ولم تأتني إجابة ما. وسألت مرة أخرى. وجاءت نهنهة .. إجابة ليست غير متوقعة، فما أكثر ما تأتي إجابة المجانين على هيئة بكاء.
ورفعت عيني، وكأنما إيذانا بانتهاء الجلسة .. كان الوضع لم يتغير .. حجرة مفتش الصحة في المكتب البالي الحافل بالازدحام والضجيج، الباب نصف مفتوح يطل منه وجه التومرجي تزاحمه عشرات الوجوه، والكنبة البلدي بملاءتها الدمور، ولوحة كشف النظر، التي حال لونها واصفر وأصبح بنيا، بارزة من ركن الحجرة .. كعلم مرفوع بالتسليم والإذعان لوطأة الزمن.
وفي الوسط تماما .. كان الشاب نحيلا في «قميص الكتاف» القذر الواسع، مقيد اليدين بأكمام القميص الطويل من الخلف، وبجواره العسكري المعهود، فلا بد مع كل مجنون يرسله القسم من عسكري، ولكنه هذه المرة طويل، مهيب الطلعة، أنيق البزة، يصلح ليكون على رأس قرة قول شرف، أو ليتقدم موكب المحمل.
تأملت المشهد برهة، ثم قلت: خذوه!
قلتها وأنا حزين، نفس الحزن الذي يراودني لثانية في كل مرة تخرج من فمي الكلمة، حزني على دنيانا التي فقدت عقلا، وما أشد حاجتنا إلى كل عقل.
تكاسل الشاب قليلا، ودفعه العسكري بغلظة غير عادية. واستعد التومرجي وفتح الباب، وتراجعت الوجوه، وكادت الحجرة تخلو .. لولا أني تذكرت الخانة التي كنت أنسى ملئها دائما، الخانة التي يقيد فيها اسم قريب المريض الذي أدلى بالمعلومات عنه، وعنوانه.
وقلت: استنى .. فين قرايبه؟
وجأر صوت عيد التومرجي، كالمبلغ في صلاة الجمعة، الذي يعيد كل ما يقوله الإمام: استني .. فين قرايب المريض؟
وسأل العسكري: حضرتك عايز قريبه مين؟
قلت: قرايبه اللي كانوا بيقولولي على مرضه دلوقت. - أنا اللي بقول لحضرتك. - أنت قريبه؟ - أنا أخوه. - أخوه؟!
صفحة غير معروفة