أبو ... أموا ... أبوا ... أموا ... أبو .. واه ...
بالضبط يا فهمي، الوحدة للوصول، الوحدة للسرعة، الألم البشع لفراق الناس والبعد عنهم .. الوحدة القاتلة التي تربي الخوف من الآخرين وتدمر الثقة بالنفس، الوحدة لكي تكون حرا أكثر ومنطلقا أكثر وحيا أكثر التقوقع فإذا بها تؤدي إلى التوقع والرعب من الآخرين وتحديد الحركة وإحاطتها بعشرات القيود، همه يحمله وحده، ومرضه ينفرد به، وضيقه هو المسئول الوحيد عنه، الألم، أضعاف أضعاف الألم الذي يسحق فهيم ويدمره، وهو مرغم على كتمانه، يخاف خوف الموت أن يطلع عليه أحد. فإن تألم الرجل أو حاجته للفضفضة إلى الآخرين ضعف وعورة.
دي دي دي دي دي دي
يا للمضحك .. إنه يحس أنه ربما لأول مرة يذكرها في حياته .. سعيد، سعيد إلى درجة لا يصدقها العقل ولا يصدقها هو نفسه، إنه حقيقة متأثر لأوجاع فهمي، ولكن فرحته هو لهذه اللحظة التي يحياها، أجل ربما أول لحظة يحياها، لا توصف. ومن الصعب أن يدرك الأسباب، ولكن لا بد أن أهمها أنه أخيرا استطاع بوسيلة معقدة مركبة تعتمد على أعماق تخاطب أعماقا خلال لغة غير مفهومة، أخيرا استطاع أن يتصل، وأن يشارك، وأن يزاول عملا من أعمال الأحياء، يزاوله بمتعة وسعادة، سعادة تدخله في حالة وجدانية لها صفاء لحظة الكشف لدى المتصوفين وعمق لحظة الخلق لدى العباقرة، لحظة ها هو يحس فيها أنه قادر على الاتصال بكل إنسان وبكل شيء، بل قادر على الاتصال بنفسه وبالتحديق مليا في أعماقه دون أن يرده الرعب المقيم مما قد يراه.
وكلما اندمج في حالته الوجدانية تلك، أحس بنفسه تتفتح أكثر وتعمق، وتتقوى صلته بفهمي، حتى لكأنه يقرأ ما يجأر به في كتاب مفتوح، وأحس أيضا أنه ينجذب إلى مكانه ليصبح أقرب، انجذابا مريحا ممتعا إلى درجة لم يدرك معها أنه كان قد غادر الفراش ومضى يعبر الصالة في عدد كبير من محطات الممشى الضيقة. كل خطوة بمحطة، سمع، كالصوت البعيد يأتي للنائم، نافذة جار تفتح ويعقبها صوت زعيق ولا بد أنه كلمات سباب، سمعها، وكأنها لا تمت إليه ولا تهمه، إنه يرى حياته الآن بكل كبيرة وصغيرة حدثت فيها ولها مجسدة مجموعة أمامه، بحيث بنظرة واحدة يستطيع أن يرى نفسه تقريبا من يوم ميلاده إلى يومه هذا.
الغريب أنه ينظر وكأنها حياة غريبة عنه، لا تربطه بها أو بصاحبها أدني علاقة، لا تربطه ذكرى بأي جزء فيها أو موقعة، وأغلب الظن أنه لا يذكرها. إنه لا يكره شيئا في الدنيا قدر كراهيته لحياته تلك. إنه يمقتها، ولولا النداء القوي الصادر له من فهمي لحملها في التو وقضى عليها وعلى نفسه، ولكن النداء أقوى، إنه يتسرب إلى كيانه كله ويهز هيكل الحياة فيه ليوقظ حبه الغريزي لها، ومن الظلام الكثير الرابض يملأ الصورة، تبدأ تتسرب موجات كاشفة مضيئة، يجسر معها على التحديق والرؤية ليتابع نفسه وهو يجري ويجري، وحده، الناس تحيا وهو يجري، والشاشة مليئة بالصلات المقطوعة بالصداقات المبتورة، بأجزاء العلاقات، يقيم على الطريق مهدرة بإنسان لا يريد أن يرتبط بأحد، حتى لا يعطله الارتباط، ولا أن ينتمي لجماعة أو حتى لصديق؛ لأن في الانتماء فقدانا لذاته الحرة وكيانه، والنتيجة جري سريع إلى قمة الوصول، هو في الحقيقة هرب سريع من الحياة، فالحياة هي الأحياء، وأن تنفصل عن الأحياء معناه انفصال عن منبع الحياة الأصيل، وفقدان طعمها ونوعيتها والتحول إلى الموت.
الخطأ الفادح الذي يدركه الآن، وعلى الضوء الباهر الصادر من أعماق فهمي إلى أعماقه يراه، أن الوصول لا قيمة له بالمرة إذا وصلت وحدك، أية قيمة أن تصبح ملكا متوجا أو عالما حاصلا على جائزة نوبل، وأنت محاط بصحراء جرداء، أية قيمة لأي شيء في الدنيا، للمتعة نفسها أن تحس بها وحدك؟
وصحيح أنه ليس وحده، فهناك زوجته وابنه وأقرباؤه، وإخوته، وبعض الأصدقاء، ولكنها ديكورات علاقات ليس إلا .. إن حب الناس للناس، وارتباط الناس بالناس، لا ينشأ للزينة، وإنما ينشأ لحاجة الناس للناس، الحاجة الماسة الملحة كحاجتك إلى الماء والهواء والتي بدونها لا تستطيع أن تعيش، وهو له إخوة وزوجة وأناس، ولكنهم لا يمثلون مطلبا حيويا بالنسبة إليه. إن في استطاعته، إذا أراد أن يحيا كما تعود بدونهم. قد يكونون هم في حاجة إليه .. ولكنه هو ليس في حاجة لأحد، أو بالأصح هو في حاجة حيوية ماسة، ولكنه يحس ويوهم نفسه مثلما أوهمها طول عمره أنه ليس بحاجة إليهم .. ومن هنا ينشأ ألمه البشع .. من هنا بدأ، ويستشري السرطان الذي يقتل الضحكة على فمه، لأنه يحس أنه ليس بحاجة إلى الضحك، ويجمد العواطف في صدره لأنه يحس ليس بحاجة إلى أن يعطي الحب أو يستقبله، من هنا تبدأ المأساة التي أحالته إلى ميت حي. •••
وجاءته صرخات فهمي، قريبة هذه المرة؛ إذ كان قد وصل إلى المطبخ، وجلس بجواره، جاءته بعد سكوت خيل إليه أنه طويل، وكان مجرد إحساس فهمي بوجوده بجواره خفف عنه الألم .. جاءته الصرخات، أقرب ما تكون إلى البكاء، وأحس بنفسه وكأن بركانا باكيا يوشك أن ينفجر، إنه لم يبك في حياته منذ أن كان طفلا، وها هو يحس أنه يود لو ظل يبكي إلى أن توافيه المنية ، إشفاقا على نفسه، وهو أول من أدرك أنها أكثر أهل الأرض جميعا حاجة إلى الشفقة.
هات يدك يا فهمي، ضعها هنا على صدري، إنه خاو كما ترى. أنا أعرف أنك مريض، وأحس بك وأريد أن أقاسمك الألم، ولكن لا أستطيع فقلبي من خشب، تركتكم جميعا، أنت في زينين، وسعد في بنها، وعبد المحسن في أسيوط، وشلة الجامعة، وجمعية الكتاب، وكل الناس، وظننت أنكم تسيرون في الطريق العادي، طريق الندامة .. وأن الطريق الأسرع، طريق السلامة، هو الطريق .. والنتيجة أني مت من زمن، وظللتم أنتم أحياء، أنا جثة أقنع نفسي أنني أنا الذي أزور عن الناس، في حين أنهم هم الذين ينزورون عني، وما حاجتهم إلى جثة، حتى زوجتي وابني أحس أنهما لا يطيقان رائحتي .. أنا أريد العودة يا فهمي، أريد البداية من جديد، أطلب فرصة أخرى فمن يقبلني يا فهمي؟ من يقبل جثة، من يرضى بي، إني لا أجد في هذه اللحظة سواك يا فهمي، هل تقبلني .. هل تقبلني يا فهمي! - ما تعيطش يا محمود!
صفحة غير معروفة