عناية أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين بالقرآن والسنة
ولما أرسله الله ﷾ بهذه الرسالة الكاملة الشاملة الخالدة الباقية أكرم الله ﷾ جماعة من الخلق بصحبته، وبالجهاد معه، وبتلقي حديثه، وبالنظر إليه في هذه الحياة الدنيا، وبسماعه كلامه.
فهذه خصائص وميزات خص الله تعالى بها خير هذه الأمة الذين هم الأسوة والقدوة بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهم صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، الذين ما كان مثلهم فيما مضى، ولا يكون مثلهم فيما يأتي؛ لأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين.
وقد أكرمهم الله ﷾ بصحبة نبيه الكريم ﷺ وجعلهم المختارين بأن يكونوا في زمانه، وأن يتشرفوا برؤيته في هذه الحياة الدنيا، وأن يسمعوا كلامه من فمه الشريف ﵊، فيعوا ويحفظوا؛ لينقلوه إلى من بعدهم.
وقد قاموا بهذه المهمة خير قيام، ووفقهم الله ﷾ لتحقيق ما أرشد إليه رسول الله ﷺ من العناية بكتاب الله ﷿ وبسنة رسول الله، والتفقه في دين الله، واتباع ما جاء عن الله وعن رسوله ﵊.
فعنايتهم بالقرآن من أمثلتها أو من الأدلة عليها ما جاء عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا).
وهذه عناية بالقرآن تعلمًا وتعليمًا وعملًا، فقد كانوا إذا تعلموا عشر آيات من القرآن لم يتجاوزوهن حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن؛ حتى تعلموا العلم والعمل جميعًا.
أما بالنسبة لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فمعلوم أن الرسول ﷺ منذ بعثه الله ﷾ وهو يلقي الأحاديث على صحابته في مناسبات مختلفة، فتارة يبدؤهم وتارة يسألونه فيجيبهم، وأحيانًا يأتي جبريل على صورة رجل فيلقي أسئلة على رسول الله ﷺ؛ فيجيبه الرسول ﷺ وصحابته يسمعون، ويقول الرسول ﷺ بعد ذلك: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم تلقوا ذلك عن رسول الله لملازمتهم له، أو لوجودهم معه، أو لوجود من يأتي ويسأل عما حصل له، واختلفوا في ذلك قلة وكثرة، فمنهم من كان يتحمل الأحاديث الكثيرة عن الرسول ﵊، ومنهم من كان قليل الحديث عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ومن أمثلة حرصهم على تلقي حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أنهم كانوا يجمعون ويوفقون بين مصالحهم وبين الإتيان إلى رسول الله ﷺ لتلقي السنة عنه ﵊، كما جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا نتناوب على رعاية الإبل) بل لم يكن كل واحد يذهب لرعاية إبله، وإنما كانوا يجمعون إبلهم بعضها مع بعض، ثم يذهب بها واحد في يوم من الأيام والآخر يكون مع رسول الله ﵊، يعني: تكون لكل واحد نوبة في رعاية الإبل، وإذا رعى الإبل وجاء فإنه يأتي ويحصل ما يمكنه من رسول الله ﵊.
يقول عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: (كنا نتناوب على رعاية الإبل، فلما كانت نوبتي عجلتها بعشي -يعني: رجع بها في الرواح وفي نهاية النهار مبكرًا- فجئت إلى رسول الله ﵊؛ حيث وجدته قائمًا يحدث الناس، فسمعته يقول: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين مقبلًا فيهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)، قال عقبة: فقلت: (ما أجود هذا!)، تلفظ بهذه الكلمة والناس يسمعونها، تلفظ بها من شدة فرحه بهذا الخير الذي أدركه من رسول الله صلى الله ﷺ، وقد جاء متأخرًا.
قال عقبة: (فإذا أنا برجل يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، فقال: -أي: عمر -: إني رأيتك جئت آنفًا)، ثم بين له الشيء الذي فاته، فقال: قال ﵊: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
فهذا الحديث الشريف يوضح لنا أمورًا: أولًا: تناوبهم في العمل؛ ليظفروا بلقي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ السنة عنه.
ثانيًا: فرحهم واغتباطهم بما يحصلونه من حديث رسول الله ﷺ، حتى ولو كان هذا الذي حصلوه قليلًا.
ثالثًا: تعاونهم على الخير، وعلى إرشاد بعضهم بعضًا إلى ما فاته، كما حصل من عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه مع عقبة بن عامر؛ حيث لفت نظره إلى ما قد فاته.
فهذه النماذج تبين عنايتهم بكتاب الله ﷿، وعنايتهم بسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وكان من حفظ الله ﷾ لهذه الشريعة، ولسنة الرسول ﷺ أن هيأ لها هؤلاء الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وخصهم بهذه الفضيلة، وهذه الخصيصة التي تلقوها عن رسول الله ﷺ، وهذه الخصيصة التي ظفروا بها هي في طليعة الأسباب التي تفوقوا وتميزوا بها على غيرهم، لأنهم هم الذين تلقوا عن رسول الله ﷺ هذا الهدى، وهم الذين أدوه إلى من بعدهم من التابعين، وهكذا جيلًا بعد جيل.
فإذًا: كل من يقتدي بسنةٍ عن رسول الله ﵊ فإن الله ﷾ يعطي الصحابي الذي نقلها مثل أجور من استفاد وعمل بهذه السنة؛ لأن هذا الصحابي الذي جاء بهذه السنة هو الواسطة بيننا وبين رسول الله ﵊، وهو الذي جعله الله ينقل حكم هذه السنة عن الرسول إلى من بعده، فلهم مثل أجور من استفاد خيرًا بسببهم.
فأعمالنا الصالحة التي نعملها طبقًا لما جاء عن رسول الله ﵊ يعطي الله تعالى نبيه ﷺ مثل ما أعطانا؛ لأنه هو الذي دلنا على هذا الخير، ويعطي صحابة نبيه، وكل من تلقى عنهم، مثل أجر العامل الذي عمل بهذه السنة التي جاءت من طريق ذلك الصحابي ثم التابعي، وهكذا من بعدهم، فهو شرف عظيم، وفضل جزيل من الله ﷿، يؤتيه من يشاء، والله ﷾ ذو الفضل العظيم.
ثم إن التابعين تلقوا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا يرتحلون من بلد إلى بلد؛ ليظفروا بالحديث الواحد عن رسول الله ﵊، وإذا كان الحديث حصل عليه أحدهم من طريق فيها نزول فإنه يذهب إلى ذلك الشخص الذي يكون عنده الحديث بعلو، ويأخذه منه مباشرة؛ لتقرب الوسائط وتقل بينه وبين رسول الله ﷺ.
فالتابعون تلقوا السنة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهكذا تابعو التابعين ومن بعدهم، واستمر الأمر على ذلك، وكانت السنة محفوظة في الصدور، والله ﷾ أعطى الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن وفقه الله ﷾؛ أعطاهم من الحفظ ومن الفهم ما هو مذهل، والإنسان عندما يسمع بعض الوقائع التي حصلت لبعضهم من الحفظ يتعجب، ويرى أن هذا شيء لا يحصل إلا لمن وفقه الله ﷿، فكان الحفظ موجودًا في الصدور.
1 / 8