدره العريض الحافل بالكوردونات وبين ساقيه المرتعشتين والدموع السائلة من عينيه، ولم أكن قد رأيت قاتلا يعترف أنه قاتل من قبل، بل لم أكن أتصور أن يحدث للعسكري إذا قتل لصا كل هذا «الانهيار الأعصابي».
وسألته، وأجاب: أصلي كنت عسكري داورية وبعدين شفت حرامي بيكسر دكانة، لما شافني جري، ضربت طلقة في رجليه أهوشه ما وقفش، فضربت في المليان قام جت في ضهره ومات .. وفضلت واقف جنبه لما النهار طلع وخادوني ع القسم .. وبعدين بقيت أهلوس في الليل، وما ارضاش أطلع دوريات. قعدوا يجازوني، وبعدين لما لقيوا ما فيش فايدة حولوني ع المستشفى، وخدت 12 جلسة في مخي على سنة ونصف.
وبدأ يمد يده في جيبه ليخرج الروشتات وأوراق العلاج، ولكني لم أكن في حاجة لأدلة أو إثبات، ودهشتي الأولى كانت قد خفت قليلا، وبدأت أعود إلى القضية المعلقة أمامي في انتظار الحكم. وطلبت من القادم الجديد رأيه فيها، وبدأ الأخ الأكبر بدري يحتج ويقول: يا دكتور ما تسمعش كلامه ده مهفوف ومتضايق مني عشان أنا أغنى منه وما برضاش أديه فلوس، عايز يلبسني تهمة يا دكتور، هو ده معقول أدعي على أخويا إنه مجنون! - ده أنت تعملها .. وتعمل أبوها، دا انت مجرم .. أقسم بالله إنك مجرم .. يا بيه!
والتفت الأوسط إلي شارحا كيف مات أبوهم وترك لهم القراريط التسعة، وكيف أن أخاهم الأكبر هذا بخيل أناني جشع، يستولي على إيجار الأرض ويريد أن ينتزع ملكيتها، وكيف أنه يضع المليم فوق المليم ويحرم نفسه ويقتات بالملح والفلفل حتى يجمع ثمن فدان، وكم مرة حلف بشاربه وبتربة أبيه أنه لن يرجع حتى يصبح مالكا لزمام فدان، وكيف أنه استغل ضعفه وضعف أخيه الأصغر محمد ليفرض عليهما جبروته وسلطانه.
واحنا الثلاثة عايشين في بيت واحد، كل واحد واخد أوضة هو ومراته وولاده، ومحمد لسة مجوز جديد، وبدري ده محتل الصالة بالعافية، ويبقى الفطار عنده ويسيبه ويجي يقعد بالقوة يفطر مع واحد فينا عشان يوفر، وما يهون عليه يشتري باكو شاي واللا بقرش سكر، ولما يشم إن واحد فينا عمل شاي ييجي يستولي على البراد بالرزالة .. وآخرتها عاوز يودي محمد في داهية عشان يتعين وصي عليه ويلهف الثلاث قراريط.
ومرة أخرى بكى ، ونظر إلى أخيه محمد وهو يبكي، فبكى محمد هو الآخر، وتصاعدت من حناجرهما أصوات متحشرجة مختلطة بالدموع تعاتب بدري وتدعو عليه وتطلب من الله أن يظهر الحق ويجازي كل ظالم على ما يرتكبه .. أما بدري فقد وقف زائغ النظرات يصرخ فيهما، وينهر أخاه الأوسط ويعجب كيف يوجه له اتهاما كهذا .. القصد منه - لا شك - أن يحاكم ويفصل من وظيفته، وهو يعلم تمام العلم أن أخاه مجنون وأنه على حق .. أما فرحانة فكانت قد انسحبت من الحجرة، تاركة المشهد يحتله الإخوة الثلاثة ووراءهم يقف العسكري الرسمي صامتا، بليد الملامح، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يفقه مما يدور أمامه حرفا.
وهكذا وجدت يدي تمتد، وتقطع الاستمارة، ووجدت نفسي أعود مرة أخرى لفحص قوى محمد العقلية، بنظرة محايدة جديدة، ولدهشتي وجدت إجاباته كلها معقولة، ولدهشتي الأشد لم أجد إجاباته تختلف كثيرا عن الإجابات التي بنيت عليها احتمال جنونه، نفس الجمل تقريبا، بنفس الألفاظ. كل الفرق أنني أسمعها بأذن محايدة .. إذ الظاهر أنه يكفي أن تفرض الجنون في إنسان حتى تجد في كل ما يقول أو يهمس به أدلة تثبت جنونه، ويكفي أن تفترض العقل في إنسان، حتى لو كان غير متمالك لقواه العقلية حتى تجد في كلماته وإجاباته ما يدعم إيمانك بأنه عاقل.
واتضح أن حكاية القراريط الثلاثة صحيحة، والتهديد صحيح، والضرب والتعذيب قام بهما الأخ الأكبر فعلا ليرغم أخاه على بيع الأرض له بعقد صوري!
ليس هذا فقط، بل بمكالمة تليفونية مع القسم، اتضح أن القسم لا علم له بالورقة المحولة إلي، وأنه هو الذي كتبها ووقعها .. واستصحب العسكري الذي كان لا يزال منتصبا في مكانه لا يفقه حرفا مما يدور.
وحين عدت إلى مسرح الأحداث في وسط الحجرة، كان الأخ الأوسط يحتضن الأصغر، وتتبادل عيونهما الدموع، وبدري الأكبر واقفا شاحب الوجه يدافع بآخر رمق عن نفسه، وكلما تكشف الموقف عن دليل جديد ضده كلما ازداد شحوبه ونبت على جلده العرق الصغير الأصفر.
وأمرت بفك القميص عن محمد وبدأت أتأمل الموقف بيني وبين نفسي لأعرف ماذا يجب أن أفعله إزاء بدري، وهل أحيله إلى النيابة، أم أكتب بلاغا لمأمور القسم ليتصرف معه .. واستقر رأيي على إبلاغ القسم. وبكل الحقد الذي بدأ يغلي في صدري على هذا الأخ المجرم، أمسكت بالسماعة أريد أن أملي بنفسي الإشارة التي ستكلفه وظيفته وأشرطته الحريرية الأربعة والقراريط التي ورثها وزوجته الحلوة التي بدأت تولول في الخارج وتعوي، وأكثر من هذا حريته؛ إذ بالتأكيد سيحكم عليه بالسجن، ولن يقل سجنه عن أعوام!
وهنا وجدت المارد الضخم ينهار، وهو الذي راح هذه المرة يبكي، وقد جفت دموع أخويه، ويستعطف ويتهاوى على الأرض، يريد أن يقبل قدمي، وكلما رأيت هذا كله، ازداد الحقد في صدري عليه .. ازداد إلى درجة رحت معها أهدهد على الأخوين بكلماتي وأذكر لهما أن أخاهما الآثم وقع في الحفرة وأنه لن يخرج منها.
وصاح الأخ الأوسط: ينصر دينك يا شيخ .. يحيا العدل!
وقال الأصغر بصوت واهن: مش قلتلك يا بيه؟!
وقال بدري في هلع: أنا في عرضك .. أنا صاحب عيال.
ثم التفت إلى أخويه قائلا: مبسوطين يا ولاد طلبة؟! أهو بيتي اتخرب يا محمد، يرضيكوا كدة يا ولاد طلبة، يا ولاد الحرام.
وقال الأوسط: جزاك ما صح لك.
وقلت في سري: وكل هذا من أجل قراريط ثلاثة؟!
وفوجئت بالحجرة تتحول إلى مناحة، بدري يشهق بصوت عال، والأخ الأوسط بدأ يضم الأصغر، حتى بعد أن انتصر، ويبكيان، ولا ريب أن أباهم طلبة كان هو الآخر في قبره يبكي ويتلوى.
وجاءني من السماعة صوت أخنف مزعج يقول: أيوة هنا القسم .. انت مين؟
وأجبت: احنا مكتب الصحة .. خد الإشارة دي!
وعلا بكاء بدري إلى درجة غير معقولة، بينما كف الأصغر عن البكاء وراح يتطلع إلي، ثم إلى أخيه .. ثم وجدته يترك ذراع الأوسط الذي يضمه ويتقدم إلى المكتب ويرجوني، بكل ما في طاقته من ذلة، أن أوافق وأحيله إلى المستشفى، إن كان في هذا إنقاذ لأخيه!
وسكتت الحجرة كلها .. ووقف بدري جامدا في مكانه كالمصعوق.
ثم وجدته يندفع إلى محمد يحاول عناقه، ولكن محمد دفعه عنه قائلا: دا مش عشان خاطرك .. دا عشان خاطر أولادك! - يا حبيبي يا محمد .. أنا عارف برضه إني ما اهونش عليك.
وفوجئت بالأوسط هو الآخر يتقدم ويرجوني، إن لم يكن جاء محمد صالحا للتنفيذ، أن استبدل الاسم الأول في الخطاب. الاستمارة. وأن أضع اسمه بدلا منه، وانهياره الأعصابي، والعلاج الذي أخذه يؤهلانه لدخول المستشفى، وإثبات أن بدري على حق وأنه لم يزور ولم يكذب.
واحترت ماذا أفعل والسماعة في يدي بدأت تنقنق وتقول: أيوة يا مكتب الصحة!
وبدري يقول: أنا أستاهل وديني في داهية ما ترحمنيش!
والأصغر يقول: كل اللي قاله بدري مضبوط، أنا مجنون.
والأوسط يقول: ما تسمعش كلامه، أنا بداله!
والسماعة معلقة في يدي، ينبعث منها الصوت الأخنف المزعج، مستعجلا نص الإشارة، وكأنه صوت القانون يطالب بتطبيقه وإبلاغ الإشارة وسجن الأخ.
ويا لها من لحظة، تلك التي تحس فيها أن مصير إنسان معلق بكلمة تقولها أو زناد تضغطه.
لحظة خيل إلي أنها طالت وامتدت، وأن المشهد نفسه طال وامتد وتجمد، وأنه سيظل هكذا لن يتحرك أو تدب فيه الحياة إلا حين أفتح فمي وأنطق كلمة.
ولأمر ما أحسست أني، بدموع داخلية، أبكي. وأتذكر إخوتي، وأحس أني رابع الثلاثة الواقفين أمامي!
وصرفني الشعور بأني لا يجب أن أفعل كما فعل الأخ الأوسط وأضرب في المليان، وعن عمد قررت أن أنسى القانون، وأخطئ، وأنصت للهاتف في داخلي، وأسكت صوت السماعة.
سنة 1961م
هذه المرة
كان الضابط كريما، ولم يشأ أن تتم الزيارة في الحجرة المخصصة للزوار المملوءة بضجة عشرين مسجونا يقابلون بلهفة مجنونة مائة أو أكثر من الأهل، والجميع يصرخون في وقت واحد، عبر السلك الأصم المستمتع بصممه. لأمر ما جعلها الضابط زيارة خاصة تتم في حجرته، ربما لأن الزائرة كانت جميلة رقيقة ممشوقة القوام تضع على عينيها نظارة سوداء أنيقة وترتدي جوربا من النايلون الغامق. و«إمام» كان يعرف منذ الصباح الباكر أن له زيارة، ولأربع ساعات طوال كانت ينتظر، والانتظار في السجن ليس مؤلما، إنه عمل، عمل طويل لا ينقطع ولا ينتهي، يتسلمه المسجون لحظة أن يضع أقدامه في العنبر؛ إذ عليه من لحظتها، حتى لو كان الحكم مؤبدا، أن ينتظر لحظة الإفراج، وكل ما يفعله بين ساعة دخوله سجينا وساعة خروجه حرا طليقا، أن ينتظر، ينتظر الليل إذا جاء النهار، وينتظر الغروب حين تشرق الشمس، وينتظر وجبة العشاء المتواضعة أثناء توزيع الإفطار، انتظار يتكفل الزمن بتغيير طعمه ولونه، حتى ليؤديه الإنسان بلا ملل، وإنما باستسلام تام للانتظار وخضوع مطلق له.
منذ الصباح وهو ينتظر أن ينادي عليه الشاويش قائلا: «إمام محمد إبراهيم .. لك زيارة.» أربع ساعات طوال وليس في عقله إلا المفتاح حين يدور في القفل، أو صوت الشاويش الغليظ الهادئ الملول وهو يقول: زيارته.
أجل ستزوره سهير مرة أخرى. وهي دائبة على زيارته منذ أن دخل السجن، لم تنقطع إلا مرة أو مرتين، ولكنها دائبة، ودود، مستمرة، كالإحساس الدافئ بالأمل. وهو في كل شهر ينتظرها، ولا يمضي الشهر إلا إذا جاءت، إذا تأخرت يوما أو أسبوعا؛ توقف الشهر يوما أو أسبوعا، ولا يتحرك ولا يبدأ شهر جديد إلا إذا جاءت .. إن ما بينهما ليس غراما مشبوبا، فلقد كان يحبها ويحن إليها ويعشقها كما تعشق الليلات والجولييتات، وهو حر، ويرغب فيها أحيانا ويشتهيها كما تشتهي راقصة البطن حين تتلوى بإغراء مثير أمامك، وأحيانا يطمئن إلى حنانها الأكبر من عمرها وطاقتها ويهفو، وأحيانا يزود عنها ويضيق، مثلما يضيق معظم الناس بحياة الزواج، يحبها ويحب ابنته منها، وابنتهما جزء من ذلك الحب، كأنها التجسيد المادي لعواطف لا ترى ولا توزن، ابنته كانت صحيحة حلوة ضاحكة متفتحة، بضة وذات دلال، تماما كما تتدلل أمها إلى درجة لا بد أن يتساءل الإنسان معها، ترى أهي صورة من أمها التي تحبه ويحبها، أم هي صورة لما بينهما من حب. والخوف أيضا كان هناك. لقد انقضت ثلاث سنوات منذ أن كان معها في فراش واحد، ولقد رآها تضمحل، ويسألها عن طعامها ، فتخبره أنها لا تجد لديها الرغبة في أن تأكل، أو حتى أن تحيا، وكان في مرات يلحظ لونها أحمر على غير العادة كأنها تعاني من حمى، ولا ينسى أبدا رعشة يدها ذات مرة ثم شفتيها، ثم رعشتها كلها حين ذلك كفها الممدود إليه وهو يودعها ذات زيارة. أحيانا كان يواتيه خاطر مجنون يهب به أن يأخذها، هكذا أمام الملأ وداخل السجن، وليطلقوا عليه النيران. كان هو الآخر يعاني، ليس فقط من جسده، وإنما من كبت وجداني كان الجسد وسيلته إلى تخليصه منه .. يعاني من إحساسه باختناق قدرته على إعطائها، من حرمانه أن يمنح بسرف وبذخ كما تعود أن يكون عطاؤه.
كانا قد تزوجا عن إعجاب شديد، تطور إلى غرام وغيرة ومحبة وتضحية، كقصص الحب العاصفة، وتكفل الزواج بصهرهما معا، لم يعد يحس بها منفصلة عنه .. أو كائنا آخر مستقلا .. لكنها أصبحت جزءا أنثويا منه، أو لكأنما أصبح جزءها المذكر .. إنها معه، فهي داخله، وهو يحس بنفسه هناك، في روحها، في أعماق نظرتها، داخل كل انكماشة وانبساطة في ضلوعها الدقيقة، وهي تأخذ الشهيق أو تصدر الزفير. إنه حتى يحس بنفسه داخل شعوره بها، كل متلاحم كالكائن الحي لا يمكنه فصله، وأي فصل له أو انقسام لا يزيده إلا حياة وقوة واتصالا.
ودار المفتاح في القفل، ولم يسمع - رغم ترقبه له - ما نطق به الشاويش، سار أمامه، حليقا. قضى وقتا طويلا يوصي المسجون الحلاق كي يجتث كل ناشز من شعره وينعم ذقنه، قام بمحاولات الدنيا كي يستحم بماء ساخن ويلقاها نظيف الجسد، لامع الوجه، كان كأنما هو ذاهب لملاقاة الحياة، تلك التي يبقى ميتا طيلة الشهر حتى تشرق عليه في النهاية، وبنظرة واحدة منها تلمسه لمسة ترد إليه الحياة، حقيقة يحس بجسده يضطرب بتيار عارم متلاحق متشابك من الانفعالات والأحاسيس، يحس بنفسه قد اتصل ببحر الحياة، أصبح جزءا واعيا متفائلا من الوجود الميت الأحمق.
ودخل الحجرة، وشكر الضابط بكلمات غير واعية، وعيناه تبحثان عنها، كانت بجواره تماما ولم يرها، لم يرها إلا حين سمعها، تقول، وكأنما تعبر عن الدهشة لنفسها: إمام. التفت. كانت هناك. لم يتبين وجهها أول الأمر، كعادته، كان دائما يخاف، كلما مرت بخياله في وحدته، أن يفقد القدرة على تذكر وجهها بكل دقائقه، وفي كل مرة يراها كان يجدها متغيرة، أبدا لم ير لها نفس الوجه مرتين، كل مرة يراها فيها، سواء في السجن أو خارج السجن، كانت بوجه، دائما جديد ومختلف، وكأنه لم يره، دائما متغير وكأنه لم يثبت على حال، ولكنه ما يكاد يرى وجهها حتى يعرف ويدرك أنه وجهها، وأنه هكذا كان يبدو، وهكذا سيظل يبدو إلى آخر العمر، وجهها .. الذي له، يضحك له، ويعبس بسببه، ويحلم به ويشتاق، ويشع حبا من خلاله. وكما التقيا كانت تحدث هذه الالتماعة، في عينيها وعينيه، حتى لكأن شرارة تحدث، وضوءا مفاجئا ينسكب فيعشيهما معا .. لومضة، ويحس أنها لا تراه بقدر ما تدرك وجوده. وتحس كأنما عثرت على كنزها المنشود، الذي ظلت تبحث عنه ولا تكاد تصدر عثرت عليه، ورغم هذا لا تطمئن أبدا إلى عثورها عليه.
ودون أن يشعرا، اقتربا، وتلاصقا، كما يحدث دائما كل اقتراب لهما وتلاصق، وأمسك بذراعيها في قبضتيه، ومن أول لمسة أحس بذلك الشيء الذي كان عليه أن يدركه حالا. وتأملها عن قرب. كان لا يزال غير قادر على رؤيتها بدقة، وكأن الشرارة المعشية لا تزال هناك. وكانت تبتسم، ولكنه كان يحس أنها تبتسم لأنها تريد بإرادتها أن يراها مبتسمة، وليس لأنها أعماقها تريد الابتسام. ربما لو تركت نفسها لسجيتها لبكت أو لعانقته أو لاندفعت مقدمة على عمل أعمق. كانت ابتسامتها ربما علامة عجز، عجز عن أن تصنع شيئا آخر. وصدرت عنها الكلمات السريعة المتلاحقة التي تصدر عن كل الناس في مواقف كتلك. ازيك. صحتك. وحشتنا. نوسة. كلمات، تحركات أفواه وتقلصات ألسنة وحناجر ليس إلا؛ فالعقل مشغول بعملية تفحص كاملة تامة، كل يتفحص الآخر، بأجهزة لا أسماء لها تقيس كل دقيقة فيه، ليطمئن إلى أنه هو، وأنه لم يتغير، أو إن كان قد تغير فإنما إلى ارتباط أكثر وحب أقوى وتعلق لا حدود له. أجهزة دقيقة شاملة منتشرة في كل اتجاه، تستقبل وترسل، وتمتص وتفرز، كل خلية وكل عضو في الجسد، كأنما يريد الاطمئنان على الجزء المقابل له. كان يشتاق إليها بنفسه كلها، بيديه وأنفه وشعره المجعد .. بشاربه الحليق، بالحسنة السوداء في أذنه، يشتاق إليها كلها، للبحة في آخر صوتها، لرائها الغينية حين تنطقها، لتغابيها عليه. لتدليلها إياه، لهمهمة الغناء غير الجميلة حين تدندن بها في ساعات التجلي، لكل شيء، حتى لإصبع قدمها الصغرى الخالية من أي ظفر.
وأحس بنفسه قلقا على غير العادة، أطالت أجهزته التفحص والقياس والاستقبال، وأكثرت من التجاوب والإعطاء، لم تستقر على رأي بعد، ربما لهذا ظل يردد .. ازيك .. صحتك .. اللذيذة نوسة وضرسها المؤلم الفاسد .. في كل مرة كان عقله يستمر يردد هذه الكلمات إلى أن تكتفي أجهزة جسده وتعطيه إشارة خفيفة أنها انتهت، حينئذ كان العقل يبدأ عمله ويستطيع أن يعود يعقل وينظر، ويتأمل ويدقق، لتبدأ النظرة الثانية. النظرة المتمهلة المتمعنة التي لا قلق فيها، ولو كان موعد الزيارة معروفا؛ فاللقاء دائما مفاجأة يطير لها الصواب، نظرة المتعة بالرؤية والالتهام، التهاما، بالمزاج والراحة وأقصى درجات السعادة. إزاي نوسة؟ رابع مرة في دقيقة واحدة يسألها سؤالا أقرب للاستعجال منه إلى السؤال، وليس استعجالا لها وإنما استعجال لنفسه اللاواعية أن تنتهي من إجراءاتها الكثيرة المعقدة وتئوب إليه، ليئوب إليه اطمئنانه ووعيه. كويسة قوي، مشتاقة لك. هي الأخرى تجيبه ناظرة في عينيه، شاخصة إليه كأنما تنتظر أن ترى في عينيه شيئا، إشارة أمان تعودت رؤيتها، جواز مرور، نظرته هو. الحقيقة التي تعرفها حين ينظر بها إليها هي، وتراه ينظر إليها دونا عن الكون والدنيا، هي فقط التي تكون في عينيه وكأن العينين تصبحان عينيها، عينيها وحدها، عيناه وعيناها، وبدأ القلق يدب ويهدد بأن يصبح توترا، ولم يكن يريد أي توتر. كان يحلم منذ الصباح بأن تتالى، في نعومة ويسر، نظراته، الأولى المذهولة، والثانية المستمتعة، والثالثة حين تبلغ المتعة حد النشوة، والرابعة الحالمة المكتسحة الخارجة به وبها من خلف الأبواب الموصدة إلى الدنيا المتسعة، إلى الغد، الغد الطويل الممتد الذي لا نهاية واضحة له. أي تلكؤ حرمان، وزمن الزيارة قليل، وعقله من خوفه يساهم في الإسراع ويكاد يقسم لأجهزته وحواسه الظاهرة والخفية كل شيء على ما يرام وإنها هي، وجهها القمحي هو هو، عيناها العسليتان الواسعتان ذواتا الحدقتين المكونتين من ألف لون ولون، المشعتان بألف شعاع وشعاع، شعرها الأسود اللامع: أسود ولامع، فورمته مختلفة ولكنه شعرها، روحها هي نفس روحها أو تكاد، لا خلاف يذكر أو يلحظ، ولا يمكن أن يكون هناك خلاف، إن أي خلاف معناه اختلال في نظام الكون لا بد، صحيح أنها معتنية بزينتها أكثر من كل مرة، قلم الحواجب واضح خطه في حواجبها، والريميل يرمل أجفانها أكثر، وإن كانت فسفوسة صغيرة لا بد من أثر الجو أو الهضم قد نبتت من زاوية فمها، إلا أن شفتيها هما شفتاها، بروزهما إلى الأمام لم تتغير درجته، والروج ينطبق تماما على حوافهما كما تحب أن تبدو، لا شيء تغير، بل ربما اللهفة أكثر، وقلقها للعثور عليه في عينيه وعلى نفسها داخله أكثر.
ولكن نفسه استمرت تتفحصها غير مبالية بقلقه أو استعجاله أو ضيقه، مندهشة لا تزال، غير مدركة تمام الإدراك ما ترى، تتفحص، بلا وعي تتفحص، دون أن يشعر بها أو يسمح لها تتفحص، كأنه يراها لأول مرة تتفحص ماذا هناك يا ترى؟ ماذا يوقفها ويبقيها؟ ماذا يدهشها ويذهلها؟ ما المجهول فيها وهو يعرف كل لمحة منها وفيها .. لا أحد، لا عقله، ولا جهاز من أجهزته يرحمه ويجيب، أو حتى يعرف ويدرك ولا يجيب. وكلمات الشوق والترحيب مستمرة، عصبية من وراء القلب، ولمجرد قول شيء، مستمر، والحجرة تبدو أحيانا واسعة كفناء السجن، وأحيانا تضيق لتصبح أضأل من الزنزانة، والضابط جالس إلى مكتبه منجعص إلى الخلف بالجريدة مفتوحة، وبعين نصفها يقرأ ونصفها الآخر مضاف إليه انتباهه كله، يراقب ما يدور بين الرجل والمرأة، لا يراقب محرمات أو مخالفات، وإنما على الرغم منه، ولمجرد حب الاستطلاع يراقب، مراقبة لا يراها أي منهما ولكنهما يدركانها تمام الإدراك، ويستعجلان اللحظة التي يندمجان فيها معا ويغيبان عن الوعي بالزمن والمكان وحتى بهذه الرقابة من الضابط.
لحظة طالت وامتدت حتى أصبح تأخرها أمرا واضحا لا شك فيه، أمرا يدفع الموقف بكميات أكبر من القلق، قلقه، وقلقها، على قلقه .. وقلقه حتى من قلقها عليه.
فجأة أفلت الزمام منه، ووجد نفسه يسألها: إيه اللي حصل؟
وكان بوسعها أن تسأله ما يقصد، وعن أي شيء بالضبط يتحدث، ولكنها مثله لا تريد للوقت أن يضيع، ويخاف أن يضبطها في لحظة تغلب. إن السؤال وإن كان يبدو مائعا عائما، إلا أن الصوت الذي نطقه به كان محددا مستغيثا يطلب إجابة حاسمة تشفي الغليل. وبسرعة وبحسم قالت: لا شيء حدث. مالك؟ أنا؟! ما مما ليش .. لا .. لازم فيه حاجة .. حاجة إيه؟ ولا حاجة. إنتي متغيرة. أنا؟! متغيرة إزاي؟ لازم مش إنتي. إزاي مش أنا؟ أنا أنا .. كل مرة أنا أنا .. إنما المرة دي إنتي مش إنتي .. أمال مين؟ أنا مين؟ أنا سهير بتاعتك مش فاكر! صحيح بتاعتي! ودي عايزة سؤال يا إمام؟ بتاعتك بتاعتك بتاعتك .. إنما برضه يا سهير لازم فيه حاجة!
ولاحظ ارتجافة عابرة جدا سرت بشفتيها، لم يكن ليلحظها لولا فسفوسة عسر الهضم. أمام الحاجز الذي أقيم بدت العواطف تتجمع بسرعة وتتزايد وتتراكم وتهدد باكتساح السد الذي أقامه بلا سبب معقول أو غير معقول أو بصناعة مجرى جانبي آخر. وهكذا كان لا بد أن تأتي النظرة الثانية، بحكم قانون القوة جاءت ووجدت وأصبحت أمرا واقعا، ولكنها لم تأت كما تعودت أن تأتي كل مرة، حين تحل محل النظرة الأولى الحيرى المتسائلة المذهولة، جاءت النظرة الثانية هذه المرة دون أن تختفي الأولى أو تزول، تراكمت فوقها، فوق الذهول والحيرة والتشتت، وأيضا لم تكن نظرة استمتاع والتهام متمهل سعيد منتش، جاءت مختلفة، غريبة، مجرد رغبة أعظم في بحث متعجل حاد، لهفة، إحساس دافق قوي بضرورة العثور على نهاية، على قاع، على حقيقة. - فيه إيه يا إمام؟
سؤال منزعج من فم منزعج والملامح التي أطلقها فيها رجفة، لا بد رجفة اضطراب، لم يكن قد حدث ما يستدعي السؤال أو الانزعاج، كما لم يكن قد حدث ما يستدعي سؤاله المفاجئ عما يمكن أن يكون قد حدث. ولكن المشكلة أنه لم يكن مطلوبا أن يحدث شيء واضح ليسأل أحدهما الآخر، أو ينزعج، إن الحياة معا في حب أو زواج، صنعت مثلما تصنع لكل الناس. ذلك الالتحام الشامل الذي يجعلك الآخر وتحسه، ربما قبل أن تفهم نفسك أو تحسها، تفاهم بالإحساس يتم بالتأكيد قبل أن يتم التفاهم بأي لغة أخرى، حتى لو كانت لغة العين والنظر، إنه تشابك الأفرع والأغصان والأوراق وتداخلها في شجرة إحساس واحد مسيطر، حالة لا يزيدها البعد إلا حدة، والحرمان إلا شحذا ومقدرة، وكلما ازداد الطرفان بعدا، اقتربا وأصبحا أكثر تشابكا .. فانفصال أيهما عن الآخر في الزمن أو المسافة لا يبعد ولا يعزل، ولكنه يقرب ويكثف ويربط، فيه إيه؟! أي نعم فيه إيه؟ وإيه بالضبط ري سؤالك حصل .. انطق .. تكلم .. فيه إيه .. أبدا ولا حاجة .. إذن لم يحدث شيء، وليس هناك شيء؟! ما الأمر إذن؟ ماذا هناك؟ ماذا دهاك. ولو كان الوقت يسمح لاستمرت المطاردة الخالدة غير الجديدة على علاقتهما .. إلى ما لا نهاية .. ولكن الوقت، كان مدببا، كالترس المسنونة تروسه، كلما دار وخز وألم ونبه وجأر بأنه يدور ويمضي مهددا بقرب انغلاق دائرة الدقائق العشر المصرح بها.
ولكن ماذا يصنع أو يقول في موقف لم يحدثه هو بإرادته، في موقف تكوم وتكون وتراكم وتشكل حقيقة واقعة دون أي تدخل إرادي أو عقلي أو حتى وجداني منه، إنما حدث هذا وكأنما حدث بواسطة جسده وأعضائه وعضلاته وعظامه والأجهزة اللاإرادية الغريبة المركبة فيه، في موقف عاجز عن فهمه وإدراكه. موقف حدث لا يدري كيف، ومستمر في حدوثه لا يدري كيف أيضا، وسادر في استمراره إلى ما يبدو أنه اللاحل واللانهاية، لا يدري كيف أيضا، سهير يا حبيبتي أنت أنت، لم يتغير فيك شيء، أليس كذلك؟! بل تغيرت يا إمامي وأصبحت أحبك كما لم أحبك من قبل أو من بعد .. ليتك تؤجلين الكلام عن الحب، كل كلام عنه، أحس به غير طبيعي .. ومصطنع من أجل هذا الموقف، إن الحب يأتي بعد الاطمئنان، وأنا لا أزال لم أطمئن، نفسي التي تحركني وتشعر لي لم تطمئن، عقلي لا يزال مذهولا يبحث عن خلجة اطمئنان، ومنك يأتي اطمئناني، وفي يدك الحل إذ التفسير لا بد عندك. أنا أنا لم أتغير يا سهير، أنا كجدران الزنزانة، كساعة «التمام» بعد الظهر، كوقع الأحذية الثقيلة على بلاط العنبر، أنا مثل أي شيء وكل شيء هنا، لا أتغير ولم أتغير. أنا ثابت وأنت المتحركة، أنت الطليقة، أنت المتغيرة.
ولكن يا حبيبي برغم أني طليقة ومتحركة، برغم وجودي في الخارج الحر أنا معك ثابتة لا أتغير. أنا هنا وإن كنت أبدو هناك، أنا سجينة داخل ما هو أفظع من سجنك، داخل الحياة الطليقة، كلام جميل مثل حوار أفلام الحب ولكني لا أريده، وإن كنت في كل مرة أسمعه. أجن إلا إني لا أريده. هناك شيء مؤلم حاد يشتتني ويجعلني لا أريد أن أصغي قبل أن أوقن وأعرف. تعرف ماذا؟ أعرف من أنت؟ إن فيك شيئا لا أعرفه يجعلني أحس أني لا أعرفك كلك، شيء جديد غريب علي، حواسي تحوم حوله وتجفل ولا تستطيع إدراكه. أراه ببصري ولكن لا أعيه. أيكون قد حدث شيء يا سهير؟ أيكون؟ أرجوك .. دعيني أعرفه، كيف؟ اعرفيه أنت واعترفي لنفسك به فأعرفه أنا. حوار غير منطوق أو مسموع أو حتى مار عبر العيون، ولكنه رائح غاد في سرعة وتحفز ككرات البنج بونج، لا يستقر ولا يهدأ، وإنما تزداد به النظرات جهلا واستيحاشا وتوترا، ويزداد به الزمن وخزا وإيلاما، لم يبق على انتهاء الزيارة سوى دقائق ثلاث أو أربع. سهير يا سهير. أنت لي. كلك لي. حتى ما فيك من خطأ لي. بحقك علي وحقي عليك أخبريني ماذا حدث؛ إذ مهما كان ما حدث فهو فسفوسة يا سهير بالقياس إلى حياتنا، فسفوسة لا أعرف لها مكانا ولا سببا ولا اسما، أحس بها تافهة سطحية تكفي ضغطة صغيرة لتنمحي وتتلاشى. كل ما يضخمها، كل ما يعرقلني عنك، أنها غريبة علي؛ لأنها غريبة عليك. - انت شايف إيه؟ - مش عارف. - عايز تقول إيه؟ - مش عارف. - شاكك في إيه؟ - مش عارف. - أمال فيه إيه؟ - مش عارف. أنا خايف. - من إيه؟ علي؟ ما تخافش. - ده كلام يمكن من قدامي بس. - قدامك ومن وراك. - أمال أنا حاسس بيكي متغيرة ليه؟ - يمكن إحساس خاطئ. - وهو عمر إحساس اللي بيحب بيخطئ؟ أبدا أبدا يا سهير .. عمر إحساسي بك ما أخطأ .. عقلي بيغلط إنما إحساسي لا .. وده هو اللي تاعبني! - انت بس اللي عاوز تتعب نفسك. - وحد بيعوز يتعب نفسه؟ - أيوة .. لما يكون مسجون بعيد .. وبيحب .. يخاف على حبيبته أو مراته فيشك ويخاف ويتعب نفسه! - ده كلام معقول. إنما أنا اللي حاسه حاجة فوق العقل. حاجة قبل العقل .. حاجة أصدق وأعمق من العقل. - اسمح لي دي قلة عقل.
ولكنها قالتها بروح لا مرح فيها ولا رغبة في المداعبة، وهذا ما أحزنه، لو قالتها كنكتة لبدت طبيعية وربما حلت الموقف كله، ولكنها أخذتها جدا .. وأردفت: اشمعنى المرة دي يعني؟ - ده بالضبط اللي بقوله لنفسي، كل مرة تيجي تزوريني هنا، اشمعنى المرة دي؟ - أيوة اشمعنى المرة دي؟ - لأن لازم حصل فيه حاجة يا سهير. أنا حاسس.
والكارثة في هذا الإحساس الذي لا يناقش، كالحكم الذي لا نقض له ولا راد، كالأمر الواقع، إحساس غير خاضع لمنطق أو فكر، ولكن له قوة أعتى من قوة المنطق والفكر. للمرة المائة يتأمل وجهها، إنه هو الآخر أمر واقع ربما ينجح في دحض إحساسه ونسفه، ولكن حتى وجهها تكفلت المنطقة الغريبة المجهولة بالزحف عليه والامتزاج بلونه وملامحه وتغير لونه كما يتغير لون الماء إذا سقطت فيه نقطة حبر.
ومالت على أذنه مرة وهمست له بكلمة، أعقبتها بضحكة عالية. جعلت الضابط يرهف أذنه ويكاد يمدها لتتسقط ما بين فمها ومسامعه ويعرف سبب الهمسة والضحكة. أما هو فلم يهضم لا الهمسة ولا الضحكة. في مظهرها بريئة، قريبة منه، تبدو كنفس ضحكتها البريئة، ولكنها البراءة وقد زحف عليها ذلك الشيء الغريب المجهول فأحالها إلى ما يشبه التهتك والرقاعة. إن رأسه يكاد ينفجر. لم يعد باستطاعته أن ينظر إليها أو يشعر بها كما تعود أن ينظر أو يشعر، في غيبة عقله، كما لا بد في غيبته حدث شيء. شيء غامض محير مجهول، لو كان طليقا لظل وراءه يبحث ويستقصي حتى يدركه، ولكنه هنا مقيد محبوس، ووظيفته الأولى أن يبقى جاهلا بمعزل عن كل ما يمكن أو بالاستطاعة معرفته. إنه هنا فقط يسجل، يسجل حتى دون أن يشعر، وقد سجل ما فيها من غربة، ولينفجر عقله محاولة التفسير أو التبرير فإحساسه لن ينفعه، سيغادره تاركا إياه وحده مع التصرف، أو بالضبط مع عدم القدرة تماما على التصرف. إنه الجحيم حتما، بل ربما الجحيم أرحم، إنه السجن.
صيف 1964م
لغة الآي آي
لم تكن بالضبط صرخة، ولكنها كانت الأولى بعد منتصف الليل بقليل، تصاعدت، غير آدمية بالمرة، حتى الحيوان ممكن إدراك كنه صوته، ولكنها بدت لأول وهلة جمادية ذات صليل، كعظام تتكسر وتتهشم، تمسكها يدا عملاق خرافي القوة، وبنية صارمة لا رحمة فيها تدشدشها .. فجأة وفي المنزل الهادئ المظلم الفاخر الإظلام، السابح في سكون مسود تلمع فيه حواف الموبيليا الأنيقة الموزعة بعناية وذوق، بيت ساكن نائم يرفل في رائحته الليلية الخاصة التي تميزه عن أي بيت، وفي الحي المترف الذي تتثاءب نوافذه وأضواؤه واحدة وراء الأخرى ويئوب إلى الرقاد على ضجة المدينة ووسطها المستيقظ كغمغمة غارق في الأحلام.
وفي وسط هذا كله، ومن مكان لا تستطيع تحديده أو تعرف إن كان يمت حتى إلى الحي، تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول، مفاجئا وكالطعنة الملتاثة، حافلا بأنين التمزق، وكأنه صادر من حنجرة تتمزق أحبالها الصوتية لتصدر الصوت ويكاد يمزق طبلة أي أذن يقع عليها.
ودونا عن سكان الحي والبيت، بدا وكأنه الكائن الوحيد الذي سمعه. كان مغمض العينين لا يزال بينه وبين النوم مشكلة لا بد لها من حل. ومر الصوت مفاجئا غير مألوف من الصعب تبينه، ولكن جسده في اللحظة التالية كان يقشعر بخوف طفلي مذعور، وإن لم يستغرق زمنا، أسلمه إلى عينين مفتوحتين لآخرهما، وقلق وعاصفة من الاضطراب، فالإحساس التالي الذي واتاه كان إحساسا بالذنب، شعور غامض يربطه بالصوت، ويؤكد أن الصلة بينهما من صنعه ومسئوليته، وأن عليه وحده يقع التحمل للنهاية، وبالغريزة التفت، كانت زوجته لا تزال على وضعها، فقط في اللحظة التي التفت فيها ماءت مواء طال بعض الشيء، ثم بإرادة نائمة انتقلت إلى جنبها الأيسر وقربت ساقها، ربما كان الأثر الوحيد الذي أحدثه الصوت في جسدها المستسلم لأول مراحل النوم. وارتاح وبعض الشيء اطمأن وهو يواجه الأمر وحده؛ فقد كان ظهورها على المسرح لحظتها كفيلا بزيادة ارتباكه.
ما هذا الصوت ومن أين جاء؟
في لحظة مر بخياله ألف احتمال، إلا الاحتمال الوحيد الذي كان يخاف مروره. لم يكن قد تغير في البيت أو في الحي أو في دنياه كلها شيء ما عدا ذلك الشيء الواحد الذي اغتم له. ولا بد أن يكون الصوت الجديد من صنع القادم الجديد، حتى ولو نفى عقله بشدة، وأبى أن يصدق.
ولم يشأ أن يفكر أكثر، مجرد صوت وحدث، المهم ألا يعود يحدث، ومر بعض الوقت، أحال اللحظة إلى دقيقة، أو دقائق، ولا شيء يتغير داخل الليل الساكن، والأمل يقوى.
ولكن وشوشة غامضة حدثت، اندفع منها إلى أعلى فجأة صوت كالطوفان الهادر العمودي، له وقع العظام نفسها وهي تسحق وتتدشدش، صوت أقرب إلى رعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة، ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن ينهيها وكأنما الموت عند نهايتها.
انتهى الأمر. لم تعد هناك فائدة.
كان هذا الصوت الثاني مزعجا حقا حتى إنه، مع علمه هذه المرة وتأكده من مصدره، لم يستطع كبح جماح ارتجافته، ليس خوفا منه، وإنما من الشيء المجهول المروع الذي يختفي لا بد وراءه ويحدثه. مزعجا ومحيرا إلى درجة لم يلحظ معها أن رفيقة الفراش قد اعتدلت نصف اعتدالة والتفتت إليه قائلة بهستريا مفاجئة: إيه ده؟ قول لي بسرعة وحياتك إيه ده! وحياتك بسرعة بسرعة بسرعة.
وقبل أن يفكر فيما يقول انخلعت عنه، ناظرة إليه بشك متوحش: اوعى يكون هوه؟
وقبل أن يفتح فمه أردفت: أنا مش قلت. أنا مش قلت. اتفضل بقى. اتفضل بقى. أنا مش قلت.
وحقيقة لقد قالت وعارضت وكل ما حدث كان رغم قولها وإرادتها، هي وبالتأكيد الآن بسبيلها إلى إعادة ما قالته. وعليه أن يتذرع بالصبر، ويقول لها كلاما مطمئنا كثيرا .. إنها مجرد آهة .. آهة ستمر، ويعود كل شيء إلى سابق عهده.
أكان معقولا أن يعود أي شيء ليلتها إلى سابق عهده؟ الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها.
وما فائدة الكلام، والكلام الذي دار كثير، وقد كان ممكنا، مادام الوضع هكذا. زوجة حلوة قوامها كقوام المانيكان، وساقاها حتى في الظلام يظهران من قميص النوم في إغراء لا جمهور له، وحتى هناك تواليت وماكياج للنوم وعناية خاصة بالشعر، ودهان مخصوص للبشرة، وزوج هناك دائما بينه وبين لحظة النوم مشاكل لا بد لها من حل، زوج امتلأت روحه بالتجاعيد، مثلما فقد رأسه الكثير من الشعر وعيناه القدرة على الرؤية .. ما دام الوضع هكذا. فقد كان ممكنا أن يدور الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها حول أي موضوع، كالعادة، لا تلتقي عنده وجهات النظر. المهم أنهم أصبحا بشيء من التحدي ينتظران الصرخة الثالثة، التي لن تجيء، كما يؤكد الزوج. والتي لا بد أن تأتي، كما تصرخ الزوجة. ومن المطبخ، هذه المرة كان المصدر واضحا ولا شك في أمره، انطلق مواء كمواء القطط، يحاول صاحبه كبته وخنقه فيخرج مضغوطا ثاقبا إرادته فيبدو كما لو كان رجل قد قرر بجماع ما يمتلكه من قوة، وبسبق إصرار، أن يتأوه كما يريد، ولتقم القيامة بعدها، انطلق صفير معذب متألم متظلم باك غاضب كافر مستغيث بائس مؤلم زاهد .. آي، آي، آي، آي، طويلة وقصيرة، ممدودة ومبتورة، عالية بكل قواه يرفعها، منخفضة بجماع إرادته يخسفها، مجروحة دامية، لاسعة كالنار في العين، كاوية كصبغة اليود في الحلق .. حارقة كآثار الحامض المركز.
فتحت الزوجة فمها تصرخ في هوس من تأكد قولها، وانتظرت أن تنتهي الصرخة لتطلق صرختها هي، ولكن انتظارها طال، وبدأت رغما عنها تسمع، ومن الذهول استمر فمها مفتوحا وأذناها - بأمر قوة قاهرة - تصغيان، ثم بدأت ترتجف وتقترب من زوجها وتمسك بيده لتوقف الرجفة، ونفس اللحظة التي كانت قد قررت فيها أن تطلق لفزعها العنان وتستغيث صارخة، انتهت الصرخة فجأة، وكأنما انكسر الجهاز الذي يصدرها.
وكان الصمت الذي حل تاما ساحرا كالدواء الشافي المعجز لو لم يحل، وفي اللحظة التي حل فيها، وعلى تلك الصورة الكاملة، لفقد أحد أو الجميع عقولهم.
قالت الزوجة بعد جرعة صمت سخية: كدة يا حديدي؟ كدة؟
وأجاب بهمس، مناه ألا يصدر: أرجوك يا عفت .. أرجوك!
ولكنها لم تستجب. بفحيح أكثر انخفاضا وإلحاحا سألته: بس أنا عايزة أعرف. أرجوك أنت .. أنا ح اجنن عايزة أعرف .. ما وديتوش لوكاندة ليه؟ ما سبتوش يتحرق مع أهله ليه .. عملت كدة ليه. أرجوك قولي بس .. عشان ما اجننش!
كيف يخبرها وهو نفسه لا يدري لماذا أقدم على ما اقدم عليه. كان قد اتخذ قراره من زمن وكف تماما عن مساعدة أهل «زينين» وتوظيفهم والتدخل لقضاء المصالح. إن أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز من بينهم واحد حتى يتسابقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حل مشاكلهم. مشاكل لو تفرغ لها لاحتاج لأضعاف أضعاف عمره، فلا يوجد إنسان إلا وله مشكلة حادة ملحة تطلب الحل وتستحثه، ومائة ألف نسمة في زينين وما حولها، بمائة ألف مشكلة، بقرار حاسم باتر منه أن تبقى له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تريد إنزاله وجره إلى حيث هم، وكأنما لا يطيقون رؤية البارز العالي ولا يستريحون حتى يبرك مثلهم ويعجز.
ولكن السكرتير جاءه قرب الظهر قائلا: إن أبا فهمي وعمه بالخارج، وأنهما يريدان رؤيته. وحياته ليس فيها إلا فهمي واحد، أول، وربما آخر، طفل أو إنسان يعترف الحديدي لنفسه أنه أذكى منه. كان فهمي إذا وقف ليجيب وقد عجز الفصل عن الإجابة التفت الحديدي بكليته ناحية، يتأمل ملامحه الشاحبة، ووجهه المليء بالعظام الناتئة، والذي تكسوه مع هذا غلالة من مهابة خفيفة، مهابة التفوق أو العبقرية، وكل كلمة ينطقها كان يتأملها وتبهره، حتى الطريقة التي ينطقها بها، فكل كلمة كانت الصواب بعينه، كل كلمة بالضبط ما يجب أن يقال وما يعجز الجميع عن قوله، فهمي كان يقولها ببساطة ودون أي جهد، في ذلك الفصل من المدرسة الإلزامية، ذي الجدران المتساقطة الطلاء، الكاشفة عن الطين الذي بنيت به الحيطان، الفصل ذي السبورة الكالحة البالغة الصغر، وكأنما هي سبورة خاصة لتلميذ واحد، المزدحم بعشرات الطواقي الصوف والبيضاء القطن وأحذية الإخوة الكبار أو ربما الآباء والقباقيب والحقائب القماشية التي صنعتها كل أم لابنها، أو خيطت على المكنة فوق البيعة مع الجلابية، الأيام الأولى التي كان الحديدي يتعرف فيها على مدخل العالم المقروء المكتوب ويحاول أن يحذق مبادئ أسراره، وفهمي رفيق تلك الأيام ومثلها الأعلى .. أيكون أهله هم من ينتظرونه بالخارج.
وأمر بدخولهم.
ومن باب الحجرة دخل ثلاثة أو أربعة أناس من حجم قصير تخين واحد. ورابعهم مثني على نفسه لسبب مجهول. أجال بصره فيهم. إن ملامح فهمي محفورة في ذاكرته لا تمحى أو تموت. وأجال بصره محاولا أن يعثر على من يصلح ليكون أبا لفهمي أو عمه .. ولكن ملامحهم بدت غريبة حتى على أهل زينين بشكل عام. - أمال فين فهمي؟
وتسابقوا في ارتباك عظيم يجيبون، وينتهون إلى الإجماع على الإشارة للشخص الرابع المثني على نفسه. - ده! - أيوة يا بيه! - أنت؟ - أيوة يا بيه .. هو! - أيوة .. يا ...
ورفع رأسه يواجهه رغم بقائه متنيا. وحدق الحديدي طويلا فيه كمن يفتش في كومة من قش قديم عن إبرة ملامحه لطفل صديق كان أعز عليه من نفسه. - أنت فهمي؟! - أيوة .. يا ... فاندي!
جاءه الجواب من وجه المومياء الخارجة لتوها من القبر أو المستعدة توا للدخول فيه، وجه منقبض بالألم، وكأنما ثبتت ملامحه عنده وحنطت عليه ! - أنت فهمي أبو ... - أيوة .. أبو عنزة يا بيه .. ده كان معاك في المدرسة .. بس حضرتك مش فاكر.
أمعقول هذا؟ من الطفل المرتب النظيف الذي تحيط بوجهه مهابة النبوغ، ومن العينين اللتين يطل منهما الذكاء النفاذ والقدرة المعجزة على الإدراك، أين هذا من ذلك الرجل الذي يبدو عجوزا محطما تجاوز الخمسين، المظلم القسمات كالأرض البور، المطفأ العينين لضيقهما كشريط اللمبة حين يحمر من تلقاء نفسه ويقصر ويحترق لدى فراغ الكيروسين.
وأحس بفجيعة ذات طعم خاص. كان دائما متأكدا أنه سيلقى فهمي يوما ما، وكان يعد العدة لهذا اللقاء الحافل. إن قدرا كبيرا من الرهبة التي يحسها لفهمي مبعثه أنه كان يتخيل دائما أن فهمي سيظل متفوقا عليه وعلى الآخرين. وأن الذي باستطاعته أن يتفوق كطفل لا بد باستطاعته أن يتفوق كشاب ثم كرجل. ولم يكن أبدا يتصور أن اللقاء سيتم على هذه الصورة، وأن الطفل الذي في ذاكرته سيمخض عن هذا الرجل. كان يدخر الحظة التي يقابله فيها كلاما كثيرا يريد قوله، وكيف أنه إذا كان قد أصبح الأستاذ الدكتور الحديدي، أكبر مرجع في الكيمياء العضوية في الشرق، وإذا كان قد أصبح رئيس مجلس إدارة مؤسسة كبرى، ومرشحا أكثر من مرة للوزارة، وعضوا في عشرات اللجان والهيئات العلمية في الشرق والغرب، فجزء كبير من هذا الفضل يرجع لفهمي، فقد كان الصوت الذي ظل لأكثر من ثلاثين عاما من الزمان يلهب طموحه ويدفعه للتفوق حتى ينتصر، ولو مرة واحدة، على الطفل العبقري، الذي ظل يحافظ عليه في ذاكرته كصور القديسين التي لا تمس. وها هو اللقاء، وها هو القديس. - أنت فهمي أبو عنزة؟ - أيوة يا بيه. - فاكر العنزة؟ - عنزة إيه يا بيه؟
العنزة التي سرقها ليشتري لحسين أبو محمود والد منصور الألدغ حقن الدواء 606 التي قيل إنها بخمسين قرشا، وأنها دواؤه الوحيد. فقد كان فهمي شهما أيضا، لا يتردد في الذهاب سائرا على قدميه إلى البندر أو بقاء الليل بطوله ساهرا أو اليوم كله عاملا كادحا إذا أحس أن غيره في حاجة إلى هذا العمل أو الجهد، خصال جعلت الجميع يدهشون ويفجعون لإقدامه على سرقة العنزة. وإن كان السبب قد عرف والعمل قد اغتفر. إلا أنه خرج منها بالاسم لاصقا به، ملغيا اسمه الحقيقي وحالا محله. - أهلا وسهلا .. أية خدمة؟
بالطبع فلا بد قد جاءوا، مثلما كان يجيئه المئات في انتظار أن يحقق لهم بمفرده ومركزه المعجزة. كان سهلا تخمين المطلوب هذه المرة، فلا بد أن فهمي مريض ولا بد أنهم يريدون إدخاله المستشفى.
وحاول أن يتحدث إليه ويسأله عن مرضه متنيا على نفسه في جلسته لا يرفع رأسه ولا يبدو عليه أن يسمع ما يقال. وتهته أبوه وعمه وهم يعتذرون عن صمته وكيف أنه دائم الحدوث، بل أحيانا تمضي عليه أيام كثيرة دون أن ينطق فيها بحرف، ولم يكن المرض في عقله أو نفسه وإنما كان في مثانته، فهم منهم أنها لا بد بلهارسيا أدت إلى سرطان في المثانة، وأنهم لفوا وتعبوا على جميع «حكما» المركز ومستوصفاته ومستشفياته وحلاقي صحته والعرب الذين يكوون بالنار، و«يخرمون» بالمسلة. حتى قالوا لهم في مستشفى المحافظة في النهاية أن لا فائدة من العملية، وأنه بحاجة إلى علاج بالأشعة في مصر. وأدحنا جينا لك يا بيه ربنا يخلي لك أولادك ويمتعك بالصحة.
ومن غير دعاء، كان قد قرر أن يتكفل بالأمر. إن الدين الذي في عنقه للكتلة البشرية المنكفئة على نفسها أمامه ملفوفة بالملابس المهرأة، كبير، ولقد حان أوان رده وإيفائه.
كانت المشكلة أن يتخلص أولا من «الجماعة» التي ترافقه ويستصحبه إلى بيته ليقضي فيه الليلة. وفي الصباح واعتمادا على صديقه أستاذ الأشعة يدخله المستشفى؛ فقد كان عليه أن يدبر أمر ذهابه إلى البيت بطريقة لا تجرح ذكراه في نفسه من ناحية ولا يظن معها من ناحية أخرى بواب أو ساع أنه أخ له أو قريب، وكان عليه أن يتغلب على معارضة «عفت» زوجته، التي لا بد سترفض إيواء شخص مثله، ولو ليلة واحدة، ولو لكي ينام في المطبخ أو في فراش السفرجي.
ولقد تم كل شيء كما قدر له الحديدي، إلا معارضة الزوجة، التي بقيت حتى بعد رضائها بوجوده في البيت وأمرها للسفرجي أن يتكفل به وبحراسته وإطعامه. وهكذا لكي يقلل من وقت وجودها بالشقة، اقترح أن يذهبا إلى المسرح، وحين عادا في منتصف الليل كان الهدوء المعتاد يخيم على البيت، وكل شيء فيه هادئ، ونور المطبخ مطفأ. وبعد نصف ساعة كانت عفت تستمتع بمراحل نومها الأولى. وكان الحديدي مغمض العينين لا تزال بينه وبين النوم مشكلة مجلس الإدارة الذي أجلت حكاية فهمي من اجتماعه ومن المشهد العاصف الذي كان قد أعده لكي يسحب فيه البساط من تحت أقدام المدير العام ويجبره .. إما الظهور بمظهر الغبي الأحمق الجاهل، وإما، حفظا لماء الوجه، الاستقالة.
حين جاءت الصرخة الأولى.
وأعقبتها الثانية والثالثة.
وتكهرب جو البيت تماما، أيكون قد تورط في خطأ أكبر دون أن يدري، وظن أنه يأوي قطعة حديد خردة عزيزة، لتأخذ طريقها في الصباح إلى الورشة، فإذا بها قنبلة بدأت تنفجر وتوشك أن تهدم البيت!
وعلى عجل أسرع إلى المطبخ حافي القدمين، كان مظلما لا يزال، ولكن رائحة خانقة حامضة قابضة نفاذة واجهته لدى فتح الباب. مد يده يضيء النور، ولكن الشلل أصابها قبل أن تصل إلى المفتاح. فقد انطلقت من المطبخ الضيق آهة صارخة ثاقبة، كعشرات من الإبر الحادة المسمومة انطلقت في كل اتجاه. لا يمكن أن يكون هذا صراخ ألم أو للتعبير عن ألم، ولا مجرد أصوات، إنه شيء مادي ينخر في الجسد، ويصيب السامع بالحمى، فوق احتمال البشر.
أضاء النور وهو فعلا خائف، ولم يلمح فهمي في الحال، فقد وجد الفراش الذي منحوه إياه ممزقا مكوما، والمطبخ بكل ما فيه مبعثرا ومدلوقا، والمقشات منتزعا قشها وريشها ومنثورا، وعددا لا يحصى من بقع الدماء الصفراء تصبغ الأرض وباب الثلاجة والمناضد البيضاء، والرائحة النتنة الخانقة لا تزال هناك، لكأنه كان ميدانا لمعركة حامية الوطيس دارت بين إنسان أعزل وخصم جبار غير منظور، لكأن الصرخات كانت صرخات رعب الإنسان من عدو خفي يسحقه بالضربات وهو عاجز محاصر متألم مهزوم لا حول له.
ونظرة ثانية ألقاها على المطبخ، بعيني الزوجة هذه المرة، أدرك بعدها فاجعة لم يكن يتوقعها أبدأ قد حلت. وبحث عن فهمي فوجده قد حشر نفسه بين منضدتين من مناضد المطبخ عاريا تماما ليس عليه إلا فانلة مهرأة، رأسه يتحرك في كل اتجاه، عيونه الميتة المطفأة تقدح بشرر أبيض، دائبة الحركة في محجرها تبحث عن منقذ ومخلص، وبكيانه كله كان يتجه إلى أعلى في يأس كامل كمن يدرك تماما أن لا نجاة. إنه ألم سرطان المثانة المروع، حين يزحف مع الليل، حين تبدأ قطرات البول تتجمع بحمضها عبر الورم الخبيث الذي نفذ إلى كل المسالك، ومرور القطرة على الورم المتهتك المجروح، يسحق بالألم الذي يصدره كائنا حيا في فخامة الفيل وبلادة إحساسه، ويجعله يجثو ويحفر الأرض بأظلافه، ويملأ الدنيا بهتاف مروع صارخ .. إنه الألم الذي يسمونه فوق احتمال البشر، فهو لم يخلق لبشر، ولم يخلق البشر وتزود أعصابهم بتلك القدرة الهائلة الدقيقة على الإحساس، كي يسحقها ويكويها ألم كهذا الألم.
أخرج فهمي من مكانه، ولا يزال رأسه وعيناه وكل كيانه في حالة تلفت مسعور وبحث عن مفر، مشغول عنه وعن المكان والزمان والدنيا كلها بما هو حادث فيه وبداخله، فيقف ويجثو، ويتمدد على بطنه ويركع، ويقوم هالعا واقفا، ويفتح فمه استعدادا للصرخة، وحتى يكتمها ويحتملها يحشو فمه بذراعه أو بالمخدة أو المقشة ويغرز أسنانه فيها ويسيل الدم من الذراع ومن الفم، ومع نقاط البول الكاوي.
وشعر بضغط خانق يكتم أنفاسه، وبرغبة مجنونة أن ينطلق هادرا لاعنا نفسه وبلده وأناسها، واليوم الأسود الذي كتب عليه فيه أن يولد منها، ويصبح عليه أن يحيا عمره كله يحمل عن أناسها همهم وفقرهم وعجزهم ومرضهم وأخيرا آلامهم وبولهم، ولكن ما الفائدة ومن يتلقى لعناته واحتجاجاته. إنه لا يستطيع حتى أن يطلب من فهمي أن يكف عن الصراخ، أو يرغمه على البقاء في ركن بعينه من المطبخ، إلا إذا كان باستطاعته أن يأمر الألم الذي في داخله أن يكف، والشيطان الذي يمزق أحشاءه أن يهجع .
وسمع خطوات مترددة في الصالة. ومخافة أن ترى الفاجعة الحادثة. أطفأ النور وأسرع عائدا إلى حجرة النوم ليجد عفت في منتصف المسافة. - هيه .. عملت إيه؟ - قلت له يسكت! - وإن ما سكتش؟! - حا يسكت!
آي ياي ياي ياي ياي ياي ياي
وأسرع خلفها إلى حجرة النوم التي فرت إليها مذعورة. وما كادت الصرخة تنتهي حتى وقفت تواجهه وتهيئ نفسها للعاصفة المقبلة الهوجاء. ولكنه أسرع، واستطاع رغم دفعاتها وتملصها أن يحتويها بين ذراعيه، ويقاوم إحساسه بالرغبة الملحة في الانهيار ويعترف لها بصدق واضح وملموس أنه أخطأ وأنه ما كان يجب، وأنه يطلب الصفح، وأن يكون صفحها على هيئة مساعدته في تدبير الحل للموقف، فهما في قلب الأزمة معا، ولا سبيل أمامها إلا الاحتمال. وما تنزلوش ينام تحت عند البواب ليه؟ فضيحة والساعة اتنين. أروح أنا عند ماما. دلوقتي؟! أنا ما اقدرش استحمل. عشان خاطري. ما اقدرش .. أرجوكي .. غلطة وباعتذر عنها وبارجوكي إنك تساعديني وتستحملي. أستحمل ازاي يارب؟! استحمل ازاي؟ •••
آي آي آي يي يي يا يا ياي ... - آه يا مامي! ما اقدرش على كدة ما اقدرش!
و و و و و و و ه يييييييه ... - إيه ده. ده مش بني آدم، دول عفاريت، دول جن. الحقيني يا ماما أنا ح اجنن!
وشيئا فشيئا بدأ الحديدي يحس أن ارتباطه بحجرة النوم وبالزوجة التي يحتضنها ويسكنها، بالبيت والحاضر كله يضعف وبتوتراته يتراخي وبوجدانه يستحيل إلى بحيرة هائلة ملساء على استعداد لاستقبال أدق الرذاذ الصادر عن فهمي.
فرتك مرتك شرتك دي دي دي دان ...
الألم لا بد قد ازداد بدرجة مخيفة، خفف عنه يا رب.
واج الواج الواج الواج الواج ...
وإلى جوار هذه القادمة من المطبخ، جاءت أخرى رفيعة طفلية من الحجرة المجاورة. ما كادت تسمعها عفت حتى، بقوة عاتية خارقة، خلصت نفسها من تكتيفته وجرت خارجة إلى الغرفة الأخرى. ولكن الطفل، طفلها الوحيد قابلها قادما باكيا مناديا: يا مامي. واحتضنته وحملته وبتنمر وتوهج قالت للزوج: اسمع .. انت لازم تطرده حالا دلوقتي يروح يشوف له مصيبة يبات فيها .. دا الولد قايم يرجف .. يا مصيبتي! - يا عفت أرجوكي .. أنا شرحت لك الظروف، الراجل ده عندي مهم قوي وما اقدرش أطرده. - مهم أكثر مني ومن فهمي ده؟! - مش أكتر، إنما مهم، كفاية تعرفي إني مسمي فهمي ابننا ده على اسمه .. ده الوحيد اللي خرجت به من طفولتي. - يا ح تطرده يا ح اسيب لك البيت وأنزل! - إنتي عايزة مني إيه؟ أركع لك؟ قلت لك أرجوكي .. أنا ح اجيب له دكتور يديله مخدر دلوقتي ويسكته.
وانشغل بكليته في عملية استدعاء طبيب الإسعاف وانتظاره، ولم يدهش حين أخبره الطبيب أن المخدر في حالة كتلك ضعيف المفعول لا ينجح عادة في تسكين الألم؛ فآلام هذا النوع من السرطان أقوى من المخدرات وكل المسكنات التي اخترعها الإنسان.
وكانت الفائدة الأهم للطبيب أنه أعطى الزوجة حقنة من عقار منوم، وبعد مدة قليلة نام فهمي الطفل في حضن أمه.
وأخيرا أصبح وحده مع الصرخات القادمة من الأعماق. وكما قال الطبيب لم يكن المخدر قد أحدث تأثيرا يذكر. المشكلة الآن أن يعاد الاتصال .. أن يعود إلى نفس الحالة الوجدانية التي كان عليها قبل أن يصحو الولد وتثور الزوجة. إنه لا يعرفها ويذكرها وهي قريبة دانية منها ولكنها ترف وتذهب، يتذبذب بينها وبين حالته العادية، يه يه يه يه يه فمندا مندا مندا هوندا بندا سارادات.
وأحس براحة باهتة وبالأصوات تصل إلى مكان سحيق داخلي فيه وتنعشه في رقة وعذوبة، بالضبط هذا هو المكان. هنا يحس بها تتجمع .. آهاته التي لم يطلقها أي باي يانا يا بوي.
يا بوي موجوعة تأتي للحديدي بالضبط على الوجع. يا بوي إنها ليست من لغة الحياة ولكنها من لغة الأعماق والآي. إنه يحس بها تعبر عن وجعه هو. منذ سنوات وسنوات وهو يريد أن يقف في ميدان التحرير ويستجمع شجاعته. وبكل قوة وبالحر ما يستطيع يطلقها، عالية موجوعة صادرة رأسا من الوجع مثلما يفعل فهمي الآن، ولكنه في اللحظة الأخيرة يعدل ويضعف ويخاف أن يفر منه الناس ويتهموه بالجنون فيخمدها ويكبتها ويردها إلى حيث ترقد الكثيرات من زميلاتها المكبوتات المحبوسات.
آي آي آي فركش أن منكش أي بعقش أي!
الآن فقط يحس بها كلها، بآلامه، ويحس بها أبشع حتى من آلام فهمي وأوجاعه .. كل الفرق أنه ليس له الحق في التوجع مثله، لن يصدقه أحد إذا صرخ وترك أعماقه تعبر عن نفسها المكتومة الوارمة المضغوطة، ألم بلا آهات. أضعاف أضعاف الألم.
الآن وهو وحيد مع نفسه وموجوع مثله وأعماقه مفتحة الأبواب أمامه يستطيع أن يسأل نفسه: ماذا يؤلمه؟ إنه فوق القمة، كل الخط العريض الذي رسمه لحياته تحقق؛ زوج ورب أسرة وسعيد محوط بالرعاية والحب والاحترام أنى يكون، فمن أين تجيئه الآلام التي لا تطاق، حتى إنه ليحسد فهمي على حالته.
ترى ماذا كان يفعل ويشعر لو حدث له ما حدث لفهمي وبدلا من التعليم المتواصل الذي هيأه له أبوه الصراف الذي كانوا يتندرون عليه ويسألونك وأنت ذاهب لتدفع المال: مال الحكومة واللا مال الصراف، بدلا من هذا أخرجه أبوه من المدرسة واشتغل فلاحا كان هذا مصيره. أي إنسان في مكانه لا بد أن كان يقبل يده ظاهرا وباطنا، أين هو وأين فهمي؟ هو الذي لا بد تختاره إذا طلب إليك أن تختار مائة يمثلون الصفوة في هذا البلد. المتمتع بكامل صحته وحياته، لا حق من حقوقه مهضوم ولا شعرة ظلم تمسه أو تمس مركزه، أين هو من إنسان كفهمي تكفل الفقر بالقضاء على عقله وأحاله إلى واحد آخر من ملايين الفلاحين السذج، وتكفلت البلهارسيا بالقضاء على جسده .. فالمفروض أنه الآن ميت، وعمره مسألة أيام، وحياته كانت أبأس حياة، وشقاؤه كان من نوع يضرب به المثل .. لو كان قد حدث له هذا .. تراه ماذا كان يقول عن «ألمه» المزعوم وأوجاعه؟
قال الحديدي لنفسه بلا تردد: كنت أكون أسعد.
كيف؟ المسألة ليست فقرا وغنى أو تعليما وجهلا، السؤال هو: هل أنت حي أم ميت؟ فهمي رغم كل شيء حي وعاش. أما أنا فلم أحي، والحياة أي حياة، أروع ملايين المرات من الموت، أي موت، حتى لو كان الميت مكفنا في ملابس أنيقة، محتلا أرقى المناصب، سعيدا في حياته الزوجية.
ولكنك حي. أنا ميت، إنه ليس تلاعبا بالألفاظ، إنها حقيقة، المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها، وأنا لم أشعر ولا أشعر بها، إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول .. وحين أصل لا أسعد لأن أمامي يكون ثمة وصول آخر.
إن فهمي قد عانى من الفقر، والبؤس، ولكنه كان يعمل مع الرجال يضحكون سويا، ويتشاورون في مشاكل العمل، ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق، يفرحون لعود الفجل إذا أضيف إلى الأكلة، ولا أحد منهم يأكل بمفرده؛ إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك. الأكل عندهم أن يحل موعد الطعام ويلتفون حوله في ترحيب. ويتعازمون ويهزرون ويحسون أنهم يقومون باحتفال إنساني صغير، إنهم يفعلون هذا دون إدراك لكنهه ولكنههم به، بهذه الأشياء الصغيرة المتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كل منهم بإحساس يومي متجدد، إنه حي، وإن الحياة مهما صعبت حلوة.
أنا قضيت حياتي أجري وألهث، لكي أصل إلى القمة كما تسمى .. كان علي أن أظل أصعد ولهذا كنت أصادق أو تضمني المجموعة، لا لكي أستمتع بصداقتي ورفاقيتي لها، وإنما على أساس سرعتها وعلى اعتبار أنها أسرع من المجموعة التي هجرتها، وأظل سائرا معهم ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي أريدها، حتى إذا أحسست أنني بحاجة إلى سرعة أكبر هجرتهم إلى مجموعة أخرى، أو سرت بمفردي كي لا يعوقني معوق. وما توقفت مرة كي أواسي مختلفا أو آخذ بيد أعرج، معتبرا أن ليس الذنب ذنبي أنه تخلف أو أنه خلق أعرج. ولقد ظللت أسرع وأسرع لكي أبدأ الحياة حين أصل ولكن لم يكن للوصول نهاية. بعد التخرج قلت العمل، بعد العمل الدكتوراه، بعدها الأستاذية، وحين أحسست أنها تستلزم الانتظار هجرتها إلى الشركات، قلت .. بعد الزواج، وحين تزوجت قلت .. نبدأ الحياة مع الأولاد، وحين خلفت قلت الأوفق حين يكبرون، وها أنا ذا لا أزال أجري مسرعا، وقد أصبح هدفي ليس الوصول إلى أي شيء، وإنما الإسراع في حد ذاته، تماما مثل الذي يبدأ حياته بتوفير النقود كي يحسن مركزه المالي ويبدأ يحيا بعد الألف الأولى، وحين يصل إلى الأولى هدفه الثانية فالثالثة، إلى أن ينسى الهدف تماما، ويتحول إلى بخيل مقتر هدفه جمع المال ليس إلا.
ياني ياني ياني ياني يا بوي.
أحس بتوجع فهمي يريحه راحة بدأت تصبح عظمى، وكأن فهمي يتوجع لكليهما أو أكثر من هذا، كأنه هو الذي أتيح له أخيرا أن يتوجع كما يريد وبكل قدرة استطاعته، إنه الألم المتراكم عبر السنين .. ألم الحزن الدفين والاكتئاب. إن الإنسان جهز بتركيبه وأحاسيسه لحياة خاصة تسمى الحياة الجديرة بالإنسان، وهو لا يستطيع أن يخرج عليها ويحياها حياة من صنعه هو ومن ابتكاره إلا وهو يتألم وآلامه تتضاعف، ولقد قسا العمر كله على طبيعته وكتم نداءات الأعماق المطالبة بمتع الحياة الصغيرة الكثيرة العادية التي تعطيها طعم الحياة. قسا عليها ليجبرها أن تحيا بمفردها.
أبو ... أموا ... أبوا ... أموا ... أبو .. واه ...
بالضبط يا فهمي، الوحدة للوصول، الوحدة للسرعة، الألم البشع لفراق الناس والبعد عنهم .. الوحدة القاتلة التي تربي الخوف من الآخرين وتدمر الثقة بالنفس، الوحدة لكي تكون حرا أكثر ومنطلقا أكثر وحيا أكثر التقوقع فإذا بها تؤدي إلى التوقع والرعب من الآخرين وتحديد الحركة وإحاطتها بعشرات القيود، همه يحمله وحده، ومرضه ينفرد به، وضيقه هو المسئول الوحيد عنه، الألم، أضعاف أضعاف الألم الذي يسحق فهيم ويدمره، وهو مرغم على كتمانه، يخاف خوف الموت أن يطلع عليه أحد. فإن تألم الرجل أو حاجته للفضفضة إلى الآخرين ضعف وعورة.
دي دي دي دي دي دي
يا للمضحك .. إنه يحس أنه ربما لأول مرة يذكرها في حياته .. سعيد، سعيد إلى درجة لا يصدقها العقل ولا يصدقها هو نفسه، إنه حقيقة متأثر لأوجاع فهمي، ولكن فرحته هو لهذه اللحظة التي يحياها، أجل ربما أول لحظة يحياها، لا توصف. ومن الصعب أن يدرك الأسباب، ولكن لا بد أن أهمها أنه أخيرا استطاع بوسيلة معقدة مركبة تعتمد على أعماق تخاطب أعماقا خلال لغة غير مفهومة، أخيرا استطاع أن يتصل، وأن يشارك، وأن يزاول عملا من أعمال الأحياء، يزاوله بمتعة وسعادة، سعادة تدخله في حالة وجدانية لها صفاء لحظة الكشف لدى المتصوفين وعمق لحظة الخلق لدى العباقرة، لحظة ها هو يحس فيها أنه قادر على الاتصال بكل إنسان وبكل شيء، بل قادر على الاتصال بنفسه وبالتحديق مليا في أعماقه دون أن يرده الرعب المقيم مما قد يراه.
وكلما اندمج في حالته الوجدانية تلك، أحس بنفسه تتفتح أكثر وتعمق، وتتقوى صلته بفهمي، حتى لكأنه يقرأ ما يجأر به في كتاب مفتوح، وأحس أيضا أنه ينجذب إلى مكانه ليصبح أقرب، انجذابا مريحا ممتعا إلى درجة لم يدرك معها أنه كان قد غادر الفراش ومضى يعبر الصالة في عدد كبير من محطات الممشى الضيقة. كل خطوة بمحطة، سمع، كالصوت البعيد يأتي للنائم، نافذة جار تفتح ويعقبها صوت زعيق ولا بد أنه كلمات سباب، سمعها، وكأنها لا تمت إليه ولا تهمه، إنه يرى حياته الآن بكل كبيرة وصغيرة حدثت فيها ولها مجسدة مجموعة أمامه، بحيث بنظرة واحدة يستطيع أن يرى نفسه تقريبا من يوم ميلاده إلى يومه هذا.
الغريب أنه ينظر وكأنها حياة غريبة عنه، لا تربطه بها أو بصاحبها أدني علاقة، لا تربطه ذكرى بأي جزء فيها أو موقعة، وأغلب الظن أنه لا يذكرها. إنه لا يكره شيئا في الدنيا قدر كراهيته لحياته تلك. إنه يمقتها، ولولا النداء القوي الصادر له من فهمي لحملها في التو وقضى عليها وعلى نفسه، ولكن النداء أقوى، إنه يتسرب إلى كيانه كله ويهز هيكل الحياة فيه ليوقظ حبه الغريزي لها، ومن الظلام الكثير الرابض يملأ الصورة، تبدأ تتسرب موجات كاشفة مضيئة، يجسر معها على التحديق والرؤية ليتابع نفسه وهو يجري ويجري، وحده، الناس تحيا وهو يجري، والشاشة مليئة بالصلات المقطوعة بالصداقات المبتورة، بأجزاء العلاقات، يقيم على الطريق مهدرة بإنسان لا يريد أن يرتبط بأحد، حتى لا يعطله الارتباط، ولا أن ينتمي لجماعة أو حتى لصديق؛ لأن في الانتماء فقدانا لذاته الحرة وكيانه، والنتيجة جري سريع إلى قمة الوصول، هو في الحقيقة هرب سريع من الحياة، فالحياة هي الأحياء، وأن تنفصل عن الأحياء معناه انفصال عن منبع الحياة الأصيل، وفقدان طعمها ونوعيتها والتحول إلى الموت.
الخطأ الفادح الذي يدركه الآن، وعلى الضوء الباهر الصادر من أعماق فهمي إلى أعماقه يراه، أن الوصول لا قيمة له بالمرة إذا وصلت وحدك، أية قيمة أن تصبح ملكا متوجا أو عالما حاصلا على جائزة نوبل، وأنت محاط بصحراء جرداء، أية قيمة لأي شيء في الدنيا، للمتعة نفسها أن تحس بها وحدك؟
وصحيح أنه ليس وحده، فهناك زوجته وابنه وأقرباؤه، وإخوته، وبعض الأصدقاء، ولكنها ديكورات علاقات ليس إلا .. إن حب الناس للناس، وارتباط الناس بالناس، لا ينشأ للزينة، وإنما ينشأ لحاجة الناس للناس، الحاجة الماسة الملحة كحاجتك إلى الماء والهواء والتي بدونها لا تستطيع أن تعيش، وهو له إخوة وزوجة وأناس، ولكنهم لا يمثلون مطلبا حيويا بالنسبة إليه. إن في استطاعته، إذا أراد أن يحيا كما تعود بدونهم. قد يكونون هم في حاجة إليه .. ولكنه هو ليس في حاجة لأحد، أو بالأصح هو في حاجة حيوية ماسة، ولكنه يحس ويوهم نفسه مثلما أوهمها طول عمره أنه ليس بحاجة إليهم .. ومن هنا ينشأ ألمه البشع .. من هنا بدأ، ويستشري السرطان الذي يقتل الضحكة على فمه، لأنه يحس أنه ليس بحاجة إلى الضحك، ويجمد العواطف في صدره لأنه يحس ليس بحاجة إلى أن يعطي الحب أو يستقبله، من هنا تبدأ المأساة التي أحالته إلى ميت حي. •••
وجاءته صرخات فهمي، قريبة هذه المرة؛ إذ كان قد وصل إلى المطبخ، وجلس بجواره، جاءته بعد سكوت خيل إليه أنه طويل، وكان مجرد إحساس فهمي بوجوده بجواره خفف عنه الألم .. جاءته الصرخات، أقرب ما تكون إلى البكاء، وأحس بنفسه وكأن بركانا باكيا يوشك أن ينفجر، إنه لم يبك في حياته منذ أن كان طفلا، وها هو يحس أنه يود لو ظل يبكي إلى أن توافيه المنية ، إشفاقا على نفسه، وهو أول من أدرك أنها أكثر أهل الأرض جميعا حاجة إلى الشفقة.
هات يدك يا فهمي، ضعها هنا على صدري، إنه خاو كما ترى. أنا أعرف أنك مريض، وأحس بك وأريد أن أقاسمك الألم، ولكن لا أستطيع فقلبي من خشب، تركتكم جميعا، أنت في زينين، وسعد في بنها، وعبد المحسن في أسيوط، وشلة الجامعة، وجمعية الكتاب، وكل الناس، وظننت أنكم تسيرون في الطريق العادي، طريق الندامة .. وأن الطريق الأسرع، طريق السلامة، هو الطريق .. والنتيجة أني مت من زمن، وظللتم أنتم أحياء، أنا جثة أقنع نفسي أنني أنا الذي أزور عن الناس، في حين أنهم هم الذين ينزورون عني، وما حاجتهم إلى جثة، حتى زوجتي وابني أحس أنهما لا يطيقان رائحتي .. أنا أريد العودة يا فهمي، أريد البداية من جديد، أطلب فرصة أخرى فمن يقبلني يا فهمي؟ من يقبل جثة، من يرضى بي، إني لا أجد في هذه اللحظة سواك يا فهمي، هل تقبلني .. هل تقبلني يا فهمي! - ما تعيطش يا محمود!
ولم يصبه الذهول مع أن القائل كان فهمي، وكان أول كلمات ينطقها، ولم يعجب أيضا لأنه ناداه بمحمود، وكأنما ذكره الاسم بالتختة المشتركة وبأيام زمان، كل ما أحس به أن رجاءه قد تحقق، وأنه يقول: أشكرك يا فهمي .. أشكرك.
وانبطح الحديدي ببجامته على بلاط المطبخ وتناول يد فهمي يقبلها، ويمسح بها دموعه السائلة التي لا تتوقف، وهو يردد سامحني يا فهمي .. سامحوني يا ناس .. أنا غلطت وتعبت والألم فاض بي .. سامحني يا فهمي.
ولكن فهمي كان قد عاد، بآخر وأقوى ما عنده، يصرخ وآلامه قد اشتدت بغتة .. وكانت نوافذ البيت جميعها قد فتحت من زمن وسكانها يصيحون رغم أنوفه للآهات المستغيثة .. ويستجيرون من الصوت الذي لا يرحم أبوابهم ونوافذهم مهما أغلقوا وأحكموا الإغلاق، الصوت الذي أيقظ العمارة ببوابيها وبهواتها وسادتها وداداتها، وبدأ يصل إلى العمارات المجاورة ويوقظ سكانها، ولو استمرت الصرخات لربما كانت قد أيقظت الحي الراقي بأكمله، ومن يدري ربما المدينة كلها كانت قد صحت .. ولكنهم كانوا قد طلبوا بوليس النجدة .. وحضر وفتحت له الزوجة نصف نائمة، غير أنها استيقظت تماما حين قادتهم إلى المطبخ، ووجدت الحديدي راكعا على الأرض يقبل يد فهمي ويستغفره!
ورفعوا فهمي، وألبسوه، وحاول جنديان حمله فيما بينهما. ولكن الحديدي نهرهما، وتقدم هو من فهمي وحمله على كتفه، والمرض قد التهم لحمه ولم تبق له سوى العظام، وتشبثت عفت بزوجها سائلة إياه عما يفعله بنفسه، إلى أين ذاهب؟ وابتسم لها، وأضاء وجهه كما تتعود بالابتسامة وقال: رايح في طريق تاني صعب شديد .. تيجي معايا؟! - أنا ما رحش وياك بالشكل ده .. انت اجننت؟
وأحاطت فهمي الصغير بيديها بينما استدار الحديدي بحمله الصارخ المولول، ومضى يتقدم الموكب، ونظرات السكان وأهل الحي تتبعه وتحيط به تهمس وتسري بينها الهمسات الضاحكة .. لقد عاش في الحي سنتين مرعوبا أن يكتشف أحد أصله وفصله، وتبدو للأعين النائمة شعرة واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمت إليها .. ولا ريب أن كثيرين من سكان الحي كانوا يفعلون مثله، فها هو يرى النوافذ والمدخل حافلة بكثير من الجثث.. وهو الآن يستعجل اللحظات التي يغادر فيها الحي .. وقد أصبحت الرائحة لا تطاق.
اللعبة
دخل القادم الجديد مذهولا، كان المكان وكأنما تحس أنك سقطت إليه من عل، أو وصلته عن طريق سرداب طويل مزعج، ولكنه كان فاخرا بالغ الفخامة، اللون الغالب فيه هو الأسود، سواد .. كسواد الكاديلاك .. يوحي بالأناقة والعراقة، وكان النور غير ثابت المصدر، ومضطرب الاتجاه .. وتحس وكأنما توجهه يد خفية إلى الناحية أو الناس الذين ينظر إليهم فقط، كان غموض مرح يسيطر على جو الحفل، والحضور تدرك بطريقة ما أنهم كثيرون، ولكن عدد من يقع بصرك عليهم قليلون، تستطيع التفرس فيهم بسهولة .. ودخان السجائر والسيجارة يلون الجوع ببقع سماوية متحركة، ويتشابك مع إشعاعات النور غير المرئي، صانعا سحبا كسحب الصيف، بيضاء. والحفل صاخب إلى حد ما، ولكنه صخب وقور .. كأنه احتفال بخطبة شاب من أعرق عائلات الصعيد .. أو بتكريم خاص لوزير مهم، وعلى الوجوه نوع من الاستمتاع القلق الذي ينتاب هذا النوع من صفوة الناس كلما أتيحت لهم متعة، مخافة أن يضيعوا فيها وقتا من أوقات الكسب، وخدم، وكأنهم استحضروا خصيصا للمناسبة بأكثر من زي، لكونهم درجات، والسيدات في فساتين السهرة .. ولكنها ليست جديدة تماما، كأنما لم تستعمل من أعوام، واستخرجت للمناسبة من الدواليب، غالية، تبدو عليها آثار العز، بعضها مطرز بلآلئ وإن كانت صغيرة .. لكنها حقيقية .. والوجوه، وجوه الرجال، مكتنزة قليلا ولكنها شاحبة، كالمجهدة. والسيدات عيونهن .. رغم تعدد ألوانها تبدو كلها سوداء، كلها سوداء عميقة الغور، وكأن صاحباتها يعانين من جوع جنسي لا يدركنه، والمقاعد قليلة متناثرة، أقل بكثير من عدد الحاضرين، ولكنها راسخة في أماكنها وكأنما مضت عليها أحقاب .. وقماشها من القطيفة الحمراء الغامقة، التي تبدو حمرتها مع سواد البدل، ورماديتها مع الفساتين الفاتحة .. والسقف الأخضر بانعكاسات الضوء، وسحابات الدخان المتعددة الدرجات، والعبير الصادر عن «برفانات» حديثة، وإن كانت تعطي رائحة كرائحة عطر الجدات العربي القديم، والضجة المكتومة الصادرة عن لا مصدر، والتي تتيح لكل إنسان أن يتحدث مع أي إنسان دون أن يثير الانتباه، أو يتسرب من حديثهما الكلام، كل هذا جعل القادم الجديد يحملق ويتردد ويضطرب كثيرا قبل أن يستطيع أن يتبين أن يكون موقفه. كان واضحا أنه لا يمت إلى المكان أو الحاضرين، وكأنما دخله بطريق الخطأ. ولكن من ملامحه وتصميمه، كان يبدو أن له الحق في الحضور، وأنه يملك، ربما في جيبه هذا الحق .. وأنه على استعداد لأن يظهره ويتحدى به كل من يجرؤ على سؤاله أو التصدي له. ولم يكن أحد قد لاحظ دخوله، أو اكترث. مما أتاح له أن يتدبر موقفه، وأن يتأمل الجميع، أو بدقة أكثر من استطاعت عيناه أن تقع عليها من الجميع، تأملا كان يدفعه إلى مزيد من القلق .. وشيئا فشيئا يخلخل ثقته بنفسه، أين يقف؟ تلك كانت مشكلة، وهل يؤثر الوحدة أم لا بد له أن يشتبك مع الآخرين في حديث؟ مشكلة ثانية .. ومع من يتحدث إذا أراد؟ وفي أي موضوع؟ وبأي حق؟ مشكلة ثالثة ورابعة وخامسة؟
أم تراه قد أخطأ المكان وتكون الكارثة؟
ودهش فعلا حين وجد، دونا عن الحاضرين، شخصا يقترب منه .. كان جليا أنه ليس من الخدم، فلم يكن يرتدي مثلهم، ولا من الحضور .. فهم منصرفون إلى أنفسهم متكبرون .. لا يمكن أن يفكر أي منهم في مبادأته بالحديث، ولأمر ما، كان في مشية الرجل وطريقة اقترابه وابتسامته المتشح بها ما يذكر بالأدلاء الذي يتهافتون حول الفنادق لإرشاد السياح .. حتى سترته التي يرتديها بدت أكمامها ومقدمتها كأنما أكمام ومقدمة جلاليب الأدلاء البلدية .. وما إن اقترب من القادم بدرجة كافية حتى اكتشف أنه يحمل أمامه، وكأنما بحزام، صندوقا كالصناديق التي يحملها باعة السجائر، ولكنه أصغر كثيرا ولم يكن بحزام، وأنيق جدا، جدرانه وأركانه مطعمة ومشغولة بأسلاك معدنية ثمينة .. وحين وصله وسع ابتسامته بطريقة بدت وقحة الأدب، وقال بصوت فيه بعض التحدي وبعض الإغراء: تضرب يا بيه؟
واضطرب القادم بانفعال مفاجئ. كان قد بدأ يدرك أن الرجل يحمل لعبة من نوع ما، وأنه ليس الوحيد، فهناك أكثر من واحد غيره يطوف بأرجاء المكان، بل هناك أكثر من لعبة يزاولها بعض الحاضرين في أطراف المكان الذي بدأ يصبح أكثر اتساعا، وكأنه ناد، وكأن الاحتفال مهرجان ما، أو «تمبولا». والرجل لا يزال واقفا أمامه، يبتسم .. نفس الابتسامة المؤدبة الوقاحة، ويعرض عليه مرة أخرى بإغراء أكثر: تضرب يا بيه؟
وحتى دون أن يسأل أظهر له يده اليمنى، فإذا فيها مسدس من نوع غريب، أسود، لامع السواد، بطريقة ملفتة للنظر ومحيرة، جديد وكأنه لم يستعمل قط، وحتى دون أن يشير. أدرك القادم أن الصندوق الأنيق مليء بطلقات، مرصوصة بنظام رائع، ومقلوبة بحيث أن قواعدها إلى أعلى .. أما الشيء غير العادي فهو أنه في الصف الأخير الأيسر توجد رصاصة ليست مثل غيرها من الطلقات .. فقاعدتها ليست برونزية اللون، وربما المادة كالأخريات .. ولكنها وكأنها مصنوعة من فضة مشعة، أو برد من معدن ثمين، بريقه يخطف البصر، بحيث إذا نظرت إلى الرصاصات المقلوبة في الصندوق لا تستوقف هذه الطلقة بالذات انتباهك فقط، ولكنها تستولي عليك تماما، وتكاد تعجز أن تحول البصر عنها . تضرب يا بيه؟ مرة ثالثة قالها الرجل، وبالضبط لم يستطع القادم أن يحدد إن كان حقيقة قد قالها في المرتين الأخيرتين، أم أنه نفس النداء المغري يتردد صداه في عقله لثاني ولثالث مرة. بالكاد استطاع أن يسترد بصره المثبت على قاعدة الطلقة النادرة ليعود يعي بالرجل واللعبة. وحتى دون شرح، فهم أن عليه أن يتناول من الصندوق طلقة، ويضعها في المسدس، ثم يذهب إلى مكان في الركن، مخصص للإطلاق؛ حيث يوجد هناك حاجز تماما، كما يوجد في لعبة التنشين بمدينة الملاهي، كل الفرق أنه لا توجد عدة أهداف، إنما هدف واحد، لم يستطع من موقفه أن يتبينه، فإذا أسقطه يفوز بالجائزة، وأيضا لم يكن يدري ما هي الجائزة، ولكنه كان متأكدا أنها أعظم جائزة نالها أو ممكن أن ينالها في حياته، وبدا كل شيء يسيرا، والجائزة، أعظم جائزة قاب قوسين أو أدنى .. وما عليه فقط إلا أن يستعمل هذه الطلقة المشعة المتلألئة، حركة من يد الرجل أوقفته، يده اليسرى الخالية من المسدس. أشار له بها مطالبا بثمن الاشتراك في اللعبة، موضحا بأصابعه القيمة، وأخرج القادم من جيب بنطلونه جنيهين حسبا حدد، وضعهما في يده.
وكان مفروضا حينئذ أن يعطيه المسدس ويتناول الطلقة الفريدة ويعمر، ويذهب إلى الركن. ولكن شيئا من هذا لم يحدث. فجأة بدا كل شيء بعيد الوقوع؛ المسدس في يد الرجل وفي متناول يده، والطلقة في مكانها من الصندوق تزغلل عينيه، ولكن هناك مماطلة ومراوغة، وربما من أجل ألا يستعمل هذه الطلقة بذاتها، وربما للتسويف في التنفيذ .. ربما لأن هناك أشياء كثيرة لا بد أن تستوفى، والوقت يمتد دون أي داع للامتداد، والموقف لا يتحرك أو يتحرك منزلقا متراجعا .. وابتسامة الرجل تصبح أكثر وقاحة وأقل أدبا، وقلة اكتراث الحاضرين وانصرافهم إلى أنفسهم تزداد بشكل يجعل من موقفهم ذاك عاملا إيجابيا يتدخل ويساعد الرجل في مماطلته، ويحول بينه وبين أن ينال حقه وقد دفع قيمة الاشتراك، وغيظا فغيظا بدأ يحس إحساسا يتعمق ويدك كالمسمار المدبب الطويل في نفسه، أنه ضحية خداع لا يستطيع وضع يده عليه أو ضبطه، وأنه مسلوب الحق، وأن أحدا، وبالذات هذا الرجل الواقف أمامه بدأ يتراجع منصرفا ويحاول الاندساس بين الحضور، يريد سلبه حقه والضحك عليه .. وكل من في المكان وما في المكان يساعده. فالحضور بدءوا يتكاثرون، والخدم اشتدت حركتهم، والضجة علت قليلا .. وثمة مؤامرة خفية تدور بين الجميع .. مؤامرة صامتة غامضة تلتف خيوطها خفية تحت ستار الضجة المكتومة وبين ثنايا السحب المدخنة المضيئة، وحتى من بين أنسجة البدل الغامقة والفساتين الفاتحة والقطيفة الحمراء. وصرخ في الرجل مهددا. وتوقع أن ينتاب الجميع نوبة ذهول لصراخه، ولكن، وكأنه لم يصدر صوتا، ما انتبه أحد .. وزعق مرة أخرى ولم يسمع سوى ما كان يسمعه من ضجة الحفل الصاخب المكتوم .. وأصبح الغيظ يخنقه وصغرت الدنيا في عينه وهانت، ولم تعد قوة في الكون تستطيع أن تحول بينه وبين أن يأخذ ويضرب الطلقة، تلك الطلقة بالذات، وبيده اليمنى، ودون وعي، انقض على الرجل وأمسكه من مقدمة سترته، ولم يأبه الرجل ولا الحاضرون لهذا العمل. وكان يخيل إليه أنه عمل يعد جريمة لا تغتفر في نظر المجتمع المحيط به، وبيده ممسكة الرجل من تلابيبه، حدق في وجهه، كانت نفس الابتسامة وقد أصبحت الوقاحة فيها هي الغالبة، تطل من وجهه الأسمر المستطيل، ويستطيل لها شاربه الأسود، وتجعل أسنانه البيضاء الحادة تطل من فمه المنفرج .. وفي الحال، وبيده الأخرى صفعه على وجهه صفعة قوية، أعجب شيء أنه لم يصدر عنها صوت، وكأنما صفعة معنوية وليست مادية حقيقية ضربها بنفسه، وهوى بها بجماع يده على الصدغ المستطيل الأسمر. وانقلب الغيظ إلى غضب، ولكنه غضب لم يصبه بالعمى، كان يرى، لم يفقد أبدا قدرته على الرؤية، وأدرك أن الصفع لم يعد يجدي، وأن الوقاحة المطلة من ابتسامة الرجل في حاجة إلى نوع من الضرب أكثر إهانة، وبكل ما يملك من قوة وبساقه اليمنى ركله في بطنه، وكان متأكدا أنه هذه المرة سينفطر ألما، فقد كان الضرب من القوة بحيث لو أصابت الحائط الجماد لتألم ؛ إذ هو نفسه، الضارب، قد شعر وكأن قدمه قد سحقت ودشدشت. وكان أمله أن ينظر إلى الرجل بعدها فيجده يتألم، يكفيه .. حتى استردادا لكل حقه أن يراه ولو لومضة خاطفة يتألم .. ولكن وجه .. وجه الرجل .. حين رآه كان لا يزال يبتسم. كل ما في الأمر أن الأدب ذهب تماما من ابتسامته، ولم تعد هناك سوى الوقاحة، وقاحة مستهزئة مستصغرة وكأنه ينظر إلى طفل .. وكاد يجن، فهو مدرك أن الرجل حي؛ من دم ولحم وأعصاب، وأنه حتما قد تألم، فكيف استطاع أن يكبت هذا الألم كله، وألا يبدو على وجهه خلجة واحدة أو لمحة اهتزاز تدل على معاناة، أو تدل على تغيير ولو طفيف في تعبيره المبتسم الوقح، وانهال عليه ضربا .. وقد انقلب الغضب إلى حنق مجنون، لم يعد يرى معه كيف ولا أين يضرب. ولكنه كان على يقين تام أنه بجماع قوته وإرادته يضرب وباستماتة يفعل، وأنه يضرب هذا الرجل بالذات ولا يريد ولا يمكن أن يتوقف عن ضربه حتى لو أراد، فمن هناك، من أغوار سحيقة جدا في كيانه، كانت تتدفق حمم من الحق المغلي الملتهب، وتنفجر معبرة عن نفسها المخيفة من خلال أيديه وأرجله وأسنانه .. فبأسنانه كان يعض، وكأنه انقلب إلى وحش، وبكعب حذائه يدك، وبقبضتيه يضمهما معا ويرفعهما عاليا ويهوي بهما دفعة واحدة كالمعول الهائل محطما ومدمرا، وكلما أحس بالوهن يزحف إلى إرادة الضرب فيه، كان يكفي أن يتذكر أنه خدع وضحك عليه ومنع منعا من مزاولة حقه لتعود إليه كل قواه، وبكل قواه يعود يحقد ويضرب ويضرب.
وحين تعب تماما، ولم يعد يقوى على مجرد رفع اليد أو تحريك القدم، حين أحس أنه كله قد تداعى وتهدم، وكأنه المضروب، وأنه بالكاد يلتقط النفس. إنه يلهث، بل لم يعد يقوى على أن يلهث .. بحيث بإرادته لم يعد يتنفس، وإنما صدره بآخر قوى الحياة فيه، ومن تلقاء نفسه وبغريزة المحافظة على الذات كصدر فقط يشهق كف، وسكت، سكن سكونا تماما، وكأنه في طريقه لاستقبال الموت. وأول بوادر قدرة على الحركة ارتدت إليه فتح بها عينه. والمذهل أن الرجل كان لا يزال هناك واقفا في تراخ وهدوء أمامه، والصندوق يحمله والمسدس نصف مختف في يده، والطلقة ذات القاعدة النادرة المعدن الخاطفة للبصر لا تزال في مكانها من صفوف الطلقات، وابتسامته هذه المرة وقد عاد الأدب يختلط بالوقاحة فيها تحتل مكانها من وجهه، وأيضا لا يزال موقف الدليل العارض لخدماته، وصاحب اللعبة الذي يروج لها ويغري الآخرين باللعب، ولم يعد أمام القادم وقد استنفد كل وسائل القوة إلا أن يلجأ إلى التأنيب واللوم. وأودع نظره كل ما يريد. وإذا بالرجل يجيب وكأنه يقول: «أنا مش قلت لك عايز يا بيه تضرب؟»
وأجال القادم رأسه بضعف في الحاضرين، وكأنما أدرك متأخرا جدا أنهم جزء من اللعبة، بينما الرجل يقول: وآدي انت ضربتني. أجل حقيقة كان يريد أن يضرب، ولكنه كان يريد أن يضرب الطلقة لا أن يضرب الرجل. - ما هي دي اللعبة!
قالها الرجل وقد ازداد الوقح في ابتسامته!
أيضحك؟
لأن القيامة لا تقوم
إنه يريد مرة أخرى أن يسمع، ويرهف السمع، فما يدور مهم، أهم شيء في حياته يدور، وراديو الجيران .. الحائط في الحائط، صوته عال كأنه يؤذن، ومن بعيد يأتي صراخ الأطفال الذين لا يزالون يقظى. الدبة وقعت في البير وصاحبها راجل خنزير. هل وقعت حقيقة؟ وهل هي مستكنة الآن في البئر؟ وهل صاحبها خنزير سمين ملظلظ كأبي السباع إسماعيل؟ إنه يريد أن يسمع ويرهف السمع، فهي، أمامه ترقد الآن فوقه تماما، أو لا بد كذلك، فالمرتبة تنبعج من بين ألواح «الملة» الخشبية، ولكن انبعاجها شديد، وأمه خفيفة .. فلماذا الانبعاج الشديد؟ كان هذا زمان، حين لم يكن يسمع سوى الهمس، العشاء .. وابتسامتها السعيدة تغرقهم والطبطبة الحنون، ثم صوتها المتثائب قوموا يا أولاد ناموا .. الدنيا اتأخرت، وكالدجاج المطيع تدخلهم. ترفع داير السرير الأبيض وتدخلهم تحته؛ فالبيت حجرة واحدة، ومكانه المفضل بجوار الحائط في الصيف؛ فالحائط بارد؛ يلصق نفسه ويلمس عليه بساقه العارية فيستمتع وكأنه يجرش قطعة ثلج، ويمضي الصيف ويأتي الشتاء، ويغير مكانه إلى الحافة، وطوال العام هناك البقرة التي لم يسمعها بوضوح أبدا؛ لأنه حين يصحو على وقعها الخافت، تكون قد لفت، وتكون القهوة قد شطبت ونورها الكهربائي الوهاج قد انطفأ وأظلم الشارع تماما، والباب يزيق قليلا كلما فتح، وحين يفتح يسمع الهمس، الهمس والظلام، لا شيء سوى الظلام التام، ونقر كنقط الماء المتساقط من السقف بعد انتهاء المطر، همس همسة أو همستين كحفيف قميص نومها، أو لعله حفيف القميص يبدو كالهمس ثم يسود السكون .. وتصعد أمه فوق الفراش، فهي وحدها تنام فوق السرير، والسرير واسع يكفيهم جميعا، ولكنها تصر، من زمن من أيام أبيه حتى أن يناموا جميعا أسفل السرير، حتى حين كبروا وبدءوا التململ والشكوى، وقال إن رءوسهم تخبط في «الملة» رفعت أرجل السرير فوق قواعد، وأحضرت نجارا خصيصا ليطيل من قوائم الملة، حتى ليصبح ما تحت السرير وكأنه حجرة ضيقة حقيقية يلذ له فيها وهو الطفل، والأطفال مغرمون بالعشش والمخابئ وأمكنة الاستخفاء، اللعب والرقاد. وكثيرا ما شكلها بخياله، وتصورها خيمة أعرابي في الصحراء، أو خندقا في باطن الأرض، أو مقام شيخ من أصحاب الكرامات .. وبرغم هذا كله كان دائما ينقصه شيء، فكم من مرة اشتاقت نفسه أن ينام في حضنها، وأن تضمه مثلما كانت تفعل وأن تسمح له مرة أن ينام معها هناك حيث المرتبة اللينة والملاءة النظيفة .. وفي الليل، في عز الليل، كان أحيانا يدعي المرض. وبصوت مسموع يتأوه، ولا من أحد يسمع، فإذا سمعت أو ضاقت بآهاته سألته بصوت غير عال ولكنه مملوء بالوعيد والتأنيب .. مالك يا براهيم، فلا يجرؤ حتى على أن يواصل الادعاء، ويخرس تماما وكأنما تأوهه كان مجرد التماس على استعداد لسحبه فورا واستنكاره لحظة أن يلمح أن التماسه لم يلق الترحيب. الظلام والحفيف والهمس، ثم الأرق الذي ينتاب أمه على أثرها، وكأنما سببه هذا النفس الغريب الذي يحس به قد ملأ الحجرة لحظة أن فتح الباب، أرق لا يستقر معه قرار، فتظل تتقلب وتتحول، حتى إن لوحا من «الملة» سقط على ساق أخته ياسمين، ذات ليلة، وجرحها وصرخت، وصرخ هو الآخر، وحين لم تستجب أمه في الحال؛ أصيب بالذعر، فظل يصرخ إلى أن نام مضروبا. لا بد أنه لم يكن أرقا، لا بد أنه كان شيئا آخر، منذ متى بدأ يعي هذا الشيء الآخر، بالتأكيد ليست الليلة هي المرة الأولى، أول مرة وعى كانت ليلة العيد، كانت قد أخرجتهم من الحجرة لتستحم، وحين دخلوا عليها بعد هذا، وشعرها مبتل وهي تنفضه لتجففه، وقميصها النظيف مفتوح .. وصدرها - لأول مرة في حياته يدرك أن لأمه صدرا. فلقد رآه ورأى نظرتها وأحس في التو وكان شيئا في نظرتها يحف به نفس الحفيف المريب، وكأنما الدنيا تظلم والهمس يعود صادرا من عينيها ملحا ومشيرا إلى صدرها. ووجد نفسه لا يجرؤ على الاستمرار، وانطلق يجري إلى الخارج والأولاد، حيث الدبة التي وقعت في البير، ولعب ولعب ولعب، حتى امتلأت عيونه بالتراب، وامتلأ رأسه بالتعب، وداخ وعاد .. ودق الباب، ودق ولم يفتح له أحد .. وجاء الصوت، صوت أمه، المليء بالوعيد، ما دام اتأخرت، نام على العتبة .. نام على العتبة فعلا، وكأنه ينتظر الأمر بفارغ الصبر، ولكنه حين استيقظ في الصباح وجد نفسه مكانه تحت السرير، وكانت هي .. أمه إلى جواره .. وحين رأته يستيقظ احتضنته وقبلته، وقالت له كل سنة وأنت طيب يا براهيم. واستكان لحظتها وهو أسعد أهل الدنيا، كل ما كان يضايقه هو رائحة صابون الاستحمام التي كان يشمها، صادرة عنها، مقترنة - لا يدري لم - بإحساس مخجل محرم، وكاد أن يبدأ يتقلب في حضنها ويتدلل عليها، ويمسك يدها ويلفها حول رقبته، ثم يلعب في أصابعها السمراء من الخارج القمحية من الداخل، ويقبل كفها، ثم يقبل كل أصبع من أصابعها على حدة، من عمر طويل لم يفعل هذا، فمن عمر طويل لم ينم بجوارها، ولكنه ما إن بدأ يتمرغ في حضنها حتى أحس بصدرها يضغط بشدة على ظهره، ليس ضغطا شديدا، وإنما ضغط الكتلة من اللحم الحي. وصدرها الحي مع رائحة الصابون وعرقها الخاص والهمس في الظلام، وجد نفسه يغتاظ إلى درجة البكاء وتسقط دموعه في صمت على يدها الملتفة حوله فتسحبها كالملسوعة، وحين تدرك أنه حقيقة يبكي، تضمه إلى صدرها بشدة أكثر. وكلما اشتدت في ضمها وضغطها أحس أنه يريد أن يتخلص منها ويجري هاربا إلى الأولاد والدبة وصاحبها الخنزير .. ولكنه حين يدرك أن الليل ذهب، وأن هناك صباحا، واليوم يوم العيد، حيث يعيد كل الأولاد، ويأخذون العيدية ويفرحون، بكى ولم يسكت إلا إثر هزة شديدة وصرخة منها: مالك يا وله؟ ما له، حقيقة ما له، ماذا حدث؟ لا شيء حديث، لا شيء يبكيه، فلماذا هو حزين؟ لماذا هو حزين؟ أمن جلسة أبي السباع إسماعيل التي أصبحت تطول، والقرش الذي يعطيه إياه كل مرة ويرسله ليشتري لنفسه كرامللة، حتى لو لم يكن يريد يصر على إرساله، وهو خائف أن يخرج ويترك أمه بمفردها معه، فإذا تلكأ، جاءه الصوت الآمر منها: اسمع كلام عمك إسماعيل يا برهيم .. وينظر برهيم في عينيه، وكأنما ليطمئن قبل مغادرة الحجرة، ولا يستطيع أن ينظر فيهما أكثر من ومضة، لا لخوفه منه ومن جسده الهائل الضخم، ويده السميكة في سمك مخدة أخيه الصغير، فقد كان يكرهه، ولكن لأن في عينيه نفسها شيئا متحركا غير ثابت، نظرة خائنة لا تستقر .. تختلط الخيانة فيها بالسخرية، سخرية جافة خشنة كظهر الليفة، يقشعر لها جسده، وتدميه .. سخرية بلا خفة دم، سخرية السمين التخين الذي يتجشأ عقب كل مرة يناوله فيها كوب الماء ليشرب، ثم يكمل الحديث بصوته الخشن الرنان، وآه لو مال على أذن أمه وهمس. همس متحشرج .. كهمس الزوران، يحس برهم أنه يخرج من فمه وينتشر كالدخان القابض الخفي من حجرتهم وفي حياتهم يملؤها بأثر جارح غير مريح باعث على الخجل، ولماذا عمه أبو السباع إسماعيل بالذات، ألأنه يزورهم؟ هناك عشرات الرجال يأتون، وعشرات يسلمون على أمه ويحيونها ويهمسون لها، وأحيانا يعطيه أحدهم قرشا، إنما لماذا هذا الرجل بالذات؟ وأمه تضحك مع الكل وتجالس الكل .. فقط مع أبي السباع إسماعيل يحس كأن التيار الخفي الذي يربطه بها باستمرار حتى لو غابت أو سافرت أو نامت، فاتصاله بها دائما قائم وموجود، حين تجلس أو تحدث أبا السباع. يحس فجأة وكأن التيار قد انقطع ولم تعد تشعر به، ولكن شعوره هو بها يزداد إلى حد الجنون .. إلى حد أنه يمنع نفسه منعا من أن يمسك بعصا أبيه ويدفعها لتستقر في عينيها، أو فجأة يخلع كل من ملابسه ويقف أمامها عاريا تماما لتدرك أنه موجود، والحياة كانت سهلة وعذبة ولذيذة، يحب كل ما فيها، يحب اجتماعهم حول الطعام بعد الجوع الشديد، حيث يجلس فرحا بالطعام وباجتماعهم هو وأمه وأخته وأخيه الصغير ذي الأربعة أعوام الذي لا يزال يتهته ليخرج الكلام، وتعلق أمه بهم جميعا، وبه على وجه خاص .. والشاي بالحليب في الصباح، وفسحة الخص والعصاري مع الترمس على البحر، والجلسة على الحشيش في قلب المنتزه .. ما أجملها حتى لو جاءت سيرة أبيه .. حين يتولى أمه وجوم يخاف معه أن تبكي .. ويتبارى الحاضرون في تعداد صفاته .. حتى لكأنهم يتحدثون عن شيخ من أولياء الله .. وفي الحديث عن قوته، وكأنه كان عنتر بن شداد!
أجل .. شيئا فشيئا، بدأت الكلمة التي كان يأخذها على غير محمل محدد يتكون لها في ذهنه معنى، مات، أغلق عينيه إلى الأبد، واصفر وجهه وبرد .. ولفوه في كفن .. ودفنوه .. لقد رأى هذا كله، ولكن لم يبدأ يفهم معناه .. مثله مثل الهمس في الظلام والحفيف، وقولهم البركة في برهم، إلا هناك حيث وقعت الدبة في البير، أشياء كانت مغطاة بطريقة لا يفهم لها معنى، ثم بدأ يسقط عنها الغطاء ويصبح إن لم يكن معنى واضح، فلا أقل من شيء خفي عميق مظلم كفوهة البئر الذي سقطت فيه دبة ذلك الخنزير .. حتى غناء الأولاد والبنات كان في تلك الليلة بلا معنى، هكذا أحس، رغم ما كانوا هم فيه من متعة كبيرة، كان هو وحده يحس أن الأغنية، بل حتى اللعب كله أصبح بلا معني، شده صاحب ورشة الدوكو الذي يعمل عنده من أذنه ولعن أباه: ياد انت كبرت وبلغت ومابقيتش عيل .. ما نتاش عاجبني كده، طول النهار موطي لي في الأرض كدة، إيه اللي كاسر عينك ياد .. أوع يكون تشومبة بيعلم عليك!
وفهم جيدا ما يريد أن يقوله الأسطى .. وأحس بلسعة نار تكويه وتجنه. - ما تقولشي كدة تاني يا أسطى!
لم يدر كيف جرؤ وقالها!
وصحيح أن وجهه قد تورم من الضرب بعدها، باعتبار أنه رد على الأسطى الكبير، وتلك جريمة لا تغتفر .. إلا أنه فوجئ بنفس الأسطى، بعدما شبع من صفعه وركله، يقول لأصحابه الذي يشربون الشيشة: إنما إيه رأيكم؟ عجبني .. رد علي صحيح إنما عجبني .. والنبي الواد ده ح يطلع أجدع من تشومبة!
وتشومبة المأخوذ من تشومبي، هو الصبي الأول للأسطى ومساعده، أكبر من إبراهيم في السن وأغمق في السمرة .. أكرت الشعر، فرطح الأنف، غليظ الصوت، على عكس أخيه «لممبا» .. فتشومبة لا هم له طوال اليوم إلا تعذيبه وصفعه وقوله: ابقى سلم على أمك ياد!
أول مرة قالها، صفعه، فضربه تشومبة علقة لا ينساها. إن أول عمل بالتأكيد سيفعله حين يكبر أن يقتل تشومبة .. ويقتل أول دبة يلقاها. والدبة بدت سخيفة جدا وهو يرددها مع الأولاد .. ولم يعد في ترديدها ما يثير، وأصبح انحناؤه ليدخل تحت السرير أشد .. وكالكبار، لم يعد ينام لحظة أن يضع رأسه على المخدة الطويلة التي بططت وجفت حتى أصبحت كلوح الخشب .. والهمس أصبح يفرقه عن الحفيف .. والدق لم يعد يستيقظ عليه. إنما قبله، من الأقدام الثقيلة وهي تزحف في الطرق المظلمة كان يتنبه ويعرف أن القوة أغلقت، وأنها أقدام إسماعيل أبو السباع .. ولم يكن وحده الذي يتنبه، فالسرير يزيق، وتنسل ساقا أمه وتشخشخ غوايشها، ثم الحفيف، وفتحة الباب، والهمسة الناعمة الصادرة عنها: مساء الخير. حتى هي التي تبدأ بالتحية، والحشرجة التي مهما بولغ في جعلها همسة تظل دائما حشرجة بغير معنى، ثم، ثم تلتهب عيناه، وكأنما تضيئان بعد هذا كل شيء مظلم في الحجرة، حتى وجهه الأسمر الذي تفردت ملامحه وتضخمت، يضيء، كل شيء يبدو واضحا من نور النهار، حتى قدماها العاريتان يراهما ويرى أصابع أحداهما وهي تنكمش وتتفرطح تحت ثقلها وهي تصعد ثم تنسحب إلى فوق، تاركة إياه يحيطه من كل جانب «داير» السرير، كأنما ليطل عليه في عالمه الصغير ويسخر منه .. وياسمين نائمة متقوقعة على نفسها، في بله «تريل»، وأخوه الصغير ممدد بالعرض عند أقدامها يتنفس بصوت مسموع وكأنه رجل يغط .. هم في البير والملائكة في السماء .. والسماء سقفها من خشب، تطل منه مرتبة تنبعج، ما تحت السرير يغوص .. كل دقيقة يغوص، والسماء الخشبية مهددة بالسقوط وقيام القيامة والجنة والنار، ورأسه يوم القيامة منكس .. وحين يأتي تشومبة لصفعه على قفاه، سيرعد الصوت العالي المدوي صوت الله: ارفع إيدك، وتنشل اليد، أليس باستطاعة القيامة تقوم الآن؟ ويرعد ذلك الصوت المدوي: ارفع إيدك .. فيصاب الخنزير بالشلل، وينحشر صوت أمه في صدرها إلى الأبد، ويكف تماما عن أن يتحول همسا، إلى ذلك الهمس الذي كان يحس أنها به تصبح غريبة عليه تماما، امرأة أخرى، ملامحها مختلفة، لا يعرفها ولم يرها في حياته .. امرأة يخجل منها، وكلما رأى همسها يخرج مريبا منخفضا، شعر وكأنها تخرج من جسدها سرا دفينا كان خافيا عليه. سرا كالعورة، لا بد له من غطاء، وكلما خفضته كان يتعرى أكثر حتى لا يكفي كل ما لديهم من أغطيه وبطاطين لستر همسها .. اسمع .. أهذا صوت المرأة التي ولدته، أمه بالضبط، إنه يتذكر، أجل .. كيف فاته أن يتذكر هذا، أيام كان في سن ياسمين وربما أصغر، وصحا وفتح فمه يريد أن يصرخ، ولكنه سمع كلاما أسكته .. فقد ميز صوت أبيه في الحال .. وكان أبوه يهمس. كان مع أمه فوق السماء الخشبية، وانتهى همسهما إلى ضحك، ضحك طويل لا ينتهي، دفعه لأن يبتسم وقد بدأ يحس أنه سعيد لمجرد إحساسه أن أبويه يضحكان. نسي تماما أن البول يؤلمه وأنه من لحظات كان يريد أن يصرخ .. ودوت خبطة أعقبها عراك ضاحك فوق السرير. اهتز بعنف له .. صرخة مكتومة، ثم عود إلى عراك انتظر له نهاية بلا جدوى .. واستغرب أن يكون أبوه المهاب المقدس، الذي يحبه إلى حد لا يستطيع معه مفارقته، طرفا في اللعبة، ولأمر ما استشاط غضبا حين أحس أن الطرف الآخر أمه، وفتح فمه يريد البكاء، غير أن البكاء بدا له سخيفا .. ليس فيه ذرة رغبة واحدة، فرغم استنكاره، كان إحساسه الأكبر الطاغي أنه في أمان حنون حبيب .. وأنه معهما، وكأنه الطرف الثالث في اللعبة، كل الناقص أن يشعرهما بوجوده، وبكي ليشعرهما، ولدهشته تصاعدت الضحكات من فوق لبكائه، من أمه وأبيه معا، ضحكات لا رهبة فيها ولا قداسة، جعلته يستمر في البكاء بدافع العناد وحده، ولكنه حين وجد الضحك مستمرا وجد نفسه هو الآخر يبدأ فجأة يضحك، فإذا بالضحك الأعلى يتحول إلى قهقهات .. اهتز لها السرير بشدة .. نفس السرير. الذي ترقد عليه أمه الآن ضعيفة .. مختلفة تماما عن قوتها الصارمة في النهار وملامحها الجادة، وحديثها المملوء بالوعيد .. ضعيفة تتألم .. وتتألم في ضعف مقيت، وكأنها بتألمها تطلب مزيدا من الضعف وتغري الخنزير بمزيد من الوحشية؛ إذ كان قد تحول إلى وحش، وحشرجة همساته أصبحت خوارا عميقا كخوار ثور مذبوح. إنه لم يعد صغيرا. فهو يعرف. لا يعرف بالضبط فهو ليس كبيرا تماما، ولكن هناك أشياء غريبة لا يستطيع حتى لو أراد أن يتصورها تدور فوق رأسه في السماء عند فوهة البئر. إن باستطاعته أن يصنعهما معا ويخرج بصورة كاملة، ولكنه يبقيها لإرادته، منفردة مجرد أصوات لا رابط بينها. مجرد ضعف ووحشية .. وهمس من ناحية وتهديد بسقوط «الملة» من ناحية أخرى، ومع هذا تفور دماؤه، مثلما كل مرة تفور .. والعرق الغزير يكسوه، وكأنما حتى لو أردنا لا نستطيع أن نوقف أجزاء في عقولنا عن أن تعمل وتربط وتعي، ورعب شديد وكأنما من فوقه شيطانان يجهران بالعصيان ويفعلان هذا في المساء أمام كل الناس ودون اكتراث لأحد، دون خوف، خواره كخوار واحد من أكلة لحوم البشر، ولو نطق لنهش لحمه قبل عظامه، أمه نمرة على فمها دم، انتهت لتوها من التهام أخيه الصغير، وتتنمر في طلب المزيد .. والتوحش مجنون مكشوف حاد الأنياب كعراك الكلاب المسعورة، وثقلهما شديد، و«الملة» تغوص تحت الثقل وتجثم فوق صدره، وهما عليها وكذلك الأرض والسماء .. وكل أثقال الدنيا، وجميعها تدكه، في ضغطات بطيئة، تدفع ببطء وتهوي ببطء تدركه وتمنعه أن يتنفس .. إنه لا يستطيع الاحتمال، إنه سيموت، لا من الضغط وإنما من الجنون .. إن مخه يتكهرب ويسخن ويبرد ويطلق شرارات .. والرعب من الفجر يشل صوته عن أن يصرخ، ويمسك بزمام عقله عن أن يفقد السيطرة، ونفض هذا كله عن نفسه وينفجر غاضبا صارخا .. وينقض عليهما بالحذاء البني القديم يمزقهما .. أو بيد «الهون» يدشدش رأسيهما .. ولكنه يدرك، ومهما بلغت درجات انفعاله .. أنه غير قادر على الإتيان بشيء من هذا، كبرت وبلغت يا برهم حتى أصبحت كالدبة، وأذنك تسمع، وعيناك كالأسياخ المحمية تخترق «الملة» وتكاد ترى ما فوقها. وأنت صغير لم تكن تعرف، كنت فقط ترى، الآن ترى وتعرف .. لو فقط أمكن إلغاء كل ما فات والبداية من جديد، من الليلة مثلا، أو الغد وكأنه ما سمع قبلا أو رأى، وكأنه أول مرة يعرف ويفاجأ بالمعرفة ليستطيع أن يتصرف بمثل ما تمليه عليه المفاجأة .. ولكن العجز الذي يصيبه يعرف سببه .. العجز سببه أنها ليست المرة الأولى .. وقبل أن تكون الأولى كان هناك إحساس، كان غموض وكان تدريج، الهمس يتحول بعد حين في وعيه إلى كلام مفهوم، والكلام إلى أصوات، والأصوات يميزها ويعرف صوتها من صوته، ومع كل «حيل» طلوع يطلع له في فخذه، كان يكتشف شيئا فشيئا، ذاك الغموض .. وببطء شديد لا مجال معه للثورة، ولا فرصة للمواجهة، بحيث حين «عرف» و«وعى» لم يعرف أو يع بشيء جديد .. وإنما جاء كالخبر القديم بلا حرارة، كالشبح البعيد الذي خمنت من زمن قبل أن تقف وجهك في وجهه .. من يكون.
حتى إشعارهما بوجوده ما كان يجرؤ عليه؛ فقد كان يشعر أباه وأمه لأنه كان مطمئنا آمنا، أما هذان فمن يكونان غير غريبين عليه تماما، الرجل خنزير والمرأة دبة .. وهما على سطح الدنيا في السماء ، وهو وإخوته، مثلهم مثل أبيه، يضمهم هذا القبر ذو الداير الأبيض .. أيبكي؟ ويصبح حتى في نظر نفسه وكأنه «ملعبة» تشومبة كما يقول الأسطى؟ أيصرخ ويلم الناس .. باستطاعته أن يفعل، باستطاعته أن يقتلها حتى بعد ما يذهب الرجل الغريب .. ولكن المشكلة أنه بهذه الفعلة سيفقد ذلك الخيط الواهي. الذي أصبح يربطه بأمه .. فرغم كل شيء لا تزال أمه .. ولا يزال حيا لأن له أما .. ولا يستطيع أن يتصور الحياة بغيرها .. بله أن يتصور أنه هو الذي قتلها وأفقدها الحياة .. هو حي لأن له أما، ولأنها هذه الأم بالذات، ذلك الشيء الموجود رغم وهنه، لو فقده، لفقد الحياة .. فهي الآن، وهي مع الرجل الغريب مقطوعة الصلة به، يحس إحساسا عميقا شاملا أنه ضائع إلى حد الموت، لا أحد في الدنيا يخصه ولا يخص هو أحدا، ما يبقيه حيا هو أمله، مجرد أمله، أن تنتهي تلك اللحظة العارضة ليعود يربطه بها ذلك الخيط الواهي، ولو صرخ، لو عرفت أنه عرف لنبذته إلى الأبد، وكف التيار النابع منها ليحييه عن السريان، وانتهت أمه تماما، ولم يعد فيها غير المرأة الأخرى التي ترتدي الفستان الأسود فوق القميص الحريري الشفاف، والتي تشقى طول اليوم، كي تجلب من عملها؛ كدلالة وسمسارة وأشياء أخرى كثيرة، الطعام .. بل إنه ما كان يفرح بالطعام لأنه طعام ولكن لأنها هي جالبته .. هي التي تعبت وأحضرته، وتعبها هذا في إحضاره لا بد سببه أنها لا تزال تحبهم وتحبه. الطعام رمز الحب هو ما كان يفرحه. وأن تموت .. أن تنفضح، أن يواجهها؛ لمات قبل أن يحدث هذا؛ فحاجته إليها أقوى ألف مرة من حاجتها إليهم، بل هو لا يعتقد، منذ أن دخل هذا الرجل الغريب حياتهم، أنها أصبحت بالمرة في حاجة إليهم .. حياته وحياتهم لا تزال معلقة بأمومتها لا تنفصل، لهذا لا بد أن تظل تعيش وتظل حية، ويظل ساكنا، وتظل، لتظل حية في السماء .. أو فوق الفراش. لتظل تقابل عشرات الرجال وتشتغل معهم بأكل العيش وتعولهم وتحدثه بصوت مليء حتى بالوعيد .. لتظل تختار من بين الرجال ذلك الرجل الغريب لتقول له. وهي التي تبدؤه بصوت هامس مبحوح: مساء الخير، وليسمع هو، وليكن عليه أن يقضي جزءا كبيرا من الليل يسمع، والأصوات تأتيه من فوق سمائه الخشبية، ليس فيها ضحك أو سعادة، وإنما فيها ضعف، حتى لو أدى إلى رغبة في الضعف أكثر فهو حزين، وليس فيها صوت أبيه القريب الحنون، وإنما لهاث خنزير، وفحيح دبة سقطت في البئر الذي كان يخصه وحده وخلق له، وضحك ذات يوم حين احتله أبوه، حضن عن عمد تفتحه، وبإرادة منها تضم به ذلك الرجل المكتنز، وبلقائهما الشيطاني المتوحش يغوص كونه الصغير تحت السرير ويغوص، وهو قد كبر، ومن صغره وهو يسمع .. الآن أصبح يسمع ويجن، وبحكمة كبيرة يصنع في النهاية كما تعود أن يصنع، ويسكت .. ومع هذا لا تريد القيامة أن تقوم .. ليعلو ذلك الصوت الراعد: ارفع إيدك. فيصاب الخنزير الغريب بالشلل، وتموت المرأة المبحوحة الهمس .. وتعود له الأم. صرخة تتصاعد من تحت سماء خشبية محدودة إلى المدينة النائمة والأرض الكبيرة والكون والسماء التي لا نهاية لها .. ولأن القيامة لا تقوم فهو يستيقظ كل صباح وقد أصيب بخيبة الأمل .. وكل يوم يرمقها في خروجه ويحس أن الخيط يدق. والأم تنكمش وسنوات قد مضت على موت أبيه .. والمرأة ذات الهمس تطغى فيذهب إلى الورشة منكس الرأس ليرتفع كف تشومبة ويهوي بها على قفاه. قفا صبي صغير أسمر، قائلا: والله كبرت وبلغت وبقيت زي الدبة .. والدبة وقعت في البير.
مارس 1965م
الأورطي
المهم ليس أنه جريا، المهم أنه كان في أكثر من اتجاه. يكاد يكون في كل اتجاه. لكأنه يوم الجري الأكبر. نوع غريب خاص من الجري؛ فهو ليس جري الخائف أو المستعجل أو من يسرع لإنقاذ .. جري تائه وكأن صاحبه ليبحث عن بقعة يبدأ منها الجري والإسراع، ولهذا فلا أحد يعرف هدف الآخر أو غايته، إنما الكل في حالة ترقب خائف أن يعثر أيهم على بدايته التي ربما حددت لهم البداية، ولهذا أيضا كنت ترى الشخص يجري كالمجنون، وكالمجنون أيضا يحاول عبثا أن يراقب خطو الآخرين وجريهم. بحيث ما إن يبدو أنه قارب العثور على غايته حتى يندفع العشرات إلى حيث يكون، على أمل أن يصل الواحد منهم أولا .. ليكون أول من ينطلق حتى يتحدد الهدف، وحين يصابون بخيبة الأمل ويجدون أن الذي أسرعوا إليه أكثر منهم حيرة، يندفعون إلى متلكئ أو مسرع آخر، علمية كانت البقعة فيها تبدو، إذا نظرت إليها من عل أو من بعيد، وكأنما تنبض، نبضات تجمع مفاجئ يعقبه التفرق، نبض يحدث في أكثر من مكان في نفس الوقت حتى ليبدو الميدان وكأنما فرش بقشرة، لولا تلك النبضات العشوائية الحادثة هنا وهناك، والدالة وحدها على الحياة، لظننتها قشرة صخر، أو لظننت الآدميين المتجمعين كتل ركام مختلف الألوان.
ولا أحد يعرف إن كان هناك ضرب أم لا، أنا شخصيا أصبت بأكثر من ضربة، ضربة قاصمة موجعة، وكان من المستحيل تحديد الضارب، فأنت بلا جار دائم .. والحركة الدائبة الجارية لا تتيح لك حتى مجرد التطلع إلى العشرات والمئات الذين تمر بهم أو يمرون بك، إنما بالتأكيد كان هناك ضرب، وكانت هناك اصطدامات، لا وقت حتى للاعتذار عنها، وكان أناس يسقطون، فجأة تتصاعد صرخة يعقبها أنين، يظل يخفت كرنين الجرس المعلق حتى تمحوه صرخة أخرى، ولا أحد يتوقف ليرى النهاية، ما دمت لست أنا الصارخ، ولا أزال قويا سليما لم أسقط بعد، فما معنى الوقوف، وشيئا فشيئا بدأت أدرك أن الحركة كلها ليست تلقائية، وأن هناك حركة أخرى خفية من الصعب، شبه المستحيل، إدراكها، حركة طاردة إلى الخارج، وكان الميدان يتمدد وينفجر انفجارا بطيئا خفيا منتظما طاردا الوسطانيين ليصبحوا أقرب إلى المحيط وإلى الخارج وإلى الشوارع الكثيرة الصابة في الميدان والآخذة منه، حركة لولاها ما كان باستطاعة قوة في الوجود أن تنتشلني من حيث كنت إلى حيث وجدت مجموعة من الناس كنت أجدها تجري بلا سبب آخر سوى الاستمرار اللاإرادي لما كنا نفعله في الميدان الكبير، استمرار لا نستطيع حتى لو أردنا إيقافه. وما خفي كان أعظم. ومن أين لي أن أدرك أني في اللحظة التالية سألتفت إلى جاري، أول جار أستطيع أن ألمحه وأحدق في ملامحه، فأجده لدهشتي الشديدة ولهولي، عبده. وكان إحساسي الطاغي التالي أن النقود معه، وأنه لا بد يخفيها في مكان ما معه، وكدت أموت فرحا، وأنا بشغف عمره وكأنما ألف عام، وبغيظ كالغاز الخانق القاتل الذي يتشبع به الجسد ولا نحس به إلا هناك قبل الموت بلحظة، حين تعي لأول ولآخر مرة أنه خنقك وقتلك. أجل الغيظ، أبشع أنواع الغيظ، حين تستأمن أو تثق ثم ترى الخديعة عيني عينك ودون أي اكتراث، حين ينسل الشخص الذي تعرف ومتأكد تماما أنه في يدك أردته وأنى أردته في يدك، فجأة تجده أمامك يذوب ويختفي، وتلتهب غيظا وغضبا ومجهودا ولا تستطيع منعه. عبده، بيدي الاثنتين أطبقت على رقبته. كل خوفي أن يذوب مرة أخرى، ويختفي .. وكل ضيقي أني لا أستطيع التهامه .. الوحش فينا لا يزال هناك، وحين نتشاجر لا نعض كي نؤلم الخصم، إنما نعضه لأننا فعلا نريد، كالأجداد الوحوش، التهامه. الأجداد الذين كانوا يهاجمون الخصم ويلتهمونه غيظا كي يستطيعوا إخفاءه وإخفاء وجوده داخل العدو وتستمد بناءها، نحن الآدميين الذين فقط نعض عن عجز، ونحقد ولا نستطيع التنفيس عن حقدنا بالطريقة الطبيعية، فيزيد حقدنا، فتنهشه كالأنياب المسمومة إلى داخلنا ينهشنا نحن ويقوضنا، وبالضبط هنا ما كنت أحسه وأنا أطبق على عبده، وأتمنى لو كان باستطاعة عواطفي أن تنطلق فتنشه وتدشدشه وتمضغه وأحس بأنيابي تلوك لحمه وأجزاءه وتشفي غليلها وتطحنه بكل ما تملك من قسوة وشراهة، وربما الأصل في الطعام أن يأكل الإنسان بناء على غيظ وبنية إخفائه عن الوجود واحتوائه تماما والقضاء عليه، ولهذا يستفيد الوحش من طعامه الفائدة القصوى، بينا يمرض الإنسان الآن بطعامه ويشقى.
ولكن، حتى كطعام، كان عبده لا يدفع إلا للاشمئزاز وقتل الرغبة فقد كان نحيفا غلبان، ما حفلت عيناه بنظرة تحد ولا واجه أحد مرة بنية إثبات الوجود أو الدفاع عنه، كان طيبا، ذلك النوع الباهت السلبي من الطيبة ، مصابا بفتق مزدوج، ويغني في خلوته، مواويل عذبة ، وكأنه أنى يحل غريب، لم يعثر له أبدا على وطن، وإذا فاض الحال بكى، امتلأت عيناه فجأة بدموع لا يصاحبها أي احمرار، إنما يتجمع الاحمرار في أنفه، فيبدو وكأنما تورم وحفل بالإفراز، ويصعب عليك فقط لأنه عبده، وإنما لأنه وهو الرجل، كالأطفال والنساء يبكي، بكاء لا ليونة أو طفولة فيه ولا يستدر العطف، إنما الكارثة أنه بكاء رجال يستدر الاشمئزاز. حرامي قروش لا يأخذها إلا مضطرا، وبأقل مقدار، وإذا ضبطته ارتبك وتلعثم وأقسم أيمانات كاذبة، وحذار أن تشدد عليه وإلا بكى وأصابك باشمئزاز يستمر معك اليوم كله وربما لبضعة أيام. ثلاثة أيام بأكملها بلياليها، وبساعاتها الطويلة، ومغاربها وعصاريها، وأنا أبحث عنك يا عبده، أرفع أرصفة مصر وأقلبها، واقتحم البيوت، وأوصى، وأواعد وأستجير، ولا أترك شارعا أو زقاقا أو حارة، وحين يهدني التعب أنام وأستيقظ على روحي تكاد تطلع بالغيظ والحنق يأسا من العثور عليك، وحلمي وكابوسي وألم يقظتي ومنامي، أن ألتفت مرة لأجدك يا عبده، أين كنت يا عبده وأين أخفيت النقود. والغريب المذهل ما قاله. قال إنه ما إن غادر المنزل يومها، حتى أمسكته فرقة من التي تبحث عن المرضى لتأخذهم عنوة إلى المستشفيات «تماما كفرق الشفخانات التي تأخذ الحيوانات المريضة بالقوة!» وأنهم أخذوه معهم إلى المستشفى مشتبهين في أمره، وهناك كشف عليه الباشحكيم بنفسه، وقرر أنه مريض بمرض خطر، يهدد أن يعدي المصريين جميعا به وأن لا علاج له إلا بعملية جراحية يجرونها له في الحال، ويقطعون بها الأورطي له، وفعلا عملوا له العملية، وقطعوا له الأورطي، ورقد لثلاثة أيام ثم أخرجوه اليوم فقط، بعدما منحوه عكازا ليستعين به في السير، أما النقود، فمن لحظة أن دخل المستشفى وهو لا يدري ما حل بها.
وكان مفروضا أن يحكي عبده قصة ما يبرر بها اختفاءه واختفاء النقود، أما أن يحكي قصة كهذه لا يصدقها طفل أو معتوه، أما أن تكون هناك فرق تبحث عن الآدميين المشتبه في مرضهم وتأخذهم بالقوة كي يعالجوا وتعاملهم هذه المعاملة الحيوانية البشعة، أما أن يكون هناك مرض من الأمراض علاجه قطع الأورطي، أما أن يقطع الأورطي، وهو الشريان الرئيس للجسم البشري، الذي يأخذ الدم من القلب ويوزعه على جميع أنحاء الجسد، والذي في سمك العصا التخينة، بحيث أنه لو خدش يحدث من جرائه نزيف يقضي على صاحبه في الحال، فما بالك أن يقطع وأن يعيش عبده بعد قطعه، ليس هذا فقط بل أن يكون باستطاعته أن يسير، لو على عكاز، وأكثر من هذا يجري مثلما كنا منذ دقائق نجري. أما أن يكذب عبده هكذا علي كذبا واضحا صفيقا، لا يحاول حتى أن يداريه أو يبحث قصة أخرى أكثر حبكة وقابلية للتصديق، فهو ما أضاع مني كل سعادتي بالعثور عليه، وما جعلني أحس بتعب ساحق أهوج يعتريني، لإحساسي أنه يسخر مني بقصته تلك سخرية تفوق الوصف. عصب لا حدود لقسوته ولا حدود لما يدفعك إليه، ولم أكن وحدي، كانت الجماعة التي تجري معي تشهد هذا كله وتسمعه وقد آب جريها إلى سير بطيء، بل بدأ أفراد آخرون ينضمون إلينا ويشعرون تجاه عبده وقصته بنفس ما أشعر، وكلنا بلا استثناء قد أصبح أهم شيء لدينا أن النقود معه، وأنه لا بد يخفيها في مكان ما في جسده، فعبده لا يملك مكانا آخر في الدنيا يستطيع أن يخفي فيه شيئا وليس مهما القصة، أي قصة يحكيها، إنما المهم هو العثور على النقود، والعثور عليها أمام «عيني عينك»، وفضحه فضيحة علنية أمام الناس كلهم، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، وهكذا تصاعدت الأصوات تصرخ .. فتشه فتشه .. ولم أكن في حاجة للصرخات لأمد يدي أنزع عنه جلبابه البلدي الباهت الذي لا يملك سواه، غير أني فوجئت أن الجلباب ملتصق بجسده لا يمكن خلعه عنه، وهذا غريب فعبده كان دائما «يلق» في جلبابه الواسع، فكيف به الآن لا يمكن انتزاعه، وكأنه انتفخ فجأة، أو سمن في ثلاثة أيام سمنة غير معقولة، وفي البحث عن حل لخلع الجلباب عنه، اشترك الجميع في الاقتراحات وقد أصبح حماسهم للنيل من عبده يطغى على حماسي أنا الضحية، حماس كان يعمنا في صمت وبلا اتفاق سافر وبكل جهد وإصرار، وبأعصاب منفعلة وبكثير من الاستمتاع، وكأنما نحن متأكدون تماما أننا أخيرا قد عثرنا على بغيتنا، على نقطة كالتي كنا نجري في الميدان نبحث عنها لنبدأ منها الجري .. على مذنب، يحمل الذنب الذي ارتكبه معه، ولا بد أن ينال جزاءه، ونمتع كل ما فينا من خير بإيقاع القصاص به وتطبيق العدالة، ونمتع كل ما فينا من شر يجعلنا نطبق العدالة بأيدينا وبأنفسنا وبالشر حرا طليقا لديه جواز المرور، نوالي أحداث الضرر تحت شعار العقاب.
ولم تكن هناك طريقة لخلع الجلباب عنه إلا بسلخه كما يسلخ جلد الأرنب عنه، ولكي نسلخ الجلباب لا بد أن يكون معلقا. وأصبحت المشكلة أين وكيف نعلقه، وتصاعد اقتراح، والتفتنا فوجدنا الجزار قريبا، وتحركت المجموعة وعبده في وسطها، لا تزال يدي مستميتة عليه إلى حيث دكان الجزار، وتولى أربعة رفع عبده، بينما أخذ الجزار الشاب البدين على عاتقه مهمة تعليقه في الخطاف الذي تعلق عليه الذبائح من «قبة» صديريه وملابسه الداخلية. وهكذا علق عبده في الخطاف وأصبح مرتفعا هناك، لا حول له ولا قوة، مثله مثل الذبائح والخرفان المسلوخة المعلقة على بقية الخطاطيف. وامتدت أكثر من يد ترفع ذيل الجلباب إلى أعلى وتسلخه عنه وهو معلق صامت لا ينطق بحرف. وما كاد الجلباب يخلع عنه حتى أدركنا السبب جعله يلتصق بجسده هذا الالتصاق الشديد، فحول بطنه وصدره كانت تلتف أشرطة بيضاء كثيرة. وكأنه فعلا قد أجرى عملية وتلك أربطتها، ولكني أدركت على الفور هدفه الخبيث من هذه الأربطة الكثيرة، فلا بد أنه أكثر منها ليستطيع إخفاء النقود في أية طية من طياتها دون أن يستطيع أحد الشك أو التنبؤ بمكانها. وكان لا بد أولا، ولمجرد الروتين، فحص محفظته. ومد الجزار يده السمينة المدربة، وأزاح طيات الشريط قليلا، وأخرج المحفظة من جيب صديريه، وكانت أول مرة أرى فيها محفظة عبده، ولم أكن أتصور أنها بهذه الضخامة؛ فقد كانت أضخم محفظة ممكن أن تراها في حياتك ، وقد توليت بنفسي تفتيشها وإفراغ محتوياتها. وكما توقعنا، لم يكن بها غير خمسة قروش فكة، أحدهما معضوض صدئ لا يصلح للتداول. ومرة أخرى دفع الجزار البدين يده في جيب الصديري نفسه، وكالمتوقع لم تخرج بشيء، كلها إجراءات شكلية. فقد كنا جميعا ندرك أن النقود هناك، مخبأة لا بد في طية من طيات الشريط. وبذلك التحفز النهم للفضيحة، ولإدراكنا أننا حالا، وعيني عينك، سنضع يدنا على ذنب المذنب، وأمامه سنخرج من جسده نفسه الجريمة، وننتشي النشوة الكبرى ونحن نستعد لنرى وجهه لحظتئذ ونسمع ما يقوله. بذلك التحفز امتدت يدي ويد الجزار تفك عنه الشريط، غير آبهين لصرخاته واستغاثاته، وقوله إن فك الشريط عنه معناه موته؛ إذ الشريط هو الذي يمسك الأورطي المقطوع في مكانه. صرخات لم تفعل أكثر من أنها أثارت الضحكات والتعليقات الساخرة، وحفزتنا نحن القائمين بفك الشريط إلى اللحظة القصوى لحظة اكتشاف النقود، وفككنا بعض الأشرطة، وصراخ عبده قد آب إلى سكوت يائس، بينما امتلأت عيناه بالماء الدامع الذي لا يصاحبه أي احمرار، وحتى لو صدقناه واعتبرنا أنهم عملوا له عملية ما فمن الواضح أنه يكذب، فالأشرطة كانت بيضاء نظيفة، ليست فيها بقعة دم واحدة ولا آثار جرح، ولهذا مضينا نفك، وإنما بحرص مخافة أن تسقط منا النقود لدى اللفة التالية. فقد كنا جميعا واقفين ومشاركين، وكأنما عبده هو الآخر ينتظر ظهور النقود لدى اللفة التالية، وكنت ألف من ناحية وأسلم الشريط إلى الجزار البدين ليفكه من ناحيته ويعود ليسلمني إياه، ويبدو أننا كنا استغرقنا في العملية إلى درجة أني مددت يدي أتسلم منه الشريط مرة فلم أجده؛ إذ كان قد انتهى. وقبل أن أنظر إلى عبده، أحسست بشعور غريب ما يعتري الواقفين، وحين اتجهت ببصري إليهم وجدتهم جميعا، وقد خيم عليهم صمت كامل مريب، بينما عيونهم كلها مصوبة إلى جسد عبده، جامدة لا تطرف، وكأنها عيون موتى. ونظرت إلى حيث ينظرون .. كان عبده عاريا تماما، وكان هناك جرح طويل جدا يمتد من صدره إلى آخر بطنه، وكان صدره وبطنه فارغين، وكأنما انتزعت منها كل ما تحويه من أجهزة، وكان الأورطي يتدلى من صدره من مكان القلب كمزمار غاب سميك، طويلا وشاحبا ومقطوعا، يتأرجح داخل بطنه كالبندول.
مايو 1965م
صاحب مصر
فكرت أن أجعل للرجل زوجة جميلة صغيرة لتلائم سنه الكبير، فكرت أن أجعل الجميلة بنته، ولكن الزوجة مغرية أكثر، والقارئ الملول لا بد أن يسيل لعابه تتبعا للزوجة الصغيرة الحلوة أملا في حدوث المتعة الكبرى بشم رائحة الخيانة أو التلظي نشوة وقلقا على نار الشك في وجودها.
فكرت في أشياء كثيرة، وتصورت وكأنني الكاتب المحترف، كل الآفاق المثيرة المجهولة التي يمكنني أن أقود إليها القارئ الهاوي النهم، كي أؤكد تفسيرا لحماس صميدة للرجل العجوز، وصميدة ليس اسمه، وأنا لا أعرف اسمه، ولكني لا بد إذا سميته أن أختار له لقبا كصميدة، فيه حرف صاد مذكر الموسيقى، جهيرها، ليعبر عن شخصه .. ولا بد أن ارتباكا قليلا قد حدث، وأن الحيرة تملكتكم عن أي الرجلين أتحدث .. الواقع كان هناك رجلان كل منها يستحق الحديث، ولكن الأنسب أن نتجاوز عن كليهما معا لنتحدث عن المشهد؛ فقد كان هناك رجلان ومشهد، والمشهد ليس بسيطا أبدا رغم خلوه التام من الفواجع والكوارث وكل مسببات التوتر، ولكي نبدأ علينا أن نتصور مكانا معزولا ولا تماما عن العالم، كأن الدنيا بكل غموضها ومجهولها تنتهي عنده، ولكننا لا بد أن نعتقد أنها أبدا لا تنتهي عنده، فالطريق الذي يقطعه يظل ممتدا بعد بقعتنا مثلما يظل ممتدا قبلها، إلى ما لا نهاية البصر. بالاختصار، لنتصور طريقا من طرقنا المسفلتة الطويلة، يمر بمساحة شاسعة من الأرض غير الزراعية أو المطروقة أو تعرضت في عمرها الملاييني الكثير للمسة من يد الإنسان، صحراء، أو براري، أو جبل وعر، على امتداد الإصبع الخنصر لبحرنا الأحمر. إن طريقا كهذا يظل الخط المستقيم بلا فائدة، كالرجل المستقيم بلا مبدأ، وبمجرد المحاكاة والتقليد، لا معنى له ولا قيمة لاستقامته، حتى يحدث له حادث ينتهي مثلا أو يلتوي، أو بالذات يلتقي بطريق غيره أو يتقاطع، هنا فقط، عند التقاطع واللقاء يصبح للطريق المستقيم الممتد معنى؛ إذ يصبح التقاطع وكأنه الإثبات لنظرية كانت قبله فرضا، ووصولا كان طوال الطريق مجرد حلم كحلم الجوعان بالخبز.
لنتصور حادثا كهذا وقع لطريقنا الذي اخترناه ممتدا بلا معنى في أرض متسعة بلا مفهوم، ولنكن أيضا على ثقة أننا لن نكون أول المتصورين، فقبلنا بكثير سنجد أن الحكومة، باعتبارها المسئولة عن الأرض والطريق وكل الأشياء ذات المعاني والمعدومة المعنى، قد تصورته، وأدركت أهمية هذه الحقيقة الفلسفية أو الصوفية المحضة، مع أنه ليس من عادة حكومة في العالم أن تعير أمثال هذه الحقائق التي ينقسم عندها البشر، وأحدثت - ولا تزال تحدث - أعظم الهزات والمعارك والانتصارات الإنسانية، أي التفات، ولكنها بالسليقة من زمن لا بد أدركتها. وبادرت فأقامت عند هذا التقاطع «كشكا»، وقالت لعسكري كن داخل الكشك فكان، وهكذا انحسرت كل المعاني الكلية المهولة عن التقاء الطريق بالطريق وتقاطع الطريق مع الطريق، وكما يضيق «القمع» ويتدبب، ضاع المعنى وانكمش، واتخذ بالكشك والعسكري في الحال مفهوما واضحا خاصا، بل حتى الأرض نفسها، تلك التي كانت من أمتار قليلة مستمتعة بلا جدواها ولا أهميتها وبحريتها أن تمتد إذا أرادت وتتجبر وتتجبل إذا أرادت وشاءت أن تمتد، وتجن وتطلق شعورها وبراريها ولحاها كلما عن لها أن تصنع ذلك، أصبح عليها منذ الآن أن تدير رأسها وأن تعقل وتخفي عورتها، ومن الكرة الأرضية الهائلة والكون والطبيعة تنسلخ، وتتخذ أسماء وتنتهي إلى شعب محدد وإلى جزء من أرض ذلك الشعب، محافظة أو مركزا تئول وكما يعطي العسكري والكشك والطريق هذا المعنى المحدد الخاص. يرتد العطاء، ويصبحان أو على الأقل يصبح العسكري، ليس مجرد أي عسكري في أي كشك، ولكنه، في ذلك الجزء المقطوع عن العالم المعزول يصبح المثل الحي للنظام العام الذي أخضع الأرض وحدها وسماها وامتلكها ولكافة القوانين التي ابتكرتها عقول من أصبحت تمت لهم هذه الفرس الوحشية .. الأرض .. وراكبها الذي استأنسها .. ذلك الطريق.
في ذلك الوقت، ولنجعله بعد الظهر بقليل، وقد انتهى العسكري من تناول غدائه بحيث يمكننا أن نقدم عليه بلا حرج ونجلس إليه على أمل أن نتحدث، وحتى قبل أن يدور أي حديث بمجرد الجلوس، سندرك أن البقعة قد تكون معزولة ومهجورة بالنسبة للآدميين وللراحلين، ولكنها أبدا ليست كذلك بالنسبة للعربات. فما تكاد تمضي دقيقة حتى تكون عربة قد أقبلت، بل أحيانا يتراكم لدى الكشك أكثر من عربة، كل ما في الأمر أنها في الخلاء الواسع لا تبدو للعيان .. قلما تصادفك عربة؛ إذ هي نقطة لا تظهر إلا عند الكشك. من الخلاق الواسع الشفاف تظهر فجأة كأن دخانا كان يخفيها باتساعه وشفافيته، وإلى الخلاء الواسع تعود إلى الاختفاء بعد اجتياز التقاطع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحتما لا بد نفاجأ، قبل أن نبدأ نعير العسكري نفسه أي التفات، وإنما نحن مشغولون بتأمل المكان الفريد الغريب ومتابعة غير قليل من الأفكار التي يولدها بالضرورة وجودنا لأول مرة في مكان كذاك، حتما لا بد نفاجأ حين يقبل رجل عجوز قصير القامة، أول ما يلفت النظر إليه جبهته السمراء البارزة المحدودية، ومقدم رأسه الخفيف الشعر الأشيب، ينحني على المنضدة الموضوعة أمام العسكري ليستطيع أن يصل إلى حافتها الملاصقة له، ثم يضع، ويا للمفاجأة، كوب شاي متوسط الحجم، رخيص الزجاج، وإن بدا الشاي نفسه جيد الصنع، عنبري اللون محمرا، تماما كما يحبه أنصاف الكيفية، ونفاجأ أكثر حين نجد أن العسكري نفسه لم يفاجأ بما حدث وكأنه كان يتوقعه، وكأنما هي عادة. وحتى إذا كنت متوسط الذكاء، فلن تأخذ وقتا طويلا لكي تدرك أن الرجل العجوز صاحب ما اصطلحنا على تسميته بالغرزة، أو القهوة الصغيرة المتنقلة، وأنه يحط رحاله تحت شجرة على الناحية الأخرى من الطريق، وأنه لا بد قد لاحظ أن العسكري قد انتهى من تناول غذائه فأحضر له كوب الشاي. كما قلت: لا حوادث هناك ولا شيء غير عادي، من الطبيعي جدا أن توجد قريبا من هذا التقاطع غرزة صاحبها رجل عجوز أو مريض، وأن يتعامل العسكري معه ، وأن يحضر له الشاي، وأن يقدمه في أدب. ولكن أشياء غير عادية بدأت تحدث، منها مثلا أن يدفع العسكري يده في جيب بنطلونه الأمامي «فجيوب بنطلونات العساكر مركبة إلى الأمام ولا أحد يعرف لم!» ويخرج قرشا من جيبه، ويعطيه للرجل العجوز قائلا: خذ قبل ما أنسى. حادثة لا شك. فالمفروض، والعسكري يمثل كل ما ذكرته آنفا، والرجل يمثل التجار الصغار، أن يتقاضى ضريبة يضعها تحت أي اسم يشاء .. ضريبة ليست أقل من كوب الشاي مثلا، وأن يعفي العسكري هذا الرجل من الضريبة، ليس فقط .. بل أن يخسر من جيبه قرشا، أمر له دلالة خطيرة. لا بد أن هناك سببا لهذا الاستثناء، فإذا اتضح أن لا سبب هناك، فمعنى هذا أننا في مواجهة ظاهرة خارقة .. عسكري مرور .. ملك متوج على بقعة نائية مهجورة، ويستطيع من هذا المكان أن يسيطر على غرائزه، وبالذات على غريزة فرض الضرائب غير القابلة للسيطرة والتحكم، ويكون ذا ضمير مستيقظ لماح.
هنا لا بد أن تلتفت كلية للعسكري، وتعيد النظر فيما دار بينك وبينه من حديث، فستقطع أخطر محاورة مفروض أن تدور حالا بين العجوز والعسكري، لأننا لن نستطيع إدراك مضمون الحوار إدراكا حقيقيا، إلا إذا وضحت لنا صورة العسكري، فلا بد لنا أن نؤجل الحوار إلى حين. العسكري شباب في حدود الثلاثين، في حديثه وآرائه تحديدات من لم يتزوج بعد، أو إن كان قد تزوج فلم يستطع الزواج أن يصيب ضحيته، كما يصيب الجسد، بالترهل وعدم الميل إلى التحديد. الزواج باعتباره عملية تنازل مستمرة ومساومة في أحسن الأحوال يصيب الرجل بعادة الرغبة في المسألة والبحث عن الحل الوسط، فالجمل لا بد أن تكون لها نهايات مفتوحة تجعلها قابلة للتراجع التام في أحيان، أو الاتصال بجملة أخرى تغير تماما من المعنى المقصود، الزواج ضد نقط النهاية وضد الحسم ربما خوف من سوء وضع النهاية. ما علينا. شخصيته محددة، آراؤه في الناس أيضا محددة، وكذلك في عملية وطبيعته، وهذا شيء نادر هنا، فالوظيفة، أية وظيفة، كالزواج تماما، صاحبها فتح الجمل وكثرة استعمال حروف الوصل والضم والجر والألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى وتفسير لاستخدام معناها الآخر، كسلم الحريق حالة وقوع الكوارث وتحمل المسئولية. له شارب .. تحس إنه عن عمد قد وضع شاربا، لا للعياقة أو إظهار الرجولة، إنه ليس في حاجة إلى إظهار، وإنما لأنه - ما دام الناس صنفين - فقد اختار أن يكون من الصنف ذي الشارب، صعيدي أو عربي فلا تزال به بقايا قبلية، في لغته وفي ميله إلى الحديث عن كل ما هو عام، فالانتماء يبعد عن الذات وكل ما يمت إلى الشخص بمفرده. ولا أستطيع أن أقول إنه شهم ذو نخوة وأريحية، فلم يكن قد بدا منه ما ينبئ بأي من هذا، ولكنك تتمنى. بل ترجح شهما ذا أريحية، ولكنه أبدا ليس كاملا، فصحيح أنه يعامل السائقين بمساواة تامة، لا يبالغ في رد تحياتهم المفرطة وكذلك لا يرد عليها بتعاظم وتكبر، ولكنه يكاد ينتفض واقفا إذا جاءت التحية من عربة ملاكي، فعلى رأيه من يمتلك عربة لا بد أنه صاحب نفوذ؛ موظف كبير، أو صاحب مهنة غني، أو ابن لهذا أو لذاك، وليس من العقل أو الحكمة أن يصطدم من كان مثله بأمثالهم!
قال العجوز بعد أن وضع كوب الشاي بأدب تحس منه أن الأدب أو بالأصح - حتى لا يختلط الأمر - التأدب كان ذات يوم حرفته، ويذهب بك الخيال إلى أنه من الجائز أن يكون قد عمل سفرجيا في قصر باشا أو على الأقل مساعد مرمطون، قال: أنا لي رجاء عندك.
ولم يكن العسكري قد أدرك بعد أن يرجوه، وربما كان لا يزال منصرفا إلى تأمل الشاي وتهيئة نفسه لارتشافه .. فاستطرد العجوز يقول: لو تتكرم وتسمح لنا بعربية نقل تأخذنا .. وقال العسكري وهو منصرف أيضا وبمزاج إلى أخذ الرشفة الأولى من الشاي: (ما أعذب الرشفة الأولى من أي شيء!) تاخدك فين؟
ربما حسن يريد أن يقضي مشوارا في أقرب مدينة تلك التي لا بد تبعد عن المكان بعشرات الكيلومترات، ولكن العجوز قال: أصل أنا ما احبش المواضيع لما تحصل كدة. يبقى أحسن نأخذها من قاصرها وتتكرم علينا بأي سواق توصية!
قال العسكري وملامحه القمحية ذات الندوب تنكمش انكماشات التأثر، إن لم يكن بعض الغضب: هو جالك تاني؟
قال العجوز وهو لا يزال سادرا في رجائه: وقال لي: ورغم هذا قاطعه العسكري: وقال لك برضه ...
قال العجوز: وقال لي برضه فأنا رأيي أحسن طريقه زي ما قلت لسيادتك كدة آخدها من قاصرها، حاكم المسائل لما بتوصل، على إيه ده كله، كلمتين منك وأي سواق وكتر ألف خيرك.
قال العسكري وقد بلغ الانكماش بملامحه درجة الانفراج، إذا الغضب كان قد بدأ يتحول إلى كلام: اسمع يا عم حسن، أنا قلت لك طول ما أنا هنا ماحدش يقدر يقرب لك! - بس أنا المسائل لما بتوصل أقول لنفسي على إيه، الأرض أرض الله، ومافيش أوسع من أرض الله، وربك بيقطع من هنا ويوصل هنا. وكلمتين لسواق ...
بحزم هذه المرة قال العسكري: والله لما يكون هو الجن الأحمر مش يكفاك كلمتي، أنا قلت طول ما نا هنا لا هوة ولا مليون واحد زيه يقدر يهوب ناحيتك، بس ركك أشوفه مرة وأنا أعرف شغلي معاه. هو جالك إمتى؟ - من شوية. - جه منين؟ - م الناحيا دي. - وراح فين؟ - م الناحيا دي. - وازاي ما شفتوش. ركك بس أشوفه. أنا مش قايل لك لما يجيلك اندهلي؟ - يا سيدي ربنا يخليك ويكتر خيرك، بس أنا كان قصدي يعني إن المسائل لما بتوصل مفيش داعي وكلمتين منك ... - خلاص يا عم حسن، بس لما يجيلك اندهلي.
وكان العسكري قد انتهى إلى آخر نقطة من شرب الشاي. فتناول العجوز الكوب، ومسح قاعدته السميكة مرة أخرى. وانحنى ومد يده، ومسح الدائرة المبتلة التي صنتها على المنضدة، ومضى وهو يتمتم لا بد بدعوات وكلمات شكر.
ولو رأيت هذا المشهد، لدفعك حب الاستطلاع حتى إلى سؤال العسكري عن معنى هذا كله، ولخمنت حتى قبل أن يبدأ في أن سببا ما لا بد يدعو العسكري للتمسك بوجود عم حسن العجوز كل هذا التمسك.
ولو كنت تكتب قصة بطريقة التأليف كما يفعل بعض الناس لالتفت للموقف امرأة، مثلما كدنا نفعل في البداية. ولجعلناها زوجة صغيرة لعم حسن العجوز أو ابنة فائرة لعوبا.
لا بد سيدور بخلدك شيء كهذا .. فالعسكري لا يذكر لك شيئا كثيرا، إنه يؤكد لك، بلا حاجة للتأكيد، أن الرجل عجوز وطيب، وأن له في هذه البقعة بضعة أيام، وقد كان جالسا في مكانه وجاءت عربة نقل ووقفت كالعادة وبينا السائق يذكر له الرقم، وإذا من الصندوق ترفع الهامة القصيرة لعم حسن، وإذا به يتطلع إلى المكان، ثم تقع عيناه على الشجرة، فينحني ناحية السائق في الكابينة ويشكره ويطلب منه، بأدبه المعهود، أن ينزل هنا قائلا إنه قد اختار هذه البقعة لينصب فيها نصبته. وبمساعدة الشيال ينزل عم حسن أشياءه الفقيرة القليلة، ويستأذن من العسكري ويقضي بقية اليوم في إقامة «الغرزة».
وتلك هي حياة عم حسن التي اختارها .. وكل إنسان منا يختار حياته بالطريقة التي تحلو له، بعضنا يختار المهنة الناجحة ويقضي عمره يحارب زملاءه من أبنائها الناجحين، ويكيد لهم ويكيدون له، وبعضنا يختار مهنة البحث عن مهنة، ويظل العمر ينتقل من عمل فاشل إلى عمل فاشل، ولكل منا كما قلت مهنته التي يفضلها أو التي يلعنها أو التي تتلاءم مع ذاته وطبيعته وصفاته .. وعم حسن قد ترك هذا كله واختار لنفسه مهنة أن يخدم الناس حيث لا يتوقع الناس خدمته، فهو لا بلد له ولا بيت، موطنه الدائم يوجد حيث يوجد بيته، وبيته يوجد حيث يوجد عمله، وعمله يوجد حيث يرى أن حاجة الناس إليه أكثر وأشد!
وهو يصنع القهوة والشاي والمعسل .. ورأسماله بلا رأس وبلا مال، وهو يوجد اليوم هنا في بقعة مهجورة من طريق السويس-الإسماعيلية، لا بد عندها تقاطع أو محطة أو شيء ما .. هنا حيث لكوب الشاي يصبح قيمة لا تقدر، خاصة إذا قدم لسائق منهك استيقظ منذ الفجر وعليه قبل أن ينام أن يقضي الليلة القادمة بطولها سائقا.
ويظل عمل حسن في المكان حتى يزهد هو فيه أو يزهد فيه المكان، أو تصل المسائل على حد رأيه إلى حيث يصبح لا داعي للبقاء، يشير عم حسن لأية عربة قادمة، في هذا الاتجاه أو ذاك، فسكك الله كلها له وكل مكان فيها مثله مثل أي مكان، ممكن أن يصبح بلده وموطنه ومسقط عمله، ويركب عم حسن هو ورأسماله، وفي أي اتجاه يتصادف أن تكون العربة ذاهبة إليه يذهب، وعند أية بقعة في المسافة يراها عم حسن تصلح مكانا يحتاج فيه الناس والسائقون بشكل خاص للخدمة ولا يجدونها ولا يتوقعون وجودها، ينحني على السائق يطلب منه، بأدبه المعهود، إنزاله، وعادة .. بل لم يحدث أن تقاضى منه أي سائق أجرا، وينزل، ويظل يعمل. وقد يقضي في البقعة أياما، وقد يقضي فيها - كما حدث - سنتين، إلى أن تصل المسائل إلى الحد المعهود، فيشير عم حسن إلى أول عربة نقل قادمة، وهكذا!
ولا بد - خاصة إذا كنت مثقفا .. مقيدا بألف قيد وهمي أو ممن صنعك إلى عملك - تمنعك أشياء ليس أقلها الخوف الشديد، أو بالأصح الجبن، من أن تفكر، مجرد تفكير، في تغيير محل عملك، أو عملك نفسه، أو حتى محل إقامتك، لا بد أن تحسد عم حسن على حياته تلك، فهي في رأيك لا بد أرحب وأوسع حياة، حياة ألغت المكان والزمان والبعد الرابع وكل الأبعاد، البلد كلها .. بملايين الكيلومترات التي تكون سككها وطرقها ومساحتها ملكك .. ملكك حقا لا مجازا، إذا ماذا تفعل بالملكية قدر حقك أن توجد في المكان الذي تمتلك وقتما تريد وأي زمن تشاء، وهل يحتل صاحب العمارة مهما كبرت أكثر من المقعد الذي يجلس عليه أو الفراش؟ وما متعة من يمتلك مئات من الأفدنة أو بضع عمارات؟ .. ولكنه صاحب مصر كلها. من حقه أن يحل بأي مكان فيها في أي وقت يشاء، ويستمتع ما شاءت له المتعة، بإحساسه أنه صاحب المكان وأي مكان!
وجزء من دوافعنا للالتصاق بمنطقة بعينها من المدينة أو القرية، بل بشارع، بل ببيت بعينه من بيوتها، هو أننا نعرف الساكنين معنا وحولنا ونأتنس بهم، وجزء من خوفنا أن نغادر ذلك البيت أو الحي ونقطن في غيره، إننا نخاف من تجربة الغربة مع أناس لم نعرفهم بعد وحتما لهذا نتوجس منهم.
إن ما يدفعنا للالتصاق بمكان محدد، وناس محددين، أننا نخاف الأمكنة الأخرى والناس الآخرين، فنتوقع على ما نعرفه ومن نعرفهم حتى لو قضينا الأعمال نمله ونملهم، عم حسن العجوز لا بد أنه لا يخاف الآخرين، وما دام قد اعتبر مصر كلها بيته ومكان عمله، فلا بد أنه اعتبر المصريين كلهم؛ صعايدة وبحاروة وشراقوة وغرابوة، أهله وأبناء حيه وحتته، وهكذا وبمنتهى الجرأة والألفة والبساطة، ألقى نفسه في وسطهم في البحر الضخم الهائل الذي يكون ملايينهم .. ومن الواضح تماما أنه لم يغرق، وأن الأيدي رفعته، ولا زالت ترفعه وتتداوله، ومن المكان إلى المكان يلقي بنفسه إلى يد ترفعه بحنان ورفق لتضعه حيث يحدد أو لتسلمه إلى يد جديدة إذا أراد .. وكأنما أبرم الرجل اتفاقا مع المصريين جميعا أصحاب البلد، أن يقدم لهم القهوة والشاي في المكان الذي يفتقدون فيه القهوة والشاي أكثر .. وفي مقابل هذا عليهم هم - المصريين - أن يتكفلوا بأمر عيشه وسكنه وإقامته وتنقلاته كلما حلا له أن ينتقل.
وكما تؤثر الوظيفة في الموظف، وكما يصبح من خصائص سائق الأتوبيس صوته المرتفع؛ إذ لا بد له أن يرفعه ليغطي على صوت الآلة الحديدية والآلة البشرية، ليسمعه الركاب أو حتى ليبلغ شتائمه إلى الراكب الذي أثر أن يدخر رأيه الصريح فيه إلى اللحظة التي يضع فيها قدمه على الأرض ويتحرك الأتوبيس .. كما تنمي الوظيفة ذلك الجزء من الإنسان الذي يتعامل به مع الآخرين .. وبالتالي تنمي لدى الآخرين ذلك الجزء الذي يتعاملون به معه، فعم حسن يتعامل مع جزء نادر، أو بالدقة نادر العمل .. في الناس .. ذلك الجزء المخصص للعمل من أجل الآخرين .. الجزء الإنساني الضامر في أناس كثيرين .. الذي ربما حولته الأجزاء الأنانية لدى البعض كما تحول الأماكن غير المستعملة، إلى مخازن، تختزن فيها أحصنة النهم الإضافية ومغذيات الطموح الفردي الصغير.
عم حسن يعامله الناس، والسائقون، الذين يبدون وكأن قلوبهم قد قدت من جرانيت أصم، بأجزائهم الإنسانية، وما أكبر هذه الأجزاء أحيانا بالذات في قلوب هذا النوع المخيف من السائقين .. ولأنه يحيا ويتنفس ويأكل وينام بهذه الأجزاء وبما تهيئه له، فقد اكتسب هو الآخر طابعا غريبا يميزه عن جميع الناس، فأدبه الزائد ليس ذلك النوع الممتثل الذليل الذي ندرك في الحال مدى ما فيه ضعة واسترزاق .. إنه نوع عميق من الأدب، لا ينبع من الانحناءات والكلمات الهامسة .. وإن كانت بعض أعراضه كلمات هامسة .. ولكنه لا ليريك ويظهر لك أنه يهمس، ولكن لأنه بإدراكه أنك ستستريح أكثر لو همس، نوع من مراعاة الشعور، ولكن لأن مراعاة الشعور لدى معظمنا لا تحدث إلا لسبب، وإلا لحاجة لك عند من تراعي شعوره، فأعتقد أنه من الصعب أن نتصور مراعاة الشعور لمجرد مراعاة الشعور .. لمجرد أن إنسانا يحترم شعورك فعلا ويقدره - مهما كنت - ويهمه مراعاته، بل حتى في طريقة سؤال للناس، إنه يفعل هذا بأدب صحيح، ولكنه أدب فيه ثقة بنفسه، وكأن المسألة أمر مفروغ منه. فرق كبير بين أن تطلب من إنسان لا تعرفه شيئا وتحاول حينئذ ولأنك تفترض أنه ليس من حقك أن تطلب منه وهو الغريب عنك شيئا أو تسأله معروفا، تحاول أن ترقق ما أمكن من طلبك ولهجتك وتودع فيها كل ما يمكنك إيداعه من رقة السائلين والمقترضين ومن يطلبون بذله، فرق بين هذا وبين أن يطلب من إنسان نعتقد أنه فعلا أخوك ومن أقربائك، ولك عليه مثلما له عليك، أن تسأله، ومن واجبه وليس تفضلا أو تنازلا، أن يعطيك.
ولكن تلك تفاصيل لا معنى لها .. ومحاولة يائسة لشرح «كل» من الصعب شرحه. فعم حسن ليس مجموعة تصرفات كهذه، ولكنه أولا روح كاملة، ربما بعض مكوناتها تلك التفاصيل .. إنه روح غريبة تعيد إلى ذهنك آثار الظواهر الطبيعية وهي تعمل عملها عبر ملايين وملايين من السنين لتفتت الصخر الكبير إلى رمل دقيق أملس رائع التكوين. لتقدمن الصخر نهرا عذب الماء كنهر النيل، لتصنع من الزلال وزلال الزلال حياة، ومن الحياة كائنات ما أروعها حين تتأملها؛ كالسمك، دافقة بالحياة عامرة بالتفاصيل، كالأسود جليلة مروعة يداخلك مجرد تفكيرك أن الأسد العظيم منها كان ذات يوم قريبا كائنا لا يرى إلا بميكروسكوب. كائنا كان هو الآخر ومنذ أيام قريبة أسدا عظيما، كذلك الأسد .. ونتأمل كيف استطاع آلاف الناس بمراكزهم وتصرفاتهم الإنسانية أن يخلقوا أو يدربوا ذلك المركز في عقل عم حسن وشخصيته ليكبر وينمو ويزدحم، ويحيل هو هذه المرة مراكز الأنانية وما يخص الذات الصغيرة إلى مخازن يودعها مشاريعه القادمة للناس .. لحب الناس، لكي لا ينسى وهو في قمة انشغاله، وحوله السائقون مزدحمين كل يريد أن يحظى منه بأكبر جرعة من الحديث والشاي، أن عسكري المرور يتغذى، وأنه انتهى من طعامه وأنه في حاجة إلى كوب شاي!
لنتصوره بوجهه الأسمر، وصلعته النامية الخفيفة، بآذانه الكبيرة التي تؤكد ملامحه، بأنفه الكبير قليلا يؤكد رجولته ويؤكد في نفس الوقت طيبته؛ إذ لا شموخ فيه، ولا اتساع فتحتيه يريحك، وعيونه ليست أبدا كعيون الملائكة ناعسة سارحة، أهم شيء يجذبك إليها هو يقظتها، وليس يقظتها إلى ما يدور في عقل صاحبها، وإنما يقظتها إليك أنت، إلى ما تفكر فيه، إلى أحوالك وكيف تبدو، وهل معنى ابتسامتك الواسعة أن كل شيء بخير، أم يا ترى تنبئ عن ضيقك بما تحسه من ضيق؟
وإنها لسعادة أن تنظر إلى عم حسن وبالذات إلى جبهته العريضة البارزة التي إذ قستها بالمقاييس الواضح عليها للجمال لبدت قبيحة، إنها لسعادة أن تنظر إليها فتحس أن لم يدر خلفها شيء، فكرة أو خاطر يضر بإنسان .. أن تدرك بوعي وعمق أن هذا الرجل الذي ينظر إليك بجماع نفسه، لا يفكر أبدا في إيذاء أحد ولا يمكن أبدا أن يفكر في خداعك أو السخرية منك والضحك عليك، إن ما من فكرة شريرة عرفت أو يمكن أن تعرف طريقها إلى رأسه .. لا أحلام غنى باهظ راودته وأستعد معها لأن يدوس الغير في طريقه إليها، ولا أمنية ألحت عليه أن يكون لك مالك أو بعض مالك. وأنه لا يحسدك أبدا على منصبك أو وسامتك أو زوجتك المخلصة، ولم يفكر أبدا في الحط من شأنك، حتى بينه وبين نفسه، لكي يثبت لها، مثلما يحلو للبعض، أن يفعل أنه أحسن منك. إنه لشيء رائع ومحير ومثير للخوف أن تدرك أن كل هذه الصغائر التي يقضي بعضنا تسعة أعشار أعمارهم يلوكونها في عقولهم ويقيدون بها قدراتهم .. ويلوثون بها ضمائرهم، وطبيعتهم الإنسانية التي تخلق نظيفة حساسة، هذه الصغائر كلها لا محل لها في عقل عم حسن العجوز، ترى أي مكان رحب يصحبه عقله، أية حرية تتمتع بها خواطره .. أي أمان شامل كان يظللها ويظلله .. أجل الأمان الذي يقلب الناس دنياهم ويحفرونها مخابئ ودهاليز ليحتموا بها من الأعداء المعروفة والمجهولة، ومن الزمن والمرض والخيانة، وكلما بحثوا عن الأمان خافوا؛ إذ يدركون أنهم مهما فعلوا فليس هناك دواء شاف أو ملجأ أكيد، وكلما خافوا على أنفسهم من الآخرين أخافوا الآخرين منهم، حتى تنقلب العقول إلى مواقد مجنونة للقلق والرعب. إنه يتصرف دون أن يحسبها ويفكر، ويفكر دون أن يحسبها ليعرف بماذا يتصرف، فالحاجز الذي يضعه الكثيرون بين التفكير والتصرف حاجز سببه أنهم حين يتصرفون يخجلون مما يفكرون، وحين يفكرون يخافون التصرف بمثل ما يفكرون، يا لروعة عم حسن وتصرفه، يمضي في تسلسل وصفاء مع أفكاره، وأفكاره من تلقائها وبلا جهد يضيعه أو يفقده تصنع تصرفاته، وليس في وسط الدائرة إلا غيره، إلا الإنسان الذي تسوقه إليه الصدف، إلا الكلمة الحلوة التي لا بد يحتاجها ليقهر هذا العبوس، إلا الشربة من ماء القلة الباردة ترد الروح التي تتسرب من جسده .. مع حبات العرق المنهمرة، إلا كلمة طيبة يقولها لصديق الطريق وهو قائم بنفض التراب عن جلسته ويستعد لسفرته القادمة المجهولة: خلي بالك .. الدنيا ليل ونورك واطي، لما تقابل عربية هدي، وحياة بنتك الغالية لأنت فاكر كلامي ومهدي!
وقد يعتقد البعض، ولهم الحق، أني أنبذ الواقع وأتحدث عن إنسان خرافي غير موجود. ولكن الكارثة الكبرى أن عم حسن موجود ولا يزال إلى الآن حيا يسير ويتنقل إن وجد في مصر طريقا، ولكن المشكلة، أجل المشكلة، أن الدنيا كلها ليست عم حسن، وأن المسائل لا بد أن تصل يوما إلى الدرجة التي يصبح معها من العبث البقاء. •••
ولنعد إلى الرجلين والمشهد، ولنؤمن الآن وقد عرفنا الكثير أن ليس في الأمر زوجة أو ابنه ولا سيدة بالمرة، ليس لأن عم حسن لم يتزوج، فالحقيقة أنه مرات تزوج، ولكن زوجاته كن، بعد فترة، وبعد انقشاع الرغبة في التغيير، يضقن بحياته ويردن البيت والعمل الثابت، الذي لا يبحث فيه عن الناس، وإنما على الناس فيه أن يبحثوا عنه، من هنا كان يدب الخلاف، وينطلق عم حسن إلى طرقاته ومحطاته ودنيا الله الواسعة، وينطلقن هن باحثات عن الأمن والثبات الذي يصنع الأولاد. لنعتقد إذن أن ما بين الرجلين إن هو إلا صلة أخرى من صلات عم حسن بالناس، تلك التي تنشأ في لحظات، وتظل تنمو ولا تكف عن النمو كلما مر عليها الوقت، عكس ما يحدث في العادة. فما أربح وأوسع ما تنشأ وما أسرع ما تبدأ تضيق، والمشغوليات بالنفس كثيرة، والعلاقة التي لا تنفع تضر، والأعم الغالب أن تنتهي العلاقات إلى ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الجهل والمعرفة، فتعرف الشخص وكأنك لا تعرفه، وصلتك به لا تتعدى أكثر من يد عالية ترفعها بالسلام من بعيد، أو إيماءة من رأس أو أضعف الإيمان ابتسامة وكأنما لتثبت بها لنفسك أنك تنتمي، مجرد انتماء، إلى الجنس!
والعسكري يروي كيف بدأت الحادثة؛ فمنذ بضعة أيام، ذهب إلى عشه عم حسن، لأول مرة، عابسا شديد العبوس. ولا بد لنا لكي نكمل القصة أن تعرف أشياء كثيرة عن العسكري بشكل عاجل، فهو قروي حياته الحقة بدأت بالعسكرية ودخول الجيش، وكان الجيش مدرسته، هناك صاحب شبان المدينة وعرف المدينة من خلالهم، وخرج وقد آلى أن يعرفها بنفسه، والمدينة صعبة على من يريد معرفتها بقيم فلاح ودردحة ذكي. ولكنه رغم هذا استطاع أن يجد لنفسه مكانا غير رسمي فيها، وهو وإن كان يقضي معظم أيامه مقطوعا في كشك، إلا أنه في إجازته يعوض كل ما فاته، وحتى بنات الليل يستطيع مصاحبتهن .. وله في كل مدينة يحل قريبا منها جلسات، وقعدات وأركان ودائما يعثر على عشيقات!
غير أنه من يوم أن حل عم حسن فقد الحماس تماما للمدينة ولكل ما ينتظره فيها، فساعة واحدة كان يقضيها مع الرجل حسن عاش وشاف، وعاش وشاف بطريقة لم يعش أو ير بها أحد، فغيره يجلس مع الرجل، بل أحيانا يجاوره لشهور وسنين دون أن يعرف عنه إلا أقل القليل، عم حسن كان يغوص من فورة في النفس محبة أو بناء على طلب صاحبها، وفي دقائق يعرف ما لا يعرفه غيره في ساعات، فوجهه كان يملك اللمسة السحرية المتناهية البساطة، التي تفتح النفس، والنفوس دائما تواقة لأن تفتح. وأغنى ما في الأرض ليس كنوزها وما تحتويه قشرتها، أغلاها ما في نفوس الرجال من ثروات. إن في داخل كل منا كنزا، تجمع وتراكم فيه عشرات السنين وآلاف الخبرات، كل نفس كالمحارة، مهما انغلقت فهي لا تكف عن إحالة التجربة بالإضافة والإعادة والتعديل إلى لؤلؤة، إلى ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المركزة والمكثفة والمصنوعة بصبر داخل تلافيف الحياة، وقد استطاعت نفس عم حسن الخالية من المهبطات والمعطلات ومخصصات الأنا اللزجة أن تمتلئ وتستوعب عددا لا يعد ولا يحصى من كنوز النفوس الأخرى. فوق ما يمكنها تقديمه وعرضه من نماذج، استطاعت نفس عم حسن أن تقوم بدورها كصانعة لآلئ، وماسات، وأن تحيل ما احتوته نفسه من تجاربه ومن الآلاف المؤلفة من تجارب الآخرين إلى ما يشبه برج مجوهرات الإمبراطورية البشرية .. لي متحف يدير مجرد التجوال فيه الرءوس، ولا شك أن المتع كثيرة وكلها حلوة، والمرأة جميلة ممتعة، وقعدة العسكري في البندر مع إخوانه يدور عليهم الشيء أو يدور بهم متعة .. لكن العسكري إلى عم حسن، ويسمعه بمفرده أو مع الآخرون وهو يحدثهم ومن ذات نفسه يفرجهم على عوالم غريبة رائعة، ليالي وكأنها مسحورة ترى من فنجان، وأيام وأحداث وكأنها اغترفت من أكداس الروايات، مع أنه في كل ما كان يتحدث به لم يكن هناك أثر للخيال؛ إذ لم يكن هناك داع للخيال، فما رآه رأي العين أغرب مما يراه الآخرون رأي الخيال .. لا شك أن المتع كثيرة ولكن يبدو أن أمتعها جميعا وأحلاها هي متعة أن تعرف .. متعة أن تعلم ما تجهله أو تزداد علما بما تعرفه، وكل ما يحدث عنه عم حسن دائما جديد غير مطروق، أناس وكأنهم ليسوا من جنس الناس، وإنما من نوع آخر لا يتبدى إلا لعم حسن .. أو كأنهم الناس ولكن أشياء منهم مغلقة تفتح بكلمة سر لا يعرفها إلا الرجل العجوز!
وجده العسكري في ذلك اليوم عابسا، شديد العبوس .. حتى لقد استغرب أن يمتلك من كان مثله القدرة أن يعبس بهذه الشدة .. وحين سأله عما به لم يشأ أن يتحدث وكأنه لا يرى فائدة في الحديث!
ولكنه تحت الإلحاح قال إنه حدث ما كان وسيظل دائما أبدا يخشاه، فقد جاء الرجل وطلب منه مغادرة المكان!
أي رجل وبأي حق يطلب ما يطلبه؟
قال إنه جاء هذه المرة بحجة أن الأرض التي أقام فوقها عشته أرضه وأنه يعطيه مهلة إلى الغد لينتقل منها.
وطمأن خاطره قائلا: إنه لا بد نصاب، أو سلطه أحد أصحاب العشش الأخرى!
وهنا لا بد تدرك أن ثمة عششا أخرى وغرزا قد أقيمت بعد مجيء عم حسن، فهكذا دائما شأنه، ما أن يحل بالمكان المهجور ويبدأ في تقديم مشروباته إلى الغادين والرائحين على الطريق .. أصحاب الطريق كما كان يسميهم عم حسن، الذي قد تتصور أنهم قلة في حين أنك لا يمكن تتبين كثرتهم إلا إذا أقمت لهم مكانا للشرب والراحة .. مكانا يصبح ككشك المرور الذي تلمح قبله أثرا لعربات ولا تلمح بعده، وإنما عنده فقط وعند العشة تظهر العربات، ويظهر الناس ويتكشف عنهم الفراغ الذي كان يخفيهم، وعنده يلتقطون أنفاسهم برهة استعدادا لاختفائهم القادم من الفراغ .. أصحاب الطريق كثير، لا بد لهم أسبابهم الخاصة لسلوك الطريق ولكنك تعجب حين يخرج لك عم حسن يعرض كنوزه متحدثا عنهم قائلا إن فيهم صاحب الحاجة والهدف لا شك، ولكن الغالبية سيتعبك حتما أن تحاول معرفة أهدافهم ولماذا يسيرون. إن معظم الناس أجناس قانعة ميالة إلى البيوت وحياة البيوت وعالم البيوت ولكن الدنيا فيها آخرون .. فيها القائلون لأنفسهم وللعالم: بلاد الله لخلق الله ومن بلد إلى بلد يرحلون، وعلى الطريق يشربون ويأكلون وأحيانا على نفس الطريق يموتون .. أصحاب الطريق وسكانه دائما فرادى ودائما على الطوى ونادرا ما يتكلمون وليسوا أبدا مجذوبين أو مجانين، وإن كان سلوكهم هذا قطعا سلوك مجانين .. الشيء الدائم أن وراء السير الطويل. مسيرة العمر، قصة انتهت حين وضع كل منهم قدمه على أول الطريق، وقد يكون للطريق أول ولكن أبدا ليس له آخر، وكأنما بحثهم الدائب عن آخر الطريق، والعمر يمضي وأعمار كثيرة تمضي قبل أن يصل أي منهم، السالكين سلوك المجانين، أو أي منا نحن السالكين مسالك العقلاء، آخر الطريق، دائما نلتقي؛ عقلاء ومجانين وراجلين وراكبين وأفندية وسواقين وهاربين وباحثين ومخبرين ومجرمين ومطاردين ومطرودين عند عم حسن عند تقاطع الطريق. ونأنس باللقاء، ونتعارف ونتحابب ونتذاكر ويسمي بعضنا البعض: رفاق الطريق.
وهكذا يحدث دائما؛ تبقى عشة عم حسن الذي يكتشف بها التقاطع المهجور، وحيدة لفترة أطول؛ إذ لا تلبث عشة أخرى أن تقام، وإن كان صاحبها ليس في وحدانية عم حسن وإنسانيته وطيبته بل حتى نظافته إلا أنه لا يعدم زبائن آخرين، وجعلنا لكل شيء سببا، ولكل طالب رزقا، ولكل عشة مهما كثر عدد العشش زبائن من رفاق الطريق!
ودائما ما تبدأ الغيرة من عم حسن ورواده الأكثر، تأكل القلوب، وعلى أقل سبب تحدث المشاحنات، وفي البقعة المهجورة والمقطوعة الصلة بكل أسباب الحياة والإحياء، سرعان ما تبدأ فيها أول البوادر، وكما تستدل على الأسد من رائحة بوله المنكر، تبدأ رائحة نظام الإنسان الفاسد تفوح، ومن بعيد وسط سكون العصاري المطبق تسمع صوتا غير غريب عليك تتلاحق عواءاته من بعيد .. تسمع الصوت وتشم الرائحة، الخناقة، تحسبها كلابا على جثة، ولكن الرائحة والخناقة أكثر بشاعة .. لا بد أنهم بشر على لقمة.
فإذا سمعت طرفا واحدا هو الماضي في زعيقه وعوائه، بينما الطرف الآخر صامت صمتا تاما، وكأنه ليس المقصود، فاعلم أن الخناقة مع عم حسن، وأن الآخر رغم أنه جاء إلى التقاطع بعده، ولولا عم حسن ما جرؤ على التفكير أو البقاء، إلا أنه محموم ينفجر بغضبه.
ولكن هؤلاء لم يكونوا يسببون للرجل العجوز الطيب أي إزعاج، بالعكس كان دائما يقابل عويلهم بالابتسام .. ابتسام الفرحة؛ إذ معناه أنه عمرت الحتة، وليس ما يبهج عم حسن أكثر من أن يدرك، هو الجواب الأرض القفر والساحات المهجورة، إن قطعة مهما بلغ صغيرها من الدنيا، ومن مصر أم الدنيا، قد عمرت. •••
ولكن، أن يعبس عم حسن، وأن يبدو وجهه شديد العبوس، وأن يظل هكذا حتى بعد محاولات العسكري المستمرة لتطيب خاطره معناه أن في المسألة شيئا آخر غير عادي!
واعتقد العسكري أن عم حسن رجل طيب ومسالم، ومن عادة هؤلاء أن يزعجهم التهديد، وهكذا أخذ العسكري على عاتقه ألا يتكرر المشهد، وأن يظل وراء من هدده حتى يجبره على المضي إليه وطلب غفرانه. وبدأ يعيد السؤال على الرجل، ويطلب من عم حسن وصفه وتذكر من أين جاء وإلى أين ذهب. ولم تعجبه الإجابات، فقد جاءت كلها غامضة محيرة وكأنما عن عمد، أو من شدة الخوف، يحاول عم حسن تضليله، وبهذا واجه عم حسن وكان أن ابتسم الرجل وكأني بقلبه ابتسم فهو لم يكن يحاول أن يخفي عنه شيئا، وأنه لا يفعل أكثر من أن ينقل إليه كل ما يعرف، فهو لم يع بالضبط من أين جاء الرجل فقد أفاق فوجده أمامه، ولا إلى أين ذهب فما كاد دمه يتغير لكلامه، حتى كان في ثورة الغضب قد اختفى، وهو لا يذكر ماذا كان يرتدي، فقد أضاع الغضب للحظة الرؤيا ذاكرته، غير أن ما أدهش العسكري ومنعه عن متابعة بقية الحديث وعن إلقاء أي سؤال، أن عم حسن في كلامه عن الرجل وكأنما يتكلم من الذاكرة ، وكأن ما في الذاكرة أقرب إليه مما، منذ دقائق ، حدث!
كان وكأنما يتحدث عن شخص يعرفه تمام المعرفة، عن شخص لا يمكن أن تكون تلك هذه المرة الأولى لرؤيته .. وحتى حين واجهه بهذا سكت ولم يجب، آخر كلمة قالها العسكري قبيل أن يغادره أن طلب منه، إذا جاء الرجل، أن يشير له ويناديه، وليدعه حينئذ يتكفل به.
وهز عم حسن رأسه، وكان وجهه لا يزال محتقن الملامح في اكتئاب. •••
وكاد العسكري يغضب حين علم - من عم حسن نفسه - أن الرجل جاء، وأنه هذه المرة أنذره، ومضى قبل أن يستطيع أن يشير له أو يناديه. كيف يمضي قبل أن يستطيع؟ أهو كائن مسحور؟
إنه هكذا - مضى عم حسن يخبره - عمري ما رأيته قادما ولا عرفت كيف يغادرني.
عمرك - أفي المسألة أعمار؟
بالطبع - قالها عم حسن ببساطة .. فليست هذه أول مرة إنما دائما وراءه أنى يذهب ليسكن حتى يبدأ الآخرون يفدون ويقيمون العشش. ومن لحظتها يبدأ يأتي ولا يتركه حتى يذهب.
وللعسكري ألف حق حين أحس أن عم حسن يبالغ ليس إلا وأنه من امتداد حياته الطويلة بعيدا عن المشاكل يجعل من الرجل جنيها أحمر. ووصاه وألح عليه إن جاء فقط أن يناديه، ما عليه إلا أن يشير له ويناديه.
لم يأت الرجل في اليوم التالي. هكذا أكد عم حسن، لا ولا اليوم الذي يليه، إلى العاشرة حين كاد جاز اللمبة «الشيخ علي» يفرغ وسهرته التي نادرا ما تمتد أكثر ما تنتهي، ويخمر من زبائنه قرر قضاء الليلة عنده ومن سيرحل، هكذا في ظلمة الليلة، ودون خوف من مجهوله وظلامه، وكأنه في بيته صاحب الطريق إلى العشرة لم يكن قد جاء.
وفي اليوم الثالث. كانت كوب الشاي التي قدها للعسكري عقب الغذاء، وكان رجاؤه أول مرة يسمع فيها هذا الرجاء، أن يساعده على الرحيل.
وحين كان عم حسن يأخذ الكوب الفارغ ويمضي ويتمتم. لم يكن ما يتمتم به كلمات شكر كما أعتقد العسكري، كانت كلمات ضيق وتبرم بالموقف الذي أصبح فيه، فها هو العسكري يقف بجواره مصمما على بقائه وعلى أن باستطاعته الدفاع عنه في حين أنه أعرف الناس أن أحدا لم يستطع - مع هذا الرجل - أن يساعده وأنه جانبه ويجابهه دائما وحيدا، ولا فائدة من إطالة النضال.
وبعد دقائق كان ينادي بأعلى صوته يا شاويش.
وفي بضع قفزات كان العسكري قد ترك المكتب والدفتر، والقيد والعربة النقل الدائرة موترها في إزعاج، وأصبح أمام عم حسن، يسأل: هو فين؟!
وبيأس تام أجابه عم حسن إنه ذهب.
كيف ومتى وهل من المعقول أن يكون قد اختفى تماما ولم يمر بين ندائه وبين مجيئه سوى زمن كلمح البصر؟ - مش قلتلك؟ أهي دي عوايده.
ولأول مرة، وبنظرة مختلفة تماما حدق العسكري في عم حسن، فلم يكن هناك إلا تفسير واحد، إن هذا الرجل العظيم، مجنون لا بد، يتصور أشياء لا يتحدث.
وبنفس النظرة مثبتة على وجهه بالذات على عينيه الواسعتين العسليتين. - أنت متأكد إن فيه راجل بالشكل ده؟
وعلى الفور فهم عم حسن أو ابتسم في رثاء!
وانقضت الليلة، وفي الصباح، وإلى الساعة الثامنة لم يكن قد جاء عم حسن له بشاي الصبح أو بدا له أثر. ودب القلق في قلب العسكري مخافة أن يكون قد ذهب، لولا أنه من مكانه كان يلمح العشة وجلبابه المنشور فوقها منذ الأمس، ولم يكن باستطاعته التحرك، فبجواره كان ضابط ينتظر، وعليه أولا أن يجد له عربة ذاهبة في اتجاه العاصمة، وهناك، قرب العاشرة جاءت العربة، وحتى قبل أن تتحرك بعيدا كان هو قد وصل إلى جوار العشة وقبل أن يستدير إلى الباب كان ينادي عم حسن، وخيل إليه أنه يسمع أنينا. وفي الداخل كان عم حسن راقدا وحول عينيه كدمة زرقاء كبيرة وصدغه وارم وواضح في هيئته أن اعتداء قاسيا قد وقع عليه. وردا على أسئلته الكثيرة، واستفساراته، حدق فيه عم حسن بعينه غير الوارمة وحدث فيه مليا قبل أن يقول: صدقت بقي إنه بييجي؟
وفتح العسكري فمه ولكنه عدل عن النطق، ودون أن يغير لهجته استطرد عم حسن: مش تعمل في معروف بقى وتكلم لي سواق ؟
قضى العسكري إلى الظهر ودمه يغلي تارة وجسده يرتعش تارة أخرى. إنه بطبيعته لا يتحمل أن يرى أحد ضحية ظلم مهما صغر، فما بالك والضحية عم حسن، أحب وأقرب من أنست إليه نفسه في الحياة، لقد قضاها كالقط الضال بريا يكاد يصل حد التوحش من الصعب عليه أن يألف ومن الصعب أن يأتلف، حتى مع أخيه الأكبر الوحيد، وحتى والمرأة بين ذراعيه وقد ذابت كل الفواصل، عمره ما أحس أن ألفة حقيقية قامت بينه وبينها، حتى لو كانت «نظلة» زوجته، والأخرى التي جرى عليها طويلا واشتاق لها كثيرا وأحبها وكانت وبالصدفة اسمها «نظلة» أيضا، الإنسان الوحيد الذي اخترق حجبه وهد جدرانه واقترب أكثر ما يمكن من قلبه وروحه، وقرب قلبه، وروحه إلى الدنيا والناس .. كان عم حسن!
عم حسن الذي في أيام ارتبطت فيه نفسه إلى الدرجة التي لو أصر فيها على الرحيل لوجد نفسه، دون أن يستطيع لها منعا أن يرحل معه .. الراقد الآن يتألم متورما ومضروبا من ذلك الرجل، مهما كان وليكن إنسيا أو جنيا، وليكن إبليس بنفسه وبكل جبروته!
كان العسكري، ولنسمه صميدة يعمل ثماني ساعات ويستريح مثلها، ويبادله العمل والراحة زميله، زميل لا علاقة له بكل ما ذكرنا، ما لاحظه ولا كان على استعداد للاهتمام به؛ فهو في السن أصغر، وتلك أول مرة يتغرب فيها عن زوجته وابنه الحديث الولادة، وهو دائما، بالخواطر معهما، لم يحس للحظة واحدة بما على قيد خطوات منه يحدث!
وقضى صميدة، الأربع والعشرين ساعة بجوار صاحبه العجوز الذي رقد منها نصفها وعاد إلى طبيعته من نصفها الآخر وجلس وأكل وتحدث. وصميدة صامت يجتر الغيظ ويستعيد بغضب ما يفعله بالرجل حين يجيء. ولكن إن أناسا كثيرين جاءوا وذهبوا دون أن يبدو للرجل أثر، حتى أغمض مرة عينيه، ورغم أن إغفاءته لم تطل أكثر من لحظات، إلا أنه كان قد حلم فيها أن الرجل جاء، والعجيب أنه لم يكن كما تصور أبدا شيطاني الملامح يقدح الشر من عينيه، كان يبدو كالنوع «السهتان» من الرجال، النحيف، القصير، وكان وجهه «سادة» تكاد لولا وجوده أن تعتقد أنه بلا ملامح، وربما وجهه الخالي من الانفعال ذلك هو ما جعل صميدة يحس بالضيق الشديد منه وبالرغبة الملحة في قتله، وهو صعيدي وعربي يعرف معنى القتل ويفهمه، رغبة بلغ من شدتها وإلحاحها أن أيقظته، وحين صحا وجد عم حسن يحدق فيه بعين مفتوحة ونصف الأخرى الذي أصبح قادرا على فتحه، وظل يحدق فيه لبرهة ثم قال: شفته!
وكاد يقول: شفته، لولا أن عقله ارتبك وتساءل: كيف عرف عم حسن أنه كان يحلم، وأن الرجل جاءه في الحلم؟
وسأله: إيش عرفك إني شفته؟
فقال عم حسن: ما هو كان هنا ولسة ماشي!
فقال صميدة: أنت راخر حلمت به.
فاستنكر عم حسن: حلمت إيه. أنا صاحي. وجه وافتكرتك شفته واستغربت إنك ما قلتلوش حاجة!
وأحس صميدة بالخوف، من المرات النادرة القليلة التي أحس فيها بالخوف إلى درجة كاد يخبر عم حسن أنه يوافق أخيرا على رغبته وأنه سيكلم له أول سائق يمر!
ولكن العناد، ذلك الشيء المركب فينا يفسد علينا لحظات الاستسلام للواقع، ثار وأبى. وفي ومضة كان صميدة قد قرر إما هو أو ذلك الرجل.
وانتقل صميدة إلى عشة عم حسن يقضي فيها ساعات راحته، والعشة نفسها نقلها بحيث أصبحت تواجه الكشك تماما، ولو استطاع لجعلها ملاصقة له.
وأصبح على عم حسن ألا ينتقل من مكانه إلا إذا عرف صميدة وتابعه إن لم يكن بنفسه فبعينيه، وأصبح على صميدة أن يظل مفتح الأعين لا يغمض له جفن، إذا نام كان على حسن أن يظل مستيقظا قابعا بجوار زميله، ولا ينام عم حسن وإلا وحماية صميدة تحوطه، ومع هذا ما يكاد الانتباه يغفل حتى يرفع عم حسن يده مستجيرا، ويعرف صميدة أن الرجل جاء ومضى كما تأتي ريح وتمضي، وأنه لا بد همس لعم حسن مثلما يهمس كل مرة بتهديده، وبأن صبره قد نفد وأنه لا محالة قاتله .. والعناد ذلك الشيء المستبد الخارق يزداد نموا كالمارد العملاق في جوف صميدة حتى ليصبح هو الذي يسيره ويخضعه، وكلما ازداد استبدادا وازداد التهديد حدة، كلما أصبح على حركات عم حسن وسكناته أن تخضع أكثر وأكثر، حتى ليكاد يشير لصميدة لينبهه أنه يريد فتح الفم أو التنفس!
وكان طبيعيا أن تخلو عشة عم حسن من رفاق الطريق، ليس فقط لكل ما تقدم، وإنما لأن صميدة قد أصبح يتوجس لدى قدوم أيهم وبعينيه النفاذتين يتفحص ملامح وجهه ليعرف قربها أو بعدها عن الملامح كما رآها وكما أصبح يعتقد أنها قريبة الشبه جدا من ملامح أي قادم يراه، أو على الأقل باستطاعة أيهم أن يحيل ملامحه إذا أراد لتصبح «سادة» كريهة كملامح ذلك الرجل الكريه.
وفي صباح جميل، كل ما فيه جميل، إلا ما هما فيه. مال عم حسن على صميدة وقال: ح نقعد كتير على كده؟ - لغاية ما يبان ونخلص عليه. - بعد يوم .. اتنين .. سنة .. سنتين؟ - حتى لو بعد عشر سنين. - طيب معاك، ساعتها صحيح ح نخلص عليه، إنما إحنا ح نكون رخرين خلصنا، تعرف مين ساعتها ح يبقى انتصر .. العند .. إحنا ح نكون متنا من زمان واللي عايش فينا العند وزي ما خلص عليه .. خلص علينا .. سيبني أمشي! - وتروح فين؟ - دنيا الله واسعة يا أخي .. وإذا كان في الحتة دي عدو فالطريق مليان أصحاب ورفاق .. الدنيا حلوة يا ابني وحرام تعادي فيها حتى اللي يعاديك .. عايز تغلبه سيبه ينفلق ويعاديك، واوعى تعاديه أنت لتخسر نفسك. •••
وذات يوم، وصميدة نائم، كان عم حسن يلقي بنفسه مرة أخرى إلى أيد الناس، والسائق يساعده على جمع حوائج.
وحين استيقظ صميدة ولم يجد عم حسن أو عشته أصابه ذهول أوقف تفكيره، كأنما أحس أنه فجأة فقد كل ما له على ظهر الدنيا، وحين أفاق، أحس لومضة، بالارتياح؛ فقد شعر أن العناد ينسحب من جسده، ومعه تنسحب ملامح الرجل الكريه التي لم تغادر خياله لحظة، تنسحب معه فتهزمه، لومضة أحس أن الحياة قد بدأ يعود لها طعمها الحلو، كان عم حسن قد ذهب حقيقة وذهب معه سحره، ولكن المكان عند التقاطع قد عمر، ودبت فيه الأرجل وحفل بالعشش التي كانت إحداها قد بدأت تتحول إلى بناء ذي سقف وأبواب. لومضة عابرة أحس بكل هذا، غير أنه أفاق تماما من ذهوله حاول أن يجري وأن يسأل، ومن السائقين والعابرين يستقصي، لا ليعرف مكانه البعيد، وإنما على أمل، أن يعرف مكانه ليترك كشكه ويذهب خلفه، وإلى الآن لم يزل صميدة مؤمنا وواثقا أن عم حسن لا بد حي يرزق، ناصبا عشته عند تقاطع ما في الطريق، ولا تزال كلما مرت به عربة نقل، قبل أن يأخذ أرقامها ويرد تحية سائقها يسأله إن كان قد رأى أو التقى بعم حسن، وبعضهم يقول إنه من سنة رآه وآخر من شهور، وإجابات كثيرة يظفر بها، مرة يجده في دمنهور وأخرى في طريق البدرشين .. آه .. لو فقط يعثر له على مكان أكيد!
يناير 1965م
صفحة غير معروفة