أنا حاولت كتير أتجنبهم، وقعدت على طول في البيت عشان ما اقابلشي حد فيهم طالع السلم واللا في الأسانسير. أصل لما حد منهم كان يبص لي كنت بحس إني بغرق وغرقان لشوشتي في نار سودة جوة عينين ثابتة زي عينين الميتين، اسأل بتوع الجاراج يقولوا لك. بقوا يجيبوا سلالم حبل علشان ينطوا علينا من الشبابيك فسمرنا الشبابيك، وبقوا ييجوا لنا من تحت عقب الباب، فبقيت أحط أكياس رمل ورا الباب، وأحط الكنبة كمان عشان ما يقدروش يزقوها، لما ليقوا مفيش فايدة بقوا يسلطوا علي التمرجي يديني الحقنة. وكانوا يدوبوا مية عينيهم فيها ويحقني بيها في العضل، أقوم أحس بعد كدة بيهم، هنا، جوايا، وآخرتها قالوا لكل الناس إني عيان، والناس صدقوهم. تصور المصيبة الناس تصدقهم وتكدبني أنا، كل الناس تصدقهم، حتى مراتي أنا تصدقهم، وتتفق مع الدكتور إنهم يدوني حقنة بنج عشان ما أقاومش، كانوا عايزين يدوني الحقنة عشان ما اقدرش أعمل حاجة قدام السكان اللي تحت .. خطة موضوعة .. وللأسف زوجتي اشتركت بعبط وهبالة فيها .. يخدروني أنا عشان دكهم يهجموا عليا ويأكلوني. أنا عندي كلام كتير عايز أقوله، كلام خطير، ده خسر كل حاجة حتى مراتي، عايز أقوله لأي حد، يعرف الحقيقة عشان ييجي اليوم اللي كل الدنيا تعرفها فيها، لازم حد يعرف إحنا قاومناهم إزاي، وإننا رغم كل شيء ما عزلناش، وإن الملكة فريدة ما لهاش ذنب في الموضوع اللي حاولوا يعملوه بينا وبينهم، واسأل البوابين وبتوع الجاراج.
أنا زهقت خلاص من محاربتهم، بيتهيألي إني أسلم زي أخويا وأعزل، واللا أسلم ليه، ده يبقى انتصار لهم ويفرحوا فينا، بس أنا خلاص بعدوني عنهم ومش قادر ولا عارف أقاوم، تفتكر كل شيء انتهى .. تفتكر انتهى كل شيء .. صحيح كل شيء أصبح لا شيء .. تصدقها انت دي .. هو احنا عقب سيجارة نتشرب ونتفعص ونصبح لا شيء، إزاي الناس حواليه ساكتة وكأن ما فيش حاجة حصلت .. إزاي بياكلوا ويشربوا وهم مبسوطين .. هم مش عارفين إن كل شيء أصبح لا شيء، أنا لسة عندي كلام كتير وخطير عايز أقوله بس (مستمرا بصوت واهن كأنه الحفيف، غير مبال، باهت، محدود) لازم حد يعرفه، لازم حد يعرف الحقيقة التي ما حدش راضي يعرفها.
ديسمبر سنة 1962م
الورقة بعشرة
كان صلاح زوجا، وكانت له ابتسامة، ليست كالابتسامات الحية تولد طفلة طازجة وتتفتح فجأة على الوجه ثم تزول، ابتسامة كانت لا تظهر ولا تختفي ولا تولد أو تموت، ولكنها محنطة على وجهه كالمومياء. وكانت بالضبط تعبر عن حياته فهو الآخر يحيا كالمومياء المحنطة، أو على الأقل كان هذا رأيه في نفسه؛ فهو زوج، وهو كمعظم الأزواج ساخط على الزواج، يحس أن حياته المملة الرتيبة تقتله، تميت فيه الحياة بالتدريج.
ولهذا كانت أمانيه.
وهز رأسه وحسرات كثيرة تتبعثر من فمه ومن قلبه. مستحيل. كيف يحتفل بعيد زواجه من روحية. وكيف يهديها شيئا هي التي لم تفكر في إهدائه إلا الكلمات السامة المنتقاة، والشخطات التي لا رحمة فيها ولا عاطفة.
وهكذا لم تطل حسراته؛ فقد أعاد العشرة جنيهات إلى الخزانة، وأغلق أدراجه، وكان موعد الانصراف قد حان، فأخذ طريقه إلى الباب، والشارع؛ ومن ثم إلى البيت وهو يحس بمغص حاد ينتاب قلبه، ومرارة تملأ نفسه، وكأنه ذاهب لقضاء بقية اليوم في السجن المؤبد الذي عليه أن يقضي بقية عمره فيه.
ولكنه طوال الطريق كان يفكر في الورقة ذات العشرة جنيهات، والإهداء الذي كتبه عليها ويقول لنفسه: نعم .. لا بد أن هناك حياة أخرى .. حياة مليئة بالهدايا، والحفلات، والبسمات.
ومع أنه كان فاقد الأمل في حياته تلك وزوجته، إلا أنه لم يمنع نفسه من تمني شيء: أن تكون روحية قد تذكرت المناسبة وأعدت له مفاجأة، أو على الأقل استعدت لتحتفل بالعيد.
صفحة غير معروفة