هذه المسرحيات
الليل والجبل
البطل
الحلم
هذه المسرحيات
الليل والجبل
البطل
الحلم
الليل والجبل
الليل والجبل
تأليف
عبد الغفار مكاوي
هذه المسرحيات
شاءت المصادفات أن يكون أول كتاب أقرؤه بعد أيام من وصولي إلى صنعاء (سبتمبر سنة 1978) هو الحكايات والأساطير اليمنية التي جمعها الأديب علي محمد عبده، ولا يكفي أن أقول إن هذه الحكايات الشعبية أكدت لي وحدة الوجدان العربي والإنساني، وإن بعضها قد اقترب اقترابا شديدا من حكايات وأساطير وقصص تعددت أشكال التعبير عنها في الآداب الشعبية والعالمية (مثلا سندريلا وأوديب)؛ إذ يبدو أنها غافلتني وهبطت في آبار الوعي، وراحت تتشكل على مر الأيام والسنين وتتخلق صورا وشخصيات ومواقف وإيقاعات، حتى طفت ذات يوم أو ذات ليلة على السطح، وأخذت تطرق باب الحياة طرقا شديدا لكي ينفتح لها وتدون في أسابيع قليلة .. وإذا كان من الطبيعي أن تستقي هذه المسرحيات مادتها من الحكايات الشعبية، فإن من الطبيعي أيضا أن تصبح في صورتها الجديدة حكايات فنية متحررة من الأصل، وأن أختار لها أو بالأحرى تختار لنفسها قالبا مسرحيا قريبا من الروح الشعبية؛ إذ يغلب عليها الطابع الملحمي الذي يقوم على الرواية والسرد والتعليق على الأحداث، كما يتخذ في معظم الأحيان شكل «المسرح في المسرح» الذي يعد بدوره خروجا على الدراما التقليدية أو «الأرسطية» .. و«البطل» تقوم على حكاية «سيف القاتل» (ص121-127 من الكتاب السابق الذكر)، وهي تروى عن صياد الذباب الأبله «حسن سيف» الذي أوهمته المصادفة البحتة أنه خلص المدينة من الوحش (أو الطاهش) الذي كان يهددها ويتربص بالداخل إليها والخارج منها، ويتسلم «البطل» المكافأة التي وعد بها السلطان لمن يقضي على الوحش، ولم تكن المكافأة - بجانب المجد الذي لم يستحقه - بأقل من الجلوس على العرش.
ولكن صياد الذباب القديم لا يلبث أن يحول سكان المدينة إلى ذباب، وينشر الخوف والذل والخراب، وتظهر جوقة من أبناء العصر الحاضر لتستجوب أبناء الزمن الماضي الذين بعثوا للحياة من صفحات الكتب الصفراء، وراحوا يقدمون «اللعبة» ويلعبون أدوارهم، لعل أهل الزمن الحاضر ألا ينخدعوا في تلك اللعبة القديمة المتجددة، ولعلهم أن ينتبهوا إلى وباء «الانتهازي» و«الفهلوي» الذي ابتليت به حياتنا المصرية والعربية الحديثة.
وتعتمد مسرحية «الحلم» من ناحية على حكاية «على رأس الظالم تقع» (ص103-108 من الكتاب المذكور) التي تحكي عن فتى فقير وأمين تنقذه ثلاث حكم اشتراها من عراف أعمى من ثلاث ورطات كادت أن تودي بحياته، كما تستفيد من ناحية أخرى من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وهي الحكاية المشهورة عن قمر الزمان وبدر البدور، والمسرحية تتوالى أحداثها في عشر لوحات، وتستغل طبيعة الحلم فتعكس تيار الزمن وتبدأ من النهاية سائرة نحو البداية .. وأعترف الآن أنني كنت أثناء كتابتها منساقا كالمتجول في أثناء النوم .. ومع أن كتابة جملة واحدة مفيدة يستلزم قدرا من الوعي، فيبدو أن اللاوعي كان هو السيد المطاع في هذه الحالة، إنها أحلام فتى جميل تحركه قوة الرؤيا ومعجزة الحلم، وتزوده بالإصرار على إنقاذ الأرض من القحط، وانتشال القصر من الفساد، والبدء من الصفر المطلق لبناء سفينة نوح فوق الطوفان .. ولكنه في النهاية يصحو من حلمه المستحيل الذي طالما استسلم له في القصص والحكايات والأشعار، يصحو ليفتح عينيه على الأم المحتضرة والجيران البؤساء، والأرض المتعطشة إلى المطر والحب والعدل.
ومسرحية «الليل والجبل» تستمد مادتها من قصتين للأديب زيد مطيع دماج نشرهما في مجموعة من خيرة المجموعات القصصية التي ظهرت في الأدب اليمني والعربي الحديث، وهي «طاهش الحوبان» (1979)، ويتكرر ظهور «الطاهش» في هذه المسرحية رمزا للقوى الوحشية التي طالما هددت سكان القرى الجبلية والوديان الموحشة وما زالت تهدد الإنسان العربي من كل ناحية، وترد في المسرحية - التي تذكرنا بألعاب السامر - أشعار من العامية اليمنية اقتبستها من أعذب شعراء العامية اليمنية - وهم عبد الرحمن الآنسي وآخرين غيره - واستعنت في ذلك بكتاب «شعر العامية في اليمن» للشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح. •••
وأخيرا تأتي بضعة أسئلة أوجهها إلى نفسي قبل أن يوجهها القارئ أو الناقد: - لم هذا الحزن القاتم وخاصة في أشعار الجوقة؟
لأن المسرحيات قد كتبت في وقت طغى علي فيه الإحساس بمحنة الوجود العربي، وأخشى أن أقول الانقراض العربي بكل ما فيه من ظواهر التمزق والتدهور والفساد التي لم تعد خافية على أحد، وطبيعي أن الكاتب لا يمكن أن يتحول إلى بومة تنعق بين الأنقاض، ففي كل كاتب - وبخاصة كاتب المسرح - شيء من الشاعر، وفي كل شاعر شيء من العراف والمتنبئ والناطق بلسان الشعب وآلامه وأحلامه ورؤاه - أي من الشاعر كما عرفته الجاهلية و«الفاتيس» كما سماه الرومان - وفي زمن المحنة هل ينكر أحد على الكاتب أن يكون فيه شيء من «تيريزياس» الإغريقي أو «إيب أور» المصري القديم أو زهير بن أبي سلمى؟ ومع ذلك فهو لا يكتفي بأن ينذر ويحذر، إنه كذلك يبشر ويشارك في صنع الفجر الحتمي المقبل. - ولم اخترت الشكل الملحمي أو بالأحرى شكل المسرح في المسرح؟
لقد اختار الموضوع شكله كما قدمت قبل قليل، تآلفت الصور والمواقف والشخوص والأفعال والأصوات والألوان في هذا الإطار، ولم يكن ذلك عن تأثر بقراءة أو دراسة سابقة، فقد تأثرت «ببرشت» - وكنت أول من قدمه إلى العربية في عدد كبير من مسرحياته وأشعاره - كما تأثرت بغيره، ولكنني ابتعدت عنه كذلك كما ابتعدت عن غيره، وحاولت وما زلت أحاول أن تكون لي تجاربي التي لا تختلط بتجارب غيري، أعترف بأن «البطل» تدين بالعرفان لإحدى مسرحيات «برشت» التي كان لي حظ مشاهدتها قبل حوالي ربع القرن على مسرح «فرقة برلين» وهي «الارتفاع الذي يمكن أن يوقف لأرتورو أوى»، ولكنها تدين كذلك بالفضل لسوفوكليس ومسرحيات الأسرار في العصر الوسيط، ولأصداء ورواسب وخبرات أخرى يصعب علي تحليلها أو تمييز عناصرها، ومع ذلك فالمسرحية تعكس في المقام الأول رؤيتي لعصر الجراد الانتهازي الذي قدر لي أن أعيش فيه وأتعذب به، وأحاول بجهدي صد زحفه على وطني والوطن العربي. - ولماذا اخترت العنوان؟ أهي عودة ل «المحلية» و«الإقليمية» في الأدب؟
ليس في الأمر اختيار، فالمسرحيات مستوحاة من قصص وحكايات شعبية يمنية، وإذا كانت تبدأ منها وتنطلق من مادتها فإنها لا تتقيد بها، إن طائر الفن الأخضر لا بد أن يبني عشا على شجرة، وأن يحصل زاده من أرض وبيئة، وأن يرفرف في سماء تراث معين، لكنه حر يفلت من كل الأقفاص، وليس فنا ذلك الذي لا يخاطب الأبدي في الإنسان، ويبقى الفضل للوجدان اليمني - العربي - الإنساني العامر بكنوز لم تكتشف بعد، ومن يدري! فلعل فجر البعث العربي المرتقب أن يشرق من هذه «البلدة الطيبة التي يسكنها شعب أصيل ويرعاها رب غفور».
عبد الغفار مكاوي
الليل والجبل
مسرحية
الشخصيات
المقهوي العجوز.
زوجته.
تاجر.
فتى (يبحث عن أبيه في صنعاء).
زوج (عائد إلى زوجته وبيته في صنعاء).
طفلة (ابنة التاجر).
عروس (تقوم بدور ابنة المقهوي).
شاب (مغن جوال).
أبوه الضرير (ضارب على الدف).
الفتى والزوج والطفلة والعروس ضيوف ينزلون في الفندق أو النزل الليلي «السمسرة»، ويشاركون في التمثيل. (مقهاية في وادي الحوبان، تمر بها القوافل الصاعدة إلى صنعاء والهابطة منها، تربض بجوار عين ماء بنيت عليها قبة لضريح أحد الأولياء، وأمامها بركة تروى منها الدواب يسميها المسافرون «سبيل المرحل»، ترتفع بجانب المقهاية شجرة «طولق» عجوز، مدت فروعها عليها وعلى السبيل، وبجوارها «سمسرة» تئوي الجمال والدواب. الوقت بعد الغروب، خمدت الحياة على سطح الجبل الأشم الذي يبدو من بعيد، وسكنت حتى فروع الأشجار المطلة من على الصخور الجهمة العالية، فلا يسمع إلا صفير الحشرات الصغيرة يقطعه نعيق البوم ونباح كلاب في القرى المجاورة، عواء كالفحيح المحموم يدوي بين حين وحين في أحشاء الجبل والوحشة، ويتردد صداه طوال المسرحية ف «يتجلمش»
1
المسافرون النائمون على الوسائد والحشايا في مدخل المقهاية المتسع، ويخمد الصفير، ويسكن النباح والنعيق، وتجفل الدواب، والخيول يرتفع صهيلها خوفا ورعبا. خلف المدخل الذي تكوم فيه عدد قليل من المسافرين الذين فرغوا من مضغ «القات» وشرب القهوة، درج صغير تؤدي سلالمه الخشبية إلى أعلى المقهاية، حيث يسكن المقهوي العجوز وزوجته، ويعدان للزبائن ما يحتاجون إليه من الزاد والشراب، في هذا المكان المرتفع عدد من الأرائك والموائد والكراسي، ربما تكون مخصصة للضيوف الممتازين أو لمجالس السمر النادرة .. وفي الجانب الأيسر نافذة كبيرة تفتح على شرفة يمكن أن نرى منها ضوء القمر الفضي الذي بزغ فوق قمم الجبال منذ قليل، السكون شبه تام، يتخلله شخير النائمين وأصداء النباح والعواء وضربات أقدام الخيل والجمال والدواب في السمسرة المجاورة. يدخل المقهوي، وهو «شيبة»،
2
نحيل، محني الظهر، له وجه صغير ذو ذقن مدبب متناثر بالشعر الأبيض كوجه الجدي الحزين، يقلب في صندوق خشبي طويل ويستخرج منه حزمة كبيرة من الثياب والأمتعة، وقبل أن يفكها تظهر زوجته مسرعة إليه، وهي كذلك امرأة رسم عليها الزمن نقوش الشيخوخة، وإن كان في سرعة حركاتها وحدة صوتها وإشارات يديها وملامح وجهها ما يكذب صحة هذه النقوش.)
المرأة :
بندت
3
الباب؟ (المقهوي لا يرد. يحتضن حزمة الثياب التي يحاول إخفاءها.)
المرأة :
دائما تنسى، آه يا ربي! أعلي أن أذكرك كل ليلة؟ (المقهوي صامت، كأنه طفل مذنب، يطرق برأسه إلى الأرض. تواصل كلامها المندفع.)
المرأة :
رحمتك يا رب، تعب من الفجر، وعندما يحل الظلام أطفئ المسرجة بنفسي، أطمئن على الباب، أتمم على الضيوف وأمسيهم بالخير، لماذا لا نغلقها ونستريح؟ أستريح يوما واحدا. (المقهوي لا يرد، يشرع أذنيه كمن يتسمع أصواتا بعيدة.)
المرأة :
ألا تسمعني يا رجل؟
المقهوي :
ألا تسمعين أنت؟ (أصوات مختلطة تتردد من بعيد.)
المرأة :
أسمع؟ وإذا تصنت مثلك فمن يعمل؟
المقهوي :
حاولي أن تغلقي فمك وتسميعه.
المرأة :
اسمع .. اسمع .. عواء وصفير .. صهيل وزفير .. نفس الشيء كل يوم وليلة - نفس الأصوات طول العمر.
المقهوي :
إنه صوته .. اسكتي قليلا وسوف تسمعين.
المرأة :
ولماذا أسكت أو أسمع؟ أهو شيء جديد علينا؟
المقهوي :
إنه هو .. في كل مرة يرن بصوت جديد، فزع جديد ورعب جديد.
المرأة :
تعودنا عليه من سنين، نصبح عليه ونبيت عليه. أي جديد في هذا؟ (يسمع صوت فحيح مكتوم يزداد ارتفاعا كلما أوغل الليل.)
المقهوي :
تعرفين ما بيني وبينه، حتى الضيوف يحسونه أكثر منك.
المرأة :
دعهم في حالهم، لم يجف عرقهم بعد، أتريد أن تقلقهم؟
المقهوي (يتقدم نحو الحاجز الخشبي ويطل على النائمين) :
ها هم يتململون.
المرأة :
قلت دعهم في حالهم، أحلام المتعبين من الشمس والصخور والرياح، لم أصدق أنهم ناموا لكي يكفوني شرهم.
المقهوي (مشيرا إليهم) :
الطفلة فتحت عينيها ثم تكومت على نفسها، التاجر تقلب على جنبه الأيمن وضم ابنته إلى صدره، الفتى الباحث عن أبيه أفاق وتحسس جنبيته،
4
الزوج العائد لزوجته في صنعاء هز رأسه ووضع كفه على أذنه. انظري للشفاه التي تتمتم والشفاه التي تتحرك، حتى العروس المهاجرة ...
المرأة :
لن أنظر شيئا، سأذهب لأطفئ المسرجة وأغلق الباب.
المقهوي :
وإذا صحوا من نومهم فزعين؟
المرأة :
لن يصحو أحد، اسهر أنت مع فزعك (صوت فحيح مكتوم).
المقهوي :
يا ألله! ألا تسمعين يا امرأة؟ (تسقط منه حزمة الثياب.)
المرأة :
نعم أسمع، رجعنا لما فات؟
المقهوي :
لم نرجع، ولم يفت، أنت تعرفين.
المرأة :
معزية بعد شهرين، مذكرة كل الأحزان؟ ألم نتفق على إخفائها في الصندوق؟ (تهجم على الحزمة وتقبض عليها.)
المقهوي :
لم نتفق على شيء، هاتها يا امرأة.
المرأة :
تشتهي
5
مأتما تنوح فيه؟
المقهوي :
قلت لك هاتها، ألم تسمعيه؟
المرأة :
أسمعه كل ليلة، لم ينقطع أبدا، كلما مات واحد ولد عشرة، تعلم هذا من زمان.
المقهوي :
ولهذا أخرجتها من الصندوق.
المرأة :
لتقلب فيها وتتذكر.
المقهوي :
لم أنس حتى أتذكر، إنما الليلة ...
المرأة :
تريد أن تعلقها على الحائط لتعذبني وتعذب المسافرين المساكين. هل تنتظر ابن ذي يزن؟
المقهوي (أخذ منها حزمة الثياب وبدأ يفكها ويقلب محتوياتها) :
ولماذا لا أنتظره؟ ألم أقل لك إنه سيأتي حتما .. الليلة.
المرأة :
انتظر كما تشاء، أما أنا فأشقى، أشقى ليل نهار حتى أسقط (تهبط الدرج وتنشغل بترتيب بعض المساند المتناثرة، وجمع أوراق القات وأغصانه الملقاة على الأرض. تذهب إلى الباب وتحكم إغلاقه بالمزلاج، يتقلب بعض المسافرين ويفتحون عيونهم ثم يغمضونها، تفتح الطفلة عينيها وتتأوه .. يطل عليها المقهوي من فوق الدرج ويناجيها ثم ينكب على أشيائه ويتلمسها كأنها كنوز عروس في ليلة زفاف.)
المقهوي :
نامي يا حبيبتي، لا تخافي، إنه جبان، يفح في المرحل وبين الأشجار والمستنقعات، جبان وغدار، لكنه لا يقترب، النور عدوه وعندنا نور، لا يهاجم غير المسافر الوحيد، جبان وغدار، جبان وغدار (يبدأ في استخراج محتويات اللفافة ويناجيها. العمامة وصل إليها الدم أيضا، والسيف المكسور انكسر مرتين؛ مرة على الصخرة ومرة بين أنيابه، والجلباب الأسود لا زالت آثار الفم الكريه تلطخه، حتى الكيس الجلدي لم يسلم من عضته، كأنه ينتقم من الرسائل أيضا، يلوكها في فكه ليكشف أسرارها - كما لاك جسده وجرده من ثيابه - آه يا ولدي حذرتك فما استمعت، نبهتك للخطر الأسود ففتحت له ذراعيك، يا جنون الشباب! تحتضن الموت كأنك تحتضن عروسك، هل تذكرت أباك؟ لعنني ولعن آبائي، ثم اشتعلت فيه النار وأكلت حطب الشيخوخة والأيام، وانطلق زئير الأسد الغاضب من جوف الشيخ الصالح، لا زالت جنبيتك تنز دما، دمه أم دمك؟ قتلك وقتلته، واجتمع الأشبال عليك، ما تركوا إلا العظم، واختلط ترابك بترابه (يخرج قطعة ثياب ملوثة ويضعها على عينيه ويجهش بالبكاء، يمد يده المعروقة إلى أشياء أخرى: عقد وأسورتين وملابس نوم، يشمها ويسندها على صدره ووجهه وعينيه. يهمس لنفسه: آه يا ابنتي، يا حبيبتي ... يبكي، تعاجله زمجرة المرأة من أسفل).
المرأة :
يا رجل، يا رجل، ألا تسمع الكلام أبدا؟
المقهوي :
وأنت .. ألا تسمعينه؟ (يتردد صوت صفير مخيف مكتوم.)
المرأة :
ولكني لا أنبش القبور، دعني الليلة أستريح.
المقهوي :
الليلة - نعم الليلة - (يبدأ في تعليق قطع الثياب على مسامير في الحائط، كأنها مخلفات أثرية لمغامرة قديمة، يضع كل قطعة في مكانها بحب وعناية، ومع الدموع تنسكب دندنة من فمه الخالي من الأسنان. المرأة فرغت من ترتيب «المقيل»
6
في المدخل وصعدت الدرج ووقفت تنظر إليه، تزفر يائسة):
المرأة :
الليلة أشتهي أن أستريح.
المقهوي :
الليلة .. إحساسي لا يخيب.
المرأة :
فض مأتمك أو اجلس فيه وحدك.
المقهوي :
تشتهين الراحة .. اذهبي بسلامة الله (يواصل تعليق القطع والهمهمة بأغنية لا نتبين حروفها).
المرأة :
وأترك البومة تنعق وحدها؟
المقهوي :
لن أكون وحدي.
المرأة (وهي تنصرف) :
رحمتك يا رب .. رحمتك يا ألله ... (ترفع يدها محذرة).
المقهوي :
أفهم ما تقصدين .. سأهتم بالمعزين.
المرأة :
ولكن حذار أن توقظني .. القهوة عندك والقات .. وإذا اشتهوا طعاما فلينتظروا الفطور (يسمع صوت غناء خافت من بعيد .. يشرع أذنيه ويتلفت نحو النافذة).
المقهوي :
سمعت؟ إنهم قادمون.
المرأة :
قادمون أو ذاهبون، أريد أن أنام (يقترب الصوت. يتجه إلى النافذة) شيبة ومجنون، رحمتك يا رب، رحمتك يا ألله (تختفي وهي تدمدم. بعد قليل يتضح الصوت. يخرج العجوز من الشرفة وهو يتمتم: عن ساكني صنعا .. عن ساكني صنعا حديثك هات يقترب الغناء ويعلو شيئا فشيئا ليطغى على دمدمة الرياح وصفير الحشرات وعواء الكلاب .. صوت شيء يشبه صوت حادي القافلة يصاحبه طرق على دف مخنوق، يقترب الصوت أكثر فنميز أصداء من الأغنية المشهورة، تنبعث من حنجرة حزينة على طرقات الدف ونغمات أنين القيثار:
عن ساكني صنعا حديثك هات وا فوج النسيم
وخفف المسعى وقف كي يفهم القلب الكليم
هل عهدنا يرعى؟)
المقهوي (مرددا) :
وما يرعى العهود إلا الكريم (يطل من النافذة، ثم يهبط الدرج وهو لا يزال يردد الأغنية. طرق على الباب): - يا مقهوي .. يا مقهوي. (يشد المزلاج فيصر الباب. يفتحه ويطالعه وجه شاب عليه آثار السفر والتراب. تستقبله نغمات الأغنية بصوت يوشك أن يوقظ النائمين: وما يرعى العهود إلا الكريم.)
المقهوي :
حيا الله! حيا الله!
الشاب :
حيا الله! عطاش وجائعون.
المقهوي :
تفضلوا .. عندنا الطعام والشراب .. تفضلوا.
الشاب (وهو يسحب ربابته) :
مساء الخير .. مساء الخير .. كريم والله يا مقهوي.
المقهوي (يحاول أن ينبهه إلى النائمين) :
وبقية القافلة؟
الشاب (ضاحكا) :
قافلة .. ليس معي إلا أبي .. ادخل يا أبتاه. (يدخل شيخ أعمى .. تسبقه ذراعاه اللتان تتحسسان الباب).
المقهوي (لا يخفي خيبة أمله) :
تفضلوا .. تفضلوا .. يدك يا والدي.
الأعمى :
حياكم الله .. حياكم الله (المقهوي يجلسه على حشية في المقيل. يسمع أنفاس النائمين ويقول):
الأعمى :
لا تعتب عليه يا رجال،
7
هكذا حال الشباب، مشتاق إلى صنعا.
المقهوي :
ومن لا يشتاق إليها؟ يا مرحبا .. يا مرحبا.
الشاب (يغني) :
وسرنا مكتوم .. لديهم أم معرض للظهور؟
الأعمى :
يا ولدي .. الصبر جميل.
المقهوي :
زين ما قلت يا والدي .. الصبر جميل.
الشاب (رافعا صوته) :
من عشق صبر .. وإلا فما جهده واحتياله؟
الأعمى :
يا ولدي بالله عليك .. غدا يظهر سرك، غدا والصبر جميل.
الشاب :
غدا غدا .. من الليلة .. يا والدي.
المقهوي (سارحا ببصره) :
الليلة؟
الشاب :
نعم الليلة .. الليلة يظهر السر والمستور (يرفع صوته)
نسيمة لما بي حركت لي شجن
كادت تحدثني بسري علن
فقلت ما بك يا نسيم اليمن
ما حال نازح وسط قلبي سكن
8 (الأعمى يصاحبه بطرقات خفيفة على الدف. يتوقف، يحس تردد أنفاس النائمين وتقلبهم على الفراش. تفتح الطفلة عينيها وتجلس وتنادي على أبيها. يصحو الأب مستنكرا ثم تتبعه أصوات غاضبة في البداية ثم مندهشة.)
صوت :
نامي يا ابنتي .. نامي.
صوت :
زمار وطبال!
صوت :
طلع الفجر يا مسلمين؟
صوت :
القمر في السما طالع .. الحمد لله.
صوت :
الحمد لله .. الحمد لله .. كاد يخنقني ويكتم أنفاسي.
الشاب (يلمح العروس تجلس في فراشها متيقظة وهي تتأمله بإعجاب، فيطلق صوته) :
نسيمة لما بي حركت لي شجن.
المقهوي (منتشيا) :
كادت تحدثني بسري علن.
الشاب (مصفقا بيديه) :
الليلة، نكشف سرك يا مقهوي .. هيه .. هيه (ثم ناظرا للفتاة) الليلة نسمر ونغني .. نسمر ونغني حتى الفجر.
الأعمى :
يا ولدي .. الناس جاءت لتنام.
الشاب :
بل لتصحو وترجع معنا يا أبي.
يا ربة الصوت الرخيم رجعي
وأفشي هواك قبلي وذيعي
صوت (من أحد النائمين) :
ويا حمامات الغصون اسجعي ...
المقهوي :
وطارحيني في سجوعي
الشاب :
ويا غصون البان نوحي معي
المقهوي (موشكا على البكاء) :
وشاركيني في ولوعي
الأعمى :
يا ولدي!
الشاب :
اسكت يا شيبة! نجونا منه بأعجوبة.
الأعمى :
يا ولدي .. الناس نيام.
الشاب :
نجونا منه ونجاهم ربي .. هل أخطأت يا إخوان؟ (أصوات مختلطة .. صحا الجميع الآن وبدءوا يتابعون الغناء والضجيج، يتساءلون ويردون في نفس واحد ويصفقون ويدندنون ويثرثرون.)
صوت :
أنتم أيضا؟ الحمد لله.
أصوات :
الحمد لله .. الحمد لله.
الشاب :
لولا الوالد لوقعنا في فخه.
صوت (ضاحكا) :
لا بد أنه رآه قبلك.
الشاب :
قلتها بنفسك .. ظل فحيحه يطاردنا وأنا أطارده بأغنيتي، حتى برز وجهه الأسود من خلف الصخرة وكدت أشم أنفاسه.
الأعمى :
وجذبته من ثوبه وصحت: ابتعد عن المرحل.
الشاب :
شرعت ربابتي لأضعها في فكه .. شدني أبي وهو يصيح:
الأعمى :
يا ولدي .. هذا وحش يبتلع السيف.
الشاب :
معي ربابتي يا أبي.
الأعمى :
لو معك سيوف الأرض جميعا .. سيبتلعها يا ولدي.
الشاب :
ستخيفه أغنيتي.
الأعمى :
مغرور مجنون، أتخيف أغنيتك من لا يخاف الله؟
الشاب :
سيظن أنها قافلة .. وهو جبان لا يهاجم إلا المسافر الوحيد.
الأعمى :
لكنه غدار يا ولدي .. هيا نبتعد عن المرحل.
الشاب :
وتخفينا خلف صخرة .. صخرة عالية ملساء لا تتسلقها حتى النملة، ورفعت صوتي.
الأعمى :
وأنا أحذرك وأتوسل إليك.
الشاب :
وأنا أغني ألف أغنية، وأصدر من فمي وربابتي ودفي ألف صوت.
صوت (أحد المسافرين) :
حتى صدق.
الشاب :
ورأيته يبتعد ويجري بين المنحنيات.
صوت :
لا بد أنه لجأ لعرينه .. ألم تسمعوا فحيحه بعد ذلك؟
الشاب :
أسود مسموم كفحيح الريح المجنونة في ليل ممطر.
صوت :
نجاكم ربي .. نجاكم.
صوت :
لولا القافلة لضعنا.
صوت :
ولكنت الآن ببطنه أو في بطن عياله.
صوت :
أولاده يرعون معه .. يخرجهم معه ويدربهم كل ليلة.
المقهوي :
كل ليلة .. كل ليلة.
صوت :
لطف الله بنا.
صوت :
أكرمني لأجمع مالي من فم وحش آخر.
صوت :
لأجد عيالي .. ابن أو بنت .. العلم عند الله.
صوت :
كي ألقى وجه أبي .. هاجر منذ سنين.
صوت (الطفلة) :
الله كريم .. كي أحضن أمي والمولود.
صوت :
ويزف عروسان الليلة.
المقهوي :
الليلة.
الشاب :
الليلة .. نحتفل ونسمر.
المقهوي (لنفسه) :
أحتفل .. وآخذ تاري.
الشاب (مصفقا ومغنيا) :
عواقب الصبر الجميل تحمد .. فيها المنى (أصوات تصفيق وترجيع) تحمد فيها المنى.
الشاب (للمقهوي) :
هيا يا صاحبي.
المقهوي :
جمنة
9
قهوة؟
الأعمى :
ومداعة.
10
أصوات :
وقات.
أصوات :
قات على حسابي.
أصوات :
قات على حسابي.
الشاب (رافعا صوته بالغناء، أبوه يوقع على الدف) :
إن صاحبي مثل روحي،
وإلا فلا كان صاحب.
والصاحب الجيد وسلة،
11
أصوات (تردد) :
لحين تبدي البوادي.
12
الشاب :
وحينما تحتضي له،
أصوات :
يشرفك في البوادي،
المقهوي والأعمى (تخالطهما أصوات أخرى) :
علي ولد زايد.
13
وفي السنين المحيلة. (الجميع يستعدون للسمر، الطفلة تضحك وتقبل وجه أبيها، الفتاة تغالب خجلها وتداعب شرشفها،
14
بينما يتفرس فيها المغني بإعجاب، التاجر يقلب جرابه باحثا عن شيء ثم يخرج يديه فارغتين ويتنهد، الأب يناوله سيجارة، يشكره ويحييه. تتردد أصوات: حيا الله! حيا الله! مساء الخير يا جماعة. مسا الخير يا جماعة .. يغتنم الشاب فرصة غياب المقهوي ويتجول في المقيل، يلمح الدرج فيتجه نحوه ويلاحظ الثياب المعلقة على الجدران، يتأملها ويناجي نفسه، يعود المقهوي حاملا «جمنة» قهوة و«مداعتين» كبيرتين، تصحو زوجته على الأصوات والضجيج وتندفع داخلة، تلاحظ جو السرور المتفشي بين المسافرين الذين كانوا نائمين قبل لحظات فتكتم صياحها.)
المرأة :
قهوة، وقات؟
صوت :
طاب السهر يا حاجة.
صوت :
نشكر الله الذي نجانا.
صوت :
والفضل لله وللمقهوي.
صوت :
وللمغني على الربابة.
صوت الأعمى :
والشيبة صاحب الدف لا تنساه.
صوت :
تفضلي يا حاجة .. لا يحلى السهر من غيرك.
المرأة (بغضب لزوجها) :
الديب ما يأكل الشاه .. إلا إذا الراعي أهيس.
15
المقهوي :
اسكتي يا امرأة.
المرأة :
سأسكت .. الثور لا يتعلم أبدا.
المقهوي :
قلت. اسكتي.
المرأة :
تدور في الساقية .. وتفرح بالنواح.
المقهوي :
تعرفين ما أريد .. اجلسي إذا شئت أو اذهبي.
المرأة :
سأجلس .. وستعرف في النهاية عواقب السهر والسمر.
المغني (هابطا الدرج، يلاحظ ما بين المقهوي وزوجته، يرفع صوته بالغناء) :
لو تشتغل بالله يا قلب إن كانك مستريح
وخل خلق الله على الله إن يكن دينك صحيح
مساء الخير يا حاجة.
المرأة :
مساء الخير.
المغني :
أسأل من الله المعطي السميع
أن يصبح الشمل بك جميع.
الأعمى (على دفه) :
بالمصطفى الشافع النفيع
محمد الغوث في القيامة.
المغني (مواصلا) :
للناس إن ضاقت الخنوق
صلاة ربي عليه مدامة
والآل ما لاحت البروق.
أصوات :
عليه الصلاة والسلام.
المغني :
اسمع يا مقهوي الخير.
المقهوي :
نعم يا صاحب الصوت الرخيم.
المغني :
الليلة تطيب الأسمار، وتروى الأشعار.
المقهوي :
حرفتك يا جار، والجار يخطي علينا .. وليس نخطي على الجار.
المغني :
إن كنت أنا الراوي .. فأنت كاشف الأسرار.
المقهوي :
ماذا تقصد؟
المغني :
يا صاحبي أنت صاحب هذه الدار، والدار بها أسرار (يشير إلى الثياب والأشياء المعلقة على الجدران، يلتفت الحاضرون إليها ويتعجبون).
أصوات :
في الدار أسرار، ومن فمك يا جار، يحلو لنا التذكار.
المقهوي :
حتى ولو فيه ألم، والكأس مر مرار؟
المغني :
الكأس علينا تدور، مهما يكون ابن آدم، لا بد من المقدور. (تسمع صيحات الطاهش
16
من بعيد تتخلل الحوار التالي كأنها حد السيف المعلق فوق الرءوس).
المقهوي :
سمعتم؟
صوت :
وحش غدار، نجانا منه الله.
المقهوي :
غيركم لم ينج منه، هل تريدون؟
المغني :
نعم نريد .. باسم الحاضرين والغائبين .
المقهوي :
الحكاية تطول.
المغني :
أنا الحكواتي .. وأفهم في التمثيل.
المقهوي :
نبدأ بذكر الله المعطي السميع.
المغني :
والمصطفى الشافع النفيع. (المقهوي يتجه إلى الدرج ويصعد عليه، يجمع قطع الثياب وبقية الأشياء من على الجدران، يكون الجميع قد تحلقوا في دائرة فيضعها أمامهم. تتردد صيحة الطاهش من بعيد. تجفل الدواب في السمسرة ويسمع صهيل الخيل.)
المقهوي :
سمعتم صوته يا إخوان، وهذه ضحاياه (ينثر الثياب والأشياء أمامهم).
المغني :
العمامة عليها دم.
صوت :
والجلباب الأسود.
الطفلة :
الله .. سيف مكسور .. سآخذه يا أبي.
أبوها :
اسكتي يا بنت.
صوت :
وكيس عليه دم.
المقهوي :
ورسائل لم تصل لأصحابها.
صوت :
وثوب امرأة.
المرأة :
يا حسرتي يا ابنتي .. دمك على رأس أبيك.
المقهوي :
الله بيني وبينك .. وستحكمون يا إخوان.
المغني :
سنعرف البريء والمدان .. ونحكم بالعدل والميزان.
المرأة :
الحكم يا ولدي لله (تبكي).
المغني :
آمنا بالله .. هيا يا مقهوي.
أصوات :
هيا .. هيا.
المرأة :
حرام نبش القبور.
المقهوي :
ليتهم استراحوا في القبور (يسمع فحيح بعيد).
أصوات :
من هم يا مقهوي؟ بالله اكشف لنا المستور.
المقهوي :
أرواحهم تهيم حولكم وتدور.
المغني :
اقرأ لنا الكتاب .. ليسمع الأحباب .. نادي على من غاب .. يا صاحب الجلباب .. اطرق علينا الباب.
المقهوي :
رأيته قبل أن يطرق الباب .. كانت ليلة كهذه الليلة .. نام المسافرون في هذا المكان كما تنامون، وخيم السكون على الجبال والأشجار والظلال، وعلى ضوء القمر رأيت شبحه يسابق الريح ويطارده الفحيح .. اقترب من ينبوع الماء وشرب حتى ارتوى .. تبينت شبحه على الضوء الفضي .. شاب في مقتبل العمر حافي القدمين يلبس السواد، وحول خصره جنبية وسيف يتدلى من حزامه، تنحنحت ففزع من صوتي والتفت نحوي .
المغني (مشيرا إلى الفتى الجالس في الحلقة) :
هيا أيها الشاب.
الفتى :
لكن ...
المغني :
تكلم معه قبل أن تطرق الباب.
الفتى (يتلجلج قليلا ثم يسأل) :
من؟ من هناك؟!
المقهوي :
أنا المقهوي.
الفتى :
هل لديك قهوة ساخنة؟
المغني (هامسا للشاب) :
وعشاء .. أنت جائع ولا تنس العشاء.
المقهوي :
نعم وفراش وثير.
المغني :
أنت متعجل وتريد أن توصل البريد للملكة قبل طلوع النهار.
المقهوي :
جزاك الله يا مغني .. تعرف الدار وأهل الدار.
المغني :
وأفهم لغات العيون والطيور والأشجار.
الفتى :
لا حاجة بي لفراشك الوثير .. انزل وافتح الباب.
المقهوي :
وفتحت الباب .. تفضل يا ولدي .. البرد شديد .. اقض الليلة معنا .. عندنا ما تريد.
الفتى :
لا أستطيع .. فالطريق بعيد.
المقهوي :
الليل مخيف وأنت وحيد.
الفتى :
لا بد من السفر الليلة .. معي بريد.
المقهوي :
اطرح حملك يا ولدي وانتظر الفجر.
الفتى :
حملي لن يبرح ظهري. لا بد من وصوله قبل الفجر.
المقهوي :
طيش شباب وحماس، قلت لنفسي: ربما يعبر الطريق لأول مرة، لا يدري شيئا عن أخطاره، لا تنفع معه الحجة واللين، فلآمر بعشاء ساخن، لعله يتدفأ ويسترخي حتى الفجر. يا امرأة يا فاطمة.
المغني (مشيرا إلى زوجة المقهوي) :
وتجيبين: نعم، نعم، عندنا ضيوف.
المرأة :
بل أقوم من نومي صارخة: ضيوف في هذه الساعة، أعد له القهوة بنفسك.
المقهوي :
بعد أن تعدي له الفرخة والخبز في الحال.
المغني (مشيرا إلى الفتاة) :
وتصحين من نومك على صياح أمك وأبيك.
المقهوي :
وتحضرين المصباح الزيتي وتقولين مساء الخير. (المرأة لم تقل شيئا. جاءت تتعثر في أطياف نومها وخجلها، وعيناها مغمضتان.)
المغني :
أما أنت فتفتح عينيك.
الفتى :
بل أفتح قلبي للنور.
الفتاة (ضاحكة للمغني) :
وأنا أيضا لم أغمض عيني.
المغني :
السنا لاح .. والشذا فاح.
المقهوي :
انتظر يا مغني .. جلسنا في انتظار العشاء.
المغني :
قبل أن نسمع ما تم بينكم وما دار، نترك الأشعار وعزف الأوتار، تنطق بما كان بين العيون من حوار:
ساقني القدر مضى زماني في شرك حباله
إيش ذا الحور وإيش هذا السحر في نباله
الفتى (للفتاة) :
صدقت والله يا مغني
النار شبت بقلبي فأنشد بحبي وزدني
المغني :
جنانية مثل القمر حورية
تزري بحور العين فردوسية
بحسنها لي ملهية مسبية
إن همت فيها ما علي جناح
الفتى :
غزال تلحظني بألحاظ ريم
رفت معانيها كمثل النسيم
لها كلام يطرب ونغمه رخيم
يهزني مثل اهتزاز الرماح
المغني :
في صدرها الفضي تفاحتين
وجيدها السامي ككأس اللجين
والسحر ينفث به من المقلتين
وفي لماها البرق لألأ ولاح
الفتى :
ناديت حين لاحت بداجي الشعر
موردة أوجانها بالخفر
من ألف الماء في الخدود والشرر
ومن جمع بين المسا والصباح
الفتاة (ضاحكة) :
أحقا هذا ما صار؟
الفتى (بإعجاب) :
وكل ما تقوله أشعاري شرارة واحدة من ناري.
المقهوي :
انتظروا .. انتظر يا مغني الأشعار .. جلسنا ننتظر العشاء .. ونتكلم عن الدنيا وعجائب الأحوال والأبناء .. لا أخفي عنكم أنني شعرت بما دار، بينه وبين ابنتي من حوار.
الفتاة :
أنا لم أتكلم حتى الآن.
المقهوي :
قلب الأم يا ابنتي.
الفتى :
ولم تكوني وحدك ابنته.
المقهوي :
أخذت أنظر إليه وأكلمه كأنه ابن غائب عاد من الأسفار .. وجاءت فاطمة بالعشاء فظل ينظر إليها ويغرف من عينيها الزاد والماء. أشرت لابنتي فانسحبت في حياء (تنسحب الفتاة) سألته: من أنت يا بني وما شأنك؟ قال: هل تعرف ساعي بريد الملكة أروى؟ قلت: الحاج صالح؟ قال: نعم. قلت: الرجل الطيب الذي يزورنا كل شهر؟ قال: نعم نعم، قلت: وماذا يجبرك على السفر وحيدا بالليل؟ قال: أبي مريض، والبريد عاجل لا بد من وصوله قبل الفجر، سمعنا الصوت المخيف يفزع الليل والجبل والنجوم. قلت: ألم يحذرك من الأخطار؟ قال: معي سيفي البتار. قلت: يا ولدي ألم يخبرك عن الطاهش الجبار؟ قال: لا. القبيلي لا يخاف، ومن معه سيف لا يضار. ربت على ظهره وقلت: يحمك الله يا ولدي، لكنه وحش غدار، ألم تسمع صوته المسموم؟ فما بالك بوجهه المشئوم؟! ليتك سافرت مع قافلة، فهو لا يهاجم إلا المسافر الوحيد. جاءت ابنتي ووضعت جمنة القهوة أمامه (الفتاة تفعل هذا). نظر إليها واحمر وجهه وقال: ليس وحيدا من سحره هذا الجمال. أطرقت برأسي إلى الأرض وأشرت إلى ابنتي فتراجعت في هدوء (تتراجع الفتاة)، يا ولدي بالله عليك ... قاطعني: أرجوك اجعلني ابنك؛ قلت: أنت في مقام ابني الذي يطلب العلم في زبيد. مد إلي يده وقال: إذن فاجعلني أخاه. لم أفهم قصده، اندفع يقول: جئت إليك وحيدا حرا، ولا أريد أن أخرج من عندك إلا ويداي ورجلي في القيود! ماذا تقصد يا ولدي؟ قال: عدني أن أصبح منذ الساعة ابنك، أخطب منك ابنتك، فقل وافقت وباسم الله، وحين أعود ستجد أبي يخطبها منك، أمي ماتت منذ سنين، قلت: يرحمها الله، لكن الأمر ... وقف وقال: لا وقت لدي، وسأذهب من فوري الآن. قلت: تمهل يا ولدي. أتوسل بالله وأستحلفك بحق نبيه، ابق الليلة لا تهلك نفسك.
المرأة (باكية) :
وتضرعت إليه: ارحم زهرة عمرك يا ولدي، ارحم شيخوختنا. ابق الليلة معنا والفجر قريب، اسمع نصح أبيك وأمك.
المقهوي :
لن نغتفر لأنفسنا هذا الذنب، لن يغفره الله ولن يغفره والدك الطيب. (ضحك وقال):
الفتى :
إني قبلي ومعي سيفي.
المقهوي :
الوحش مخيف يا ولدي.
الفتى :
إن خفت فهل تغفر فاطمة خوفي؟
المقهوي :
ناديت على ابنتي: يا فاطمة يا فاطمة (تحضر الفتاة).
الفتاة :
أمرك يا أبي.
المقهوي :
هذا الفتى خطبك مني يا ابنتي، لكنه يريد أن يرحل الآن ولا يعود.
الفتى :
بل أعود بعد أيام ومعي أبي.
المرأة :
وهل يعود من يقابل الطاهش؟ نم الليلة هنا في أمان.
الفتى :
لا آمن غضب الملكة.
المرأة :
غضب الطاهش أدهى وأشد، ارحم يا ولدي دمع شيخين، ارحم دمع عروسك.
الفتاة :
أنا لم أبك يا أمي .. لم تدمع عيني.
صوت :
لم تدمع عينك؟ ألم تحذريه؟
الفتاة :
نظرت إليه ونظر إلي، هل ظهرت الدموع في عيني؟ لا أدري ضمنا عناق في ومضة كالبرق، رأيتني أضع رأسي على جناحه .. نحلق فوق قمم الجبال ونسبح بين النجوم ونحيا قبل الميلاد وبعد الموت.
المغني :
عقد الهوى مبروم،
أكيد ما ينقضه مر الدهور.
الفتى :
ساقني القدر،
مضى زماني في شرك حباله.
وأطبق عليك الجفون حتى لا يراك دوني،
وإن شاكتك عينيا قلعت السواد منهم،
الأعمى :
أمشي بحال الأعمى
حتى خبيك عنها
المقهوي :
دوت صيحة الطاهش.
الطفلة :
هو يصيح الآن .. أبي.
أبوها :
اسكتي يا بنت.
الطفلة :
أخاف يا أبي.
أبوها :
الطاهش هناك في الجبل البعيد .. نحن هنا في أمان.
الفتاة :
انتفض كنسر مجروح، سقطت ورفرف قلبي المذبوح، هل يبكي الحمام؟ ربما طفرت الدموع وأنا أراه يحلق ويرتفع، يتحسس خنجره ويستل سيفه من جرابه ويصيح صيحة الحرب في جنون. (الفتى يصيح صيحة الحرب ويشرع سيفه في يد وخنجره في يد.)
المقهوي :
نبكي .. نتوسل.
المرأة :
إن لم ترحم نفسك، فارحم شيخوختنا.
المقهوي :
وارحم دمع عروسك.
الفتى (للفتاة) :
من أجلك أذهب.
الفتاة (للفتى) :
وتعود.
الفتى :
وأقدم مهري وهدية.
الفتاة :
أي هدية؟
الفتى :
أشبال الطاهش مشوية!
الفتاة (تضحك بافتخار) :
أقبلها منك بلا دية.
الفتى :
جني يهدي جنية.
المقهوي وامرأته (للفتاة) :
أتضحكين؟
الفتى :
وأدعوكم أن تضحكوا معنا حتى تسيل الدموع.
المقهوي :
لم نضحك ولكن سالت الدموع .. شرع سيفه وأخذ يلوح به في وجه عدوه .. ناديت: يا ولدي، لا تضرب إلا أن تتمكن منه.
الفتى :
لا تخف فقد صرعت طاهشا من قبل.
المرأة :
يموت طاهش ويولد طاهش جديد .. عد يا ولدي (ينصرف الفتى).
المقهوي :
عد يا ولدي .. عد يا ولدي .. يئست ورحت أتابعه بعيني وهو يختفي مسرعا كما جاء .. أردت أن أغلق باب الشرفة فلاحظت ابنتي تحدق في الظلام وتتمتم، كان يشع من عينيها بريق كأنه سراج الأمل يهديه على الطريق. غاب في منحنيات المرحل، وغاب القمر الفضي وراء الجبال، بعد قليل سمعنا طرقعة الحصى تحت أقدام الوحش ودوت صيحة الحرب في جنون. ما هي إلا لحظات وانفرجت فرقعة السيف.
الفتاة :
عرسي الليلة .. عرس الدم.
المرأة :
ادعي له يا ابنتي .. نجه يا رب.
المقهوي :
يا رب .. خمدت كل الأصوات، إلا صوتا يرتطم على الصخر كما تسقط شجرة، سطعت في عين ابنتي المسكينة شعلة نار، وتوهج برق وانطفأ شهاب.
المرأة :
وا حسرتا عليك يا ابنتي.
الفتاة :
لم أبك ولم أذرف دمعة.
المقهوي :
بل أخذتها حمى الضحك المجنون.
الفتاة (تضحك بجنون) :
عرسي الليلة .. عرس الدم.
المرأة :
طوقت جسدها وضممتها إلى صدري.
المقهوي :
أسرعت إليها وبكيت .. هل لامستم جسدا يتحول جمرا؟
المرأة :
الحمى يا حبيبتي.
المقهوي :
دوى صوت الطاهش، صوت أسود محموم، عش أفاع، جحر ذئاب وضباع.
أب الطفلة :
والفتى؟ ألم تهبط إليه؟
المقهوي :
أهبط إليه؟ في الليل الموحش يغلي الوحش كبركان، تتحول كل الأشياء الراقدة وحوشا تتربص بالإنسان، الجبل القانت والليل الصامت والقمر الشامت والظل الخافت والوديان والطاهش وحش يزأر في السجن الواسع، في الليل يسحب ضحيته إلى عرينه، بعد أن ينطحها ويفصل رأسها عن جسدها، ويجردها من ثيابها، عريانة تقع بين أنيابه ومخالب أشباله، ماذا يفعل شيخ مثلي وعجوز؟
التاجر :
وبالجلباب والعمامة؟
المقهوي :
والكيس والسيف المكسور.
الطفلة (باكية) :
أريد السيف يا أبي .. السيف يا أبي.
أبوها :
اسكتي يا بنت .. اتركيه في مكانه.
المقهوي :
لما طلع الفجر جررت خطاي على الدرب الوعر، اختفى الفتى في ليلة عرسه، شده الوحش إلى عرينه، أما آثار العرس فلا زالت فوق ثيابه، بقع الدم اللزجة دافئة فوق الجلباب، متخثرة في حد السيف المكسور، متناثرة فوق بريد الملكة، وعلى الجنبية لطخ سوداء (يقلب في القطع التي أمامه وكأنه يعرضها على الحاضرين).
صوت :
دم الطاهش.
المقهوي :
لا يعلم إلا الله من القاتل والمقتول!
أصوات :
نجانا الله .. نجانا الله.
المقهوي :
الطاهش فك مفتوح.
التاجر :
قبر جوعان.
المرأة (باكية) :
لا تنبشوا القبور .. حلفتكم بالله لا تنبشوا القبور.
المغني (يقترب من المقهوي ويضع يده على ظهره ويبدأ الغناء) :
سبح ذا البقا،
إن غايبك لا يعود،
قد زار القبور واللحود.
المقهوي (مسترسلا في البكاء) :
قد كان في الكتاب مسطور،
حرمانهم حتى من القبور.
يبقى الله ويفنى البشر،
ما للعبد من مفر.
أصوات :
حياك الله يا مغني .. حياك الله يا والدي.
أصوات :
يا مقهوي صبر جميل.
المغني :
عواقب الصبر الجميل تحمد فيها المنى.
أبوه الأعمى :
يقول علي ولد زايد:
لا بد من داعي الموت،
ما يأمن الدهر عاقل،
ولو سبر واستوى له.
17
المقهوي :
آه .. لا هو سبر ، ولا استوى له.
المرأة :
والفك جوعان ونابه حادة وقوية.
المقهوي :
والقبر مفتوح وله في كل ليلة ضحية.
الفتى :
ورجعت بالسيف والجلباب والجنبية.
صوت (ضاحكا) :
إن كنت أنت الطاهش فأين هي الضحية؟
أصوات :
سبحانه جل علاه .. له معجزات في البرية (يضحكون ثم يغرقون في الصمت).
المقهوي (يحاول أن يضحك، يزم شفتيه ويمسح دموعه من على ذقنه ويواصل حديثه) :
رجعت بالثياب والحزام والجنبية، وحملت الكيس الجلدي على ظهري. زوجتي كانت تنتظر في الشرفة وابنتي في جحيم الحمى لاهثة مرتجفة، وضعت الأشياء في الصندوق، صندوق عرسي القديم الذي ترونه وراءكم، بعد أيام وليال تقلبت فيها على الجمر أخرجتها وعلقتها على السقف والجدار، قلت ربما يتعرف عليها أحد المسافرين، ربما يظهر أبوه أو قريبه أو صاحبه أو جاره، ومرت الأيام ولم يظهر أحد، ومرت العيون على الثياب والآثار فلم يطرف جفن، قلت: لا بد أن أباه قد مات، ألم يقل الفتى إنه على فراش المرض، الرجل الصالح شيبة مثلي، لا يعرف سر الأعمار إلا واهب الأقدار.
الفتى :
لكنه شفي من مرضه وعاد يحمل بريد الملكة، مرت أيام وأسابيع وشهور، لم أعد من الغربة فسلم أمره لله.
المقهوي :
وليلة كهذه الليلة كنت أجلس في الشرفة كعادتي أدخن المداعة وأنظر للقمر والنجوم، السكون خيمة سوداء تلف الجبال والسحب والصخور والأشجار الباسقة على رءوس الصخور والوادي الموحش والمقهاية والمسافرين النائمين. بعد شرب القهوة ومضغ القات، سمعت طرقعة الحصى على صخور المرحل السوداء التي تعكس بريق القمر، دققت النظر فرأيت شبحا أسود يهبط الدرجات الصخرية مسرعا، اقترب الشبح، الأقدام الحافية، الجلباب الأسود، الكيس الكبير على الظهر، الجنبية يلمع مقبضها العاجي من الحزام، هل ترجع أرواح الموتى؟ أم نجح الشاب في قتل الطاهش وسلم البريد للملكة وعاد؟ زاد الوهم يقينا حين اتجه الشبح إلى ينبوع الماء، انحنى على الفجوة ومد يديه وشرب، ثم وقف ومسح بكفيه ضريح الولي ورفعهما بالدعاء، واقترب من الباب فتنحنحت، فزع قليلا حتى كدت أحس بأنفاسه، ثم رفع صوته: المقهوي؟
المغني (مشيرا إلى التاجر العجوز الذي يضع مسبحته في جيب جلبابه وينهض) :
سألته قائلا: المقهوي؟
التاجر (مرتبكا) :
أنا؟
المغني :
نعم، وبعد قليل تسأل عن القهوة والعشاء.
المقهوي :
لا لم يطلب عشاء، اكتفى بالقهوة.
المغني :
وتطرق الباب وتدخل وتتكلم وتسأل عن ابنك .. هيا!
التاجر :
يا مقهوي.
المقهوي :
من؟ هذا صوت الحاج صالح؟
التاجر (ضاحكا) :
صوته وجسمه أيضا.
المقهوي :
الرجل الطيب الصالح، ساعي البريد والخير، من شهور لم نرك، يا مرحبا، حيا الله!
المغني :
وينزل ليفتح لك الباب، وتسلم سلاما يمنيا ويطول السلام. (التاجر يندفع إلى المقهوي ويسلم عليه على الطريقة اليمنية.)
المغني :
وتدخل وتسلم على أهل الدار.
التاجر :
يا ألله!
المغني (مشيرا إلى المرأة والفتاة) :
هيا .. هيا.
المرأة والفتاة (تسلمان ويتحلق الثلاثة حول التاجر الذي يقوم بدور الحاج صالح) :
يا مرحبا يا حاج، شفاك الله وعافاك.
المقهوي (ينظر إلى زوجته محذرا) :
العشاء والقهوة يا حاجة (تنهض المرأة. الفتاة تسلم وتنسحب).
التاجر :
لا .. لا داعي للعشاء، عندي أمر بتسليم ...
المقهوي :
البريد إلى الملكة قبل الفجر.
التاجر :
بارك الله .. ولأصلي معها في الجامع الكبير.
المقهوي (لنفسه) :
يا ألله .. لولا الشيبة وضمور الوجه .. لو يسألني عن ابنه .. ماذا أفعل؟
المغني :
نسيت أنك جمعت الثياب والأشياء بسرعة من السقف والجدران.
المقهوي :
نعم، نعم، ووضعتها في الصندوق.
التاجر :
ألم يمر من هنا فتى منذ شهر؟
المقهوي :
حيا الله! حيا الله!
المغني :
وتحاول أن تصرفه عنه .. أما أنت .. فلا تنس ستسلمه رسالة من ابنه.
التاجر :
قبل أن أنسى، معي رسالة من ابنك في زبيد.
المقهوي :
بارك الله فيك وفيه.
التاجر (يقلب في كيس الرسائل ويخرجها) :
ها هي ذي.
المقهوي (يرفعها إلى وجهه ويقبلها) :
لكنك تعرف ...
التاجر :
أقرؤها لك .. بعد التحيات لكم وللأم العزيزة والأخت ...
المغني :
تتلكأ وتتلفت حولك وتقول: الجميلة .. نعم والله جميلة.
المقهوي :
ابنتك يا حاج.
التاجر :
لم ترد علي .. ألم يمر من هنا شاب؟
المقهوي :
تنتهي من رسالة ولدنا.
التاجر :
نعم .. زبيد مدينة جميلة وتهديكم السلام، الأحوال مستقرة، والجميع بايعوا الملكة، وأنا سعيد فيها أطلب العلم في مساجدها ومدارسها الفقهية .. وأخبركم يا والدي.
المغني :
تأتي الآن إلى خبر زواجه.
التاجر :
أخبركم أنني نويت بإذن الله على الزواج بعد أن أصبح فقيها.
المقهوي :
ألم يكتب عن عروسه؟
التاجر :
يخبركم فيما بعد.
المقهوي :
ابحث يا حاج.
التاجر :
هكذا الأبناء يا مقهوي .. في الغربة ينسون.
المقهوي :
الأبناء .. نعم نعم (يمسح دموعه).
التاجر :
ولماذا البكاء؟ ابنك يتزوج وتبكي؟!
المقهوي :
لا أبكي لهذا يا حاج .. إنما ...
التاجر :
تكلم يا مقهوي.
المقهوي :
لا أستطيع.
التاجر :
هل تخفي شيئا؟
المقهوي :
سر كتمته عنك.
التاجر :
سر؟
المقهوي :
لم أعد أستطيع.
التاجر :
هل مر من هنا؟
المقهوي :
نعم .. قبل شهرين.
التاجر :
وتسكت حتى الآن .. وكان معه البريد؟
المقهوي :
لولا أن الكيس الجلدي عندي لقلت إنه نفس الكيس.
التاجر :
لم يسلمه إذن .. هل بات هنا؟
المقهوي :
لا.
التاجر (غاضبا) :
وتركته يذهب في الليل (تسمع صيحة الطاهش من بعيد. زئير أسود مكتوم).
المقهوي (مع زوجته التي تدخل بالقهوة) :
فعلنا المستحيل يا حاج.
التاجر (يشتد غضبه وهياجه) :
الله يلعنك، كيف تركته يخرج في الليل؟
المقهوي :
اهدأ يا حاج .. قلت لك فعلنا المستحيل، حذرناه بلا فائدة.
التاجر :
يا ولدي!
المقهوي :
واسترحمناه بحق شبابه .. بضعف شيخوختنا .. بالله ونبيه الكريم.
التاجر (يضع وجهه بين يديه) :
يا ولدي!
المقهوي :
امتشق سيفه وقال: القبيلي لا يخاف ومعه سيفه.
التاجر (في صوت رهيب) :
وأين ثيابه؟
المقهوي :
موجودة يا حاج .. في هذا الصندوق.
التاجر :
هاتها، أخرجوها واتركوني. (المقهوي يضع الثياب أمامه ويخرج هو وزوجته.) (التاجر يتحسس الثياب، يلثم بقع الدم، يشمها ويضعها على عينيه ويجهش بالبكاء، بعد قليل يتماسك ويغالب دموعه، يخلع جلبابه ويرتدي جلباب ابنه ويتحزم بجنبيته ويقبض على سيفه المكسور، يشع من عينيه بريق مجنون.)
المغني (للفتاة) :
وتدخلين في نفس اللحظة.
الفتاة (مرتبكة) :
وماذا أقول؟
المغني :
ماذا تقولين؟ ما تقوله عروس.
الفتاة :
فهمت فهمت .. حيا الله يا حاج!
التاجر :
من؟ ابنة المقهوي (ينظر ويثبت عينيه عليها).
الفتاة :
وعروس ابنك.
التاجر :
عروس ابني؟
الفتاة :
نعم، خطبني من أبي .. وعد أن يسلم البريد ويرجع معك.
التاجر :
ورجعت بدونه. (الفتاة تنتبه إلى أنه قد ارتدى ثياب ابنه، تتفرس في عينيه ووجهه والسيف المكسور المشرع في يده.)
التاجر :
نعم يا ابنتي (يتردد صوت الطاهش، ويعلو فحيحه المجنون).
الفتاة (في تصميم مفاجئ) :
هل معك سيفك؟
التاجر :
نعم يا ابنتي، القبيلي لا يترك سيفه.
الفتاة :
أعطني هذا السيف.
التاجر :
ستحافظين عليه؟
الفتاة :
وسأذهب معك.
التاجر :
تذهبين معي؟ أتعرفين إلى أين؟
الفتاة :
نعم.
التاجر :
وإنني قد لا أعود.
الفتاة (ساهمة) :
لا نعود.
التاجر :
وقد يسيل دمي.
الفتاة :
ودمي.
التاجر :
وقد تكون آخر ليلة في عمري.
الفتاة :
بل ليلة زفافي (تبرق عيناها بوميض مخيف).
التاجر :
زفافك؟
الفتاة :
الليلة يسيل دمي أو دمه .. ستباركنا بنفسك يا عمي .. فوق الصخر الأسود نتعانق، أغرز سيفي، سيف حبيبي، في نحره، أو يغرز في صدري نابه، أقتحم عليه عرينه، أو يسحبني عارية لعرينه، هناك أزف إليه في نفس البطن الجائع، نفس الجوف ونفس القبر.
التاجر :
مهلا يا ابنتي .. أجلي الأمر.
الفتاة :
حفل زفافي لا يؤجل.
التاجر :
وأبوك .. ألم تفكري فيه؟
المرأة :
وأمك (تبكي).
الفتاة :
فكرت طويلا .. وعزمت.
التاجر :
يا ابنتي، أنا آخذ ثأري منه.
الفتاة :
وثأري؟
التاجر :
أرجوك يا ابنتي.
الفتاة :
هيا .. هيا .. هذا وقت الثأر لا وقت الفكر.
المقهوي :
ونفاجأ أنا وهذه العجوز بالشيخ والفتاة يخرجان من الباب .. لم أعرفه في البداية .. لم أعرف ابنتي .. الجنون يشرع سيفا .. الغضب يمتطي فرس النار والريح .. ماذا يجدي الدمع؟ ودعائي وصلاتي ماذا تجدي؟
المرأة :
يا ابنتي .. ليس لي غيرك.
الفتاة :
وأنا ليس لي غيره.
المقهوي :
أنت نخلتنا الوحيدة.
المرأة :
غرسناك في شبابنا.
المقهوي :
لنستظل بك في شيخوختنا.
الفتاة :
وأنا آوي الآن إلى ظله.
المقهوي :
ويدوي صوت الطاهش فنبكي ونحذر، وتهب علينا أنفاسه فنشم رائحة الموت، يا ابنتي، يا ابنتي!
الفتاة :
لا فائدة يا أبي.
المقهوي :
تعقل يا حاج .. أرجعها أنت إلى العقل.
المرأة :
فكر في شيخوختنا (يسمع صوت الطاهش).
الفتاة :
إنه يدعوني يا أبي .. يناديني.
المقهوي :
من يا ابنتي؟
الفتاة :
أتكره أن أزف إليه؟
المرأة :
إنه الوحش يا ابنتي.
الفتاة :
وهو ينتظرني ويفتح ذراعيه.
المقهوي :
جذبتها بقوة من ثوبها .. ركعت العجوز وقبلت ساقها .. مدت السيف نحوي وصرخت في جنون: زفافي الليلة .. الليلة سأزف إليه .. اتركاني .. اتركاني.
المغني :
جرت ولسان حالها يقول: لبيك .. لبيك! (ينشد):
حبيبي لو أنك
جعلتك سواد عيني
وأطبق عليك الجفون
حتى لا يراك دوني
أبوه الأعمى (يواصل ضاربا على الدف) :
وإن شاكتك عينيا
قلعت السواد منهم
أمشي بحال الأعمى
حتى خبيك عنهم
المقهوي :
لم تر سواه ولم تسمع إلا صوته، جريت أنا وأمها نتعثر في ضعفنا، وننكفئ على الصخور، يا ابنتي، يا ابنتي، ارجع يا حاج .. أرجعها يا حاج .. صوت الطاهش سحر أسود يجذب جسديهما المسرعين على درجات المرحل .. زئيره سد يأجوج، يمنع تقدمنا .. كان الحاج قد سبقها بقليل وكمن خلف صخرة عالية .. أطلقت صيحة الحرب الجنونية ولحقت به .. هل رأيتم الكابوس؟ هل جثم على لحمكم وأنفاسكم حتى بعد اليقظة من النوم؟ ارتفع عواء الطاهش وزئيره، وعلى ضوء القمر مددنا الأبصار فلم نتبين غير الأشباح: أشباح تثب وتتوقف، تزحف تتراجع، تصرخ وتئن، وصياح الحرب المجنون يصارع حشرجة الطاهش وزئيره، وأنا وامرأتي شيخان عجوزان، تنهار سماء العالم فوقهما وهما مشلولان، حتى يسقط شيء كالحجر فتختنق الأرض، يختنق سكون الليل، تختنق الأنفاس وتسقط (يسقط المقهوي .. يدركه التاجر وتسرع إليه الفتاة، وينشد المغني):
المغني :
لا حول يا مالك الموت،
ذي ما نجا منك هارب.
الأعمى :
سبح ذا البقا،
إن غايبك لا يعود،
قد زار القبور واللحود.
المرأة (باكية) :
قلت لكم لا تنبشوا القبور .. لا تنبشوا القبور.
الفتاة :
يا ليت لي قبر .. يا ليت لي لحد.
المغني :
ما كان في الكتاب مستطر،
18
لا يؤخر
عن وقته إذا ما حضر.
الأعمى :
والمقدر،
ما للعبد من مفر،
يبقى الله ويفنى البشر.
المغني (ينحني على المقهوي ويحاول أن يفيقه) :
وعندما فتحت عينيك كان الفجر قد طلع.
الفتاة :
وصعدت على المرحل تجر حطام شجرتك.
التاجر :
وتفتش عما بقي من الكابوس (يدوي صوت الطاهش كالكابوس).
الفتاة :
وعثرت على ثوبي ...
المغني :
في ليلة عرسك مصبوغا بالدم.
التاجر :
ووجدت الكيس الجلدي ...
المغني :
ورسائل لم تقرأها الملكة لطخها الدم (الصوت كنهر أسود يتدفق في الآذان).
التاجر :
والسيف المكسور ...
المغني :
إلى نصفين (يرفع السيف ويريه للجميع).
الطفلة (فجأة) :
أريد السيف يا أبي (تتسمع للصوت).
أبوها :
اسكتي يا بنت .. اسكتي.
التاجر :
وتحسرت على السيف المكسور ...
المغني :
سيف ابن ذي يزن المشهور، وعلى الكنز المستور (الصوت يعلو ويدمدم كحشرجة شياطين في الجحيم) .. (يقترب من المقهوي .. يربت على ظهره وتسقيه امرأته كوب ماء .. يفتح عينيه قليلا)، لما طلع الفجر رجعت .. رجعت كقافلة الموت ...
المقهوي (متطلعا إلى الحاضرين) :
لأستقبل القادمين وأودع الذاهبين.
المرأة :
ولا تتوب أبدا.
المغني :
تحكي .. تروي .. تعرض قطع ثيابك .. تنذر وتقول ...
المقهوي :
آه ... ارو يا ولدي عني.
المغني :
الطاهش في كل مكان وحش .. غول أو بركان، ليل، صاعقة، طاعون يفتك بالإنسان، لن ينجو أحد يا إخوان، فالكل مدين ومدان، الكل مدين ومدان (يسمع صوت الطاهش وكأنه يحوم حول المقهاية).
المقهوي :
وتمر قوافل بعد قوافل، والركبان، تروي تروي عن سحر الإنس أو الجان.
المغني :
والطاهش ينمو، يتناسل، يزحف كالتنين، ويمد إلينا ألف ذراع وذراع، في كل ذراع سكين، كان قديما يثب على الأعزل وهو ضعيف مسكين، ويجر ضحيته لعرين في جوف الجبل دفين، واليوم له في السهل وفي الجبل النائم ألف عرين وعرين، لن تنجو القرية والسوق ولن تصمد أسوار الطين، ويظل الطاهش يطلب قربان الدم وسيفك في دارك صدئ مدفون .. سيفك يا سيف كسير مطعون (يسمع فحيح الطاهش).
الطفلة (فجأة) :
السيف يا أبي .. السيف يا أبي.
المغني :
وتقيم الليلة بعد الليلة .. تروي .. تحكي .. تدمع عيناك وفي الصدر جنون، وتقول لمن مضغ القات ونام.
المقهوي (يتطلع للحاضرين) :
سيف صدئ مدفون .. سيف مطعون.
المغني :
ويقول التاجر:
التاجر :
للعاصمة سأذهب وأحصل منه ديوني.
المغني :
والابن الباحث عن ظل أبيه ...
الابن (الباحث عن أبيه) :
هاجر عنا منذ سنين، ترك الأبناء يتامى، ترك الأم، وترك الأمل بقلب الجد المحزون.
المغني :
وتقول عروس .. تنتظر الفجر ...
الفتاة :
سأزف إليه ويفرح قلبي وعيوني.
المقهوي :
وأستقبل القادمين وأودع المسافرين، وأقيم الليلة بعد أن أروي عنه.
المرأة (نائحة) :
تنبش القبور ولا تتوب،
معزية بعد سنين،
مذكرة كل الأحزان.
المغني :
وتظل تخاطب سيفك فوق الجدران، يا سيف ابن ذي يزن تكلم، أين الفتيان؟ سيفي مكسور منذ زمان .. سيفي مكسور منذ زمان (يعلو صوت الطاهش بينما تصرخ الطفلة فجأة).
الطفلة :
السيف المكسور.
أبوها :
قلت اسكتي يا بنت. (الطفلة تلقي بنفسها فوق السيف، تلتقطه وتلوح به في كل اتجاه، تحاول أن تجري نحو الباب فيسرع إليها الأب والمغني.)
الأب :
تعالي يا ابنتي.
الطفلة :
اتركني يا أبي .. إنه يناديني.
المغني :
خذي ربابتي وهاتي السيف.
الطفلة (غاضبة توجه السيف إلى صدره) :
تعال وحارب معي.
المغني :
الربابة ليست سيفا يا حبيبتي.
الأب (يلتقط منها السيف فتبكي) :
قلت لك اسكتي.
المغني :
غدا سنذهب معا يا صغيرتي.
المقهوي :
غدا في الليل يا حبيبتي.
الطفلة :
وستحكي وتروي.
المقهوي :
كما فعلت الليلة.
المغني :
وسأغني كثيرا حتى تضحكي.
الطفلة :
غدا .. غدا .. غدا .. ألا تسمعون؟!
المغني :
بالطبع يا حبيبتي .. نسمع ونتكلم ونسمر ونغني.
الطفلة :
وماذا تنتظرون؟
الأب :
قلت اسكتي يا بنت .. والله.
المغني :
دعها يا أخي .. حقا، ماذا تنتظرون؟
المقهوي :
ماذا تنتظرون؟
أصوات :
ننتظر الفجر.
أصوات :
انظروا .. طلع الفجر.
صوت :
وانتهت الليلة.
صوت :
وانفض السمر (يتراجع فحيح الطاهش، أسود كالقدر المكتوب).
صوت :
طلع الفجر.
صوت :
طلع الفجر.
المغني :
ما كان في الكتاب مستطر،
لا يؤخر
عن وقته إذا ما حضر.
المقهوي :
انتهت الليلة.
الطفلة :
هل طلع الفجر؟
المغني :
والجميع يذهبون، أنت لتقبلي المولود، وأنت لتأخذ دينك، أنت لليلة عرسك، أنت لتحصيل ديونك ...
المقهوي :
وأنت يا مغني.
أصوات :
وأنت يا مغني .. وأنت يا مغني.
المغني :
وأنا .. هيا يا أبي (يساعد أباه على النهوض، بينما يجمع المسافرون أغراضهم ويتجهون إلى الدواب والخيل والجمال التي يسمع وقع حوافرها في السمسرة).
الأب :
هيا يا ابنتي!
الطفلة (للمغني) :
وأنت؟
المغني (وهو يتجه مع أبيه إلى الباب) :
سأغني يا حبيبتي.
الطفلة :
حتى مطلع الفجر؟
المغني :
حتى يطلع الفجر. (ينصرف الجميع. يجذب الأب يد ابنته ويختفيان. يجمع المقهوي وزوجته الثياب والأشياء، يسمع من بعيد صوت المغني):
عن ساكني صنعا،
حديثك هات وا فوج النسيم.
وخفف المسعى،
وقف كي يفهم القلب الكليم.
المقهوي (يمسح دموعه وهو يجمع حاجياته، ويتجه إلى الدرج فيصعد عليه في خطوات بطيئة، ويعلق الثياب والأشياء على الجدران) :
هل عهدنا يرعى؟
وما يرعى العهود إلا الكريم.
المرأة (تدندن في نواح) :
تبدلوا عنا وقالوا
عندنا منهم بديل.
والله ما حلنا
ولا ملنا عن العهد الأصيل.
المقهوي (من فوق الدرج) :
ما بعدهم عنا يغيرنا
ولو طال الطويل. (وبينما تهبط الستار شيئا فشيئا يسمع صدى رحيل القافلة ووقع حوافر الدواب، ونداءات المسافرين وغناء بعيد.)
هل عهدنا يرعى؟
وما يرعى العهود إلا الكريم.
البطل
مسرحية من بداية ولعبة وخاتمة
الشخصيات
الراوية.
رئيس الجوقة.
رجال ونساء من أفراد الجوقة.
حسن سيف.
السلطان.
ابنته.
زوجة حسن سيف.
أبوها العجوز.
الفارس.
رعوي.
أرملتان.
حراس ورجال ونساء وأطفال.
البداية (مجموعة من النساء والرجال والأطفال يسرعون إلى المسرح من جهة اليمين، كأن عاصفة تدفعهم للبحث عن ملجأ، أو كأن صاعقة توشك أن تدهمهم، رافعين الأيدي بالشكوى والدعاء، يبدو الذعر على وجوههم وفي حركاتهم وإشاراتهم، سبقهم الراوية إلى الظهور وراح يتجول في المكان ويتطلع حوله كأنما وجد نفسه فيه بمحض المصادفة، لا يكادون يلمحونه حتى يتقدموا نحوه فيتراجع خطوات ليستوضحهم الأمر.)
الراوية (مذعورا) :
ما هذا؟ من أنتم؟ من؟
رئيس الجوقة :
لنكن ما شئت،
وأنت كذلك ما شئت فكن؛
لكن حاول أن تسمعنا،
تنظر في أعيننا،
تقرأ ما دونه الزمن عليها؛
من سر الحرف أو اللون.
قد تسأل نفسك؛
إذ تسمعني أشكو وأئن:
من هذا؟ ماذا يطلب مني؟
أية ريح دفعته نحوي؟
من أين؟
فاصبر، لا تتركنا.
لا تبخل بالعون علينا.
لا توصد في أوجهنا.
باب القلب،
ولا باب العين.
الراوية :
من أي مكان جئتم؟ من أي زمان؟
رئيس الجوقة :
من زمن آخر،
يقع وراء الأزمان؛
زمن لا يذكره الإنسان،
زمن قد يدركه النسيان،
ويغرق في الطوفان؛
لكن لا يلبث أن يطفو فوق السطح،
ويبرز من أمواج الوجدان؛
وجدان الشعب الهادئ من أزمان،
كالميت في الأكفان،
الشعب الفائر كالبركان؛
حين يذل وحين يهان.
كان قديما .. يا ما كان.
الراوية :
تحكي عن شعب يرقد في الأكفان،
ويغرق في النسيان؛
لكن ما زلت أسائلك،
وأسأل نفسي: من أنتم؟
من أي بلاد الله أتيتم؟
قل يا شيخ تكلم!
رئيس الجوقة :
نحن الفقراء؛
جئنا من صفحات الكتب الصفراء،
من أفواه عجائزنا البسطاء،
نروي ما خلفه القدماء،
وما دونه الحكماء؛
من أخبار أو أنباء؛
عن بلد ...
الراوية :
أي بلد هذا؟ ما الاسم؟
رئيس الجوقة :
وما فائدة الأسماء؟
بلد حط عليه،
ذات صباح أو ذات مسا،
طاعون أسود ووباء.
بلد أهلكه الجدب،
تخلى عنه رب الكون،
دنسه الرجس وأطفأ فيه؛
نور الشمس ونور العين.
الراوية :
تتحدث عن بؤس فاق البؤس،
عن دنس أو رجس،
ما طهره نور الشمس،
وأنا لا أفهم لغة الأمس.
أقف أمامك؛
كالطفل الأعمى
في سوق الخرس
لم يفهم عنكم؛
فدعوه يحس،
ما خطبكمو؟
أي بلاء؟
أي نحس؟
أي شقاء أخرجكم؛
من بطن الرمس؟
رجل :
كنا راضين نعيش بخير،
ونموت بخير،
حتى حط علينا القهر؛
ليل المحنة في عز الظهر.
رجل آخر :
حط علينا النسر،
والتهم صغار الطير.
رجل ثالث :
نحن الفقراء ألفنا الفقر،
جالسناه ونادمناه ونمنا معه طول العمر،
وغمسنا فيه رغيف القدر المر؛
حتى جاء الشرير،
وزحفت معه خيل الشر.
رجل (رفع الصوت وقال) :
أنا أنقذكم من هذا الشر.
مر اليوم وراء اليوم ومر، العمر
صار الفقر أمر،
طعم الخبز أمر،
صحنا: أنت الشر.
من ينقذنا من منقذنا؟
من يحمينا من حامينا؟
من يقهر عنا القهر؟
رجل ثان :
أصبحنا اليوم بغير أمان،
يهلكنا الذعر؛
كالملاحين على ظهر سفين يغرق في البحر.
نظروا وجه الربان؛
فعرفوا السر.
رجل :
يا قبطان المركب ألق بنفسك في البحر.
يا منقذنا من عاصفة الشر؛
أنت العاصفة وأنت الشر.
رجل :
ألق بنفسك في البحر.
ألق بنفسك في البحر.
رجل ثان :
لكن الربان،
رجل ثالث :
أو القبطان؛
رجل ثان :
تولاه الكبر.
رجل :
هل يعرف بؤس الكوخ البائس سكان القصر ؟
رجل ثان :
وسقطنا من هوة فقر.
في هوة قهر.
رجل :
الأرض عقيم لا تنبت زرعا،
لا تثمر شجرا أو وردا.
امرأة :
والبطن عقيم لا تنجب ولدا.
امرأة أخرى :
وإذا ولدت طلب المولود اللحدا.
امرأة ثالثة :
وتضرعنا لسماء لا ترسل مطرا أو رعدا.
امرأة :
صدت عنا وأقامت سدا.
رئيس الجوقة :
ضقنا بالعيش وبالموت فجئنا
من زمن أوغل في البعد
فلعلك تحكي قصتنا
عن جد عن سابع جد
لحفيد يدرج في المهد
الراوية :
قصتكم؟ ما هي قصتكم؟
ومن الربان؟
من السلطان؟
من الأبطال الشجعان؟
رئيس الجوقة :
بل بطل واحد
كذب علينا
صدقنا الكذبة
لعب بقدر مدينتنا
فاستهوتنا اللعبة
وأفقنا يوما
فإذا نحن ضحايا النكبة
نتمدد كالجثث الصرعى
تحت حذاء الكذبة
الراوية :
إن كانت كذبة
أو كانت لعبة
فمن الكاذب
ومن القائم باللعب وباللعبة؟
ومن الجمهور
من المتفرج
من شاهدهم قبلك أو بعدك؟
رئيس الجوقة :
أنت المتفرج وحدك.
الراوية :
والأبطال؟
رئيس الجوقة :
قلت البطل الواحد
ستراقبه وتكون الشاهد
الراوية :
إن كان هو البطل الواحد
من شاركه اللعبة؟
أو أطلق كذبته فيكم
من صدق تلك الكذبة؟
رئيس الجوقة :
لا تتعجل في أحكامك لا تلق سهامك
ها هم يأتون ويصطفون أمامك (يتلفت الراوية حوله .. يحاول أن يكتشف شخوصا تدخل من مقدمة المسرح أو تخرج من صفوف الجوقة نفسها .. رئيس الجوقة يقدمهم واحدا بعد الآخر .. يظهر حسن سيف .. رجل قصير القامة، ضامر الوجه، مختل الحركات والإشارات، يترنح على المسرح كأنه يسكر أو يحتضر، وفي يده سيف طويل، أطول من قامته).
رئيس الجوقة :
هذا بطل الأبطال.
حسن :
حسن سيف.
رئيس الجوقة :
في يده سيف (حسن يلوح به لأعلى وأسفل، ويمينا ويسارا).
حسن :
وبهذا السيف قتلت الألف،
أما الجبناء ففروا، كانوا أكثر من ألف.
الراوية :
هل أنقذت مدينتك؟
حسن (بتعاظم وافتخار) :
بحد السيف،
وقتلت الخوف.
الراوية :
أصحيح هذا؟
رئيس الجوقة :
ها نحن أمامك
يقتلنا الخوف
نأتي كالطيف
ونمضي كالطيف
يسلمنا العسف إلى العسف
أطلق كذبته فينا
صدقها القاصي والداني
وانخدع الساكن والضيف
قال أنا أشجعكم
ومخلصكم من ذل الخوف
هللنا .. غنينا
وقرعنا الطبلة والدف
قال أنا أولكم
أتقدمكم
فقفوا في الصف
وسمعنا من يهتف فينا
هيا للخلف
ووقفنا .. طال الصف
أمعن فينا حد السيف
من يرفع رأسا
يهوي هذا الرأس .. يرف
من يرفع صوتا
يلجمه القيد وتصفعه الكف
مات الزرع وجف
هلك الوالد والمولود
وصار العرف هو العسف
وهو الذلة والخوف
حتى دار الزمن ولف
وانكشف الكذب
وبان الزيف
حسن :
حقا بان الزيف وبال
حتى انهمر وسال
من ينكر بطل الأبطال
إلا الأنذال؟
من أسر الطاهش من؟
من خلصكم منه من؟
الراوية :
الطاهش؟ ومن الطاهش؟
1
حسن :
وحش كاسر
وقف على سور مدينتنا يتحدى كل مغامر
يلتهم الراكب والسائر
ويهز من الرعب الغائب والحاضر
أجزاء الخير هو الشر
وحظ المؤمن كالكافر
ونصيب الرابح للخاسر؟
رئيس الجوقة :
أسر الطاهش
أم صرعه؟
هذا ما تكشف عنه اللعبة
لكن قبل بدايتها ناقش
من قام بدور في الخدعة
أو من عاش على الهامش
الراوية :
بطل آخر؟
فارس حرب ومغامر
أم كذاب ومقامر؟
رئيس الجوقة :
هذا سلطان البلد
اسأله واعرف خبره
هذي ابنته .. تسطع كالجوهرة الحرة
الراوية :
قف .. فلنسأل هذا السلطان
عن نبأ لم تره العين
ولم تسمعه الآذان
إلا في قصص الفرسان
وروايات الشجعان
يا سلطان .. (يتقدم رجل عجوز تسحبه ابنته من يده .. متهالك ضعيف البصر لم تبق الأيام من مجده السالف إلا نبرة الصوت الرنان، ومرارة الذكرى والحرمان.)
السلطان :
نعم يا سيد.
الراوية :
ما رأيك يا سلطان؟
السلطان :
كنت السلطان
وكان وكان
أما الآن
فأنا شيخ مهدوم فان
تسحبه الابنة من يده
يستند لظل الجدران
يسأل عابر كل سبيل
عن إحسان.
ألديك طعام للجوعان؟
ماء للظمآن؟
ظل يقعي فيه التائه والحيران؟
الراوية :
قل لي يا سلطان
أصحيح ما قال رئيس الجوقة عنك؟
السلطان :
ما فائدة القول أو الكتمان
كان وكان
ذهب زمان جاء زمان
والإنسان كما دان يدان
ذل السيد للعبد
وسرق العرش من السلطان
ما جدوى القول أو الكتمان؟
ها أنت تراه كالشبح الآن
يتسول كسرة خبز
جرعة ماء
أو كلمة عطف وحنان
الراوية :
كيف يهان السلطان؟
كيف تخليت عن العرش؟
السلطان :
تخليت؟
لا تنكأ جرحي يا ولدي
فالجرح عذاب وهوان
قلت سرقت ...
الراوية :
من السارق؟
السلطان :
بطل الأبطال
وفارس كل الفرسان
الراوية :
من خلصكم من بطش الطاهش؟
السلطان :
من أنقذنا من طغيان
ليحكم فينا الطغيان
آه يا ولدي
شل جنان
وانعقد لسان
فاعذر إن جفت أنهار القول
وحط الجدب على الشطآن
الراوية :
أرجوك تكلم ..
فالكلمة - إن صدقت يوما -
نور في ليل الإنسان
عنقاء ترفرف عالية
من تحت رماد النسيان
أرجوك
رئيس الجوقة :
الشيخ ضعيف مشلول فان
يخرج من بركة أحزان
يهوي في بركة أحزان
فاض عليه الطوفان
وغرق المركب والقبطان
دعه الآن
سوف يشارك في اللعبة
الراوية (للسلطان) :
حقا؟ أتشارك فيها؟
السلطان (وهو يجلس على الأرض في إعياء) :
يا ولدي قدر الإمكان.
رئيس الجوقة :
هذي ابنته فاسألها
يا درة كل الأزمان
وعروس سماء الأحزان ...
الابنة :
الصمت أمان
ستر وغطاء الأشجان
الراوية :
وردتك الثكلى لامعة
بدموع تروي الأجفان
وسؤالي لن يطلق ريحا
هوجاء تهز الأغصان
الابنة :
بدأت ريحك تعصف بي
أرجوك اتركني
مل عن دربي
الراوية :
واللعبة إن بدأت حالا
هل ستصدين عن اللعب؟
الابنة :
سيشارك قلبي
رئيس الجوقة (مشيرا إلى امرأة تصعد الدرج في بطء متجهة إلى المجموعة الثانية وقد غطت وجهها بخمار أسود) :
تسألني من؟
ولماذا تضع حجابا يستر مصباح الوجه
وسحر العين
لن تتكلم .. فالصمت عليها دين
الراوية :
ولم الكتمان؟
رئيس الجوقة :
خاب الأمل
وساء الزمن وخان
والتفت وردتها العطرة في الأكفان
حين تعرت للنور
فغرز الضوء الكاذب فيها الشوك
ومدت بالسكين يدان
وانكسر الكأس وسقطت منها التيجان
لجأت للكهف ولكن ...
الراوية :
عن كأس تتكلم أو عن كهف
تلغز بالمعنى والحرف
ماذا تقصد؟
رئيس الجوقة :
هي زوجته
الراوية :
زوجة من؟
رئيس الجوقة :
حسن سيف
لما بدأ النسر يرفرف نحو القمة
ضم جناحيه على الورقاء فصارت رمة
كانت تحلم بالعش الدافئ لما أجبرها أن تحلم حلمه
أن تصعد معه وتصاحب نجمه
فاحترقت بالضوء الكاذب
شربت سمه
وانسكب عبير الوردة وابتلعتها الظلمة
الراوية :
ألا أسألها عن قصتها؟
رئيس الجوقة :
حين تتم اللعبة ستحس الأزمة
فاتركها في كهف الوحدة تلعن صنمه
ومع الوهم الضائع تندب وهمه
أما هذا (يتقدم شاب يرتدي ملابس حرس القصر، يدير ظهره للجميع علامة على الاحتجاج).
الراوية :
هل شارك أيضا في اللعبة؟
رئيس الجوقة :
عاش ومات ضحية كذبة.
الراوية :
ولماذا يتجنبنا؟
ماذا أشعل غضبه؟
رئيس الجوقة :
ستعرف حين تتم اللعبة
أن الكذبة تلد الكذبة
فتحل اللعنة
وتعم النكبة
والكاذب لا يخدع نفسه
بل يخدع شعبه (ترتفع أصوات من بين صفوف المجموعة الأولى، تجأر بالشكوى والسخط والدعاء).
صوت :
كم بذل وعودا ووعودا
كم أطلق لحنا ونشيدا
فسمعنا قصفا ورعودا
صوت :
وانزاحت كارثة عنا
كي تهوي كارثة أخرى
وتصب اللعنة والعار
صوت :
بوعود المطر تمنينا
فتجف ضروع الأمطار
ويموت الزرع وتتعرى
لرياح السم الأشجار
صوت :
والأرض العطشى مقبرة
تبتلع كبارا وصغار
الراوية :
هيا فلنبدأ لعبتنا ...
ولنكشف كل الأسرار
رئيس الجوقة (وهو يهدئ الجميع) :
ولتشهد معنا وتكون الشاهد
يستخلص درسا للركب الصاعد
للزمن الآتي والزمن العائد
اللعبة
1 (دكان في سوق قرية يمنية كبيرة، صاحب الدكان رجل عجوز ضعيف البصر، يجلس أمام آلة حياكة وفي يده سروال يتم تسريجه، ينادي بين الحين والحين على صبيه ومساعده «حسن»، الذي جلس على الأرض يراقب الذباب المتهالك على قطرات من اللبن يصبها من كوب في يده.)
العجوز :
يا حسن ... (حسن لا يرد، مشغول بمتابعة الذباب المتساقط على اللبن.)
العجوز :
حسن .. حسن .. ماذا تفعل يا ولدي؟
حسن :
انتظر يا عمي .. انتظر.
العجوز :
ولكنه لن ينتظر يا ولدي، سيحضر اليوم لأخذ بذلته.
حسن :
واحد .. اثنين .. ثلاثة.
العجوز :
حسن .. ولد يا حسن.
حسن :
خمسة .. ستة .. عشرة .. ماذا قلت يا عمي؟
العجوز :
قلت لك سيحضر اليوم.
حسن :
خمسة عشرة .. ستة عشر .. من يا عمي؟
العجوز :
الزبون يا ولدي.
حسن :
تسعة عشرة .. عشرون .. زبون .. هل حضر زبون إلينا؟
العجوز :
وهل يحضر أحد منذ ابتليت بك؟ يا حسرتي عليك .. أبله ومخبول .. بلاهتك صدت الناس عنا .. لا يدخلون عندنا إلا ليضحكوا عليك .. صار دكاني للضحك لا للحياكة .. ورأسك الفارغ.
حسن :
سأفرغه كله وأرى كم يتساقط منهم. (يصب اللبن على الأرض)
العجوز (مواصلا كلامه) :
تفرغه مما فيه .. وهل فيه شيء؟
حسن :
اسكت يا عمي .. لا بد من قتلهم.
العجوز :
تقتلهم .. من هؤلاء؟
حسن :
مائة .. مائة وعشرون .. الأعداء يا عمي .. الأعداء.
العجوز :
الأعداء .. هل صرت شجاعا فجأة؟
حسن :
سترى بنفسك .. وسأجهز عليهم جميعا.
العجوز (لنفسه) :
أبله لا يجد ما يعمله .. كل الناس تقول أبله وجبان .. وها هو يتصور نفسه فارسا .. لا بد أنهم أشباح في رأسه .. جن تسخر منه .. وأنا الذي كنت أنتظر أن يساعدني .. أن يساند شيخوختي بعد أن ضعف بصري .. لأناد عليه مرة أخرى .. حسن .. أرجوك يا ولدي.
حسن :
هش .. هش .. سقطوا كلهم صرعى .. الآن أستطيع أن أدوسهم بقدمي، أقطع رءوسهم .. أصلبهم .. أنزع أجنحتهم.
العجوز :
من هم هؤلاء الذين ستدوسهم وتقطع رءوسهم؟
حسن :
الأعداء .. قلت لك الأعداء.
العجوز :
ألا يمكن أن تتركهم قليلا وتساعدني في وضع الخيط في الإبرة.
حسن :
ثلاثمائة .. ثلاثمائة وعشرة .. أتركهم؟ ومن يجهز عليهم؟ من يطارد الهاربين منهم؟ من يجمع الأسرى؟
العجوز (مخاطبا نفسه) :
يا خيبة أملي فيك .. من سنتين زوجتك ابنتي .. مسكينة مظلومة معك .. قالت: يا أبي إنه مجنون. قلت: ولكنه ابن أخي. قالت: أخوك نفسه لم يكن ليوافق على زواجي منه .. لا تنسي يا ابنتي أنه مات وتركه أمانة في رقبتي. قالت: في رقبتك أنت فلماذا تضعه على رقبتي؟ صرخت فيها وصفعتها على وجهها: أتعارضينني يا بنت الكلب؟ أين الوفاء لأهلك؟ أين صلة الرحم؟ صلة الدم؟ قالت: أمرك يا أبي ... وبكت ولا زالت من يومها تبكي.
حسن :
ستسر كثيرا عندما تراهم صرعى تحت قدمي.
العجوز :
من هذه التي ستدخل السرور على قلبها؟
حسن :
زوجتي الحبيبة .. ستقول هكذا يكون الفرسان .. سترد على الكلاب الذين يسمونني الجبان بقبلة على خدي.
العجوز (محتدا) :
تقبلك أم تصفعك على وجهك؟
حسن :
تصفعني؟ ماذا تقول يا عمي؟
العجوز :
هذا أقل ما تستحق .. أناديك لتسرج ذيل السروال، فتتكلم عن أعداء سقطوا وأعداء هربوا .
حسن :
صحيح .. هرب ألف .. لكنهم لم يهربوا في المرة الثانية (يقف وسط الدكان ويستعرض قوته ويغني):
قتلت ألفا
وأسرت ألفا
ثم لاذ بالفرار ألف ...
تعال يا عمي وقل للسيف
كيف قتلت ألفا وأمت الخوف.
العجوز :
تعال أنت لتدخل الخيط في الإبرة.
حسن :
الخيط في الإبرة .. هل هذا عمل الفرسان؟ ماذا تقول يا عمي؟
العجوز :
أقول لا أرى الثقب .. ضعف بصري يا ابن أخي.
حسن :
ولكنك تراهم حتما .. ها هم تحت قدمي .. صرعى مجندلين .. ألف قتيل وقتيل .. هذا جزاؤهم (يمشي في خيلاء الفارس الشجاع).
العجوز :
ليتك تأخذ جزاءك أيضا.
حسن :
طبعا .. طبعا .. القرية ستهتف باسمي .. الأولاد يغنون بسيفي .. الرجال يرهبونني ويخشون بأسي .. والنساء يزغردن حين يرين وجهي .. أما زوجتي (تدخل الزوجة من الباب، امرأة شابة مليحة الوجه ناضرة القوام، تبدو على ملامحها ومشيتها أمارات اليأس والاكتئاب).
الزوجة :
حيا الله يا أبي! ماذا تقول؟
العجوز :
تعالي يا ابنتي ساعديني ..
الزوجة :
دائما الإبرة في الثقب .. شفاك الله يا أبي .. لماذا لا تساعده يا حسن؟
الزوجة (وهي تضع الخيط في ثقب الإبرة وتبدأ في مساعدة أبيها) :
ينادي اسمي؟
حسن :
نعم نعم .. كنت أقول لعمي ...
الزوجة :
تقول .. دائما تقول .. وتتركه يعمل وحده ..
حسن :
ولكنني كنت أعمل أيضا.
الزوجة :
وماذا تعمل؟
حسن :
قل لها يا عمي (مفتخرا يستعرض مشيته في خيلاء)، قل لها.
العجوز :
كان يقتل الأعداء.
حسن :
ومن لم يقتل وقع في الأسر أو هرب بجلده.
الزوجة (لأبيها) :
لا فائدة يا أبي .. ألم أقل لك؟
حسن :
ولكني لن أتركهم .. الجبناء.
الزوجة (لأبيها) :
وجبان أيضا .. يا رب .. ألا يكفي الجنون؟
حسن (يتقدم نحو زوجته في خيلاء) :
لو رأيتهم صرعى تحت قدمي لعرفت من هو زوجك.
الزوجة :
أعرفه بما يكفي.
حسن :
واكتشفت أنه فارس يستحق منك قبلة.
الزوجة :
أم صفعة على الخد؟ (تقترب منه وتمد ذراعها مهددة .. فيفر مذعورا.)
حسن :
لا .. لا .. امنعها يا عمي .. قل لها تعقلي.
زوجك شجاع .. فارس. (يغني): قتلت ألفا
وأسرت ألفا،
ثم لاذ بالفرار ألف.
الزوجة (ساخرة) :
فارس حقيقي .. وأين سيفك؟
حسن (يتلفت حوله، يتحسس جنبيه وخصره وحزامه) :
حقا .. حقا.
أين هو السيف؟
كيف قتلت الأعداء بلا سيف؟
وإذا أحضرت السيف فكم أقتل منهم؟
كم يسقط في الأسر وكم يهرب في خوف؟ (يفكر قليلا ويحك ذقنه بيده، ثم يسرع خارجا من الباب وهو يصيح): لا بد من السيف! لا بد من السيف!
العجوز (ضاحكا وهو يواصل عمله وابنته تساعده) :
عشنا ورأينا .. سيف في يد حسن.
الزوجة :
أرأيت يا أبي؟ مجنون وجبان.
العجوز :
لا تقولي هذا يا ابنتي.
الزوجة :
القرية كلها تقوله يا أبي.
العجوز :
إذا ظلمه الناس جميعا فلا تظلميه أنت .. تذكري.
الزوجة :
إنه ابن أخيك.
العجوز :
ابن عمك الذي كان يحبك ويوصيك به.
الزوجة :
لو عاش ورأى بلاهته ما قبل أبدا.
العجوز :
أنا الذي أردت هذا .. أتريدين أن تعودي؟
الزوجة :
وما الفائدة؟ (تقوم والسروال في يدها وتتجول في الدكان، ترى الذباب المتساقط على الأرض فتبصق وتعود إلى مكانها بالقرب من أبيها.)
ذباب .. ذباب .. ذباب .. هؤلاء هم أعداؤه .. قتلاه وأسراه.
العجوز (ضاحكا) :
ولاذ بالفرار ألف (ثم في حنان): اصبري يا ابنتي.
الزوجة (باكية) :
صبرت .. صبرت.
العجوز (يربت على ظهرها) :
ساعديه يا ابنتي .. غدا يرجع لعقله.
الزوجة :
يرجع أو لا يرجع .. ما ذنبي أنا؟
العجوز :
إنه ابن عمك.
الزوجة (ساخطة) :
ابن أخيك.
العجوز :
وزوجك.
الزوجة (تجفف دموعها) :
نعم .. زوجي .. لا فائدة (بعد قليل): متى سيحضر؟
العجوز :
لا أدري .. بعد أن يجد السيف.
الزوجة :
أقصد صاحب البذلة.
العجوز :
ظننتك تسألين عن فارسك.
الزوجة (ساهمة) :
نعم، نعم، أسأل عنه، أبي (تسمع ضجة خارج الدكان، دقات طبل وصياح أطفال).
العجوز :
ما هذا؟
الزوجة :
هل سيأتي اليوم؟
العجوز :
سمعت؟ (يتحرك) دقات طبل.
الزوجة :
هل سيأتي اليوم؟
العجوز (مبتسما) :
من؟ إنها تقترب من هنا.
الزوجة :
ألم يتفق معك على الحضور لأخذ بذلته؟
العجوز (يتحسس طريقه إلى باب الدكان) :
نعم، نعم .. أليس هذا هو المنادي؟ (يسمع صوت المنادي وهو يدق على طبلته التقليدية والأطفال يردون عليه) (يتردد الصوت من بعيد ثم يزداد وضوحا بينما يخرج العجوز لمتابعته .)
صوت المنادي :
يا أهل مدينتنا .. يا أهل مدينتنا!
أمر السلطان .. وأمر السلطان مطاع
أن يقرأ هذا النبأ وينشر ويذاع
يتربص بأهالي القرية وحش ملعون كاسر
الطاهش يقف على الأسوار ويفتك بالراكب منكم والسائر
يا أهل مدينتنا!
فليحضر كل الفرسان وكل الأبطال الشجعان
من بعد صلاة العصر لقصر السلطان
من كان شجاعا فليبرز وليحضر فورا
سيقلده مولاه سيفا يمنيا حرا
وإذا أيده الله بقتل الوحش الكافر
فله الجائزة الكبرى والمال الوافر
وكذلك بنت السلطان ولن يدفع مهرا
يا أهل مدينتنا .. يا أهل مدينتنا!
أمر السلطان .. وأمر السلطان مطاع ... إلخ إلخ (يدخل فارس من حراس قصر السلطان مسرعا .. يفاجأ بوجود الزوجة وحدها .. يتراجع للخلف قليلا ثم يتقدم في حذر ويقول):
الفارس :
أنت هنا؟
الزوجة :
أنت؟ (تتأمله بإعجاب.)
الفارس :
لماذا تنظرين إلي هكذا؟ لم تتوقعي رؤيتي؟
الزوجة :
كنت أتمناها.
الفارس :
حقا؟ ما دمت لا تريدين أن يتم اللقاء في مكان آخر.
الزوجة :
اخفض صوتك .. يا لك من متهور.
الفارس (يتلفت حوله ويقترب منها) :
هل أصبح الحب تهورا؟
الزوجة (في أسى) :
الحب؟
الفارس :
الحب .. الحب .. الحب .. هذا شعوري نحوك منذ رأيتك، أليس هو نفس شعورك؟
الزوجة :
قلت اخفض صوتك.
الفارس :
لن أخفضه .. سأرفعه لتسمع القرية كلها .. أحبك .. أحبك .. أحبك.
الزوجة :
أبي هنا وسيحضر حالا .. قلت لا ترفع صوتك.
الفارس :
سأرفعه وأعلنه له أيضا.
الزوجة :
وربما يظهر حسن بعد قليل.
الفارس :
حسن؟ هذا القرد الأبله؟
الزوجة :
أعرف ما تريد أن تقول، بالله اخفض صوتك.
الفارس :
وإلى متى نكتم حبنا ونخفض صوتنا؟ سأكلم أباك اليوم .. سأطلب منه أن يطلقك من هذا المسخ المضحك .. وإذا اقتضى الأمر سأطلبك من القرية كلها .. من السلطان نفسه .. لن أتردد في الصياح وقرع الطبول.
الزوجة :
كما فعل المنادي؟
الفارس :
لا تهربي .. هل كلمته كما وعدت؟
الزوجة :
كنت على وشك الكلام معه .. ثم سمع صوت المنادي فخرج .. هل أنت عائد الآن من القصر؟
الفارس :
سألجأ للسلطان نفسه إذا لزم الأمر .. إنه يحبني ولن يرد طلبي.
الزوجة :
هذا إذا قتلت الوحش.
الفارس :
إذا وافق أبوك فسأقتله.
الزوجة :
وإذا لم يوافق؟
الفارس :
أتريدين أن أتزوجها وأتركك؟
الزوجة :
تتزوجها؟ من؟
الفارس :
ألم تسمعي المنادي؟
الزوجة :
كان الضجيج عاليا فلم أفهم كلامه.
الفارس :
لا بد أن تفهميه جيدا .. وعد السلطان بأن يزوج ابنته لمن يقتل الطاهش.
الزوجة :
وتترك هذه الفرصة؟
الفارس :
أترك العالم كله .. إنني ... (يحاول أن يقترب منها أكثر، فتنبهه إلى حضور أبيها.)
العجوز (وهو يدخل متحسسا طريقه بيديه) :
آه لو كنت شابا.
الزوجة :
لا ضرورة لذلك يا أبي .. فالفرسان كثيرون.
العجوز :
وهم مطلوبون اليوم في قصر السلطان .. هل معك أحد يا ابنتي؟
الفارس :
واحد منهم يا والدي .. يطلب القرب منك.
الزوجة (هامسة) :
حذار .. لم يحن الوقت بعد.
الفارس (غاضبا) :
ومتى يحين إذن؟ إنني ...
الزوجة (هامسة) :
قلت حذار (تلمح حسن داخلا من الباب).
هذا حسن حضر أيضا.
العجوز (مقتربا من الفارس .. تأخذ ابنته بيده وتجلسه على مقعده أمام آلة الحياكة) :
ألم أسمع هذا الصوت من قبل؟
الفارس :
حيا الله يا والدي!
العجوز :
حيا الله! البذلة جاهزة .. لم يبق إلا القليل .. ألم تحضر من أجلها؟
الفارس (ناظرا إلى الزوجة) :
نعم ولا.
الزوجة (هامسة) :
قلت: حذار.
حسن (يرفع صوته) :
فارس من غير سيف؟ هل يعقل هذا؟
العجوز :
هل جئت يا حسن .. تعال يا ولدي.
حسن :
لا يا عمي .. ولا وألف لا.
العجوز :
ألا تريد مساعدتي؟ لقد حضر الفارس كما قلت لك.
حسن (ينظر للفارس متأففا) :
هنا فارس واحد .. حسن سيف .. انظروا (يعرض سيفه الخشبي الطويل المضحك على الأنظار).
الفارس :
سيف من الخشب؟ هذا أعجب سيف رأيته.
حسن (غاضبا) :
لأن صاحبه أعجب الفرسان.
الفارس (يثبت عينيه على هيئته المضحكة) :
وكم قتلت بهذا السيف؟
حسن (جادا) :
قتلت ألفا.
الفارس (مستهزئا) :
ألفا؟
حسن :
وأسرت ألفا.
الفارس :
نفس العدد؟ ألم يهرب منهم أحد؟
حسن :
والجبناء لاذوا بالفرار.
الفارس (ساخرا) :
كانوا يبلغون الألف؟
حسن :
لماذا تقاطعني؟ كانوا ألفا .. لا بد أنك رأيتهم.
الفارس :
ولم لا؟ وسمعتهم أيضا.
حسن :
أتسخر مني؟ (يرفع سيفه.)
الفارس :
معاذ الله .. لا بد أن ميدان المعركة فسيح جدا (يشير إلى رأسه).
حسن (غاضبا) :
انظر .. ها هم ملقون على الأرض (يجري إلى المكان الذي تساقط فيه الذباب غارقا في بركة اللبن الصغيرة) إنني أدوسهم .. أسحقهم تحت قدمي .. حاولوا الفرار .. ولكنني أجهزت عليهم .. أجهزت عليهم جميعا (يمثل المعركة ويكر ويفر بصورة مضحكة).
الفارس (ضاحكا) :
حيا الله! حيا الله!
حسن :
إن كنت لا تصدق فهاك الدليل .. انظر (يمد إليه السيف الذي نقشت عليه الكلمات السابقة التي ظل يرددها: هذا سيف حسن سيف .. قتل الألف وأسر الألف، وهرب من الجبناء الألف).
الفارس (يضحك) :
عظيم .. عظيم.
حسن (غاضبا) :
ما معنى هذا؟
الفارس :
لا بد أنك تفكر الآن في تلبية دعوة مولانا السلطان.
حسن (جادا) :
السلطان لم يدعني.
الفارس :
ألم تسمع المنادي؟ إنه يطلب فرسان البلد.
حسن :
لن ألبي دعوة لم توجه إلي.
الفارس :
ولكنه دعا كل الفرسان.
حسن :
حسن سيف ليس من كل الفرسان.
الفارس :
بالطبع .. قتلت ألفا.
حسن (مستمرا) :
وأسرت ألفا ثم لاذ بالفرار ألف.
الفارس :
لا شك أنك صممت على الحصول على الجائزة.
حسن (مشيرا إلى رأسه) :
أية جائزة؟
الفارس :
ألم تسمع المنادي؟
حسن (مشيرا مرة أخرى إلى رأس الفارس) :
ومناد أيضا؟
الفارس :
قولي له .. إنه لا يصدق كلامي.
زوجته :
نعم يا حسن .. المنادي كان يمر الآن في شوارع المدينة.
حسن :
هل نادى علي؟
زوجته :
نادى على كل الفرسان.
حسن (غاضبا) :
لست ككل الفرسان. أنا قتلت ألفا ...
زوجته :
أعرف .. أعرف .. وأسرت ألفا والجبناء كانوا ألفا.
حسن :
يسرني أن تعترفي بهذا.
زوجته :
ومن الذي ينكره .. لكن المنادي وعد بجائزة.
حسن :
المجد أكبر من كل جائزة.
الفارس :
حتى ولو كانت ابنة السلطان؟
حسن (غاضبا) :
زوجتي أعز من ابنة السلطان.
الفارس :
إذن فلن تقتل الطاهش؟
حسن :
الطاهش؟ من هذا؟
الفارس :
الوحش الذي يقف على أسوار المدينة.
حسن :
على أسوار مدينتنا .. كيف يجرؤ على هذا؟
الفارس :
يتربص بالداخل والخارج،
يفتك بالراكب والسائر،
وضحاياه على الصخر الوعر وفي السهل وفي الأغوار بغير مقابر.
حسن :
وله ضحايا أيضا؟ لماذا لم تقل هذا من قبل؟
الفارس :
ها قد سمعته .. اخرج إلى السور واسأل الحراس.
حسن :
لا لن أسأل أحدا (يشهر سيفه) سأذهب بنفسي إليه .. سأنتقم منه وأسيل دمه.
الفارس :
وتحصل على الجائزة؟!
حسن :
قلت لا أريد جوائز، حسن سيف أكبر من الجوائز. (يشهر سيفه ويمثل قتل الوحش.)
من أجل المجد سأقلته.
من أجل المجد ... (يتقدم مشهرا سيفه، يقف عند البركة الصغيرة ويعاين ضحاياه، يصيح فجأة قبل أن يغادر المكان مسرعا!)
هذا سيفي؛
سيف حسن سيف،
يقتل ألفا،
يأسر ألفا،
ويفر الجبناء الألف.
الطاهش؟
من هذا الطاهش؟
الطاهش شبح أو طيف،
يقتله، يشرب من دمه؛
بطل الأبطال حسن سيف
الزوجة (تسرع مشفقة إليه) :
حسن .. إلى أين؟
حسن (ناظرا إلى الفارس) :
أتخافين علي؟
بطل الأبطال حسن سيف
قتل الخوف.
قتل الخوف.
الزوجة :
ارجع يا حسن.
حسن :
دعيني.
الزوجة :
أخاف عليك.
العجوز :
أوقفه يا رجل.
حسن :
لا لن يتراجع .. لن يقف حسن سيف،
إلا إن قال الموت له قف!
إلا إن قال المجد له قف!
الفارس (تعلو ضحكاته، فيرد عليها حسن بكلماته المتكررة قبل أن يندفع إلى الخارج شاهرا سيفه وهو يردد) :
هذا سيف حسن سيف
قتل الألف
وأسر الألف
وفر الجبناء
وكانوا أكثر من ألف (يندفع خارجا وسط ضحكات الفارس.)
2 (نفس المنظر السابق. بعد فترة من الزمن تبلغ شهرين، العجوز يجلس على سجادة متواضعة على الأرض وتحته وخلف ظهره حشايا ومساند تفتح الستار عليه وهو يستمع إلى رعوي ثرثار يقف أمامه ويذرع المكان جيئة وذهابا وهو يلوح بعصاه)
العجوز (ضاحكا) :
طمأنتني يا شيخ.
الرعوي :
وكيف تخافون على حسن؟ بطل كهذا وتخافون عليه؟
العجوز :
لأنه غاب من شهرين، انقطعت عنا أخباره.
الرعوي :
عجيب .. وأخباره تملأ القرى والمدن، والسهول والجبال.
العجوز :
أأنت جاد؟
الرعوي :
جاد؟ يا رجل اخرج من دكانك واسأل عابري السبيل، الكل يتغنى به، الأطفال والصبية يلتفون حوله، العجائز يتمنين أن يلمسن أطراف ثوبه، والرجال ينحنون ويلثمون كفه وساقه.
العجوز :
ليت زوجته هنا لتسمع منك، إنها قلقة عليه.
الرعوي :
قلقة عليه؟ من حقها أن تفخر به، لو كان ابني لوضعته فوق قمة الجبل وصحت بالناس: انظروا هذا هو ابني .. إنه بطل يا رجل، جبل في رأسه نار، كوكب.
العجوز :
مهلا يا شيخ.
الرعوي :
أقول لك لو كان ابني .. ولكني حرمت الأبناء .. ماتوا جميعا وتركوني.
العجوز :
هو ابنك أيضا، وزوج ابنتي.
الرعوي :
ولا تعرفون أخباره .. لا تسمعون عن بطولاته .. لا لا لا.
العجوز :
الحقيقة يا شيخ .. أنا لا أصدق.
الرعوي :
كيف لا تصدق والناس كلها لا تتحدث إلا عن حسن سيف وسيف حسن سيف؟!
العجوز :
أقول لك الحق؟
الرعوي :
قل يا عم.
العجوز :
إنه ... إننا نعرف حسن الأبله .. الولد الخائب الذي يجلس طول النهار في الشمس يتسلى بقتل الذباب.
الرعوي :
لا شك أنك تضحك .. الذباب أم الذئاب؟
العجوز :
لولا أنه ابن أخي ما زوجته ابنتي .. إنها تسميه الجبان.
الرعوي :
جبان؟ أعوذ بالله .. أعوذ بالله.
العجوز :
حتى سيفه الذي تتحدث عنه من خشب.
الرعوي :
سيف حسن سيف؟ من خشب أو حديد، يكفي أن يضعه حسن في يده ليصنع المعجزات.
العجوز :
المعجزات؟ بسيف من خشب؟
الرعوي :
إنه يمشي في السوق فتهتز الأرض من تحته .. تكاد الجبال ترتجف .. من خشب .. ولكنه قتل به ألفا!
العجوز :
وأسر ألفا وفر الجبناء الألف.
الرعوي :
تماما .. وهذا منقوش على سيفه .. تقع العين عليه فترهبه وتلوذ الأقدام بالفرار.
العجوز :
يفر الناس لمرآه؟
الرعوي :
أنت لم تر شيئا .. دعني أحكي لك بلساني الذي سيأكله الدود عما رأته عيني التي سيملؤها التراب.
العجوز :
احك يا شيخ .. احك.
الرعوي :
من أيام رأيته يمشي في سوق القرية .. الحقيقة أنني لم أره هو نفسه .. فقد حجبه عني سور من الأطفال والنسوة والعجائز الذين يمشون وراءه .. سألت: من هذا؟ تعجب الناس وقالوا: من؟ إنه حسن سيف .. قتل الألف وأسر الألف .. قلت: هل شاهده أحد منكم؟ قالوا: يا رجل! الناس كلها تعرف حكايته .. والعدل والقاضي والأعيان يتسابقون لدعوته .. ولكنه يرفض صائحا: يكفيني المجد، يكفيني حب الناس .. وعندما تزاحمت لأشق الصفوف لرؤيته .. بارك الله .. بارك الله .. سيف بن ذي يزن بلحمه ودمه .. أي شجاعة! أي كرامة! أي تواضع لله .. واتجه الموكب إلى الجامع فدخلت ودخل الناس .. رأوا سيفه الطويل وهو يسحبه على الأرض كالصياد الذي يجر وراءه التمساح أو الحوت .. هلل الناس وكبروا .. أقبل عليه إمام الجامع وأخذه من يده وقال: لا يصح يا سيف .. أؤم الصلاة وأنت هنا؟ تلفت سيف حوله وقال: ليس قبل أن يخرج .. سألوا: من؟ قال: إبليس، إنه يحوم هنا .. قالوا: إبليس في الجامع؟ لا .. لا .. زمجر وقال: اخرج يا إبليس! لن تكون في مكان واحد مع حسن سيف! ذعر الناس وأخذوا ينظرون إلى السقف والجدران والنوافذ .. زمجر حسن وكشر عن أسنانه، واندفع إلى المنبر وصاح: لن تكون الإمام وحسن سيف على قيد الحياة! ثم رفع السيف وهوى به على خشب المنبر فانفلق نصفين .. كبر الناس وهللوا .. سمعوا العاصفة تدوي والغبار يثور والشيطان يدمدم ويفر مهزوما .. مسح حسن رأسه وتمتم كالسحرة ثم قال: الحمد لله! نصرني على عدو الله .. كبر الناس، الحمد لله الذي رزقنا حسن سيف .. نحن وراءك يا سيف .. قال: الآن أؤمكم في الصلاة، وغدا أخلصكم من الطاهش والظلمة والبغاة .. اصطفوا وراءه وكبروا وسبحوا: الحمد لله! الحمد لله!
العجوز :
إبليس .. إبليس!
الرعوي :
فر من القرية يا شيخ كقرد خسيس.
العجوز :
من كان يظن بأن القرد الأبله إبليس؟
الرعوي :
نعم، من كان يظن أنه سيخرج من البلد كلها؟ خرج النجس الملعون من الجامع وراح يعرج في شوارع القرية .. لكن حسن سيف ...
العجوز :
حسن؟ ماذا فعل؟
الرعوي :
لم يتركه .. بعد الصلاة انطلق يجري وراءه ويبحث عنه .. يمسك كل إنسان من كتفه وينظر في عينيه ثم يتركه لغيره .. حتى لمحه هناك.
العجوز :
هناك؟ أين؟
الرعوي :
متربصا كاللص الخائف في جسد امرأة مشلولة.
العجوز :
امرأة مشلولة؟
الرعوي :
نعم نعم، كانت تتلوى على عتبة الباب .. وحولها نسوة وأطفال يرشون وجهها بالماء والعطور، ويدلكون صدرها وذراعيها وساقيها .. ظهر حسن من بعيد فتركوا الجسد المسكون وأفسحوا له المكان .. ثبت عينيه عليها طويلا، ثم رفع سيفه الطويل وصاح: يا رب .. ضرب الهواء أمام الجسد كأنه يشقه نصفين وزعق: اذهب يا إبليس .. اذهب يا منحوس.
العجوز :
وماذا حدث؟
الرعوي :
ماذا حدث؟ المعجزة! انتفضت المرأة المشلولة تجري كالمجنونة وتضرب الأبواب .. تطوح بذراعيها وساقيها كأنها تنفض عنها القيود والأصفاد.
العجوز :
وحسن سيف؟
الرعوي (يجري وراءها ويصيح) :
لا ترتجفي.
لا ترتجفي.
فر الكافر إبليس.
هرب الفاجر إبليس.
والآن تعالي .. لا تخشي شيئا.
العجوز :
هل سمعت يا رجل كلامه؟
الرعوي :
وقفت ترتجف أمامه.
وهو يتمتم بالآيات إلى أن هدأت كحمامة.
قال بصوت رباني: عوذتك يا مسكينة بالرحمن.
قدوس قدوس .. اخرج يا إبليس.
العجوز :
وخرج الكافر إبليس؟
الرعوي :
كي تدخل روح حسن سيف،
بكت المرأة حتى أبكت كل الناس ودمعت عين وضيع وشريف.
لثمت كفيه ورجليه، وانهال عليه من الجمع صفوف وصفوف.
صاحوا يا سيفا يا سيفا.
نحن جنودك نحن وراءك تحميك سيوف وسيوف.
اعتذر وقال: البطل عفيف.
نذر الصوم وأقسم ألا يشرب جرعة ماء أو يهنأ برغيف.
حتى يشرب من دمه .. قلنا: من دم من؟
قال: الوحش. سألنا: أي وحش؟
قال: الواقف عند السور يهدد أمن الناس ويرعب ويخيف.
قلنا: نذهب معك. فقال:
أنا وحدي أتحداه ونصلي كالبرق رهيف.
وسأنثر أشلاء الوحش مع الريح وأهتف فلينظر كل كفيف.
هذا سيف حسن سيف .. شريف ونظيف،
في أسواق المدن وبالقرية والجبل يطوف.
العجوز :
حيا الله يا شيخ .. هل تعرف أين هو الآن؟
الرعوي :
سألت عنه في كل مكان .. وهداني بعض الناس إلى هذا الدكان.
العجوز :
ونحن نسأل عنه. (يندفع الفارس داخلا على عجل، تظهر اللهفة على وجهه وحركاته.)
الفارس :
وأنا أيضا يا عم أسأل عنه.
العجوز :
أنت؟ قلت لك لم يتم بعد .. أنت تعرف ضعف بصري، ولا أحد يساعدني.
الفارس :
لا أسأل عن السروال يا عم .. ما حاجتي الآن لبذلة الفرسان؟
العجوز :
ما حاجتك؟ ولكنك كنت متعجلا.
الفارس :
نعم كنت، أما الآن ...
العجوز :
الآن؟
الفارس :
ألم تسمع يا عم؟ فشل الفرسان ورجعوا خائبين.
العجوز :
ألم يخترهم السلطان؟
الفارس :
نعم، نعم، وشيعتهم معه إلى سور المدينة، زود كلا منهم بسيف يمني حر وقال له: بارك الله في يدك وفي هذا السيف، لا ترجع إلا ورأس الطاهش على يدك.
العجوز :
ورجعوا.
الفارس :
من رجع منهم رجع مذعورا .. أصم لا يسمع .. أخرس لا يتكلم.
العجوز :
لماذا يا ولدي؟ ألم يعثروا عليه؟
الفارس :
هربوا منه .. سمعوا صيحته فأصابهم الصم .. رأوا عينيه فشل اللسان.
العجوز :
والسلطان؟ ماذا قال؟
الفارس :
لم يقل شيئا، ضرب كفا بكف .. بكى كالطفل اليتيم وصاح: الطاهش؟ من يأتيني بالطاهش؟
الرعوي :
أنا أعرف من يأتيه به.
الفارس :
وأنا جئتك أسأل عنه.
العجوز :
من يا ولدي؟
الفارس :
من غيره؟ حسن سيف. قال الوزراء: حسن سيف، قال رجال الحاشية: حسن سيف. هتف الحراس: لا يأتيك به غير حسن سيف.
الرعوي :
لا بد أنهم سمعوا عن معجزاته.
الفارس :
لم يبق أحد لم يسمع عنها ويرددها.
الرعوي (للعجوز) :
ألم أقل لك؟ إنه بطل.
الفارس (مغيظا) :
بطل الأبطال.
الرعوي :
البلد كلها تحكي بطولاته.
الفارس :
والسلطان يبحث عنه في كل مكان.
العجوز :
ألم يرسل في طلبه؟
الفارس :
ولماذا أقف أمامك؟ لقد أرسل الحراس إلى كل البلاد والعباد .. إلى القرى والمدن والعزلات والجبال والوديان .. رجالي يبحثون عنه ويرجعون خائبين .. وهو يزمجر ويتوعد كلما رأى وجهي.
العجوز :
أين أنت يا حسن؟ أين أنت؟
الفارس :
هذا الأبله المجنون ...
العجوز :
لا .. لا .. لا ...
الفارس :
أبله وجبان.
الرعوي :
لا .. لا أسمح لك .. بطل الأبطال جبان؟
الفارس :
أنت أيضا؟
الرعوي :
البلد كلها تقول هذا .. لم يبق طفل ولا رجل ولا ...
الفارس :
ولا عجوز ولا شيخ .. المهم: أين هو؟ هل تعرف مكانه؟
الرعوي :
لا بد أنه قادم .. بعد أن يقتل الطاهش ...
الفارس :
أو بعد أن يقتله .. المهم أين هو الآن؟
الرعوي :
أين هو الآن؟ أين هو الآن؟ سأذهب لأبحث عنه. (يندفع خارجا بينما تدخل زوجة حسن مسرعة ...)
الزوجة :
أين هو؟ إنه قادم! (تسمع زغاريد وغناء وصوت طبول ودفوف وغناء ...)
الفارس :
قادم .. هل رأيته؟
الزوجة :
أنت هنا؟
الفارس :
وأبحث عنه أيضا .. هذا الأبله.
الزوجة :
لا تقل هذا .. زوجي.
الفارس (ينتحي بها جانبا بعيدا عن العجوز) :
زوجك؟ ألم نتفق؟
الزوجة (مبتعدة) :
علام اتفقنا ؟ لم نتفق على شيء.
الفارس (يجذبها من يدها) :
بل على كل شيء .. إنني أحذرك.
الزوجة :
وأنا أحذرك منه .. إنه قادم.
الفارس :
بطل الأبطال .. هذا المجنون الجبان.
الزوجة :
سيقطع رأسك إن رآك .. قلت لك حذار.
الفارس :
أنت تقولين هذا؟
الزوجة :
وأكرره أيضا .. زوجي أصبح بطلا.
الفارس :
هل صدقت الأكذوبة؟
الزوجة :
ما دام الناس كلهم يصدقونها.
الفارس :
وحبي لك .. واتفاقنا على الزواج بعد الطلاق منه .. كيف تصدقين؟ كيف تصدقين؟
الزوجة :
آه يا ربي .. أنت تمزقني.
الفارس :
اسألي قلبك وحده .. اسألي قلبك.
الزوجة :
أم أسأل الناس؟ آه .. آه (تبكي).
العجوز :
ما هذا؟ ماذا أسمع؟ هل تبكين يا ابنتي؟
الزوجة :
من الفرح يا أبي .. ألا تسمع أصوات المواكب؟
العجوز :
أصوات طبول ودفوف .. هل تقترب من هنا؟
الفارس :
سأذهب وأرى بنفسي .. آه يا رب .. هل انطلت الأكذوبة على الناس؟ أيكون قد قتل الطاهش حقا؟ الأبله الجبان .. آه يا زمن الخرافات .. من يقتل الذباب يصبح قاتل الأسود والذئاب. (يخرج وهو يشيع الزوجة بنظراته اليائسة).
العجوز :
الصوت يقترب يا ابنتي .. أيمكن أن يكون هو نفسه؟
الزوجة :
سنرى يا أبي .. انتظر وسوف نرى.
العجوز (يهم بالنهوض) :
ننتظر .. حسن على الباب وننتظر؟
الزوجة :
نعم يا أبي .. انتظر حتى أتكلم معك.
العجوز :
تتكلمين معي؟ الآن؟ عن أي شيء يا ابنتي؟
الزوجة (متلعثمة) :
أي شيء؟ ليس شيئا يا أبي .. إنه ...
العجوز :
أسرعي يا ابنتي .. ماذا تريدين؟ (يزداد صوت الطبول اقترابا).
الزوجة :
إنها حياتي .. مصيري يا أبي.
العجوز :
حياتك ومصيرك؟
الزوجة :
أقصد أنني .. إن الفارس ...
العجوز :
وما شأن الفارس بنا؟
الزوجة :
إنه ... إنني ... ألم تعرف بأنه أبله وجبان؟
العجوز :
لا أعرف هذا يا ابنتي .. معاذ الله أن أظلمه.
الزوجة :
إنك لا تريد أن تفهمني ...
العجوز :
وأنت لا تقولين شيئا أفهمه .. كيف يمكنني أن أحكم عليه؟
الزوجة :
أقصد حسن يا أبي.
العجوز :
إنك تنتظرينه كما أنتظره .. كل الناس تتحدث عن بطولته وشجاعته.
الزوجة :
ما زلت لا تفهمني لا أبي.
العجوز (يتحسس طريقه إلى باب الدكان) :
وهل يحتاج الأمر إلى فهم؟ سيأتي حتما يا ابنتي .. وستشعرين بالفخار وتهتفين: إنه زوجك.
الزوجة :
أجل زوجي (تمسح دموعها).
العجوز (يقترب منها ويربت على رأسها) :
بطل الأبطال.
الزوجة (مكررة) :
بطل الأبطال.
العجوز :
سيد فرسان مدينتنا.
الزوجة (ساهمة) :
فرسان مدينتنا.
العجوز :
وعليك أن تشجعيه.
الزوجة (باكية ومحتضنة أباها) :
هل يحتاج الشجعان إلى تشجيع؟
العجوز :
ما دام هو الزوج.
الزوجة :
نعم نعم يا أبي .. وعلي أن أرعاه وأباركه.
العجوز :
ولا تبكي أمامه .. لا تبكي.
الزوجة :
لا أستطيع أن أحبس دموعي (يزداد صوت الموكب اقترابا).
العجوز :
هي دموع الفرح يا ابنتي.
الزوجة :
الفرح؟ نعم يا أبي.
العجوز :
بالبطل العائد بعد غياب .. انظري. (ينظر إلى الباب وتتابع صوت الطبول والدفوف الذي يوشك الآن أن يصم الآذان، يدخل بعض الأطفال والصبية وهم يصيحون ويهللون .. ثم يتتابع دخول نساء ورجال وعجائز من مختلف الأعمار والأشكال ...)
الأطفال (يغنون) :
حسن سيف
في إيده سيف
بص وشوف
إيش عمل السيف
قتل الألف
وأسر الألف
وهربوا منه
أكثر من ألف
أصوات (تردد وترد عليهم) :
دن دن دن
دن دن دن
الأطفال :
شاف الخوف
رفع السيف
مات م الخوف
أصوات :
دن دن دن
دن دن دن
الأطفال :
شاف تنين
عمل له كمين
يروح له شمال
يجي له يمين
رفع السيف
شقه نصين
أصوات :
دن دن دن
دن دن دن (في هذه الأثناء يدخل حسن سيف يحيط به التهليل والتكبير والتعظيم .. يحيي الجميع بخيلاء).
الأطفال :
شاف الجن
يدن يدن
قال له تحب
تموت بالقلب
ولا تحب
تموت بالسيف
رفع السيف
وقال يا رب
زعق الجن
ومات م الخوف
الأصوات (تردد وسط الزغاريد وقرع الطبول والدفوف) :
حسن سيف
حسن سيف
جن يا جن
جن يا جن
دن دن دن
دن دن دن (حسن يشهر سيفه الطويل المضحك، يتزاحم الرجال والنساء حوله ويقرءون ما كتب عليه بصوت عال):
قتل الألف
وأسر الألف
وهربوا منه
أكثر من ألف
حسن (يحاول أن يرفع صوته) :
شكرا يا إخوان .. شكرا يا أحباب.
الزوجة والعجوز (يحاولان اختراق الصفوف بينما يسمع صوتهما) :
حسن .. حسن ..
حسن :
شكرا يا أحباب .. شكرا يا أصحاب.
الزوجة والعجوز (يرفعان صوتهما عبثا) :
حسن .. حسن ..
حسن :
جاء وقت العمل .. وذهب وقت الغناء.
الأطفال :
حسن سيف .. حسن سيف ..
دن دن دن
دن دن دن ...
حسن (رافعا صوته) :
يا أولادي .. يا أولاد .. يا أحباب .. يا أصحاب .. جاء أوان العمل (يخبط بسن السيف على الأرض فيسكت الجميع).
أيها الكرام .. أيها الإخوان .. قد آن الأوان ..
صوت :
فليتكلم أشجع الشجعان ...
صوت :
فارس الفرسان ...
حسن :
حيا الله! حيا الله!
صوت :
حيا الله الفارس!
حسن :
سيد كل الفرسان ...
أصوات :
بطل الأبطال ... سيد كل الفرسان
الزوجة والعجوز :
حسن .. حسن .. (يخترقان الصفوف إليه بعد مشقة).
حسن (للجمهور) :
هذه زوجتي .. هذا عمي ..
أصوات :
حيا الله! حيا الله!
حسن (يسكتهم) :
بعد قليل أفرغ لكما .. آن أوان العمل .. أوان الضرب ...
أصوات :
الضرب بعنف ...
حسن :
الطاهش ينتظر هناك ولا وقت لدي
يتربص بمدينتنا، يؤذي الميت والحي
صوت الزوجة والعجوز :
حسن .. حسن ..
حسن (في برود قاس) :
لا وقت لدي .. لا وقت لدي ..
آن أوان العمل الجاد بعون الله
وسأذهب كي ألقاه
وأثأر منه وأتحداه
أصوات :
حيا الله! حيا الله! حيا الله!
حسن (يسكتهم) :
حسن ابنكم قد نذر الصوم
لن يأكل لن يشرب
لن تهنأ عيناه بطعم النوم
حتى يشرب دمه ويجيء برأسه
ويخلصكم يا إخواني
يا أحبابي من رجسه
أصوات :
حيا الله! حيا الله!
وبارك في الفارس والسيف.
حسن :
بعون الله .. بعون الله.
أصوات :
وحمى كفا تضرب تضرب في عنف.
حسن :
شكرا لله .. لهذا السيف.
أصوات :
ونحن وراءك في الصف.
العجوز :
حسن .. حسن ..
حسن :
والآن أسمع صوت زوجتي ..
الزوجة (تتقدم ويفسح لها الجميع مكانا) :
زوجي وحبيبي.
حسن :
سمعتم؟ (يسمع صوت الفارس وهو يدخل مسرعا ...)
الفارس :
حسن .. حسن ..
حسن (غاضبا) :
من هذا؟ ماذا يطلب مني؟
الفارس :
أنا لا أطلب شيئا.
حسن :
ولماذا جئت؟
الفارس :
أرسلني السلطان.
حسن :
السلطان؟ وماذا يطلب؟
الوقت قليل والشعب
يرسل فارسه للحرب
الفارس :
والأمر جليل والسلطان رعاه الله
يدعوك إليه بلا إبطاء.
حسن :
يا ألله .. يا ألله
يدعوني الشعب إلى العمل ولا وقت لدي
قل للسلطان إذا شاء يجيء إلي
الفارس :
هل ترفض أمر السلطان؟
حسن :
لا أرفضه .. لكني عنه مشغول
لا وقت لدي لقال أو ليقول
الفارس :
أهذا قولك؟
حسن :
قولي .. قولي .. آن أوان العمل فدعني
الطاهش أولى أن ألقاه
وأغرز فيه حد السيف
الفارس :
هذا ردك؟
حسن :
اذهب اذهب لا وقت لدي
قل للسلطان إذا شاء يجيء إلي
الزوجة :
حسن .. حسن سيف ..
حسن :
زوجتي ...
الزوجة :
زوجي وحبيبي (تسرع نحوه وتريد أن تحتضنه فيردها بعنف)
حسن :
احتشمي يا امرأة .. فلا وقت لدي.
الزوجة :
أمرك يا حسن مطاع.
حسن :
هيا .. هيا ..
الزوجة :
ماذا تطلب؟ طلبك فوق الرأس وفي العين
الفارس (لنفسه وهو ينصرف مغيظا) :
فوق الرأس وفي العين
فوق الرأس وفي العين
يخرج من فمها هذا، ولمن؟
آه يا قلبي .. جن العقل وجن
جن العقل وجن (ينصرف وهو يردد الكلمات الأخيرة)
الزوجة :
طلبك فوق الرأس وفي العين
فضلك يا حسن كبير وعلي الدين
حسن :
اختصري يا امرأة .. أريحيني مرة من ثرثرتك.
الزوجة :
شل لساني يا حسن وشلتني الحيرة
أصدر أمرك.
أصوات :
هيا يا امرأة أطيعي أمره.
حسن :
الليلة أذهب للقاء الطاهش
الزوجة :
تصحبك السلامة.
حسن :
قلت كفي عن ثرثرتك.
الزوجة :
السمع والطاعة يا بطل.
حسن :
نعم هكذا.
الزوجة :
تكلم .. قل.
حسن :
لا وقت للكلام .. أسرجي البغلة ..
الزوجة :
أمرك.
حسن :
واملئي الجراب بالشعير.
الزوجة :
طبعا .. طبعا.
حسن :
لا تنسي المسكرة.
2
الزوجة :
المسكرة؟
حسن :
أجل المسكرة .. ضعيها في العين الأخرى.
الزوجة :
وماذا تفعل بها؟
حسن :
هذا شأني يا امرأة.
الزوجة :
نعم نعم.
حسن :
هيا .. هيا ..
أصوات :
هيا .. هيا .. (حسن ينصرف في خيلاء وهو يجر سيفه الطويل وراءه .. بينما يحييه الجمهور ويردد الأطفال الأغنية السابقة: حسن سيف .. حسن سيف).
3 (في الخلاء .. حسن يجر بغلته وراءه ويستحثها على السير .. الجبال الشامخة من حوله، والصمت ينشر الرعب والرهبة، يقف بجوار شجرة ضخمة، تختزن روح الأرض والشمس والرياح والذكريات في جذورها وساقها وأغصانها، وتبدو من بعيد كساحرة شمطاء هائشة الشعر، حسن يحاور البغلة باستمرار ويربت على ظهرها ورقبتها ورأسها ويقدم لها العلف .. الوقت عند الغروب).
حيا الله! حيا الله! انتهى السفر وآن أن تستريحي .. آن أيضا أن أستريح .. كانت رحلة متعبة .. أليس كذلك؟ الصخور وعرة ناتئة، دروب تنحدر إلى الهاوية، أغوار وكهوف ومزالق تتربص فيها أشباح الموت وتلمع عين الخطر المجهول، لكننا وصلنا .. نعم وصلنا .. ألا تصدقين؟ يمكنك الآن أن تفرحي وتأكلي .. الماء أيضا موجود .. لن تجوعي ولن تعطشي وأنت مع حسن .. هيا .. هيا (يربت على ظهرها وعنقها ورأسها ويلثمها في جبهتها) آه ... تعبت يا حسن! الباحث عن المجد يتعب دائما .. لكنه سيستريح .. انتظر وسوف تستريح .. لا ليس في القبر .. بل على العرش .. تعبت من الطريق .. من الصعود والهبوط .. تحت وهج الشمس التي لا ترحم .. لكنك أفلت من الخطر .. ضحكت على الحراس وظنوا أنهم يضحكون عليك .. عندما اقتربت من السور ورأوك على بغلتك اقتربوا منك وضحكوا .. سألوك إلى أين فقلت إلى الطاهش .. أغرقوا في الضحك وقالوا: سئمت الحياة؟ قلت: بل حبا فيها. سأل كبير الحرس: ولهذا تمضي للموت برجلك؟ قلت: طريقي يذهب للمجد. صعد نظرته في وضحك وقال: يذهب ولا يعود .. رفعت السيف فقهقه هو والحراس كأني أطلقت دعابة: ما هذا؟ كشرت عن الأنياب وصحت: هذا سيف حسن سيف. أقبلوا يفحصون ويقرءون النقش المرسوم عليه: سيف من خشب؟ صحت: وأعطاني الله القوة؛ من خشب أو من طين، هو سيفي. قالوا: قتل الألف. قلت: وأسر الألف، وهرب الجبناء وكانوا أكثر من ألف، ربت الفارس على ظهري: حياك الله .. حياك الله .. قبلك ذهب الفرسان وعادوا .. أشلاء ودماء .. أو رجعوا مذعورين، قلت: بعون الله سأرجع ومعي رأسه .. تحسس رأسي وهو يضحك: أو معه رأسك. قلت بغضب وعناد: ومعي المجد. قال كبير الحراس: حذرناك وأنذرناك. ارجع لا تذهب للموت .. كررت بصوت مشروخ ورفعت السيف: بل أذهب للمجد .. وأرجع فوق جواد المجد. ضحكوا وقالوا: هيا .. هيا .. اذهب للمجد أو اللحد .. حذرناك وأنذرناك .. الحق أنني خفت بعد أن ابتعدت عن السور .. نظرت حولي فارتعشت ساقي وزحفت أسراب النمل إلى رأسي .. تلفت أبحث عن الأشلاء .. لا شيء .. أعاين الصخور لأكتشف آثار الدماء .. لا شيء .. أين إذن ذهبوا؟ في بطن الطاهش! ها ها ها! (يضحك) الطاهش .. يا لك من كذبة! كلي كلي، أتريدين الماء؟ معك الحق .. أنا أيضا أهلكني العطش المهلك (يفتح الجراب ويخرج زمزمية يرفعها إلى فمه، ثم يصب في كفه بعض الماء ويمدها للبغلة التي تشرب منه) يا ليتهم يرونني الآن .. سيقولون أبله مجنون .. أحقا أنني أبله ومجنون؟ زوجتي تقول هذا .. تقوله وتفعله وتؤكده كل يوم .. عمي يقوله بصمته وسكوته ونظراته إلي .. هل غاب عنكم أنني أعرف هذا؟ هل غاب عنك يا عمي أنني ألمح الحسرة على وجهك وفي عينيك؟ تندم على تزويجي من ابنتك .. تعتذر لها بأنني ابن أخيك الذي وصاك على فراش الموت .. وتلوم نفسك مع ذلك كل يوم .. هل غاب عنك يا زوجتي أنني أعرف .. نعم أعرف وأحس وأفهم .. آه .. يا ليتك تعرفين أن المجانين هم ورثة الأولياء والصالحين .. إنهم أطفال كبار ملهمون .. نظراتك في وجهي تنطق باحتقارك لي .. وليتك اكتفيت بالاحتقار .. إنها تنطق بالكره المسموم ... إن كان قد غاب عنك أنني لاحظت وفهمت وسكت فأنت بلهاء، نعم أنت البلهاء لا أنا .. نظراتك للفارس، رعشات يديك وساقيك إذا ظهر أمامك .. ولقاؤكما في السر وتحت ستار الكتمان .. وأحاديث الجيران .. لا لست الأبله .. ما أنا بجبان .. لو كنت اكتفيت بالرثاء ما حزنت .. لو وقفت عند الاحتقار لقلت لنفسي: غدا تقدرك يا حسن .. غدا تعرف معدنك وتعترف بأنك شهم وشجاع .. خانك ذكاؤك يا زوجتي الحبيبة الصغيرة .. يا بغلتي الحلوة السمينة .. لم تفهمي أنني أمثل .. أنني تعلمت من أبيك كيف أنسج الخيوط وأغزل .. وقد نسجت عنكبوت المهزلة وسقطت فيها كما تسقط الذبابة الغبية .. وعندما كنت أقتل الذباب وأدوسه كالأعداء كنت أقتلك وأدوسك .. أقتل الجبن والبلاهة والحمق الذي رميتني به .. أقتل الكراهية التي طوقتني بقيودها وأغلالها طول العمر .. هل عرفت الآن أنني أذكى منك ومنه ومنهم؟ غدا تعرفين .. غدا تعرفين .. (يواصل إطعام البغلة .. يسمع صوت عواء فينتبه ويصيخ السمع) عواء .. لعلها الذئاب .. لا شك في هذا .. أو ربما كانت الريح .. أو ربما ... ولكن لا يمكن أن يكون هذا صوته ... لا يمكن أن يعوي أو ينبح أو يصرخ أو يتأوه .. لماذا يا حسن؟ لأنه غير موجود .. غير موجود إلا في عقولهم .. أنا الذي نشرت الخبر وروجته .. أنا الذي صورته ووصفته ورسمته .. منذ أن كنت صبيا يسمع الخرافات والحواديت ويحكيها لأصحابه .. يرحمك الله يا أمي .. منك سمعت عن الطاهش وتعلمت .. خوفتني به لأنام وها أنا أخيف المدينة لتنام .. وعندما تغمض عينيها سأقف على جثتها وأصيح .. خرج العفريت من القمقم يا أولاد .. انطلق المارد كالعملاق وفك يديه من الأصفاد .. يرحمك الله يا أمي ... صدقت الكذبة ورويتها علي .. هل كنت كذلك بلهاء؟ ليتك ترينني اليوم وأنا أواجهه .. دخان أخترقه وغبار أنفذ فيه .. ليتك ترينني غدا وأنا أدخل المدينة دخول البطل الظافر .. البطل؟ بل بطل الأبطال وفارس كل الفرسان .. ألم تسمعي غناء الأطفال وهتاف العجائز ودقات الطبول والدفوف؟ كم قلت وقلت لكي يفد الضيف الممتنع إلى عيني وجسدي المشدود: الطاهش وحش يا ولدي .. وحش كالأسد الفتاك .. مسخ من ذئب وأتان .. عيناه تئزان الشرر .. وقرناه موت وهلاك .. فإذا صادفت الطاهش في الجبل أو البرية، فارفع سيفك يا ولدي واحذر غدره .. بإذن الله ستنتصر عليه وتأمن شره .. حقا سأنتصر عليه .. لقد انتصرت عليه بالفعل يا أمي قبل أن ألقاه .. فأنا الذي اخترعته وصنعته .. أنا الأبله المجنون الجبان .. ألم تحلمي الحلم وتحكيه لي .. آه من هذا الحلم الذي ما زلت أحلمه .. أيقظتني من النوم ورويته لي .. رأيت يا ولدي في المنام أنك قتلت الوحش بسيفك .. ودعاك السلطان إليه وخلع عليك الحلل وزوجك ابنته في الحال .. لا لن أتزوج ابنته .. تكفيني زوجتي الوفية الحنون .. ولن أكتفي بالحلل والمال .. سأجلس فوق العرش مكان السلطان .. أنا السلطان .. أنا السلطان (يسمع الصوت قريبا منه فيرتعد ويبتعد عن البغلة التي تفزع وترتجف وتنطح الشجرة) لا لا لا ... هل صدقت أنت أيضا؟ إنه الحلم .. ألم تحلمي أنت أيضا أنك تزوجت أسدا أو ذئبا؟ أو أنك ارتفعت إلى السماء على ظهر بغل ملائكي واستقبلتك هناك بغال السماء ؟ أتذكرين هذا الحلم أم نسيته؟ أما أنا فأحلم وأحلم، هذه هي قوتي .. أن أصنع من الأحلام حقائق .. ومن الهواجس أمجادا تنتشر على كل لسان .. هيا هيا .. إنه صوت الريح .. أو صوت ذئاب جائعة مسكينة .. بل هو بالتأكيد عواء الذئب الجائع .. لا تخافي .. سيعاف لحمك وشحمك .. اطمئني فلن يعجبه علفك .. هل شبعت يا بغلتي الطيبة؟ أتشتهين قليلا من المسكرة؟ مالت الشمس للغروب ومدت رأسها على مخدة الجبل .. أتريدين أنت أيضا أن تنامي؟ خذي خذي .. قليل من المسكرة يساعد على النوم (يتثاءب) أنا أيضا تعبت .. بعد اليوم المرهق يستحق الجسد أن يتمدد ويحلم .. ما هذا؟ (يسمع خربشة خلفه، يسحب سيفه ويرتعش، يزعق ليؤنس وحدته ويبدد مخاوفه) أيكون هو الوحش؟ لا .. لا .. لا .. إنه في عقلي أنا وحدي .. كيف أمكنه أن يخرج منه على غفلة ويكتسي عظما ولحما وأظافر وأنيابا؟ لا .. لا .. لا .. هي أوهام أوهام .. لكن ما هذا أيضا؟ حتى الأوهام تخيف .. تنبت فيها عين تلمع كالنار وبالموت تطوف .. لا .. لا .. لا .. لا بد أنها عين ذئب أو ابن آوى .. هم أيضا جوعى مساكين .. ألا يجوعون مثلك يا حسن؟ ألا يتمددون في النهاية على التراب؟ إلهي .. ولكن العين تلاحقني .. عين أخرى تتربص بي .. أيشتهي الذئب لحمي؟ هل جرب لحم الفرسان فأعجبه طعمه؟ فلأصعد فوق الشجرة وأنم .. ولأغمض عيني حتى تطلع شمس الصبح على الأحلام .. أيمكن أن يكون الأمر حقيقة؟ أيمكن أن يكون هو الطاهش؟ هل أصدق الأكذوبة؟ أنا الذي نسجتها وروجتها في المدن والقرى والسهول والجبال فكيف أصدقها؟ كيف أصدقها؟ العين تطاردني .. لا بل عينان .. أين أنت أيها القمر لتكشف عنها؟ لماذا احتجبت الليلة؟ تقترب العين وتدنو العينان .. هل أنتظر حتى تحرقني؟ هل أقف هكذا حتى ينغرز الناب بلحمي؟ فلأصعد فوق الشجرة وأنم، الذئاب لا تتسلق الأشجار العالية .. هذا شيء لا يغيب عن أبله مثلي .. أبله؟ نعم سأكون الأبله لو وقفت هكذا وسلمت جسدي فريسة للذئاب؟ وداعا يا بغلتي .. أمامك الشعير فاشبعي .. وأمامك المسكرة أيضا إن شئت أن تنامي .. واحلمي أنت أيضا ولا تندمي .. يفنى العالم ولا يبقى إلا الحلم .. لكنك يا مسكينة لن تستطيعي أن تجعلي منه حقيقة. (يتسلق الشجرة مسرعا .. يتمدد على فروعها ويستسلم للنوم). (يتغير المنظر بعد قليل ويسقط الضوء على المكان .. يهبط حسن سيف من فوق الشجرة وهو يتثاءب ويتمطى).
آه .. نفس الحلم دائما .. السلطان يتقدم مني وينزل من على جواده .. ينحني وتنحني معه الحاشية والحراس والعبيد ويقول: تفضل يا ملك الزمان .. قتلت الطاهش فاقبل عرش السلطان. (يتقدم نحو البغلة ويربت على ظهرها وهو لا يزال يتثاءب).
حياك الله .. حياك الله .. أكلت وشبعت ونمت .. وحلمت أيضا؟ بماذا حلمت يا ترى؟ لا تزورنا الأحلام إلا والبطن شبعان .. هيا يا بغلتي العزيزة .. يا بطتي السمينة البطيئة. (يتثاءب ويربت على ظهرها ورأسها .. يضع السرج على ظهرها).
يبدو أنك لا زلت نائمة .. هل أفسدك النوم الطويل؟ ما هذا؟ وتغير لونك أيضا؟ سبحان الله .. اسود جلدك قليلا (يهز رأسه) هل نبت برأسك قرنان؟ لا .. لا .. لا .. لا بد أنني لا زلت نائما (يفرك عينيه) هذا جسدي .. هذا سيفي المشهور .. وهذه بغلتي وسرجي وجرابي .. لا بد أنك أكثرت من المسكرة حتى سكرت .. لا بأس عليك .. لا بأس عليك .. السفر طويل وستصحو عيناك من النوم (يمتطي ظهر البغلة) وأنا أيضا سأفيق من النوم .. النوم؟ لا بل سأسير إلى المجد .. لن أتخلى عن حلمي .. لن يتخلى عني الحلم .. وسأصبغ سيفي المشهور بدم كلب أجرب أو عصفور أبكم .. (يهز رأسه) عصفور أبكم؟ هذا من أثر النوم .. هل شاهد أحد يوما عصفورا أبكم؟! (يضحك) أما الحلم فقد فات أوان الحلم وجاء أوان العزم .. فتحقق يا حلمي اليوم وواجه شعبك وتول زمام الحكم .. قتلت الوحش .. قطعت الرأس .. سفكت الدم ... ونزعت من الناب السم ... أنا روجت الأكذوبة ونسجت خيوط الحلم .. أتقنت الصنعة فافرح يا عم .. واشمت يا فارس في ولا تغتم .. فأنا الفارس لا أنتقم ولا أهتم .. أما أنت فهذا عرشك هذا تاجك .. هيا يا زوجتي الحلوة نصعد نحو النجم (يمتطي ظهر البغلة ويحثها على السير) سيري يا بغلتي الحلوة سيري نحو المجد .. فعلى ظهرك لو تدرين أمير وغد (يضحك) أمير؟ لا لا بل سلطان الزمن الأوحد .. سيري سيري .. نحو اليمن .. ونحو السعد .. سيري .. سيري .. نحو المجد.
4 (في بيت حسن سيف طرق على الباب، يزداد الطرق شدة، أمام الباب يقف الفارس وامرأتان متشحتان بالسواد).
الفارس :
افتحي .. افتحي.
الزوجة :
من؟ من الطارق؟
الفارس :
من تنتظرينه دائما .. افتحي.
الزوجة :
حسن؟ هل عدت؟
الفارس :
وهل يمكن أن يعود؟ إنه أنا.
الزوجة :
من أنت؟ أنا لا أعرف غير حسن .. لا أنتظر سواه، اذهب! اذهب.
الفارس :
افتحي الباب وسوف ترين.
الزوجة :
لا أريد أن أرى وجهك .. قلت اذهب ولا تعد!
الفارس :
ما زلت مخدوعة فيه؟ افتحي الباب وستعرفين الحقيقة.
الزوجة :
الحقيقة أن زوجي بطل.
الفارس :
افتحي وستعرفين أنه لن يعود أبدا.
الزوجة :
قطع لسانك!
الفارس :
وإذا قطع لساني، فهل سيقطع ألسنة جميع الناس؟
الزوجة :
جميع الناس يرددون اسمه وينتظرون عودته.
الفارس :
قلت لن يعود .. افتحي واسمعي هاتين المرأتين ..
الزوجة :
أي امرأتين؟
الفارس :
لو فتحت فسترينهما وتسمعينهما ..
الزوجة (تفتح الباب وترى المرأتين) :
أهي خدعة جديدة؟ قلت لك اذهب من طريقي.
الفارس (ضاحكا) :
ليس من قبل أن تسمعيني.
الزوجة :
قلت لا فائدة.
الفارس :
بدأت تخافين؟! أهكذا يستقبل الناس الضيوف.
الزوجة :
تفضلوا .. تفضلوا ..
المرأة الأولى :
حيا الله!
المرأة الثانية :
حيا الله!
الزوجة :
تفضلا .. يا مرحبا (للفارس): قلت اذهب من طريقي!
الفارس :
لن أذهب حتى تسمعي.
الزوجة :
دعوة جديدة من السلطان؟ حسن رفض الدعوة حتى يأتيه برأس الطاهش.
الفارس :
أو يأتي الطاهش برأسه؟
الزوجة :
سنرى أي رأس تسقط .. انتظر أياما فقط.
الفارس :
سأنتظر طول العمر .. تكلمي يا امرأة.
الزوجة :
عفوا .. من أنتما؟
المرأة الأولى :
أنا أرملة الفارس محمود.
المرأة الثانية :
وأنا أرملة الفارس حمدان.
الزوجة :
أرملتان في يوم واحد؟
المرأة الأولى :
قولي في لحظة.
الزوجة :
ماذا حدث؟
المرأة الثانية :
هل تذكرين صوت المنادي في السوق؟
الزوجة :
نعم سمعته من شهرين .. كنت في دكان أبي ...
المرأة الأولى :
واجتمع الفرسان بقصر السلطان ...
المرأة الثانية :
قالوا أمرك يا سلطان .. وسنأتيك برأس الطاهش (تبكيان).
الفارس :
عفوا .. أنا أروي ما حدث.
الزوجة :
هل كنت معهما؟
الفارس :
رافقتهما حتى السور، كان السلطان قد أوصاني أن أتابعهما من برج المراقبة وآتيه بأخبارهما يوما بيوم .. زودناهما بكل ما يحتاجان إليه، بالخناجر والسيوف والطعام والماء.
الزوجة :
وماذا حدث؟
الفارس :
لم يحدث شيء .. انتظرناهما كما انتظرنا غيرهما ..
المرأة الأولى :
ولا زلنا ننتظر ...
المرأة الثانية :
والأولاد ينتظرون.
الزوجة :
ألم ينجح أحد؟ ألم يأتكم خبر عنه؟ ألم تسمعا شيئا؟
الفارس :
ما يسمعه كل الحراس على أبواب السور، فحيح ينفثه الطاهش كالريح المسموم، صوت مشروخ ومخيف ينفذ في الصدر كسيخ محمي.
الزوجة :
ومن أدراكما أنهما لم يقتلاه؟
الفارس :
يقتلانه؟ تكفي شرارة من عينيه لتصعق من يتجاسر على القرب منه.
الزوجة (باكية) :
أين أنت الآن يا حسن؟
المرأة الأولى :
يرحمه الله.
المرأة الثانية :
يرحمه الله.
الزوجة (تنهض، تجفف دموعها، غاضبة) :
حسن سيف غير كل الفرسان، نعم نعم، ليس ككل الفرسان .. سيعود لا بد أن يعود.
المرأة الأولى :
سلمه الله.
المرأة الثانية :
نتمنى هذا يا أختي .. حياك الله.
المرأة الأولى :
حياك الله وسلمه الله. (تستأذنان في الانصراف، ترافقهما إلى الباب، تنظر إلى الفارس الذي يتجه أيضا إلى الباب محنقا شامتا .. يسمع طرق شديد، تفتح فيدخل حسن مسرعا).
الزوجة :
من؟
المرأتان :
حسن؟
الفارس :
عدت يا حسن؟
الزوجة :
ألم أقل لكم؟ ... (حسن يذرع المكان كأنه يصول في معركة ويجول .. تقترب زوجته منه بإعجاب، تحاول أن تلمس ذراعه بيدها فيطرحها في غضب).
الزوجة :
بطل الأبطال حسن سيف ...
المرأة الأولى :
قتل الألف ...
الفارس :
ألف ذبابة ...
المرأة الثانية :
وأسر الألف ...
الفارس :
ألف ذبابة.
حسن :
ما هذا أيها الذبابة؟ أتريد أن تلقى نفس المصير؟
الفارس :
مصير من؟ الذباب أم الطاهش؟
حسن :
أتشك أنني قتلته؟
الفارس :
قتلته يا حسن؟!
حسن :
وهل هذا سؤال؟!
الفارس :
أأنت جاد؟
حسن :
حسن سيف لا يقول إلا الجد.
الفارس :
وأين رأسه؟ أين ...
حسن :
رأس من؟
الفارس :
رأس الطاهش، ألم تأت بها معك؟
حسن (ضاحكا ومشيرا إليه) :
لا زلت صغيرا لا تتعلم.
الفارس :
لم تقتله إذن؟
حسن :
وغبي لا يفهم
الفارس :
لا أفهم .. قتلته بغير دم؟
حسن :
دم؟ ولماذا يلوث حسن سيفه بدمه؟
الفارس (يضرب كفا بكف) :
كيف قتلته إذن؟
حسن :
قتلته ولم أقتله؟
الفارس :
لغز هذا؟
حسن :
لغز لا يفهمه إلا الأبطال (يتمشى في المكان .. يجرد سيفه ويمثل قتل الطاهش) هل تعرف كيف يقتل الثعبان الحمامة؟
الفارس :
ولكن الطاهش ليس حمامة!
حسن :
بالطبع لا .. ولكن يكفي أن يسلط عينيه عليها فتشل وتسحق .. عندئذ يجهز عليها بغير قطرة دم.
الفارس (متهكما) :
أنت الثعبان إذن؟
حسن (غاضبا) :
أنا سيد فرسان العالم، بطل الأبطال، واجهت الطاهش وتحديته.
الفارس :
وسلطت عليه نظرة عينيك؟
حسن (يفتح عينيه ويمثل الدور) :
كانت عيناه تئز الشرر وتخطف كالبرق، والبرق مخيف لا تهزمه إلا الصاعقة، رفعت السيف المشهور وحدقت .. في لحظة ...
الفارس :
مات الطاهش!
حسن :
هل تسخر مني؟ لن يفلت قولك من غير عقاب.
المرأة الأولى :
أكمل .. أكمل ...
حسن :
صرخ كجرو أجرب، رفع رجليه الأماميتين كأنه يتوب ويتضرع، رفعت السيف المشهور وسلطت الصاعقة عليه .. وتلوى من شدة ألمه .. سقط إلى الهاوية ككلب مذعور .. (يتلفت حوله) أين امرأتي؟ أين ...
الفارس :
ذهبت تبحث عن رأس الطاهش.
حسن :
ألا تكف عن سخريتك؟ أين أنت يا امرأة؟
المرأة الثانية (ترجع من النافذة التي كانت تطل منها) :
ذهبت لتفك البغلة.
الفارس :
وتفتش في الجراب.
المرأة الأولى :
ها هي ذي ...
الزوجة (صائحة) :
الطاهش .. الطاهش.
المرأة الثانية :
أين؟
الزوجة :
مربوط أمام الباب.
المرأة الأولى :
رأيته بعينيك؟
الزوجة :
ويمكنك أن تريه أيضا .. إنه أمام الباب .. حسن أسر الطاهش.
الفارس :
أسره أم قتله؟ هل يؤسر الطاهش؟ (يذهب إلى النافذة ويطل منها ...).
الزوجة :
أسره .. أسره .. ذهبت أفك وثاق البغلة .. هل تدرون ماذا رأيت؟
المرأتان :
البغلة طبعا.
الزوجة :
لا لا لا .. إنه الطاهش نفسه .. اسألوا الفارس إن كنتم لا تصدقون .. انظروا إليه بأنفسكم (تسرع المرأتان إلى النافذة).
حسن (مقتربا منها) :
ما هذا يا امرأة! ماذا تقولين؟
الزوجة :
حياك الله يا حسن .. حياك الله.
حسن :
تعقلي يا امرأة .. ما هذا الذي تقولين؟
الزوجة :
إنه هو .. وحق الله هو.
حسن :
أف .. أفسدت كل شيء (لنفسه): لست أنا الأبله الوحيد .. أخلق كذبة فتخلق منها كذبة أخرى .. والكذبة تلد الكذبة وتقتلها .. تماما كما قتلت الطاهش يا حسن.
الزوجة (تزغرد) :
أسرت الطاهش ... أسرت الطاهش ...
حسن (يسرع إلى النافذة ويطل منها .. يأتي مذعورا إلى زوجته ) :
أحقا هو نفسه؟ أله قرنان وفم أسود ... و...
الزوجة :
ألا تعرف يا حسن؟ إنه هو!
حسن :
وجلد أسود كالفحم؟ وناب وأظافر؟
الزوجة :
هو بنفسه .. هو.
حسن (مذعورا) :
هو؟ ولو كان أكلني؟ لو أكلني يا امرأة؟
الزوجة :
أنت الذي أكلته يا حسن .. لم تلوث يدك ولا سيفك بدمه .. بل أسرته وركبت على ظهره.
حسن (لنفسه) :
أسرته وركبت على ظهره .. وكنت أظنه البغلة .. ولكنها كانت نائمة يا امرأة .. وكنت نائما.
الزوجة :
كانت .. يرحمها الله .. هل تعرف ماذا حدث؟
حسن :
أسرعي يا امرأة.
الزوجة :
لا بد أنك نمت يا حسن.
حسن :
نعم نعم .. تسلقت الشجرة ونمت .. وفي الصباح ...
الزوجة (مقاطعة) :
بل في الليل، لا بد أن هذا حدث بالليل .. هل آمنت الآن بإخلاص زوجتك؟
حسن :
ما دخل إخلاصك في هذا؟ ما دخل النساء كلها؟
الزوجة :
انتظر .. هل تذكر المسكرة التي وضعتها في جرابك؟
حسن :
أعطيت البغلة قليلا منها لتنام.
الزوجة :
وجاء الطاهش .. وجد البغلة نائمة فافترسها.
حسن :
افترسها؟ وأنا نائم؟
الزوجة :
نعم نعم، ثم تشمم المسكرة والتهمها.
حسن :
وأدارت رأسه فنام .. هل يعقل هذا يا امرأة؟
الزوجة :
انظر تره أمام الباب، مطأطئ الرأس ذليلا كخروف مسكين ينتظر السكين.
حسن (يلتقط الخيط) :
وركبت على ظهره أيضا؟
ألا زال مربوطا أمام الباب؟
الزوجة (تزغرد) :
طبعا طبعا .. ناديت على الجيران وشددنا وثاقه (تدخل المرأتان والفارس .. بينما تواصل الزوجة زغاريدها).
حسن :
أرأيتم؟
المرأة الأولى :
بارك فيك الله .. بارك فيك الله.
المرأة الثانية :
معجزة كبرى .. معجزة كبرى.
الفارس :
خرافة .. أعجب من كل خرافة!
حسن (ساخرا وبافتخار وتعاظم) :
صدقت الآن؟
الفارس :
خرافة.
حسن :
ليست خرافة حين تأتي من فارس خرافي.
الفارس :
عقلي مشلول .. لا بد من إبلاغ السلطان .. لا بد من إبلاغ السلطان بسرعة .. (لنفسه وهو يخرج): كيف أصدق كذبة؟ كيف أصدق كذبة؟
حسن (وهو يشيعه بضحكاته) :
أكذوبة أو كذبة .. المهم أنها وقعت.
الفارس (قبل أن يصفع الباب وراءه) :
وقعت؟ أنا الذي وقعت .. أنا الذي وقعت ..
حسن (بعيدا لنفسه) :
وقريبا يقع السلطان .. يقع الحمقى .. كل الحمقى .. أرأيتم ما يصنعه أحمق، أبله، وجبان؟
الزوجة :
حسن سيف (يبدأ الناس يتوافدون وهم يهللون ويكبرون، النساء تزغرد، الأولاد تصيح، الرجال يهنئون ويباركون).
أصوات :
حيا الله! حيا الله!
أصوات :
حسن سيف ... حسن سيف ...
أصوات :
قتل الألف
وأسر الألف
وهربوا منه ألف وألف (حسن يقف في الوسط متقمصا دور البطل ومنتفخا كالبهلوان، يجرد سيفه ويمثل دور الفارس بطل الأبطال الشجعان).
أصوات :
شاف الطاهش
قال له قف
رفع السيف
وقال يا رب
ضربه بعنف
حسن :
لا لم أضرب .. لم أضرب .. رفعت السيف وحدقت فيه ..
أصوات :
قال له تحب
تموت بالقلب
ولا تحب
تموت بالسيف
حسن (غاضبا) :
قلت لكم لم أقتله .. لم ألوث سيفي بدمه (يرفع سيفه ليروه): نظرة واحدة كانت كافية ...
أصوات :
شافه الطاهش
مات م الخوف
حسن سيف
حسن سيف (في هذه الأثناء يتبختر حسن في كبرياء وهو يرفع سيفه المضحك الطويل ويحيي الوافدين والمهنئين ).
أصوات :
الحمد لله .. الحمد لله ..
رجل :
أنقذنا منه ...
رجل آخر :
لقي جزاءه .. كم قتل وشرب دماء الناس ...
المرأة الأولى :
اسألونا عن ضحاياه ...
المرأة الثانية :
اسألوا اليتامى والأرامل.
رجل :
اليوم عيد ...
رجل آخر :
في الأرض وفي السماء ...
رجل :
لا بد من ذبح الضحايا ...
رجل آخر :
وتعليق رأسه على البوابة ...
رجل :
أو على السور ...
رجل :
عبرة لكم معتد أثيم ...
صوت امرأة :
وحسن؟ ألن يلقى جزاءه؟
رجل :
جزاؤه عند الله ...
رجل آخر :
وعند السلطان ...
امرأة :
السلطان ... السلطان ... (يدخل السلطان تتبعه حاشية من الحراس والفرسان، تظهر ابنته الجميلة التي تبحث عيناها عن البطل، يتقدم من حسن ويعانقه).
أصوات :
السلطان ... السلطان ...
حسن :
شرفت يا مولانا ...
السلطان :
أنت الذي شرفتنا يا حسن، كنت أقول لنفسي ...
أصوات :
اسمعوا حضرة السلطان ...
السلطان :
إن مدينتنا لن تعقم أبدا .. كلما أصابنا القحط والوباء
ولد الفارس الهمام ...
صوت :
وستخضر الأرض ...
صوت :
وتنضج الثمار ...
صوت :
وتمطر السماء ...
صوت :
وتلد النساء أولادا لا يموتون في المهد ...
صوت :
وتكسو السنابل حقول القمح ...
صوت :
في كل سنبلة مائة حبة ...
صوت :
ويفيض الخير ...
السلطان :
اليوم يا أولاد .. أقيموا الزينات .. أولموا الولائم .. لا يبقى بطن جائع وفم ظمآن ...
صوت :
والطاهش؟
السلطان :
ذكرتني يا ولدي .. لا بد من ذبحه أمام الناس ...
صوت :
يذبحه حسن سيف ...
صوت :
بسيف حسن سيف ...
السلطان :
لا .. لا .. يكفي أنه أسره وامتطى ظهره ...
حسن :
سيفي لا يتلوث أبدا بدمه.
السلطان :
بالطبع يا ولدي .. هل أفشى سرا للناس؟
حسن :
سر؟ أي سر يا سلطان؟
السلطان :
هل تعلم أنني رأيتك الليلة في المنام؟
حسن :
أنا يا مولاي؟
السلطان :
نعم .. كنت ساهرا كعادتي أفكر مهموما في أمر البلاد والعباد .. هذا الوحش الملعون الغادر يمنع عني النوم، يؤرقني منذ شهور .. وإذا بالتعب يحل على شيخ فان مثلي لا يتحمل .. ورأيتك.
حسن :
رأيتني؟
السلطان :
نعم يا ولدي .. رأيتك تركب ظهر بغلة عجيبة .. كائن أضخم من كل البغال، فمها أسود وجلدها أسود.
الزوجة :
تماما يا سلطان .. حسن ربطه بالباب.
السلطان :
رأيته يا ابنتي وعرفت تفسير المنام .. كان على رأسها قرنان .. ومن عينيها تخرج نار كالحمم المتدفقة من البركان.
الزوجة :
هل رأيت حسن على ظهرها؟
حسن :
اسكتي يا امرأة .. أكمل يا مولانا السلطان.
السلطان :
رأيت إنسانا على ظهرها .. لم يكن كالبشر .. فوق رأسه تاج زين بالورد وأغصان الغار .. في جنبيه جناحان من الفضة، في يده ...
حسن :
في يده ... ماذا في يده؟ سيف؟
السلطان :
لا لا ...
صوت :
ماذا في يده يا مولانا؟
السلطان (يبكي) :
الصولجان.
أصوات :
الصولجان؟
السلطان :
والأعجب من هذا .. حدقت وحدقت .. فإذا هو صولجاني .. وفجأة تحولت البغلة إلى عرش.
أصوات :
عرش وصولجان ...
صوت :
أنت وعدت بجائزة يا مولانا ...
السلطان :
تماما يا ولدي .. لما ضاقت نفسي واسودت في عيني الدنيا .. نمت وشاهدت الحلم.
صوت :
اتركوا مولانا يحلم ...
السلطان :
حلمي الأخير يا أبنائي .. حلمي الأخير .. جريت نحو الجالس فوق العرش وقلت: هذا عرشي يا مولانا .. يا منقذنا من هول الوحش.
أصوات :
أبشر يا حسن ...
السلطان :
نعم يا ولدي .. كنت وعدت وهذا تحقيق الوعد .. ورأيت فحقت رؤياي .. أنت المنقذ فلك العرش ...
صوت :
فلك العرش ...
السلطان :
ولك الحكم والصولجان ...
صوت :
لك الحكم والصولجان (يتقدم نحو حسن ويخلع رداءه الملكي وصولجانه ويسلمهما له).
حسن :
مولانا .. هذا أكثر مما أستحق.
السلطان :
بل أقل مما تستحق .. إنك لم تكتف بأسر الطاهش .. بل ركبت على ظهره ودخلت المدينة.
الفارس (لنفسه) :
وكان نائما .. والبغلة نائمة .. والدنيا نائمة.
السلطان :
قصرنا في حقك يا ولدي .. كان علينا أن نستقبل موكبك ونقبل التراب الذي تسير عليه.
حسن :
العفو يا مولانا .. هذا كثير.
السلطان :
بل أقل مما تستحق .. أما بقية الحلم ... فتعالي يا ابنتي ...
بنت السلطان :
أبي ... مولاي ...
السلطان :
كنت وعدت بأن أهديك لمن ينقذنا منه.
بنت السلطان :
أعرف يا أبي.
السلطان :
هذا هو بطل الأبطال.
بنت السلطان :
أمرك يا أبي (تنظر لحسن وتقترب منه).
حسن :
عفوا يا مولانا.
السلطان :
ماذا يا ولدي؟
حسن :
لا أستطيع.
السلطان :
ترفض هديتي؟ ابنتي الوحيدة؟
حسن :
ستكون أختي الوحيدة .. أما زوجتي ...
السلطان :
زوجتك؟ ألك زوجة؟
حسن :
ونعم الزوجة (يشد زوجته بعنف إلى جانبه) زوجتي الوفية التي وقفت دائما بجانبي.
السلطان :
ونعم الوفاء يا حسن.
بنت السلطان :
أترفضني يا حسن؟
حسن :
بل أضعك في عيني.
السلطان :
هي أختك فاقبلها في قصرك.
حسن :
إن قبلت .. أجلسها بجواري فوق العرش.
السلطان :
وإذا مت فلا تقس عليها ..
حسن :
أقسو عليها؟ بل أرجو أن تقبلني بين رعاياها.
أصوات :
ما أكرم ... ما أوفى ... ما أعظم ...
حسن (يتقدم من جمهور الناس وهو يرفل في رداء الملك ويهز الصولجان في يده .. زوجته تصاحب خطواته فخورة به) :
لله الشكر ولله الحمد .. السلطان رأى حلما .. وأنا حققت الحلم .. من أجلكم وعد السلطان بأن يسلم عرشه لمن ينقذ البلاد والعباد من الوحش الغادر .. وأنا أنقذت البلاد والعباد بفضل الله.
صوت :
وسيفك .. لا تنس السيف.
أصوات :
قتل الألف .. وأسر الألف (حسن يعرض سيفه على الجميع).
حسن :
وسأنقذكم دوما ...
الفارس :
حقا؟
حسن (كأنه لم يسمع ) :
من كل الأخطار ...
صوت :
من قحط أوشك أن يهلكنا ...
حسن :
بعون الله ...
صوت :
من عطش الأرض إلى الخضرة والماء ...
حسن :
لن يبخل ربي بالمطر علينا ...
صوت :
ومن الأعداء إذا هدموا السور ...
حسن :
لن يهدمه أحد وأنا معكم ... أقتل ألفا ...
أصوات :
تأسر ألفا ويفر الجبناء الألف (يعرض سيفه على الجميع).
الفارس :
من الأخطار جميعا؟
حسن :
لن يصبح للخطر مكان ...
الفارس :
والخطر الأكبر؟
حسن (غاضبا) :
الخطر الأكبر .. أي خطر أكبر!
صوت الفارس :
أنت.
حسن (يثور ثورة كبرى .. يسرع إليه شاهرا سيفه) :
أم أنت!
السلطان :
لا لا لا .. معركة في هذا الوقت .. سفك دماء .. مهلا يا أبناء .. مهلا يا أبناء.
أصوات :
لا يكفي هذا .. عاقبه يا مولانا ...
السلطان :
بل هذا وقت العفو عن الأخطاء .. هذا وقت الأفراح .. يوم العيد، فهيا يا أبنائي .. غنوا وأقيموا الزينات .. (لحسن): واسبقني أنت وزوجتك إلى القصر لتكتمل الفرحة .. هيا هيا يا أولاد ... هيا هيا يا أبناء ...
الخاتمة (نفس المنظر في مشهد البداية، إلى اليمين مجموعة الرجال والنساء والعجائز يتقدمهم رئيس الجوقة، وإلى اليسار مجموعة القائمين بأدوار اللعبة: حسن سيف وزوجته، والسلطان وابنته، والفارس الذي يقف جانبا، والعم الذي يظهر الآن شيخا يمنيا يتوكأ على عصاه .. الراوية يدخل في حوار مع الجميع ويسأل):
الراوية :
انتهت اللعبة.
رئيس الجوقة :
كي تبدأ أخرى
وتعم النكبة.
الراوية :
أية نكبة؟
رفعت رايات النصر ودوت أفراح
وانجاب الليل وأشرق في الأفق صباح
رئيس الجوقة :
كانت كذبة
وانفض الفرح وقام المأتم والأتراح
واسود الفجر وسالت من عينيه جراح
الراوية :
كيف أكذب عيني
وكيف أصدق قولك
والمنقذ قد قتل الوحش
وموكبه للقصر تحرك
وأمات الخوف
بهذا السيف
وأهلك من نسل الطاهش ما أهلك
فلماذا تشكو
هل ظلم بريئا
هل قتلك؟
رئيس الجوقة :
الكذبة تلد الكذبة
والكاذب لا يقتل نفسا
واحدة بل يقتل شعبه
اسأل إن شئت دليلا
حاور أبطال اللعبة
الراوية :
وبمن أبدأ؟
قل لي يا شيخ
هل أسأل بطل الأبطال؟
رئيس الجوقة :
ترو قليلا ... حول عينك عن هذا المسخ
واسأل من وقعوا في الفخ
حسن (فجأة) :
من يتجرأ ويشوه اسمي
من يدعوني المسخ؟
هل تتمرد ديدان الأرض
على الرخ؟
إني أحتج
وأحتج وأصرخ
رئيس الجوقة (لحسن) :
لا زلت تصيح وتصرخ
حتى اهتزت أركان العالم
من هول صراخك وصياحك
دعنا نستمع الآن
لمن صوبت إليهم
أسنان رماحك
ولتعر قلوب المجروحين
لنشهد عمق جراحك ... (للراوية): تسألني وبمن تبدأ؟
ما أكثرهم!
هل يسعفك الوقت؟
ها هم يقفون أمامك
فاختر منهم ما شئت
اسأل زوجته واسأل عمه
عرج إن شئت على السلطان
وعاين ألمه
وابنته؟ يا ليتك تسمع
من فمها كلمة
والفارس؟
لم يلق السيف
ولا أنكر سهمه
صار الفارس
راعي غنم
يحرس غنمه
الراوية :
أبطال اللعبة ..
صوت المجموعة :
من يوقظنا من رقدتنا
من جاء ليفتح أعيننا
ويؤرق للنائم نومه؟
الراوية :
نمتم في بطن الكتب
دهورا مرت ودهور
جئناكم من زمن آخر
كي نلقاكم، نظهر قصتكم للنور.
المجموعة :
جئتم من زمن آخر ...
من أنتم؟
هل قلبتم صفحات الكتب؟
قرأتم وفهمتم؟
الراوية :
لا لم نفهم.
ولهذا جئنا نتعلم
طرنا بجناح الوهم
عبرنا جسر الحلم
وها نحن ننادي من أرض البشر ونتألم
هبوا من رقدتكم
نادوا الجرح
لينطق عنكم
أنت .. تكلم!
السلطان :
أنا يا ولدي
أخرس أبكم
الراوية :
منذ خرجت من القصر
سكت ولم تتكلم
أولا زلت هنالك تحلم؟
السلطان :
خرجت؟
أنا أخرجت ومات الحلم ...
الراوية :
أنت نزلت عن العرش
تركت مكانك للمنفى
فلماذا تأسف أو تندم؟
السلطان :
دعوت المنقذ كي يتربع
فوق العرش
فإذا المنقذ يا ولدي
وحش
الراوية :
الآن المنقذ طاردك
وطردك من جنتك
لزمت الصمت؟
واخترت الموت على العيش؟
السلطان :
يا ليت المنقذ أرضاه صمتي
أو أرضاه موتي
الراوية :
هل مد يديه إلى ابنتك
فسبل عيون الفجر
وأطفأ نور البدر؟
حدث عن صمتك
أو عن صبرك
قل، ما الأمر؟
السلطان :
ليت الأمر
توقف عند الصمت
وعند الصبر المر
الراوية :
قل يا شيخ وأوضح
هذا السر
ذقت المر
شحذت على الأبواب
فما هو أقسى
من ذل الفقر
وطعم المر؟
السلطان :
المر يهون
يهون على الموت
لكن ما ذنب الشعب
يجرب كل صباح تحت عيون الشمس
وكل مساء تحت عيون الأنجم
طعم الخوف
وطعم الرعب؟
الراوية :
المنقذ يفعل هذا؟
من خلصكم من رعب الوحش؟
ومن سلمت له العرش؟
السلطان :
اسألهم أنت بنفسك
الابنة :
اسكت يا أبتي ولا تفصح
لا تنبش جرحي لا تجرح
الراوية :
جرحك؟
الابنة :
في القلب وفي العين
فاتركني أرقد في سجني
السلطان :
عذرا يا ولدي .. لا تسرف
فالجرح عميق لا ينزف
والعطف أليم .. لا تعطف
حسن (صائحا) :
شيخ مهدوم ومخرف
لا يذكر فضلا لا ينصف
وضعيف ...
رئيس الجوقة :
والكاذب أضعف
حسن :
مره أن يسكت .. يتوقف
الراوية :
عندي الميزان فلا تجحف
وسيأتي دورك فتروى
واقصد في قولك
رئيس الجوقة :
وتعفف!
حسن :
قد عشت قويا مرهوبا
وكرهت الضعف ومن يضعف
رئيس الجوقة :
قد كان الأولى أن تحيا
محبوبا في الناس وتنصف
حسن :
الرجل الأقوى لا يضعف
ويموت ذليل مستضعف
والقوة قوس مشدود
لا يعرف لينا .. لا يرأف
رئيس الجوقة :
الرجل الأقوى لا يحتاج إلى القوة
من طلب المجد بحد السيف
انزلق إلى قاع الهوة
الراوية :
معذرة ...
حسن :
إني متهم
فاتركني أدفع عن نفسي
قد زحف الحقد على يومي
قد أوشك أن يغرق أمسي
الراوية :
سيجيء الوقت وتتكلم
حسن :
أتكلم؟ هبني عاصفة
تجتاح الأرض ولا ترحم
أو هبني نارا تتلظى
وتئز جحيما وتدمدم
أو سيلا يجرف ما يلقى
ويفيض ويسحق ويحطم
إن كنت ترى ذلك عدلا
وشريعة كون لا يظلم
فلماذا أتهم وأظلم
ولماذا إن سقط ضعيف
شيخ مهدوم ومحطم
أوخذ بذنوبي كالمجرم؟
رئيس الجوقة :
اكذب ما شئت فقصتنا
سترد عليك ولن تعيا
وسينطق من سكت دهورا
وسيبعث مقتولك حيا
بالكذب سموت إلى أعلى
والكذب سيرديك صريعا
في الدرك الأسفل والأدنى
الراوية (لرئيس الجوقة) :
كف الآن .. فقد وجهت إليه التهمة
والواجب يقضي أن نستمع إلى المظلوم
لنعرف منه من ظلمه
من يتقدم منكم؟
من يبرئه من تهمته
أو من يثبت تلك التهمة.
الزوجة :
زوجته.
الراوية :
هل تعدين بقول الحق؟
الزوجة :
وأرضى حكمه.
يكفي أن تنظر وجهي كي تشهد ظلمه (تنزل الدرج في بطء وتقدم نفسها له.)
الراوية :
ألمح مصباح الوجه تعتم
هل نضب الزيت
وغاب النور؟
والتف الصدأ على مشكاتك
غام بريق البلور؟
الزوجة :
قاس حكم القدر علي.
الراوية :
ما ذنب القدر أو المقدور؟
أولم تمض إلى القصر
الزوجة :
وصار القصر هو القبر
ذبلت فيه زهرة حبي
واحترق العمر
وفراشة أحلامي راحت
تذوي في السجن وتحتضر
تأمل وجهي ...
الراوية :
وجه ملاك سقط إلى الهاوية بنفسه
أغراه شيطان المجد
نفاه من جنة أنسه
الزوجة :
لا نلت المجد الموعود
ولا سلمت روحي من رجسه
ضيعت اليوم وها هو ذا
يبكي ويحن إلى أمسه
صدقت البطل وكذبته
ووضعت الغار على رأسه
وصحبت النسر لقمته
فهوى كالجيفة من دنسه
وطواني معه في رمسه
وأنا كالشمعة أتلوى
في الثلج وأذوي في الريح
وتصيح الشمعة وتنادي
من يدرك جسدي أو روحي
جسدي كأس لم تمسسه يدان
خمر لم تمتد إليها الشفتان
باقة ورد سرقت من بستان
لتحنط في الأكفان
تمثال جمال زال
وحط عليه الغربان
أجري في القصر كطير
مذعور يهرب من سجنه
كي يقع بكف السجان
رئيس الجوقة :
وعدك بالمجد فكذب عليك وما نلت المجدا
وبقيت كشجرة صبار وحرمت الولدا
الزوجة :
لا ... لست كشجرة صبار
لم تلمس يده أزهاري
لم تسق بماء الأمطار
ما أقسى القدر على نفسي ...
رئيس الجوقة :
بل أنت قسوت على نفسك
بعت له يومك، ضيعه
وجنيت الحسرة من أمسك
وتركت العش وحارسه
وسعيت إلى حارس رمسك
الزوجة :
هل تقصد؟
رئيس الجوقة :
فيم الخجل؟ وماذا يجدي الكتمان؟
هذا الفارس كان يحبك
الزوجة :
وأنا أيضا كنت أحبه
رئيس الجوقة :
بل ما زلت وقلبك يشهد
الزوجة :
يشهد قلبه، قل يا فارس؛ هل أحببتك؟
الفارس (غاضبا) :
خنت الحب ...
رئيس الجوقة :
فخانك حبه ..
وتعلقت بذيل القرد لكي يأخذك لأعلى الشجرة
أكل الثمرة حتى شبع وداس القشرة
ثم رماها وتهاويت لقاع الحفرة
الزوجة :
لا تظلمني .. فأنا زوجة
رئيس الجوقة :
وهو أرادك أيضا زوجة
لكنك سايرت الموجة
الفارس :
حتى غرقت
الزوجة :
لم أغرق وحدي
فكلانا غطته اللجة
الفارس :
أنا لم أسلم للطوفان ولا للعاصفة سفيني
لم أترك للريح الدفة كي تجرفني للطين
لم أخدع بالدجال ولم يعم الكذاب عيوني
الراوية :
هل غادرت سفينتك ويممت الشط الآخر؟
وتركت البحر ورحت على البر تغامر؟
أسمع أنك راعي غنم.
الفارس :
لكن لم يسقط سيفي من كفي بعد
فأنا أنتظر الغد لأحقق فيه الوعد
الراوية :
أي وعد؟ ولمن؟
الفارس :
للشعب الراسف في القيد
فغدا تنقض الصاعقة وينتقم الرعد
الراوية :
عن صاعقة تحكي عن رعد قادم
أهو الحب المهزوم بقلبك كالعبد النادم
قد هب ليثأر من سيده الجلاد الظالم
الزوجة :
إن كنت أنا الجلاد الظالم فاظلمني
صدري ملك يديك
فهات سهامك واطعني
الفارس :
أحيا في منفاي
كالنسر الحر وأحلق فوق ذراي
حبي مات وقلبي الآن لأهلي ولشعبي
رئيس الجوقة :
بوركت وبورك يا فارس قلبك
حسن (صائحا) :
أتبارك هذا الملعون وهذا الجاسوس؟
هل تسكت حتى ينخر عظم مدينتنا السوس؟
دعه لي، أنا أدرى الناس بهذا النوع من الناس
يا حراس، تعالوا يا حراس!
حان الوقت لنفرغ من خمرته العفنة هذا الكاس
حان الوقت
لتخمد هذي الأنفاس
ويفصل جسد عن راس! (يجرد سيفه المشهور من غمده ويرفعه في الهواء، يهم بمهاجمة الفارس فيعترضه الراوية ورئيس الجوقة).
رئيس الجوقة :
قف؟ لا تتحرك!
الراوية :
لم تأت هنا لتحاكم
أنت الآن تحاكم
حسن :
صدق القائل
خيرا تعمل لن تلقى إلا الشرا!
والشر إذا قدمه المرء سيبقى حيا من بعده
أما إن صنع الخير فيرقد معه في لحده!
إن كنت صنعت الشر كما قلت وحكمت القهر
فاسألهم أنت، ألا يذكر أحد منهم ما قدمت من الخير؟
من يشهد أني أنقذت الناس من الوحش
وحميت حماكم فأمنتم من هذا البطش؟
رئيس الجوقة مع المجموعة :
يا منقذنا
من ينقذنا منك؟
من يحمينا من حامينا؟
إن كنت حميت المدن من الوحش
فقد أصبحت الوحش
وأبدلت البطش ببطش.
حسن :
من يشهد منكم في صفي، هل عز شهودي؟
أجزاء المعروف جحودي؟
العم (يظهر بين الصفوف محنيا على عصاه) :
أنا أشهد
حسن :
هذا صوت صديق لا صوت عدو وغد ..
هل تشهد لي!
العم :
بل أشهد ضدك!
حسن :
صوتك هذا يا عمي
العم :
وفر جهدك؟
فذنوبك تبرئ عمك منك وتبرئ جدك
وقريبك من يلعن مهدك وسيلعن لحدك.
حسن :
ماذا تنقم مني؟
العم :
جاوزت الحد فلم تنصف
وبغيت فلم تلزم حدك
حسن :
أسست المجد، ألا يكفي؟
العم :
وبنيت على الكذبة مجدك
حسن :
خدمتني الصدفة ...
العم :
بل جمحت
بك خيل الصدفة والحظ
ولعبت بلفظ مسموم
أيقام المجد على اللفظ؟
نشرت الكذبة حتى صارت أسطورة
قتلت الألف أسرت الألف
وصارت أغنية مشهورة
والتصق قناع الوهم بوجهك
والخدعة بقيت مستورة
قتلاك الألف ذباب
أسراك الألف ذباب
والجبناء ومن هربوا منك ذباب ...
حشرات مدحورة.
حسن :
هل تنكر أني واجهت الطاهش وغلبته؟
العم :
الطاهش من صنع خيالك
حسن :
من صنع خيالي؟ سامحك الله
لا زلت كعهدك تتجنى
وتصور حمقي وتراه
إن كنت صنعت الطاهش فمن انقض عليه؟
من ألجمه، من وضع القيد برجليه؟
من دخل دخول البطل مدينتكم فلثمتم كفيه وقدميه؟
بل أنا يا عمي روضت الطاهش وأسرته
وأمام الناس هجمت عليه وذبحته
العم :
كي تصبح أنت الطاهش
لا أحد سواك
وتردد أنك تحمينا من وحش باطش
كي نصبح نحن ضحاياك.
يا خجلي منك، وعاري من هذا الكذب
يسألني الناس فأنكر صلة الدم والنسب
أتوارى عنهم في الظل وأغلق دكاني
وأحول وجهي عنهم وأكف يدي
فعيون الحرس علي
وسيف الحرس يهدد بالقطع لساني
يا خجلي منك وعاري
يا خجلي منك وعاري (ينصرف وهو يدب بعصاه ويدمدم بالكلمات الأخيرة)
رئيس الجوقة والمجموعة :
يا من حولت مدينتنا قلعة خوف
وأقمت السور حواليها ورفعت السيف
صار الناس ظلالا تهرب للظل
وبيوت البشر جحورا كجحور النمل
صار اللص هو الحارس
والنذل هو الفارس
وكلاب الصيد أسودا
بالنصر الكاذب تتشدق
صار حواة السيرك
دعاة الحكمة والمنطق
فمتى ينجاب الصدأ الكاذب
عن وجه الحق؟
ومتى يجتاح الناس
الغضب الأقدس والمطلق!
أصوات من المجموعة :
ومتى تنزع عنا أقنعة الفقر
وأقنعة القهر
كي يبزغ وجه الإنسان الحر
ويسطع جوهره اللامع كالدر؟
أصوات من المجموعة :
الصبر .. الصبر ..
ماذا نملك إلا الصبر!
حين تسوخ القدم
وتوشك تسقط في القبر؟
أصوات :
انظر تر وجه الإنسان المشرق
رغم غبار السكة والليل المطبق
أصوات :
النبت الصالح لم يعوج ولا مال
برغم الريح الهوجاء
ورغم جراد الحقل المحتال
ورغم السنوات الجرداء
صوت :
جاء الدجال
صوت :
الدجالون العشرة
صوت :
والمائة الألف المليون
صوت :
فحط علينا القحط
وحل علينا الطاعون
حسن :
هذا دجال ينتفض علي
من يتستر خلفه؟
دجال آخر
يا حراس! إلي إلي!
الرواية :
ماذا تطلب منهم؟
حسن :
ما يطلبه الحاكم كي ينفذ حكمه:
السيف الباتر
والسوط القادر
أن يتصدى للغادر
ويعاقب جرمه
فالشعب الثائر
ينتظر الحاكم
أن ينفذ حكمه
رئيس الجوقة والمجموعة :
إنا لا نفهم في الحكم ولا الحكام
لكنا نعرف أن الخير شحيح.
والفقر قبيح
وبطون الجوعى جرح مفتوح
والقهر دليل العاجز
حسن :
هل ترميني بالعجز؟
خسئت
فما زلت أعالج بالقهر القهر
كي أصلح شرا
وأقلم ظفرا
إني أفتح عيني
فألمح سرا
المجموعة :
سرا؟ أية سر؟
تفتح عينيك ولا تبصر
ما يدهمنا من أرزاء
تشرع أذنيك ولا تسمع
صوت أنين الضعفاء
حسن :
لأني الأقوى
لا أكترث لضعف الضعفاء
يا حراس! يا حراسي الأمناء
الراوية :
عبثا تصرخ
مات الحارس والحراس
دارت عربات الزمن ودقت
أجراس غير الأجراس
حسن :
إنك تكذب
جرب كأسا غير الكاس
لا زال البطل هو البطل
ولم يزل الناس هم الناس
الراوية :
لكن الناس تفتش في كل زمان
عن بطل آخر
يصبح أبطال الزمن الغابر
مسخا من نسل مسوخ
لا تصلح للزمن الحاضر
تسقط في مستنقع نسيان فاتر
أو في مزبلة التاريخ العابر
حسن :
لا تتمادى في كذبك
إني أطلب حراسي
من يتجرأ أن يرفع تاجي عن رأسي؟
لا زلت البطل المنقذ
لن ينساني الناس
ولا أنا ناسي
الراوية :
ذهب الحارس والحراس
طواهم من أحياك
زمانا وأماتك
لا تتلفت حولك
لن تجد جنودك وحماتك
واجه يا حسن قضاتك
عبثا تصرخ
لن يسمع أحد صوتك
لن يتحمل مأساتك أو ملهاتك
لم يبق أمامك
إلا أن تتأمل مرآتك
فاطلب منا مرآتك ...
حسن :
مرآتي؟
الراوية :
كي تنظر فيها ذاتك (يسرع بعض الممثلين بإعطائه مرآة، يرفضها فيضعونها أمام وجهه).
حسن :
لن أنظر فيها.
الراوية :
إن تخدع كل الناس ..
فلن تخدع أبدا مرآتك
وستشهد ...
حسن :
أني خلصت مدينتكم
أنقذت حياة الناس
كما أنقذت حياتك.
رئيس الجوقة :
لا زلت تردد قولك
وأنا سأردد قولي
يا منقذنا
من ينقذنا منك؟
من يحمينا من حامينا
انظر في مرآتك ..
وانظر في مرآتك ..
حسن :
بل ينظر كل شهودي ...
أصحابي أهلي وجدودي ...
قيصر والإسكندر
تيمور وجنكيز خان
والحاكم في الناس
بأمر الله
الراوية :
وأمر العسف
أو الطغيان
حسن :
كان بيدهم ميزان العدل
الراوية :
واختل بيدك الميزان
إن الغطرسة لتلد الطغيان
وإذا جاوزت الحد
وأخطأت القصد
وصار العسف هو القانون
ومالت كف الميزان
سقطت بهاوية القهر أو الذل
ولم تخرج منها
إلا والوجه تلطخ بالدم والوحل.
حسن :
فليشهد عني الزمن وينصفني التاريخ
الراوية :
في مقبرة التاريخ مسوخ ومسوخ
حسن :
فلماذا تنبش قبري وتعذب عظمي
ولماذا جئت لتقلق نومي
إن كان الكل تولوا وتخلوا عني
فستأتي أجيال أخرى تنصفني
الراوية :
ظلمك أو إنصافك ليسا من شأني
حسن :
الزمن سيظهر من منا العادل والظالم
وسيأتي يوم يكشف فيه قناع الآثم
لستم بقضاتي.
رئيس الجوقة :
حقا، لسنا بقضاتك.
نحن نخبر عما يخزنه وجدان الشعب
من أخبارك وحكاياتك
كي لا تذهب ذكراك
من العقل أو القلب
كي نعتبر بموتك وحياتك
حقا، لسنا بقضاتك
نحن شهودك نعرض مأساتك أو ملهاتك
نروي عنك ونكشف ما أضمرت الكتب
كي يتعلم من شاء ويفتضح الكذب
مثلنا للجمهور اللعبة
ورأيتم أن الكذبة تلد الكذبة
رئيس الجوقة والمجموعة :
فتعم النكبة
وتحل النكبة
حسن :
الكل تخلى عني
هل تقبلني الأرض
رئيس الجوقة :
تخلت عنك الأرض
حسن :
هل أحمل ألمي وحدي؟
أولن ينصفني أحد بعدي؟
رئيس الجوقة :
ألمك لن يحمله غيرك
لن تقبله الأرض ولا القبر
ولن يغسله المطر
ولا الشمس
ولا النور الحر
حسن :
أيتها الشمس ...
أأراك اليوم لآخر مرة؟
هل أقضي في الليل الدامي
أيامي المرة؟
يا حراسي ...
الراوية :
مات الحراس ولم يبق سوى الخوف
حسن :
يا زوجتي البرة
يا عمي
يا سلطان الزمن
ويا ابنته اللامعة
كأنك درة
من يغفر منكم ذنبي
من يصفح عني؟
الراوية :
الكل تخلى عنك
تخلت عنك الأرض
وعافتك الخضرة
ذهبت عنك السلطة
ونبتك القدرة
فاذهب عنا
حسن :
أذهب وحدي؟
الراوية :
سنذهب نحن كذلك
وتتم اللعبة
رئيس الجوقة (وهو ينصرف) :
قبل ستار الخاتمة
تذكر أن اللعبة
يمكن أن تتكرر
أن الكذبة
تلد الكذبة
المجموعة (وهي تنصرف) :
فتعم النكبة
وتحل النكبة
رئيس الجوقة والراوية :
فاحذر يا جمهور الليلة
أن تتكرر تلك اللعبة
واذكر أن البطل حسن سيف
حسن (من بعيد) :
من ينطق باسمي؟
رئيس الجوقة :
قد نشر الزيف
لكن حكايتنا تمت
وكشفنا اللعبة
الراوية :
كي لا تلد الكذبة كذبة
رئيس الجوقة والمجموعة :
فتتم النكبة
وتحل النكبة
الراوية :
فاحرص ألا تتكرر
هذي اللعبة
وليسقط بعد ستار الليلة
ألف ستار
فوق اللعبة
رئيس الجوقة والمجموعة :
كي لا تنتشر الكذبة
ومن الكذبة
تتولد كذبة (ينسحب الجميع. تسقط الستار. يرجع الراوية ويفتحها ويواجه الجمهور قائلا):
انتهت اللعبة
انتهت اللعبة
وعليكم أن تنتبهوا
كي لا تتكرر كذبة
تتولد عنها كذبة
كي تبدأ أخرى
وتتم اللعبة!
انتهت اللعبة!
انتهت اللعبة!
الحلم
مسرحية في عشر لوحات
الشخصيات
قمر الزمان.
بدر البدور.
السلطان.
الأم.
الفلاح.
الراعي.
النجار.
صديق (صديق قمر).
الحكيم الأعمى.
صبي (يسحبه من يده).
الساحرة.
السلطانة.
كهرمانة (جنية).
كهرمان (جني).
الفتاة الأولى.
الفتاة الثانية.
المرأة.
الوزير.
مرجانة (مربية بدر البدور).
الحارس العجوز (أمام القصر).
حراس وفرسان وشبان وعجائز ...
الفلاح والراعي والنجار من أفراد الجوقة التي تضم عددا آخر من النساء والرجال.
1
الرؤيا (مقدمة المسرح، أمام الستارة المسدلة، يندفع الفتى مفتوح الذراعين، من الجهة الأخرى تندفع الفتاة مفتوحة الذراعين، يتحركان كالأشباح في الحلم، كلماتهما أصداء، أقدامهما تخطو خطو السابح فوق الماء، موسيقى، شبه ظلام ...)
قمر :
بدر!
بدر :
قمر!
قمر :
يا بدر بدوري!
بدر :
يا قمر زماني!
قمر :
عيني تبحث عنك.
بدر :
قلبي يشتاق إليك.
قمر :
تسعى قدماي ولا أدنو منك .
بدر :
وأمد يدي فلا أجدك بين يدي.
قمر :
لا زلت كأنك في الحلم.
بدر :
أأراك الآن؟ وأنت؟
قمر :
كأنك طيف في وهمي.
بدر :
رؤيانا صدقت يا قمري؟
قمر :
والحلم تحقق يا بدري؟
بدر :
آه ..
قمر :
ماذا بك؟
بدر :
قدمي في الأغلال .. روحي في الأغلال ..
قمر :
وأنا أضناني السفر، تعبت من التجوال.
بدر :
يا قمر تعال!
قمر :
يا بدر خذي بيدي، مدي خصلات الشعر الذهبي.
بدر :
أضفر من رمش العين حبال .. فاصعد يا قمر تعال!
قمر :
دونك أهوال .. دونك أهوال .. يقف الحراس على الأبواب وسورك عال.
بدر :
يا قمر تقدم .. سر.
قمر :
لا .. لا أقدر.
بدر :
حررني من هذا الأسر.
قمر :
مأسور يسعى لأسيرة؟
بدر :
الفارس أنت .. فخلصني من هذا الأسر.
قمر :
أشعر أني مسحور .. فكي عني السحر.
بدر :
يا قمر وجدتك بعد سنين الغربة والهجر.
أقدم يا فارس حلمي.
قمر :
حلمي يتقدم نحوك .. لكن الفارس يتقهقر.
مغلول اليد، مشلول الرقبة والصدر.
فكي عني السحر.
فكي عني السحر.
أنا أحببتك منذ رأيتك يا بدر.
بدر :
وأنا سأحبك حتى آخر يوم في العمر.
صدقت رؤيانا يا قمر .. فهيا!
ماذا يمنعك؟ تقدم .. سر.
قمر :
آه يا بدر!
هذا وجهك .. نفس الوجه.
وهذا شعرك .. نفس الشعر.
والثغر الباسم في أحلامي ...
بدر :
نفس الثغر.
قمر :
أتمنى أن ألثمه.
بدر :
لم لا تفعل؟
قمر :
أنا مشدود بالأغلال لهذا الصخر
يقتلني الظمأ بهذا القفر
تنهشني الحدأة والصقر الجارح والنسر
وأنا مكتوف ألقي بي في قاع البئر
منذ ولدت رماني المر إلى المر
وأسلمني الفقر إلى الفقر
حتى كانت تلك الليلة حين رأيتك يا بدر
بدر :
وعرفت السر؟
قمر :
قلت لنفسي:
لا يشكو الفقر
من يتملك كنز الحلم وكنز الشعر
قلت لنفسي:
بعد شتاء الجدب الأصفر
وجه الأرض أخضر
وسأزرع معك الجنة في هذا القفر
ونفجر نبعا من قلب الصخر
شمسا في ليل القهر
خبزا في بطن الجوعى
خبزا أسمر
بدر (صارخة) :
يا قمر كفانا أحلاما.
قمر :
هل أملك إلا الأحلام؟
الأرض الميتة تنادي
ومرارة كل الأيام
بدر :
أخشى تجذبك الأرض وتنسيك الحلم!
قمر :
أنت الأرض .. وأنت الحلم.
بدر :
حلمك يرسف في ذل القيد
قمر :
قمرك لم يستسلم بعد.
بدر :
حقا يا قمر تحررني؟ هل هذا وعد؟
قمر :
وأحرر معك الأرض، وهذا عهد
أسمع صوت الحلم يقول: ازرع بذرة حلمك في جوف الأرض.
جرد حلمك سيفا يحمي العرض
بدر :
لكن أميرتك أسيرة
في القلعة وحدي مهجورة
قمر :
سأطوف حول القلعة في الأمسية القمرية
وتطلين بأعلى الشرفة كالحورية
وسأهتف: مدي حبلا من خصلات الشعر الذهبية
سأحررك من الأغلال وعنك أفك السحر
والسلطان يسلمني مفتاح القصر
بدر (ضاحكة) :
لا زلت كعهدك تحلم
قمر :
وأصر على عهد الحلم
بدر :
تفصلني عنك قفار
قمر :
أعبرها فوق جناح الأخطار
بدر :
وبحار بعد بحار
قمر :
وجهك سيكون شراعي
والدفة حبك والصاري
بدر :
أسوار القلعة عالية
قمر :
رؤيانا قدر الأقدار
وسننفذ فيها
بدر :
هل تصدق حقا يا قمري؟
قمر :
وستسطع يوما كالبدر
وتعيد الماء إلى النبع
وتعيد الخضرة للزرع
بدر :
أخشى من ليل مسعور
قمر :
الليل يخاف من النور
بدر :
تلتف السحب على البدر
تنبح كالكلب المذعور
قمر :
لم يشك البدر ولن يشكو
من عضة كلب مسعور
بدر :
الديك يؤذن يا قمري
والحلم يخاف من النور
أيموت الحلم ولا ندري؟ (تتراجع شيئا فشيئا)
قمر :
أيخاف البدر من البدر؟
أيغار الفجر من الفجر؟
رؤيانا تلمع في الصدر
كالنجم الهادي كالقدر
بدر :
يا قمر وداعا
لا تنس الرؤيا
قمر :
أنساها!
إن أنس النفس
فلن أنساها أو أنساك
وطريقي لن تمشي فيه خطاي بغير خطاك
بدر :
يا قمر وداعا ...
قمر :
حتى ألقاك.
بدر :
يا قمر زماني!
قمر :
يا بدر بدوري!
بدر :
يا قمر!
قمر :
يا بدر! (وتتكرر النداءات إلى أن يختفيا، إظلام تام.)
2
العودة (على الجانب الأيمن من المسرح يقف صف من العجائز، رجال ونساء، في ثياب سوداء وملابس مهلهلة، يمثلون «جوقة» تمهد للتمثيل أو تتدخل فيه بين الحين والحين، فتعلق عليه أو تستفسر أو تقدم حكمة عامة، ومن هذه الجوقة يشارك بعض الممثلين بأدوارهم ثم يرجعون مرة أخرى إلى الصف. على الجانب الأيسر بعد قليل موكب السلطان وابنته الأميرة بدر البدور وعدد من الحراس والخدم والأتباع، إنهم يتابعون الأحداث من بدايتها، كما يشترك بعضهم عند الحاجة في القيام ببعض الأدوار التي يقتضيها السياق، في الوسط دائرة متسعة تتم فيها المشاهد واللوحات المتتابعة، وتتغير مناظرها بطبيعة الحال من مشهد إلى آخر، يمكن أن يحضر الممثلون معهم قطع المناظر أو يذهبوا بها كما هو مألوف في المسرح الحديث! تبدو هذه المساحة الدائرية إلى الآن واسعة ساكنة، وعندما نحقق النظر نلاحظ في ركن منها فراش الأم العجوز التي تبدو كأنها تحتضر أو أن المرض قد غلب عليها بصورة موئسية، يتكلم رئيس الجوقة أو يتبادل أفرادها الحديث دون التقيد بترتيب مسبق).
الجوقة :
نحن الفقراء
نحن الفقراء
نحيا في هذا الركن من العالم
منسيين ومجهولين
كقطيع أهمله الراعي حتى ضل وتاه
أخذ يجوب السفح وينتظر الذبح
من الذئب المتربص بالحمل وبالشاه
ويفتش في وجه الأرض عن المرعى
لكن القحط براه وأضناه
ولهذا يرفع عينيه إلى الشمس صباحا
وإلى النجم مساء
يسأل: هل يمكن أن ينساني الله؟
فاجأنا القحط وعز القوت ودمع المطر شحيح
معنا هذا الفلاح الضامر
كالقصبة ترتعش وتصفر فيها الريح
ما خطبك يا فلاح؟
الفلاح (أحد أفراد الجوقة) :
هلك الزرع وجف الضرع
وضن المطر أو الدهر
وتساقط ورق الأشجار
كما يتساقط ورق العمر
وسنابل قمحي ذابلة
وصغاري كجراد القفر
الجوقة :
معنا هذا الراعي أيضا
كان فتيا في مقتبل العمر
لكن القحط افترس العمر وأحنى الظهر
يبدو أنك لا تجد القوت لأبنائك
أقصد لنعاجك وخرافك
قل، ماذا يضنيك؟
الراعي :
أشواك في كل مكان أشواك
وقطيعي الضامر
يرفع لي عينيه يناجي الخضرة
أين تراك ذهبت؟ وأين ترى ألقاك؟
الجوقة :
لما قصفت عاصفة الموت قرانا
بارت حال الصانع والصنعة
وانتظر الناس الضيف القاتل
ليل نهار وأطاعوا شرعه
لم أصلح بابي أو عتبة بيتي
والموت القادم لا يدخل بابا لا يرقى عتبة
هذا النجار الذاهل
هل يدعو ويناجي ربه؟
قل يا نجار ، تقدم.
النجار :
ما الداعي؟ قد قلت وأحسنت الخطبة.
الجوقة :
لم لا تسمعنا صوتك؟ ماذا تصنع في هذي الأيام الصعبة؟
النجار :
أنجر نعش الموتى
الجوقة :
ونعشك من يصنعه؟
النجار :
الحطاب سيجمع حطبه.
الجوقة :
الناس سواء في الكرب
ووباء يعصف بقرانا
والأرض تموت من الجدب
والقلب يرفرف مذعورا
كالطير الأعمى في الجب
يا رب المحنة يا ربي
الأم (يصدر عنها أنين غامض نتبين حروفه بعد قليل) :
يا ربي!
الجوقة :
نحن الفقراء، جيران هذه المرأة الفقيرة، جئنا نزورها ومن يدري؟ ربما تكون زيارتنا الأخيرة، ها أنتم ترونها على فراشها، وحيدة تتلوى من المرض أو من سكرات الموت.
أحد أفراد الجوقة :
لا ليست وحيدة.
الجوقة :
حقا؟ هذا ما لا أعرفه عنها، ألها بنات وأولاد؟
الفرد :
لها ولد واحد.
الجوقة :
وأين هو؟
الفرد :
سافر منذ سنين، هاجر لم يعرف أحد أين مكانه، لم تتسلم منه خطابا، لم يذكرها بسلام.
الجوقة :
ما أقساه!
ما أقسى الشجرة حين تشب وترفع قامتها النضرة!
وتحيي الريح وتروي بالمطر الزهرة والثمرة.
لكن تنسى الأصل الضارب في الأرض
ويشمخ منها الساق ويتجاهل جذره
هل جرب أحد منكم أن يفقد أمه؟
يصرخ في البيت الخالي: يا أمي.
أمي من بعدك سيعوضني عنك؟
من يا أمي؟ فترد الجدران عليه: لا أحد بعد الأم!
أقسى من هذا أن تحتضر الأم وحيدة.
أن تبحث عن كف الابن فلا تجد الكف الممدودة.
ها هي ذي ترقد في الفرش وحيدة.
أحد الأفراد :
قلت لك ليست وحيدة، ابنها قال سيعود.
الجوقة :
هل سافرت إليه؟ هل قابلته؟
الفرد :
كان صديقا لي وسمعته.
الجوقة :
ماذا قال؟
الفرد :
قال سأخرج، سأغادر هذا القفر
وفقيرا أرحل لا أملك حتى الفقر
لا أملك إلا الحلم الذهبي الحر
وأعود.
الجوقة :
تراه يعود الآن؟
الفرد :
أعود لأغرس بذرته.
الجوقة (ضاحكة) :
بذرة حلم؟
الفرد :
الشجرة تنمو تخضر وتزهر.
الجوقة (ضاحكة) :
شجرة حلم من ذهب أخضر!
الفرد :
هذا ما قال وعاهدني به.
الجوقة :
أتظن الولد يعود؟
الفرد :
من يدري؟ ويناول ثمرة ...
الجوقة (ساخرا) :
من تلك الشجرة ...
الفرد :
للأم ...
الجوقة :
الثكلى المحتضرة.
الأم :
ولد خائب .. ولد خائب.
الجوقة :
اسمع .. هل قالت شيئا؟ (يقترب من فراشها)
ماذا يا أم؟
جرعة ماء؟
أم قطعة خبز سوداء؟
الأم (تئن) :
ولد خائب .. ولدي الغائب .. ولدي الغائب (الجوقة تعود إلى مكانها رافعة اليدين في استسلام اليائس. لا تكاد تقف في مكانها السابق وتلتفت حتى ترفع عيونها دهشة. بعد قليل يقبل السلطان العجوز ومعه ابنته بدور، يسبقهما عدد من الحراس وأفراد الحاشية).
الجوقة :
ما هذا؟ ماذا أرى!
أفراد :
أرى رجالا قادمين، ملابسهم لم نألفها، على رءوسهم عمائم لا نعرفها.
أفراد :
يسبقهم جنود وحراس ...
أفراد :
يتبعهم خدم وحشم.
الجوقة :
ربي عفوك.
هل تتسع الدار لهذا الحشد؟
هل تحتمل الأم ضجيج الركب الزاحف كالرعد؟
ربي! أتزول المحنة عنا أم تشتد؟
ماذا أسمع؟ ماذا أنظر؟
ملك هذا؟ ووزير؟ خدم؟ أتباع؟
من يأتي بعد؟
حارس :
مولانا السلطان .. أوسعوا لمولانا السلطان.
السلطان (مهللا) :
كنت مولاكم السلطان .. فيما مضى من الزمان .. أما الآن ...
الجوقة :
مولانا .. شرفت الدار.
السلطان (وهو يستعرض أفراد الجوقة ويتأملهم بعينيه الكليلتين) :
كنت الملك الجبار، والفارس الكرار، أخوض بحار الأخطار، بالليل والنهار، لا أهاب الموت، ولا أخاف الفوت، كنت الجائر الظلوم، والقاهر الغشوم، صاحب جيوش وعساكر، وأقاليم وجزائر، ومدن ودور، وكان اسمي ...
الجوقة :
الملك الغيور .. صاحب الجزائر والبحور، والسبعة قصور ...
السلطان (ضاحكا ومشيرا إلى ابنته) :
ووالد بدر البدور.
بدر (مشيرة إلى قمر) :
وهذا هو الآن، سلطان المكان والزمان، ابنكم قمر الزمان.
أحد أفراد الجوقة (يندفع إلى قمر ويعانقه) :
قمر؟
قمر :
صديق؟ أوحشتني أيها الصديق .. (يعانقه) وأنتم؟
الجوقة :
جيران وصحاب .. جئنا ...
أحد أفراد الجوقة :
حذار .. حذار.
قمر :
مم تحذره يا صديق؟ مرحبا بكم .. حيا الله! حيا الله!
أحد أفراد الجوقة :
كنت أعرف أنك ستعود .. لكني ...
قمر :
لكنك لم تتصور أن أرجع ومعي الحلم.
بدر :
والحلم تحقق يا قمري .. صار ابنكم السلطان.
قمر (ضاحكا) :
لا لم يصبح بعد.
بدر :
لكنك سلطان القلب.
قمر :
هل يكفي هذا؟
بدر :
يكفي أن يصبح سلطان القلب، ليكون حبيبي سلطان الشعب.
قمر :
أنسيت كلامي يا بدر ؟ أنسيت عهودي؟
بدر :
لم أنس العهد ولا الوعد، لم أنس الأم ولا المهد
السلطان :
حقا؟ أين الأم؟ أين الأم؟
صوت الأم :
ولدي! ولدي!
قمر (يندفع إليها في أقصى العمق إلى اليسار) :
أمي!
الأم (تعتدل فجأة على فراشها وتعانقه بشدة) :
قمر الزمان!
قمر :
يا أمي ها أنا عدت .. عدت وفي يدي الحلم.
بدر (تلحق به، تحتضن الأم وتقبلها) :
وفي يده الحكم.
قمر (وذراعه على كتف بدر) :
ومعي بدر .. هل يرضيك؟
الأم (غاضبة) :
كم قلت وقلت .. ولد خائب .. تحلم يا ولدي
لا زلت ولا زلت أقول.
السلطان (ضاحكا) :
يظل الولد هو الولد الخائب في عين الأم
حتى لو جلس على عرش الحكم
فهو الطفل النائم في المهد الغارق في الحلم
قمر :
السلطان يا أمي .. مولانا السلطان.
الأم :
شرفت يا مولانا السلطان.
السلطان :
أنا لم أعد السلطان .. تخليت عن السلطنة والسلطان للولد الخائب قمر الزمان.
الأم (لا تفهم) :
طبعا ولد خائب .. لا يزال يحلم كما كان، ولا زال قلبي ...
قمر :
لا زال غاضبا علي .. أعرف يا أمي.
السلطان :
جئنا لكي نعرف هذا ...
الأم :
عاش دائما في الكتب والأحلام .. وها هو يحلم حلما آخر (تتفرس السلطان والأتباع ببصرها الضعيف ... ثم تصيح): سلطان في بيتي! سلطان؟
قمر :
وبدر البدور يا أمي.
الأم :
وبدر أيضا .. في بيت خرب خيم ظل الموت عليه .. يا ولدي إني أحتضر.
قمر :
شفاك الله.
السلطان :
وشفاك الحلم.
قمر :
والحلم تحقق يا أم.
الأم (صائحة) :
حلم أم كابوس مظلم؟
قمر :
بل حلم يا أم وعلم.
الأم :
سلطان وأميرة .. في بيت فقيرة .. إني أحتضر، وأقسم هذا كابوس مظلم.
السلطان :
يا والدتي سوف ترين الآن .. ولهذا جئنا للأم.
قمر :
جئنا للأم الأرض وللأرض الأم.
الأم :
ما معنى هذا؟ حلم آخر يا ولدي؟
قمر :
تذكري يا أمي .. حين خرجت من هذا الباب لآخر مرة،
ماذا قلت وماذا قلت؟
الجوقة :
هي لا تذكر.
ساعدها كي تتذكر.
قمر :
كنت غاضبة علي، كما كنت دائما يا أمي.
السلطان :
وهذا ما نريد أن نعرفه من البداية.
قمر :
أجل يا مولانا .. ولهذا جئنا.
السلطان :
لنعرف كل شيء من البداية.
قمر :
قلت لها يا أمي .. سأعود ومعي الحلم.
السلطان :
وها قد عدت ...
بدر :
ومعك بدور.
السلطان (ضاحكا) :
حلمك تم.
قمر :
سأعود إلى الأرض الأم .. أغرس فيها بذرة حلم .. حلمك يا أمي .. حلم الأرض وحلم الشعب وحلم الدم.
الأم :
ولهذا صحت وقلت: وهم وهم .. لن تحصد إلا الهم .. لن تحصد إلا الهم.
الجوقة :
وبكيت بدمع العين المر؟
الأم :
كم أبكاني طول العمر.
الجوقة :
وتوسلت برأس الأب ورأس الجد
بالأرض العطشى للمطر القادم بالوعد
يا ولدي أرضك هي كنزك، هل نملك إلا هذا الكنز؟
في زمن الجوع سألنا، أعطتنا الماء وأعطتنا الخبز
أرضك هي أمك يا ولدي، لا تغضب أمك
وضعت فيه سماد العمر فأخصب دمك ولحمك
يا ولدي قد شاب الشعر وجفت أوراق دمي
الأرض تنادي يا ولدي لتعيد الطفلة للرحم
سويت المهد وأنت الآن تسوي يا ولدي لحدي
يمتزج ترابي بجدودي وقريبا سيعانق ولدي
قمر :
قلت هذا يا أمي .. وسمعه مني صديق.
صديق :
وأبلغته هؤلاء الشيوخ .. كانوا في تلك الأيام شبابا.
الأم :
لا أذكر يا ولدي.
قمر :
لكنك كنت غاضبة.
الأم :
وما زلت.
السلطان :
ونحن قد جئنا لنزيل غضبك.
بدر :
كي نسترضيك عليه وعلينا .. نحمل بركتك على رأسينا.
السلطان :
نذكرك ونذكر معك الماضي .. حتى نفرح بالحاضر.
قمر :
فالفرح لن يتم إلا برضاك.
السلطان :
والنهاية لا تتم إلا من البداية.
قمر :
نحن على استعداد (يشير للجوقة): أنتم أيضا؟
الجوقة :
هل نفهم ماذا تقصد؟ أي بداية؟
قمر :
يطلب مولانا السلطان ...
السلطان :
أن أعرف كيف ابتدأ الحلم.
بدر :
كيف ابتدأت رؤيانا ثم انتشرت بين الناس؟
قمر :
كيف حملت الرؤيا عبئا فوق الكتفين؟
جربت المحن ولم أتخل عن الرؤيا إلا أن يتخلى البصر عن العين
وخرجت فقيرا لا أملك إلا الحلم وحلمي دين
نحو الأرض ونحو الأم
ونحو البيت الغارق في ليل الحزن
السلطان :
ومنذ اليوم وبعد اليوم .. سيغرق في الفرح
قمر :
إذا شاءت أمي .. هيا يا أصحابي!
الجوقة :
ماذا نفعل؟
قمر :
سنعيد القصة.
الجوقة :
قصتك مع الحلم؟
قمر :
ومع الأم-الأرض أو الأرض-الأم.
الجوقة :
هل نصلح يا قمر؟
قمر :
أنتم فكري وضميري .. من يعرفني خيرا منكم؟ أصل الشجرة أنتم.
الجوقة :
والشجرة ذبلت يا ولدي .. والعود تحطم
واصفر الورق على الأغصان وجف الجذر ولم يسلم
فالقحط شديد يا ولدي ورياح المحنة لا ترحم
السلطان :
ستعود الشجرة للخضرة.
بدر :
وتعود الخضرة للشجرة.
قمر :
ونعود لأول قصتنا. هل أنتم ...؟
الجوقة :
نحن على استعداد.
قمر :
فلنبدأ .. ولنضع البذرة (يرتب المشهد التالي معهم ويتبادلون الإشارات والإيماءات والحركات ...)
3 «البداية» (استعد أفراد الجوقة لأداء أدوارهم، واستراح السلطان على كرسي أو مسند وابنته بدور بجانبه. نرى في البداية قمر مشغولا بترتيب كل شيء، ويبدو أنه بذل مجهودا لا يستهان به في إلقاء تعليماته وتوجيه الحاضرين عن حياته، حتى الأم التي رأيناها في المشهد السابق مريضة على وشك الاحتضار قد نهضت من فراشها كأنها - رغم سخطها على الابن الحالم - قد تماثلت للشفاء واستعدت هي الأخرى للقيام بدورها، بعد قليل تبدأ الجوقة في الكلام، ويتدخل الحاضرون كلما دعت الحاجة).
الجوقة :
لنهاية كل الأشياء بداية
والثمرة كانت في المبدأ بذرة
الولد الغائب عاد إلى حضن الأم
هل قلت إلى حضن الأم؟
الأفضل: عاد إلى البيت، إلى القرية والأرض
فالأم أراها غاضبة
لكني أثق بقلب الأم
رفرف كجناحي طائر
ضم الفرخ الجاحد، أوسعه ضربا بجناحيه ونقر فيه بمنقاره
لكن القلب حنون لا يجرح ظفر صغاره
ها هي ذي نهضت لتؤدي الدور
فاستمعوا معنا وأعيروا السمع مع الفكر
ها هي ذي تهتف وتنادي، والولد غريق في الحلم
وصريع الحكمة والوهم
الأم :
قمر، يا قمر! (قمر لا يرد)
الأم :
يا قمر، أنت يا قمر الزمان! (قمر لا يرد)
الأم :
خسئت يا ملعون .. الشمس طلعت من الصباح.
قمر (يظهر بالباب) :
قولي خسفت يا قمر .. هل رأيت القمر أبدا مع الشمس؟
الأم (غاضبة) :
ماذا تفعل عندك؟ تقرأ أم تحلم؟
قمر :
لا فرق يا أمي، من يقرأ يحلم ومن يحلم ...
الأم :
تحلم تحلم .. ليل نهار تحلم .. ومتى تفتح عينيك؟
قمر :
أنا أحلم مفتوح العين ..
الأم :
يا خيبتي فيك! يا حسرتي عليك! الناس تحلم وهي نائمة
وأنت تحلم مفتوح العينين
قمر :
لكي أحول الحلم إلى حقيقة .. هذا شرع الإنسان.
الأم :
تتحدث أيضا بالحكمة .. لم يبق إلا الشعر.
قمر :
الشعر حياتي يا أمي .. عين القلب المبصرة وأذن الروح المنصتة
الأم :
ولهذا أذنك من طين
قمر :
الشعر بريء يا أمي
الأم :
وعقلك .. أين هو؟ هل هو أيضا من طين؟
قمر :
نعم يا أمي .. كلنا في الطين .. من كعب القدم إلى شعر الرأس
الأم :
ولهذا تترك أمك تغرق في الطين وتحلم.
قمر :
نحن جميعا غرقى .. والحلم سفينة نوح فوق الطوفان.
الأم :
دع نوح الآن
قمر :
لولا قدرة نوح على الأحلام، ما كنت نجوت من الطوفان
الأم :
قلت دع نوح الآن، ومتى تتنبه إلى الطوفان الذي أغرق فيه منذ ولادتك.
قمر :
أنا منتبه يا أمي .. ولهذا أحلم
الأم :
وبماذا تحلم؟ بالدجرة أم بالجرجوف؟ بوسيلة؟
قمر :
يا وسيلة، يا وسيلة، ما من المكتوب حيلة .. أنت حكيت لي هذه الحكايات .. ووريقة الحنا أيضا .. لا تنسي وريقة الحنا.
الأم :
ولكني لم ألدك لتحلم بل لتعمل .. أم تظن نفسك ابن السلطان؟
قمر :
يبحث عن قدم وريقة الحنا .. أنت أيضا علمتني هذا .. لكنك نسيت أن تعطيني فردة الحذاء.
الأم :
قل لي .. لا .. لا فائدة فيك .. أقول أنا لكم (تتجه إلى الجوقة. قبل أن تبدأ يسألها رئيس الجوقة).
رئيس الجوقة :
نعلم أن الولد يتيم
مات أبوه قبل ولادته
وحملت الحمل.
الأم :
وحين ولدته .. هتفت الجيران: هذا قمر .. سموه القمر ونادوه قمر الزمان.
الجوقة :
ظل القمر الساحر يكبر حتى اكتمل كعقد الماس .. لما لمست قدماه الشارع هتف الناس:
ولد كالبدر السافر
في الليل العاكر
الأم :
ودللته، وفي عيني صنته .. مرت الأيام والأعوام وأنا أعمل.
الجوقة :
نعرف هذا .. فنحن أيضا آباء وأمهات .. تجمعين الحطب .. تنفخين في اللهب .. تذهبين إلى الحقل وتعودين .. تحرثين وتروين وتسقين .. والولد الجميل ينمو كالظبي العليل .. تقف الجارة حين تراه: هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر والتسبيح .. وحين يراه الجار يقول: ألبسه الله حلل الجمال، وتوجه بتاج الكمال.
الجوقة :
وحياتك تعب وشقاء
والعين تنوح ولا تدمع
والقمر الطالع لا يطلع
لا يجلب ماء من نبع
لا يحرث أو يروي شجرة
لا يرعى الشاة ولا البقرة
الأم :
بل يحلم والحلم طويل، ويضيع الشاة مع البقرة.
الجوقة :
وإذا يوما أرسلت القمر إلى السوق؟
الأم :
السوق؟ اسأله بنفسك!
قمر :
لا تذكر تلك الكلمة.
الجوقة :
لماذا؟
قمر :
إني أختنق هناك .. وصدري والله يضيق.
الجوقة :
تسعى الناس إلى السوق وتشقى .. فلماذا أنت كسول؟
قمر :
تسعى الناس؟
قل تسعى القردة والدببة وكلاب الأرض المسعورة
تلتف الحية حول الرقبة تقضم جثة عصفورة
ويشم الثعلب طعم المال فيثب سريعا فوق الديك ويقتلع جناحه
والأسد الفاتك والنسر الجارح والنمر الهادر
والذئب الغادر والضبع السادر
كل يتربص بفريسته ويعد سلاحه
الجوقة :
أولم تبصر إلا وحشا وفريسة؟
أولم تجد العمل أو القوت لدى الإنسان؟
قمر :
الإنسان؟
أحلم أن يحيا الإنسان مع الإنسان
أن أرجع معنى الإنسان إلى الإنسان
الجوقة :
لم لم تفعل؟
قمر :
حاولت وحاولت .. فقالوا أنت جميل ... أجمل من أن تتسخ يداك بعمل فان.
الجوقة :
ومن السوق فزعت لكهف الحلم الوسنان
قمر :
للأسطورة والحدوتة والشعر النائم في الديوان
فهنالك أجد الإنسان
أجد الحكمة كالوردة في الأكمام
أجد العفة والطهر
صفاء النية والوجدان
الجوقة :
هل تهرب يا قمر من الأوهام إلى الأحلام؟
قمر :
بل أكسو الواقع برداء الحلم، وأرد المسخ عروسا يجري فيها الدم، ولهذا عشت لتخضر الأرض وتصبح بستان الحلم.
الجوقة :
وحي هذا أم وهم؟
هل سمع عن القحط الداهم كرياح السم؟
هل يوقف زحف الموت علينا شعر أو حلم؟
قمر (صائحا) :
لا يوقفه إلا الشعر أو الحلم
أن نروي ظمأ الأرض بماء الدمع أو الدم
الجوقة :
لن أتعجل في الحكم
ولن أسرع في توجيه اللوم
قل يا ولدي .. كيف تركت الأم؟
السلطان :
كيف رأيت الرؤيا؟ كيف عثرت على الحلم؟ (يربت على رأس بدر فتبتسم ويشرق وجهها).
قمر :
لا، لم يأت الأوان بعد ... في يوم من الأيام صحوت من النوم .. كالعادة شتمتني، لعنت كسلي.
الجوقة :
نفهم هذا بالطبع
أمك تتقدم في السن.
تحني الأيام الظهر فيعيا من ثقل الحمل.
وتصير يداها عاجزة عن حمل الفأس
يكفي ما عانت من يأس
هل تقوى الأرملة على هذا البؤس؟
الأم :
قالت: يا ولدي .. أنت كبرت
الجوقة :
ويرد الولد بصوت صار أجش:
قمر :
وبلغت الرشد .. قولي يا أم!
الأم :
نعم يا ولدي .. يا ولدي التائه في ليل الحلم.
قمر :
ماذا ترك؟
الأم :
ترك الحمل ثقيلا، ترك لك اليتم.
قمر :
أقصد هل أوصى لي بوصية؟
الأم :
ما يوصي الأب لأبنائه .. أن يرعوا حق الأم.
قمر :
لا أقصد هذا أيضا .. هل ترك مالا؟
الأم :
قلت لنفسي: لو أعطيته المال كله سيبدده، يكفي أني حافظت عليه كل هذه السنين .. فلأعطه جزءا منه.
الجوقة :
حسن ما صنعت .. قد يذهب للسوق فيضيعه في السكر.
بدر :
لا .. قمر لا يفعل هذا أبدا، لم تفعل هذا يا قمري؟
قمر :
أعطتني مائة ريال، مضيت إلى السوق يا حبيبتي، قلت أعمل كما يعمل الناس.
الأم :
وعدت كما ذهبت .. لكن بغير المال.
الجوقة (جزعة) :
أأضعته؟ وهل امتدت يد لص نحوك؟
قمر :
بل عدت بحكمة.
الجوقة :
ماذا تعني؟ أتساوي هذا المبلغ كله؟
الأم :
اسألوه بنفسكم .. أتساوي هذا المال وأكثر منه؟
قمر :
انتظروا .. آه لو ينتظر القاتل ...
الأم :
والمقتول أنا يا ولدي .. والقاتل عراف أعمى وحكيم.
قمر :
أسمعتم أن حكيما أو عرافا يقتل؟ اظهر يا سيدي وقل ...
وتكلم أنت .. كيف عرفت الرجل وأين رأيته؟ من منكم سيؤدي دوره؟
رجل (يتقدم من بين صفوف الجوقة يسحبه صبي) :
أنا الحكيم.
الجوقة :
ما شأنك؟
كيف وصلت إلى القرية؟
ولماذا جئت إليها في الأيام الصعبة؟
الحكيم :
وإلى أين أروح؟ كل بلاد الله سواء في نظر الفاقد نظره،
كل الناس سواء تحتاج النبوءة والعبرة.
الجوقة :
قل لنا أين كنت حين جاء إليك قمر؟
الحكيم :
يقول لكم هذا الصبي ...
الصبي :
كنا نجلس في منعطف الطريق
وأطل علينا قمر كالبدر السافر
قلت لعمي يا عمي
هذا ليس ببشر
هذا شيطان ساحر
يحمل يا عمي وجه ملاك طاهر
وجه كالنور الباهر
الحكيم :
لا تتعجل يا ولدي
ما أكثر ما يخفي الوجه الساطع
بؤس الحظ الفاجع
الصبي :
وتقدم منا .. وتكلم
وتحسرت لأنك يا عمي
لا تبصر هذا الوجه الرائع
الحكيم :
تخطئ يا ولدي
تبصر عيني الأخرى ما لا تبصره عينك
تلمس وجه الصوت وترسم صوت الوجه
الجوقة :
هذا شيء لا نفهمه، لا يفهمه هذا الطفل
الحكيم :
ماذا يا ولدي؟
الجوقة :
كيف عرفت؟
الحكيم :
هل يسأل عراف كيف عرفت؟ أدركت بأن أمامي إنسانا لا ينفعه المال، لكن تنفعه الحكمة والإلهام.
الأم :
ولهذا بعت اللغز الغامض بعد اللغز؟
الحكيم :
وبثمن بخس.
الأم :
ثمن بخس؟! أتسمي ما نملكه من حظ الدنيا، هذا الكنز ...
الحكيم :
الحبة تؤتي سنبلة فيها مائة حبة.
الأم (غاضبة) :
وأنت أخذت المائة ريال.
قمر :
انتظري يا أمي .. لم يأخذها .. عرض علي الحكمة فدفعت الثمن البخس.
الأم :
وتقول الثمن البخس؟
الجوقة :
انتظري .. انتظري .. ماذا كانت تلك الحكمة؟
قمر :
اقنع بالقليل يؤتك الله الكثير.
الجوقة :
وماذا فعلت يا قمر بحكمتك؟
قمر :
قل: ماذا فعلت أمي حين رجعت إلى البيت؟
الأم :
سألته: ماذا فعلت يا ولدي في السوق؟ هل اشتريت وبعت؟ هل تاجرت وكسبت؟
قمر :
كسبت ولم أتاجر يا أمي.
الأم :
ويلاه! هل سرقت؟
قمر :
لا يا أمي .. الحالم مثلي لا يسرق .. قد يسرق لكن لا يسرق.
الأم :
أف لك تحلم أيضا في السوق؟ ماذا اشتريت بالمائة ريال؟
قمر :
اشتريت بها حكمة.
الجوقة :
ثرت عليه وغضبت.
ما جدوى الحكمة؟
أتساوي بضعة أصوات؟
لفظ وضع بجانب لفظ هذا الثمن الباهظ!
قمر :
أحسبك صبورا وحكيما.
الجوقة :
وماذا فعلت؟
قمر :
قل: ماذا فعلت؟ قنعت بحكمتي ووضعتها خفية في جرابي.
الجوقة :
أكنت تعتزم السفر؟
قمر :
هل يبقى الظبي بقفص الوحش؟
أيغني البلبل للصم؟
كان لا بد من السفر.. ولهذا عدت في اليوم التالي إلى الحكيم.
الأم :
نعم، عاد إليه برجله .. لكي يضيع المائة الأخرى.
الجوقة :
أعطيته مائة ثانية؟
الأم :
ماذا أفعل؟ وصية أبيه أمانة في عنقي.
الجوقة :
وفعلت بها ما فعلت بالأولى؟
قمر :
نعم، نعم، لم يكد الحكيم يراني ...
الحكيم :
رأتك أذناي وعرفت خطاك ...
قمر :
حتى هتف بي: هاتها وخذ الحكمة الثانية.
الجوقة :
ألم تخف عقاب أمك؟ ألم ترحم غضبها؟
قمر :
الحكيم رأى ما لم أره .. رسم دربي قبل أن أقطعه.
الحكيم :
أجل يا ولدي .. أحسست بأنك ستسافر بحثا عن نفسك أو عن حلمك، حلم تترقبه أرضك يتوقعه شعبك، ولهذا مددت يديك بالمائة الثانية قبل أن أعطيك الحكمة.
السلطان :
وماذا قالت الحكمة الثانية؟ ليتني عرفتك - أيها العراف - ولم أعرف الساحرة الماكرة.
الجوقة :
الساحرة؟ عم تتحدث يا سلطان؟
قمر :
إن كنت حكيما فلا تعجل، وستشهد عينك بعد قليل ما لم يكشفه قلبك. قالت لي الحكمة الثانية: لا تخن من ائتمنك.
الجوقة :
ووضعتها في الجراب؟
قمر :
وفي اليوم الثالث نطق الحكمة وأنا ما كدت أغادر عتبة الدار .. إن لقيت فلا يفوتك.
بدر :
حقا .. ولم يفتك .. وعرفتك وجريت وراءك.
قمر :
بدر!
بدر :
آه! سكت.
كي لا تتهم جمالي بالطيش (وتصيح وتصرخ):
ريش الطاووس ورأس العصفور الهش
السلطان (ضاحكا) :
هل قلت هذا يا بدر؟
قمر :
آه .. آه .. آه .. يا مولانا أسعدك الله وأبعد عنك ظلال الحزن، أمي لم تكتف بالحزن ولم تكتف بالسب، هاجت .. ماجت
عضت يدها .. مزقت الثوب
الأم :
أجل .. ولطمت الخد
ولعنت أباك وكدت أروح إليه وأخرجه من بطن اللحد، وأصيح وأصرخ أنت المسئول.
تعال وأدب هذا الولد الوغد. (الجوقة تضحك ويضحك الجميع).
قمر :
أما أنا فبكيت بكيت بكيت
بكيت لأني سأغادر أرضي
وسأترك أمي في الدار وحيدة
لا .. لا تتسرع
لا تظلم هذا الأعمى
لا تتهم الحكمة فهي بريئة
الجوقة :
الحكمة في هذا الحال
ألا تدع الأم ولا الأرض بحال
لو أني كنت مكانك
قمر :
لو كنت رأيت الرؤيا
بدر :
الرؤيا يا أبي .. هل صدقت؟
السلطان :
اسكتي يا ابنتي.
بدر :
ألم أقل لك؟ نمت في قلق الليلة ورأيت ...
السلطان :
قلت اسكتي.
قمر :
أأحدثكم عنها؟
الجوقة :
حدثنا عما فعلت أمك حين تكلمت إليها (يلتفت للجمهور).
فالرؤيا شاهدها الجمهور الليلة.
السلطان :
وانتشرت في الجبل وفي السهل
وذاعت بين الناس فشاع الأمل الحلو
بدر :
وخاف عدوك يا أبت ودبر خطته في الليل
الأم :
نعم حدثني عن الرؤيا، كنت قد يئست منه، لم أشك لأحد وصبرت، ستسافر يا ولدي؟
قمر :
يا أمي لا بد.
الأم :
ألن تفكر في الأمر؟
قمر :
لا أستطيع أن أنظر للوراء.
الأم :
وأفقدك يا ولدي؟
قمر :
بل ستكسبينني يا أمي.
الأم :
وتتركني وحدي؟
قمر :
لن تكوني وحدك .. قلبي معك وحلمي سيعود إليك.
الأم :
حلمك؟ ألم أشبع من أحلامك؟
قمر :
سيعود معي وأعود معه إليك.
الأم :
ألا تفكر إلا في نفسك؟
قمر :
لا أفكر إلا فيك .. وفي الأرض .. وفي الأهل .. سأعود.
الأم :
أو لا تعود.
قمر :
الرؤيا قالت سأعود
الأم :
قد تكذب يا ولدي وأموت وحيدة
قمر :
إلا هذي الرؤيا
الأم (باكية) :
سأموت وحيدة
الجوقة :
والأم تقول ودمع العين يرد:
يا ولدي أرضك هي كنزك لا تنس الكنز، في زمن الجوع سألنا أعطتنا الماء وأعطتنا الخبز لكنكم سمعتم هذا من قبل .. وماذا أعطته أيضا؟
السلطان ومجموعته :
نعم، ماذا أعطته؟
الجوقة :
بعد قليل سوف ترون
بعد قليل تبتسمون
أو تبكون
بعد قليل
بعد قليل (يسدل الستار شيئا فشيئا، ويسود إظلام تام قبل أن تنفرج على المشهد التالي).
4
الساحرة (كوخ الساحرة العجوز، الساحرة واقفة أمام الباب .. بعد قليل يظهر السلطان ثم قمر وحراس).
الجوقة :
ساحرة وعجوز.
من يدري ماذا يجري في هذا الكوخ؟
ها هي ذي تتكلم
تعوي وتدمدم
تقرأ تعويذة
تتلو رقية
هل يظهر جني طيب؟
أم جنية؟
فليحرسنا منها الله.
فليحرسنا منها الله.
الساحرة :
الباب مكسور .. لا يعلم أحد ماذا يخبئ الليل أو ماذا يكشف عنه النهار، اللصوص في كل مكان، لا يأمن أحد في بيته، لا آمن أن ينفذ من هذا الباب لص طماع أو قاتل، ذئب أو كلب مسعور، لا بد من إصلاحه. نجار، نجار (يظهر السلطان وحده، عجوز محني الظهر ومتعب).
السلطان :
أنت وحيدة؟
الساحرة :
مولانا؟ مولانا السلطان؟
السلطان :
مولانا حزين .. مرتبك يهذي كالمجنون .. ماذا تنتظرين؟
الساحرة :
كنت أعالج هذا الباب المكسور.
السلطان :
والقلب المكسور .. من سيعالجه غيرك؟
الساحرة :
ماذا حدث .. تكلم.
السلطان :
كذب العراف، عجز الطب وحار طبيبي، ووزيري دبر لم ينفعني التدبير.
الساحرة :
أهو الدواء القديم؟
السلطان :
إلا هذا.
الساحرة :
لكل داء دواء .. تعال أجرب معك دوائي.
السلطان :
معي؟ ليت الأمر اقتصر علي.
الساحرة :
القصر الفاسد .. أعرف سوء الحال.
السلطان :
فليذهب للنار .. لا لا .. شيء أخطر منه.
الساحرة :
مؤامرة جديدة؟
السلطان :
إنها ابنتي .. وحيدتي وقرة عيني.
الساحرة :
بدر؟ ماذا جرى لها؟
السلطان :
ساحرة ولا تدرين؟ عرافة ولا تعرفين؟
الساحرة :
لم أنظر في العين السحرية منذ ليال.
السلطان :
هي منذ شهور لم تتغير .. اختلط العقل وفسد الفكر.. خرساء صماء، تهذي أحيانا بكلام الحكماء .. تتحدث عن رؤيا لا أفهمها.
الساحرة :
رؤيا؟ أية رؤيا؟
السلطان :
رؤيا تبكيها، تضحكها، تسرق منها النوم وتطفئ نور العين.
الساحرة :
ماذا رأت؟
السلطان :
وكيف لي أن أعرف؟ قلت اختلط عقلها وزاغ بصرها.
الساحرة :
ألا تذكر شيئا .. ألا تتصور أحدا؟
السلطان :
شيئا أو أحدا .. ربما نعم نعم .. تردد اسم قمر الزمان .. قمر الزمان.
الساحرة :
ثم ماذا؟
السلطان :
وتعانق الهواء وتبكي .. وتصدم الجدران وتبكي.
الساحرة (لنفسها) :
فعلتها يا كهرمانة؟ فعلتها يا كهرمان؟
الساحرة :
ماذا تقولين؟
الساحرة :
لا .. لا شيء.
السلطان :
ابحثي عن دواء.
الساحرة :
اطمئن.
السلطان :
من أجل الأب لا من أجل السلطان.
الساحرة (تمد يدها) :
ومن أجله أيضا.
السلطان (يفتش في جيوبه ويعطيها) :
وأعرف طبعك.
الساحرة :
تقصد طمعي (تنظر في العملة الوحيدة التي قدمها لها) لا بأس .. شيء لا يملأ بطن دجاجة، لكن قد يصلح هذا الباب.
السلطان (ينهض) :
ومن يصلح قلبي؟
الساحرة :
أعدك يا مولاي .. أعدك أن أسألهم.
السلطان :
وتردين علي؟
الساحرة :
سترد عليك بدور.
السلطان :
ترد علي؟ هي لا تعرفني .. لا تعرفني .. أقسمت عليك.
الساحرة :
لا .. لا تقسم.
السلطان :
أقسمت عليك .. من يشفيها يرث العرش
من يشفيها يصبح سلطان .. من يشفيها يصبح سلطان (تودعه إلى الباب).
الجوقة :
هل تجد دواء للداء؟
هل ترحم ضعف الشيخ الواهن؟
مثل الريشة فوق الماء؟
قلبي ينفطر عليك ويبكي حسنك يا حسناء.
جاء طبيب بعد طبيب.
ما عرفوا للمرض شفاء.
سقطت رأس وهوت رأس.
وارتفع نداء بعد نداء
من يشفي الداء يفز بالعرش مع العذراء
لكن من يشفي الداء؟
وهل عندك يا ساحرة دواء؟
ماذا أبصر؟
هذا قمر يظهر
قمر المسكين حزين القلب معفر
من أثر الرحلة في البيداء وفي الدرب المقفر
يتقدم نحو الباب
يتردد ثم يسير ويتوقف
ترمقه عين الساحرة فتهتف
الساحرة :
يا ولد! (قمر يرفع عينيه ولا يجيب.)
الساحرة :
أنت يا ولد! يا ولد! (قمر يجلس تحت شجرة ينظر إليها في صمت.)
الساحرة :
تعال .. تعال .. أتريد أن تكسب ريالا؟ (قمر لا يرد.)
الساحرة :
تبدو متعبا وجائعا .. ألا تريد أن تعمل؟
قمر (ينهض، يقترب منها) :
وماذا أعمل؟
الساحرة :
تصلح هذا الباب المكسور وتأخذ أجرك.
قمر :
وماذا تعطيني؟
الساحرة :
أعطيك ريالا .. أعطانيه السلطان.
قمر (ضاحكا) :
ما أكرم هذا السلطان! (ينصرف عائدا إلى مكانه تحت الشجرة).
الساحرة :
عجوز بخيل يجود على عجوز بخيلة، زمن فاسد لا حيلة لك في هذا أو لي. (قمر يسمع صوتا يقول: تذكر الحكمة.)
قمر :
الحكمة؟ نعم، نعم.
الصوت :
اقنع بالقليل يؤتك الله الكثير.
قمر :
هي بعينها (يرفع صوته) سأصلحه يا خالة .. هاتي الريال.
الساحرة :
كسول وماكر أيضا؟ ليس قبل إصلاحه هيا .. هيا .. (قمر يدخل بعد أن يفحص الباب.)
الساحرة :
عيناك تصرخان .. هيا تعال.
الجوقة :
قمر يسقط من فرط الإعياء
والساحرة تناوله كسرة خبز سمراء
يبلعها بالماء
ينظر حوله، ما أعجب هذا!
فوق الحائط أقنعة وجوه شريرة
ورسوم أفاع وعقارب وسحال وكلاب مسعورة
ينظر، يرتعد يلاحظ قدرا مكسورة
تزأر فيها النار
يطق شرار ينبعث بخار
وأمام النار المضطرمة كرة لامعة، بلورة .. فيها عين واسعة شريرة
تتفرس فيه فيسأل: هل هي عين مسحورة؟
يفهم، يسكت، يرتاب ...
ينهض كي يصلح من شأن الباب.
الساحرة (تذهب وتجيئ في نشاط، تلقي البخور في النار وتدمدم بالرقى والتعاويذ) :
هيا .. هيا .. من يأكل يعمل .. ومن يعمل يأخذ أجره. (قمر منكب على الباب).
الساحرة :
تبدو ولدا طيبا .. هل جئت من بعيد ؟
قمر :
من القرية يا خالة.
الساحرة :
ريفي ساذج! على سفر؟
قمر :
نعم يا خالة، القحط شديد .. أبحث عن عمل.
الساحرة :
لن تجده عندي، لن تجده في أي مكان. بعد لحظة .. اسأل في قصر السلطان.
قمر :
قصر السلطان؟
الساحرة :
نعم .. يحتاجون دائما للخدم.
قمر :
أخدم عند السلطان؟
الساحرة :
ولم لا؟ ولد طيب مثلك، السلطان أيضا طيب وعجوز .. وابنته ...
قمر :
ماذا عن ابنته؟
الساحرة :
ولد ثرثار، لماذا تسأل عن ابنته؟ مريضة ذهب عقلها وعز شفاؤها.
قمر :
ولماذا يا خالة؟
الساحرة :
وما شأنك أنت؟ هيا هيا .. التفت للباب، أتريد أن تعلق رأسك على باب القصر؟ (تتفرسه) إنه رأس جميل، أتريد أن تفقده؟
قمر :
يعلق رأسي؟ وماذا جنيت؟
الساحرة :
أرأيت؟ طيب بلا عقل، هيا هيا .. انصرف لعملك وسأنصرف لعملي.
قمر :
نعم يا خالة.
الجوقة :
والساحرة تهوم وتعزم
تقسم بالاسم الأعظم
يا للغز الخاد والطلسم
وتروح تتمتم
وتروح تدمدم
أصوات تغلي وتجمجم
حشرجة وصياح مبهم
ويدور حوار لا يفهم
يا قمر المسكين تعلم
إن تعلم فاكتم ما تعلم
فالعاقل من لا يتكلم
والصامت أبدا لا يندم
الساحرة (في حوار مع صوتين لا نرى وجوه أصحابهما) :
هكذا يا كهرمانة؟
الصوت :
لبيك يا مولاتي.
الساحرة :
وأنت يا كهرمان. لم تخيب ظني؟
الصوت الثاني :
عبدك بين يديك.
الساحرة :
والشمل اجتمع على يديكما .. البعيد والقريب .. الفقر والقصر .. قمر وبدر.
صوت :
لم يجتمع بعد يا مولاتي.
الساحرة :
في الرؤيا.
صوت الآخر :
في الرؤيا نعم .. لكنها يا مولاتي ...
الساحرة :
قمر يبحث عن بدر .. بدر تبحث عن قمر .. قلت لا بد أن يجتمعا.
صوت :
هذا يخرج عن أيدينا.
الساحرة :
إذن فاتركا لي الأمر .. سأذيع النبوءة في كل مكان.
سيعلم القاصي والداني .. ولو احتاج الأمر سأبعث للسوق بطبل ومنادي .. لكن ...
صوتان :
لبيك .. لبيك!
الساحرة :
اسكتي أنت يا كهرمانة .. كان الأمر سهلا عليك .. بدر في القصر أشهر من البدر .. وأنت؟ هل كان الأمر عسيرا عليك؟
الصوت الثاني :
حقا كان الأمر عسيرا.
أن أجد جميلا من كل الأوصاف
ويتيما لأب وفقيرا كالطين الجاف
الصوت الأول :
يحلم ويقول الشعر ...
الصوت الثاني :
بل يحياه ...
الساحرة :
ويكلم شجرة
ويتيم في حب فراشة
ويكلمه النبع الساكن والنهر
والوحش الجارح والطير
الصوت الثاني :
يحلم أن يبتدئ من الصفر
أن يعرف معنى العالم
معنى الإنسان الحر
محبوب ومحب
وأمين ما خان العهد ولا الرب.
كيف وجدته؟
كان الحلم دليلي في الزمن الصعب
الزمن العاري من ثوب الحب
من يتعذب يحلم، من يحلم يتعذب
يسقط في المستنقع
ويظل نقي القلب نقي الثوب
يعرق ينزف يتعب
كي تطلع شمس من قلب الغيهب.
كيف عرفته؟
كان فقيرا لا يسأل
الوجه جميل والخاطر أجمل.
كان يقول:
أحلم بالجمال
والعدل والكمال
وأن أرى الحقيقة
في أعين الخليقة.
قمر (فجأة) :
ربي؟ هذا قولي
الساحرة (لقمر) :
هل قلت شيئا؟
قمر :
لا يا خالة.
الساحرة :
أصلحت الباب؟
قمر :
أجل يا خالة.
الساحرة (تتجه إليه) :
خذ، هذا أجرك (تتفرس فيه) هيا اذهب .. لا تنس .. مر على قصر السلطان.
قمر :
قد يحتاجون لخدام.
الساحرة :
هيا .. هيا (لنفسها) لا .. لا .. ريفي أجرب .. وفقير متعب .. لا لا لا .. بين كلاب الأرض الجائعة العطشانة كلب .. هيا .. هيا (ينصرف، بعد قليل يدق الباب دقات عنيفة).
الساحرة :
ما هذا؟ من؟
أصوات :
افتحي .. افتحي يا خالة.
الساحرة (بعد أن نظرت من ثقب الباب) :
اذهبا الآن، سأدعوكما عند الحاجة، شكرا يا كهرمان .. إلى اللقاء يا كهرمانة .. وأنت يا كهرمان .. اذهب الآن .. ما هذا؟ حرس وفرسان؟ ماذا يريدون مني؟ (تفتح الباب).
الحارس :
السلطانة تحييك يا خالة ...
حارس آخر :
وتذكرك بالوعد يا خالة (يناولها صرة كبيرة).
الساحرة :
السلطانة! مرحبا .. يا مرحبا .. هكذا تجود السلاطين.
حارس :
تريد العلامة.
حارس آخر :
تريد الأمارة.
الساحرة :
نعم، نعم، تم كل شيء، اجتمع الشمل ونفذ السهم إلى القلب، والمحبوبة في القصر أسيرة، تهذي بكلام لا يفهم والنفس كسيرة.
الحارس :
ليست هذه هي العلامة.
حارس آخر :
ولا هي الأمارة .. نريد المحبوب يا خالة.
الساحرة :
المحبوب؟ عين تحلم
عقل بالحكمة ملهم
والقلب الطيب أصفى من ماء النبع وأكرم
الحارس :
وكيف نعرفه من عينه وقلبه؟! وجهه يا خالة ؟
حارس آخر :
وجهه؟ أجمل ما نظرت عيني .. كالبدر الساطع والقمر الطالع.
الحارس :
وصف لا يغني .. اسمه يا خالة؟
الساحرة :
قمر .. ناد وقل: يا قمر.
الحارس الآخر :
ما أكثر من سيجيب .. حتى القردة سترد علينا!
الحارس :
ألم تقل النبوءة إنه يتيم؟ ألا يبدو عليه الفقر؟ ألا يبدو عليه السفر؟
الساحرة (فجأة) :
الفقر .. والسفر .. هو يا رجال .. هو .. هو .. ويلي! ويلي! كيف تركته يفلت مني؟
الحارس :
من؟ من يا خالة؟
الساحرة :
كان قلبي يحدثني .. لكن لم أصدق .. ريفي فقير .. من يدري إن كان يتيما يحلم؟ والحلم يطل من العين ويسأل عن الأميرة .. ويلي! ويلي! ربما يكون هو .. إنه هو حتما .. اذهبوا .. اذهبوا .. الماكر لم يذكر اسمه .. لا .. لا .. انتظروا ...
الحارس :
ماذا ننتظر؟
الساحرة :
ابحثوا عنه هنا .. ابحثوا عنه.
الحارس :
هنا .. وهناك .. ضاع منا إذن؟
الساحرة :
لن يضيع .. ستجدونه في الأكمة التي هناك، أو في الجبل، عند النبع، أو تحت ظل شجرة.
الحارس :
وصفك لا يغني يا خالة.
الساحرة :
لأنه لا يوصف .. هيا لا تضيعا الوقت .. هيا .. هيا .. آه! وكيف غاب عنك يا كهرمانة؟ وعنك يا كهرمان؟ أيها الجني الأحمق .. يا غبي الزمان .. كيف غاب عنك قمر الزمان؟ (ينصرف الحارسان .. تسمع حمحمة خيولهما وصليل سيوفهما من بعيد .. الساحرة تغلق الباب).
5
عند النبع (نساء يتوافدن على النبع، تسمع ضحكات فتيات وزمجرة عجائز، في المكان شجر جاف وأوراق ذابلة صفراء، الوقت قبل الغروب بقليل).
الجوقة :
انتشر النبأ وذاع
ملأ الأسماع وأيقظ في الأفئدة الأوجاع
هل ستحل مصيبة؟
أم يبتسم الأمل على الوجه ويمحو منه شحوبه؟
الأيام عجيبة
والأخبار غريبة
والسحب ترين على الأفق
وترسم صورا وتهاويل غريبة
والصمت مريب والريح على الأبواب مريبة
طاف مناد في الأسواق ورفع الصوت وقال:
يا أهل المدن وأهل الجبل الأبطال
من شاهد منكم ولدا مسكين الحال
وجه كالصبح السافر، قد كالظبي النافر
لطف وجمال وكمال
غطاه تراب السفر وأضنته الرحلة والترحال، يحلم بالجنة فوق الأرض
وبالمحبوبة في القصر العالي
من يبصره منكم فليمسكه في الحال
وليأت به للقصر العالي
وله من مال السلطان مكافأة والمال حلال
ألف ريال .. ألف ريال
يا أهل المدن وأهل الريف
ويا سكان الجبل الأبطال
لكن ما هذا؟
أبصر فتيات القرية يسعين إلى النبع ويبحثن عن الماء
ها هن أولاء يثرثرن وثرثرة النسوة داء
فلنسمع ماذا يحكين لعل هنالك أنباء
فتاة :
قلت لكن كان وجهه جميلا.
امرأة :
أليس في قلبك رحمة؟ أي جمال في رأس مقطوع؟
الفتاة الأولى :
صحت به قبل أن يسقط عليه سيف السياف: سيكون منظرك بديعا على السور.
فتاة ثانية :
بدلا من أن تخفي وجهك وتبكي؟
الفتاة الأولى :
شبعنا بكاء يا أختي، كل أسبوع تسقط رأس.
المرأة :
لم تقولي بماذا رد عليك!
الفتاة :
هتف من غيظه: سيكون أبدع لو سقط في حجرك أو قبل ثغرك.
الفتاة الثانية :
أيمكن أن يضحك الإنسان وهو يواجه السيف؟
الفتاة :
ومن قال إنه يواجهه؟ إنه في ظهره، أو في عنقه، هكذا (يضحكن).
المرأة :
كفاكما لغوا .. أتعرفان من هو؟
الفتاتان :
سمعنا أنه أمير جاء يخطب بدر البدور.
المرأة :
إلا هذا .. إن أباها ينذر ويتوعد.
الفتاة :
ومن أخبرك بهذا؟ هل أنت سفيرة أم وزيرة؟
الفتاة الثانية :
جاسوسة أم سوسة؟ (تضحكان).
المرأة :
ستعلمان عندما تداهم جيوشهم المدينة، عندما تهجم العسكر كالكلاب المسعورة.
الفتاة :
اطمئني .. لن يعضك واحد منهم. (تتضاحكن ويجرين.)
المرأة (تحاول أن تمسك بهما) :
من فينا الكلبة يا كلاب؟ ألأني أرى الغيوم في الأفق تتهمنني بالنباح؟ انتظرن حتى تقع الكارثة.
الفتاة :
وقعت كثيرا حتى تعودنا عليها .. ولم تمتنع النساء عن الضحك ولا عن الولادة.
امرأة :
ولا عن الثرثرة.
الفتاة الأولى :
اسمعي يا خالة .. هل سمعت المنادي؟
امرأة :
ومن لم يسمعه؟ ومن لا يتربص الآن به؟
الفتاة الثانية :
يقال إن الرؤيا صادقة.
امرأة :
ومن يصدق ما تراه مجنونة؟
الفتاة الأولى :
مجنونة؟
امرأة :
ومسجونة أيضا، من شدة خوف أبيها أمر بوضع يدها وقدميها في الأغلال
الفتاة الأولى :
ربما تكون مظلومة.
امرأة :
من يعرف الظالم من المظلوم؟ من يعرف العاقل من المجنون؟ في مثل هذا الزمن.
الفتاة الأولى :
وكيف نعرف المجنون؟
المرأة :
تعرفينه أم تحصلين على الألف ريال؟
الفتاة الأولى :
مستحيل أن نعرفه، الأميرة هي التي رأت الرؤيا .. وهي وحدها التي تتعرف عليه.
المرأة :
أتظنين هذا؟ حتى ولا الأميرة.
الفتاة الثانية :
لماذا يا خالة؟
الفتاة الأولى :
لأنها تملك ألف ألف ريال (تضحك وحدها).
الفتاة الثانية :
اسكتي أنت .. أقول لماذا يا خالة؟
المرأة :
لأن الرؤيا تنطبق على كل إنسان ولا تنطبق على أي إنسان، ولأنها لا يمكن أن تعرفها إلا من رأتها، ولأن التي رأتها مسكينة ذهب عقلها.
الفتاة الأولى :
انتظري .. ألا يمكن أن تكون مظلومة؟
امرأة :
قلت هذا من قبل، من يعرف الظالم ...
الفتاة الأولى :
من المظلوم والعاقل من المجنون ... نعم نعم، ولكن ربما يفترون عليها أو على أبيها.
الفتاة الثانية :
وأبوها ضعيف وعجوز على حافة القبر، والقصر يموج بالفساد كما تموج الجثث بالديدان، والميت الذي لم يدفن ليس معناه أنه لم يمت .. والطاعون ...
الفتاة الأولى :
ما لنا نحن وهذا؟ هل غرقت في السياسة على آخر الزمن؟
الفتاة الثانية :
أردت أن أعرف.
الفتاة الأولى :
أم تريدين الألف ريال؟
الفتاة الأولى :
وما العيب في هذا؟ أبي فلاح فقير كما تعرفين.
الفتاة الأولى :
وأنا؟ هل أنا بنت السلطان؟
الفتاة الثانية :
أنت دائما ماكرة.
الفتاة الأولى :
وأنت لا أمان لك (تتماسكان، تسرع إليهما المرأة).
المرأة :
ما هذا؟ ألا يكفي ما نحن فيه؟ هل جئنا للقتال أم للبحث عن الماء؟ (يدخل قمر، يسكتن ويتطلعن إليه في ذهول، إن تراب السفر على الأسمال البالية لم يستطع أن يحجب جمال وجهه، والجوع والظمأ الباديان على ملامحه لم يضيعا حسنه، بل ربما زاداه جمالا على جمال، تتأمله الفتاتان وتغمزان لبعضهما، تنظر إليهما المرأة وتهز رأسها ثم تتفرس في عينيه، قمر يرتبك قليلا ثم يتماسك، يضع يده في جيبه ويستخرج الريال الوحيد الذي معه، يحاول أن يمد يده إلى الفتاة الأولى ثم إلى الثانية ثم إلى المرأة.)
الفتاة الأولى :
لا يمكن ...
الفتاة الثانية :
لا يمكن أبدا ...
المرأة :
مستحيل.
قمر (منفجرا) :
ما هذا الذي يمكن ولا يمكن؟ ما هذا المستحيل (ينظرن إلى بعضهن ) ألا يمكن أن يجوع الإنسان ويظمأ؟ ألم ترين في حياتكن إنسانا متعبا متسخ الثياب؟ أم لأنني فقير لا أملك إلا هذا الريال؟
المرأة :
اهدأ يا ولدي.
قمر :
وكيف يهدأ من لم يذق الطعام ولا النوم منذ أيام؟
المرأة :
قلت اهدأ يا ابني .. اجلس ما دمت متعبا .. هنا .. نعم .. أو هناك .. تحت هذه الشجرة .. ستأكل وتشرب حالا .. هيا يا بنات .. هيا (الفتاتان تنظران إليه كأنهما صنمان ذاهلان، المرأة ترفع صوتها ...)
المرأة :
قلت هيا .. أليس لكما آذان؟
الفتاة الأولى :
نعم نعم يا خالة.
الفتاة الثانية :
هل قلت شيئا يا خالة؟ أتريدين شيئا؟
المرأة :
هل قلت شيئا؟ أتريدين شيئا؟ لست أنا التي تريد .. إنه هذا الشاب المسكين ...
الفتاتان :
مسكين .. مسكين.
المرأة :
إنه جائع وظامئ ...
الفتاتان (في صوت واحد) :
وجميل يا خالة.
المرأة :
ألا تخجلان؟ أي زمان هذا؟
الفتاتان :
وماذا نفعل يا خالة؟
المرأة :
ماذا تفعلان؟ تقبلان الأرض تحت قدميه! ماذا تفعلان؟ تقدمان له الماء والطعام بطبيعة الحال.
الفتاة الأولى :
ليس لدينا ماء ولا طعام.
المرأة (صائحة) :
الماء في النبع والطعام ... انتظرا ... ربما أجد معي كسرة خبز. (تبحث في جيوبها، تخرج قطعة خبز تقدمها للشاب الذي ظل يدير عينيه بينهن دون أن يفهم شيئا، الفتاتان تتجهان بسرعة إلى النبع وتحضران الماء، المرأة تجلس هادئة بجانبه وتتجنب التحديق فيه فيطمئن شيئا فشيئا، يتحلقن حوله وتراقبه الفتاتان وتبتسمان فيبتسم ثم يضحكان فيضحك).
قمر (وهو يمضغ ويشرب) :
ألم ترين في حياتكن رجلا؟
المرأة :
بالطبع، لنا أزواج وعندي ثلاثة أولاد أكبر منك.
قمر :
فلماذا وقفتما مذهولتين؟
الفتاتان :
لماذا؟ لأننا ...
المرأة :
لأن التعب الشديد كان يبدو عليك.
قمر :
حقا .. حقا .. إن الثور نفسه لم يكن ليتحمل ما تحملت .. لعنها الله.
المرأة :
من هذه يا بني؟
قمر :
أبدا، تعبت في إصلاح الباب، ومع ذلك ...
الفتاة الثانية :
مع ذلك؟
المرأة (تنهرهما) :
اسكتا .. لماذا تقاطعانه؟
قمر :
لا بأس يا خالة .. ومع ذلك لم تعطني غير هذا الريال .. سامحها الله. لولا أنني تذكرت الحكمة التي قالها الأعمى ...
المرأة :
أية حكمة؟
قمر :
اقنع بالقليل يؤتك الله الكثير. حكمة جميلة .. أليس كذلك؟ يمكن أيضا أن تستفيدا بها كما استفدت، وها أنا آكل وأشرب من يدين جميلتين.
الفتاة الأولى :
وهل يقاس جمالنا؟
المرأة (مسرعة) :
اسكتي .. قل لي أيها الشاب، أنت غريب؟
قمر :
نعم يا خالة .. جئت من الريف.
الفتاة الثانية :
وفقير أنت؟
قمر :
ويتيم أيضا .. لم أر أبي أبدا.
المرأة :
قلت لا تقاطعيه.
الفتاة الأولى (بتحد) :
وتكلم نفسك كالحالم؟
قمر (كأنه يستسلم للنوم بعد أن أكل وأشرب) :
بل أترك نفسي تتكلم، أتركها تحلم.
الفتاة الثانية :
بم تحلم؟
المرأة :
حرام عليكما .. لا يمكن أن تكونا بهذه القسوة.
قمر :
دعيهما يا خالة .. دعيهما (يتثاءب) فتاتان جميلتان. (الفتاتان تتغامزان وتنظران إليه في وله)
قمر :
فتاتان جميلتان تسألان، أليس من حقهما أن أجيب؟
المرأة :
نعم ولكن، لا يمكن أن أسمح بهذا.
قمر :
انتظري يا خالة، عن أي شيء كنتما تسألان، آه ... بم أحلم؟
أني في الجنة وسط الحور العين
والبدر الطالع يبتسم كطفل محزون
الفتاة الأولى :
هل قلت البدر؟ أتراه كثيرا في الحلم؟
الفتاة الثانية :
أتراها في أحلامك؟
المرأة :
كفا عن هذا ...
قمر :
دعيهما يا خالة.
الفتاة الأولى :
تحلم بالبدر .. وبماذا أيضا؟
قمر :
أحلم بالجمال
والعدل والكمال
وأن أرى الحقيقة
في أعين الخليقة
الفتاة الثانية :
قل يا قمر! بماذا تحلم؟
قمر :
أني كون أصغر،
يحيا في الكون الأكبر
في روحي أرض وسماء،
وكياني الطين مع الجمر
جسدي مغلول في الأسر
وفؤادي يخفق كالطير
يوما سأعود إلى الأرض كما عاد الجدول للنهر
وعاد النهر إلى البحر
الفتاتان (وهما تضحكان) :
البحر .. البحر .. البحر. (المرأة وقد لاحظت أنه انصرف عنها إلى الفتاتين كما انصرفا إليه، تدير ظهرها للجميع وتقول لنفسها):
المرأة :
ربي
من أين يجيء الضحك الرنان.
في هذا الزمن الكافر زمن الأحزان
الزمن الأسود كالشيطان (تضع رأسها على كفها ...)
الجوقة (تواصل أحزانها) :
الزمن الأسود كالشيطان
الزمن الأسود كالطوفان
في الحقل كساد
في القصر فساد
ولأن الأيام عجيبة
حبلى بغريب وغريبة
ومصائب تلحق بمصيبة
قد يأتي الموت ولا نشعر
وتمر السحب ولا تمطر
ويطول الشجر ولا يثمر
ونجيل البصر ولا نبصر
ونصفق نضحك كالقرد
من وخز الشوك على الجسد
من لدغة ثعبان تردي ...
قمر (مستمرا) :
يوما سأعود إلى الأرض كما عاد الجدول للنهر وعاد النهر البحر.
الفتاتان (تواصلان الضحك) :
البحر .. البحر .. البحر.
الفتاة الأولى :
قل لي؛ هل تقضي عمرك في الحلم؟
قمر :
بل أعمل ليصير حقيقة
وليجد إلى الكوخ طريقه
وأبلل بالعرق عروقه
كي يجني الإنسان رحيقه
ويعيد إلى الفجر شروقه
ويرد إلى الأمل بريقه
الفتاة الثانية :
ألنفسك دوما تتكلم؟
ويمر الوقت ولا تسأم؟
قمر :
وأكلم أرضا وسماء
وأكلم نبعا أو نهرا
والزهرة تفهم ما أعني
والشجرة تنطق وتغني ...
الفتاة الأولى :
اسمعي يا خالة ... (المرأة لا تنظر إليهما.)
الفتاة الثانية :
اسمعي ما يقول النهر والنبع
الفتاة الأولى :
وما تقول الأرض والفراشة
الفتاة الثانية :
الفراشة؟ لا لا .. الفراشة صامتة .. إنه النسر.
الفتاة الأولى :
بل الفراشة .. الفراشة أم النسر يا خالة؟
المرأة (تنهض غاضبة) :
اتركاني في حالي .. سأذهب للنبع وأملأ جرتي .. لن تتوقفن عن الثرثرة حتى في ساعة الاحتضار (تمضي للنبع).
الجوقة :
صدقت يا امرأة .. إنك تشعرين بما نشعر به، فالبلبل يغني ولا يعرف أن السهم مصوب إلى قلبه، أتراه يغني للحب أم للموت؟ والفراشة ترفرف بجناحيها حتى وهي تحترق، والدودة تنشط في نسج الشرنقة ولا تدري أنها كفنها، ولكن إلام ينتهي هذا؟ ومتى تفيق يا قمر المسكين؟ أيظل الحمل يناجي الشاة حتى ولو لمست السكين رقبته؟ إلام ينتهي هذا؟ وا أسفاه! إني أشفق عليك يا قمر.
الفتاة الأولى :
هيا .. تكلم يا قمر.
الفتاة الثانية :
نعم .. تكلم يا قمر الزمان.
قمر :
كيف عرفتما اسمي؟ هل نطقت به؟
الفتاة الأولى :
من يحلم مثلك ويقول الشعر، لا بد أن يسميه أبوه قمر ...
الفتاة الثانية :
وعندما يكتمل القمر يصبح بدرا.
قمر (يتردد قليلا ثم يستبعد الفكرة) :
قمرا أو بدرا كما تشاءان .. لا بد أن يتحدا يوما ما.
الفتاة الأولى (تلكز الثانية بشدة) :
استمر، قل يا قمر
الفتاة الثانية :
بل نترك القمر يقول .. والنبع والنهر والشجرة.
قمر :
حقا! ماذا تقول الشجرة؟ (ينظر حوله، يكتشف أنه يستند إلى شجرة، يقبلها فجأة).
الفتاة الأولى :
أتقبل الشجرة؟
الفتاة الثانية :
ربما أعجبه ما قالت.
الفتاة الأولى :
وماذا قالت؟
قمر :
في المهد بدأت من البذرة
وصبرت شهورا وشهورا
ومددت عروقا وجذورا
وعملت على نول القدرة
ونسجت من الطين الخضرة
الجدول أفشى لي سره
والريح تعرت باكية
والتفت حولي كالمهرة
وشكت لي الغربة والحسرة
والنور تقدم مبتسما
في الفجر وكشف لي أمره
فائو إلى ظلي وتعلم
مني وأحب ولا تكره!
الفتاة الأولى :
مني وأحب ولا تكره .. أتقول الشجرة كل هذا؟
الفتاة الثانية :
وماذا يقول النهر؟
قمر :
إني أندفع إلى هدفي،
لا أنظر أبدا للخلف
الفتاة الأولى :
والنبع؟ لا بد أن عنده ما يقوله!
قمر :
إن يكن الليل عميقا
فسكوني أعمق
أو يكن الفجر رقيقا
فأنا منه أرق
اجعل قلبك طهرا وصفاء
وتعلم مني الحب فإن الحب عطاء
إن الحب نقاء
الفتاة الأولى (تلاحظ حركة وراء الأشجار) :
استمر يا قمر .. تكلم تكلم.
الفتاة الثانية :
احلم .. احلم.
الفتاة الأولى :
وماذا تقول الأرض؟ لا يمكن أن تسكت الأرض!
الفتاة الثانية (تلاحظ ما لاحظته زميلتها، ترتبك ثم تواصل) :
لا .. لا يمكن أن تسكت.
قمر :
ماذا تقول الأرض؟ الأرض تقول:
اعمل في صمت
اعمل في صمت
انسج ثوب الميلاد وثوب الموت
فتعلم قبل فوات الوقت
قبل فوات الوقت
واعمل في صمت
المرأة (تعود وتظل واقفة) :
هيه؟ أما زلتم تثرثرون؟
الفتاة الثانية :
نحن يا خالة؟
الفتاة الأولى :
البحر هو الذي يتكلم ...
الفتاة الثانية :
البحر .. البحر .. البحر (تضحكان).
الفتاة الأولى :
البحر لم يتكلم، إنه النبع والنهر والأرض.
قمر :
نعم يا خالة، خصوصا الأرض.
المرأة :
سمعت ما قالت (تلاحظ فجأة نفس الحركة المريبة خلف الشجر)، وهل سمعت أنت ما قال النسر؟
الفتاة الأولى :
النسر؟
المرأة :
نعم. انظري. إنه يحوم في السماء. يقف فوق رءوسكما.
قمر (مبتسما في ضعف، يبدو أنه يوشك أن يغرق في النوم) :
وماذا يقول يا خالة؟
المرأة :
يقول النسر:
في السفح جيف
في السفح جيف
وأنا أترفع وأعف
للقمم أحلق وأرف
للفتاتين :
هل تعفان؟ هل تعفان؟
الفتاتان :
ونحلق للقمم نرف! (تضحكان، يلاحظ أن قمر قد أسبل عينيه، تنظران إليه في خوف وإعجاب ...)
الجوقة :
آه! إني خائف
قلبي يرتجف ويجزع
ماذا يمكن أن يقع الآن؟
يا امرأة تكلمت وفي قولك لغز
لكن الحل بشع
والمعنى في الرمز الغامض أبشع
إني خائف!
رأس يحلم في الزمن المفجع؟
ماذا يمكن أن يحدث له؟
يذبح في الحال ويقطع
ويعلق فوق السور أمام الناس ويصفع
يا قمرا إني خائف
قلبي يرتجف ويجزع (المرأة والفتاتان في حالة وجوم، قمر نائم، يهجم حارسان فجأة)
الحارسان :
قفا .. لا تتحركا.
المرأة :
ربي! ما هذا؟
الفتاة الأولى (تنهض فجأة) :
أنا التي أوقعته في الفخ!
الفتاة الثانية (تنهض فجأة) :
بل أنا
الفتاة الأولى :
أنا .. أنا ..
الفتاة الثانية :
أنا .. أنا ..
الحارس الأول :
إنه هو.
الحارس الثاني (يتقدم من قمر) :
جميل والله .. انظر وجهه.
الحارس الأول :
صدقت الساحرة.
الحارس الثاني :
لأول مرة تصدق .. ما أجمله!
الحارس الأول :
أشبه بملاك طاهر
الحارس الثاني :
يحلم بالبدر الباهر
الفتاة الأولى :
بل يحلم ببدور
الفتاة الثانية :
ما شأنك أنت؟
الفتاة الأولى :
الرؤيا .. تحققت الرؤيا (تمد يدها للحارسين)
الفتاة الثانية :
أنا التي أوقعته .. هات أيها الحارس (تمد يدها)
المرأة (تقف بعيدا عنهم) :
في السفح جيف .. في السفح جيف.
الحارس الأول :
ماذا تقول؟
الحارس الثاني :
ماذا تقولين يا خالة؟
الفتاتان :
عجوز مخرفة .. لن تأخذي شيئا.
المرأة (من بعيد) :
من يحفر لأخيه حفرة، يتردى فيها ...
الفتاتان :
أو يأخذ أجره (تمدان أيديهما بإلحاح).
الحارس الأول :
انصرفا .. ما شأننا بهذا؟
الفتاتان :
ما شأنكما؟ كيف؟
الحارس الثاني :
انصرفا .. قلت انصرفا .. أجركما عند الله ... وعند السلطان .. أما نحن فنأخذ قمر معنا الآن (يوقظانه بعنف، يجرانه معهما قبل أن يفيق تماما ويخرجان ...)
الفتاتان :
يا حراس! الأجرة يا حراس ...
المرأة (صائحة ومندفعة خارج المسرح) :
يا قمر .. يا قمر .. يا قمر!
6
قصر السلطان (قاعة العرش، السلطان مهموم ووحيد، يقوم من مكانه على الكرسي ويقطع القاعة ذهابا وجيئة، يستدعي الوزير).
الجوقة :
أسمع صوت البوم
في القصر وجوم
في قلب السلطان هموم
الريح سموم
والشر على الأبواب يحوم
يسأل: أين سأجد العون وممن؟
من ذا يمسك بالدفة بعدي من؟
ها أنا ذا شيخ هرم مهموم
أمشي في القصر كأني شبح مهدوم
وإذا سقط النسر تداعى الدود ونعق البوم
آه .. ضل الحاكم والمحكوم
ضل الحاكم والمحكوم
السلطان :
من أصدق ومن لا أصدق؟ الوزير؟ يقول لسانه: اطمئن. ويقول المكر في عينيه: إنني أدبر مؤامرة. المنجم؟ يؤكد أن برج السعد اقترن ببرج المجد، بينما الوباء يجتاح العباد، والطوفان ينذر بإغراق البلاد. الشاعر؟ منافق وابن منافق، يدبج قصائد المدح وعينه لا ترى نزيف الجرح، حتى الطبيب لا يعرف الدواء، آه يا ابنتي وحبيبتي! أية عين أصابتك، أي جني سرق عقلك؟ تهذين وتحلمين، وتبكين وتصرخين؟ لهذا أمرت بأن تقيمي في القلعة بعيدة عني، وأنا لا أحد لي سواك، ما هذه الرؤيا التي تعذبك وتعذبني وتعذب البلاد كلها؟ والبلوى أنها انتشرت بين الناس وأصبحت على كل لسان، الصغير والكبير يقول: عندما تتحقق رؤيا الأميرة، ستتحرر الأرض الأسيرة، ولكن كيف؟ هل أترك السفينة تغرق في انتظار أمل لا يجيء ولا أعرف متى يجيء؟ أأنا سلطان أم مفسر أحلام؟ أعلم أن ابنتي ترى ما لا أراه، كم فزعت من رؤاها وتحيرت، حتى تقع الكارثة فأتذكر ويزداد خوفي، هل سمع أحد عن أب يخاف أبناءه؟ أنا هذا الأب، ذات صباح صحت من نومها وهي تصرخ: أمي ستزف الليلة في النعش، ابتسمت أمها التي كانت ترقد بجانبي وقالت: ابنتنا تحلم يا مولاي. ولم يأت الليل حتى زفت الأم عروسا للأرض، كانت صغيرة وأميرة، وأنا لم أرزق بولد يخلفني على العرش، وتزوجت السلطانة وانتظرت أن تقدم الهدية، وحاولت أن تكون حياتها معي ومع ابنتي سعيدة هنية، لكن ابنتي ظلت تتوجس خوفا منها ومن ظلها، وراحت تقاطع كل من حولها، قلت لنفسي لعل الأيام تصل ما انقطع، وتشفي الجرح وتزيل الوجع، حتى كان يوم سمعتها تصرخ والنوم لا يزال في عينيها: لا تدع الحية تسكن في البستان! لا تدع الحية تسكن في البستان! لم أستطع أن أتهم أحدا ولم أجد دليلا على خيانة، وحاولت أن أوفق بين ابنتي والسلطانة، حتى جاء يوم وسمعتها تطرق على الباب وتصرخ: اقطع رأس الحية حتى لا تقطع رأسك! وأمرت أن تعيش السلطانة في قصر آخر، وودعت الأمل في ولد ضن به الحظ العاثر، حتى كان يوم رأيت فيه بدر البدور، تجري في أرجاء القصر وتدور، وتهتف يا قمر الزمان، تعال أصلح الأمور .. ناديت عليها وهدأتها، داعبتها وأغرقت بالقبل رأسها وصدرها، لكن الرؤيا لم تتركها يوما ولا ليلة، والخوف من أن تفقد عقلها ألقى علي ظله، وساءت الحال بالأميرة والبلاد، وتنبأ المفسرون بأن تحقيق الرؤيا يحرر الأسيرة والعباد، وجاء المنجمون والأطباء، من كل الجهات والأنحاء، وكل واحد منهم يزعم أن معه الشفاء، كان الجميع يعرفون أن الشرط قاس، وأن من يعجز عن شفاء المريضة يجازى بقطع الرأس، فمتى يا رب تريحني من ضعفي وحيرتي، متى تهل طلعتك يا قمر وتفوز بعرشي وابنتي؟ هل أستدعي الطبيب؟ ولكنه عاجز لا يجيب، أأنادي على المنجم؟ شبعت من كلامه المبهم، هل أرسل الحرس للساحرة؟ إنها عجوز ماكرة، وطماعة غادرة، لا تعد وعدا، حتى تطلب الثمن نقدا وعدا، آه دبرني يا وزير، هذا ما يقوله العاجز عن التدبير. (ينادي): يا وزير! يا وزير! يا حرس! يا غلام (يتقدم أحد أفراد الجوقة ليقوم بدور الحارس) ناد الوزير .. قل له .. لا .. لا.
الحارس :
أناديه أم لا أنادي؟
السلطان :
اذهب! اذهب .. قل له يأتي في الحال، وعجل قبل أن يسوء الحال (لنفسه بعد أن ينصرف الحارس): وهل أسوأ من هذا الحال؟ هل أسوأ من هذا الحال؟
الوزير (يدخل) :
مولاي!
السلطان :
يا وزيري، عجزت عن التفكير والتدبير.
الوزير :
حاشا لله يا مولاي.
السلطان :
لا داعي للإنكار، هذا ما تردده الألسنة ليل نهار، هل نفذت ما أمرتك به؟
الوزير :
الأمن مستتب يا مولاي.
السلطان :
دائما تتحدث عن الأمن فتثير ريبتي.
الوزير :
ستثبت الأيام أنني الوفي الأمين.
السلطان :
اترك الأمن الآن والأمين .. كيف وجدت بدر البدور؟
الوزير :
بخير يا مولاي .. وقد شددت الأوامر برعايتها.
السلطان :
بخير؟ أتريد أن الأمن مستتب هنا أيضا؟
الوزير :
وكل شيء على ما يرام.
السلطان :
لعنك الله! والجنون الذي يعصف بعقلها؟
الوزير :
لا تقل الجنون يا مولاي .. إنها الرؤيا.
السلطان :
الرؤيا أو الجنون، وما الفرق؟ ألا ترتعش المسكينة من الحمى؟
الوزير :
لم يقل الطبيب هذا يا مولاي.
السلطان :
ولا المنجم، ولا العراف، ولا الحاسب، ولا الكاتب، وها أنت أيضا تنكر يا وزير، والأميرة تموت أمام أعينكم، والبلد كلها تموت.
الوزير :
ستتحقق الرؤيا عن قريب، وسيقترن برج السعد ببرج المجد.
السلطان :
وتغرق السفينة في الطوفان .. ألم يقل المنجم هذا أيضا؟
الوزير :
لا لم يقله، قالته الأميرة!
السلطان :
بدر البدور، هل سمعتها تقول هذا؟
الوزير :
شيئا يشبه هذا يا مولاي، سمعته اليوم منها وأكدته مرجانة.
السلطان :
مرجانة؟ من هذه؟
الوزير :
الجارية التي ترعاها يا مولاي، أكدت أنها تكرر هذا القول.
السلطان :
ما الذي تكرره؟
الوزير :
ما قلته يا مولاي .. السفينة ...
السلطان :
سفينة تغرق .. أتكون رؤيا أخرى يا وزير؟
الوزير :
لا أدري يا مولاي، هل أستدعي المنجم؟
السلطان :
بل ناد ابنتي .. أريد أن أراها الآن.
الوزير :
أمر مولاي.
السلطان :
عاملها برفق .. انزع الأغلال من قدميها ويديها.
الوزير :
لم نفعل هذا إلا بأمرك يا مولاي.
السلطان :
أسرع .. أسرع .. اصعد للقلعة مع الحراس وائتني بها.
الوزير :
هي بالباب يا مولاي.
السلطان :
ويلك! لماذا لم تقل هذا من البداية؟ لماذا لم توفر علي ثرثرتك؟ هيا .. أدخلها واخرج.
بدر (وهي على الباب) :
ابن سفينة نوح ...
السلطان :
تعالي يا ابنتي.
بدر :
ابن سفينة نوح ...
السلطان :
أهي رؤيا جديدة؟
بدر :
نفس الرؤيا.
السلطان :
وقمر الزمان؟
بدر :
هو نوح.
السلطان :
اقتربي .. هيا يا حبيبتي .. أعط أباك قبلته كما كنت دائما تفعلين.
بدر :
القبلة بعد الطوفان .. القبلة للربان
السلطان :
لنوح أم الربان؟
بدر :
قمر هو نوح .. نوح هو الربان، هو قمر زمانك وزماني.
السلطان :
نعم يا حبيبتي .. ولكنك لن تبخلي على أبيك بقبلة.
بدر :
القبلة للربان
السلطان :
نعم نعم .. سنتحدث في الأمر ...
بدر :
لا تتحدث! ابن سفينة نوح .. إني أخشى الطوفان.
السلطان :
وأنا أيضا أخشاه، أتظنين أن أباك لا يشعر بما تشعرين، أتظنين أنه لا يرى رؤياك؟
بدر :
رؤياي يراها كل الناس.
السلطان :
ولكنك وحدك التي تعرفينه .. أنت التي تستطيعين التعرف عليه.
بدر :
سيجيء قريبا.
السلطان :
من يا حبيبتي؟
بدر :
نوح .. قمر زمانك وزماني .. حين يجيء تعود إلى الأرض الخضرة وتعود الخضرة للإنسان.
السلطان :
ليتني أراه أيضا يا ابنتي، ليته يأتي الآن، ولكنني شيخ عجوز يا بدر، هل سننتظر حتى تفسر الرؤيا، هل بقي في العمر متسع للانتظار؟ ماذا نفعل يا ابنتي؟ نستدعي كل شباب البلد أمامك؟ هل سيكون واحدا منهم؟ وماذا نفعل إذا كان من بلد آخر؟ من يحضره لنا؟ من يتعرف عليه؟
بدر :
أنا أعرفه حين أراه ...
السلطان :
هل دلتك الرؤيا على وجهه؟
بدر :
هو يعرفني حين يراني ...
السلطان :
بالطبع ستتعارفان، المهم أن يأتي يا حبيبتي.
بدر :
قمر رأى رؤياي ... هو أيضا يعرف وجهي، يسمع وقع خطاي (طرق على الباب).
السلطان :
وأنا أسمع طرقا على الباب. اذهبي الآن يا حبيبتي .. يا وزير ...
بدر (أثناء دخول الوزير) :
اقطع رأس الحية .. ابن سفينة نوح ...
الوزير :
مولاي! أمر عاجل يا مولاي!
السلطان :
أوصل بدر البدور إلى حجرتها .. شدد الأوامر برعايتها.
الوزير :
نعم نعم .. إنه أمر عاجل يا مولاي!
السلطان :
ما هذا؟ ماذا جرى؟
الوزير :
قلت إن الأيام ستثبت لك أني وفي أمين، ها هو الدليل ...
السلطان :
دليل على ماذا؟ قلت لك خذ بدر البدور إلى حجرتها
الوزير :
بالطبع يا مولاي .. يا حراس! سر مع الأميرة إلى حجرتها (الحارس يتقدم ليضع الأغلال في يدها ...)
الوزير :
وترفق يا حارس
السلطان :
يا حارس .. لا تقس عليها .. أوص عليها مرجانة.
بدر (وهي تنصرف وتتلفت وراءها) :
ابن سفينة نوح ... اقطع رأس الحية ...
الوزير :
سمعت يا مولاي؟ هذا ما تردده بالليل والنهار .. ولكنك ستحسن الاختيار.
السلطان :
ماذا تعني؟
الوزير :
لن تختار الخونة على السفينة.
السلطان :
الخونة؟ هل تتكلم مثلها بالرؤى والألغاز؟
الوزير :
لا رؤى ولا ألغاز، إنني الوزير لا المنجم، الخونة ...
السلطان :
وتكرر الكلمة؟
الوزير (صائحا) :
ادخلوا بهما يا حراس. (يظهر قمر والسلطانة مغلولين في قيد حديدي، وراءهما حارسان).
السلطان :
من؟ السلطانة؟ ومن هذا؟
الوزير :
من يدري؟ جاسوس أو لص أو عبد مارق ...
حارس :
وكذلك زير نساء ومنافق ...
الوزير :
من أمرك بالكلام؟
حارس :
كان ينام كظبي عاشق، حتى انكشف النذل السارق
حارس :
والذئب الخائن ...
الوزير :
قلت اسكتا .. أو تكلما عما حدث.
السلطانة :
اسكتا وتكلما .. خونا واتهما غيركما بالخيانة .. غيرا الوجوه والعبا على كل الحبال.
الوزير :
لو كنت مكانك لسكت.
بدر :
لو كنت مكانك لخجلت.
السلطان :
ما هذا؟ ماذا حدث؟
الوزير :
اسأل حضرة السلطانة.
السلطانة :
اسأل حضرة الوزير.
السلطان :
بل أسأل هذا الغريب؟ تكلم يا بني .. من أنت؟
قمر :
غريب ويتيم وفقير.
السلطان :
وماذا تفعل هنا؟
قمر :
أبحث منذ شهور وشهور، علي أجد السر المستور، وأحقق حلم الأرض العطشى للحرية والنور
حارس :
ويغازل الأرض أيضا
حارس :
بعد أن غازل الحور
الوزير :
وصحا ليكشف الستر، ويستل سكين الغدر
الحارسان :
نحن كشفناه، نحن سمعناه
السلطانة :
بل فضحتما السر، وكشفتما الستر، مولاي .. وزيرك خانك.
الوزير :
أم أنت التي خنته؟ تكلما أيها الحارسان.
السلطان :
بل تكلم أنت يا ولدي ...
قمر :
بريء يا مولاي.
حارس :
براءة يوسف أم الذئب؟
السلطان :
وتتصنتان أيضا على الأبواب؟
السلطان :
اسكتوا جميعا .. ماذا فعلت أيها الغريب؟
قمر :
راودتني عن نفسي يا مولاي.
السلطان :
هكذا .. كانت ابنتي على حق .. تكلم يا بني.
قمر :
لكن الحكمة عصمتني.
السلطان :
أية حكمة؟
قمر :
التي قالها لي الحكيم الأعمى ...
السلطان :
وماذا قال لك؟
قمر :
لا تخن من ائتمنك.
السلطان :
ومن الذي ائتمنك؟
قمر :
حلمي يا مولاي ورؤياي.
السلطان :
حلمك .. رؤياك (يحدق فيه طويلا ويهز رأسه ...)
حارس (ضاحكا) :
كان يحلم عندما أمسكناه .. لكن السلطانة أدرى بما كان يحلم به.
السلطانة :
أخرسهما يا مولاي.
الوزير :
قلت اسكتا حتى يأمر مولانا بالكلام.
السلطان :
أكمل يا ولدي .. هل أغرتك بالمال؟
الوزير :
وأغراها بالجمال.
السلطانة :
امنعه يا مولاي من إهانتي .. ما زلت أنا السلطانة حتى تثبت تهمتي.
السلطان :
نعم نعم .. ما زلت السلطانة (لنفسه): اقطع رأس الحية حتى لا تقطع رأسك .. تكلم يا ولدي .. هل أغرتك بالمال؟
قمر :
والعرش يا مولاي.
السلطان :
العرش؟
قمر :
قالت لي: أنت قمر الزمان الموعود.
السلطان :
هل هذا اسمك؟
قمر :
نعم يا مولاي .. سمتني أمي بعد أن مات أبي قبل ولادتي.
السلطان :
ولماذا لم تقبل منها العرش.
قمر :
هي لا تملك أن تعطيه .. تملكه من في يدها السر وتخفيه.
السلطان :
من تملك هذا السر؟
قمر :
هي بدر.
السلطان :
ماذا قلت؟
قمر :
بدر .. بدر.
السلطان :
من قال بهذا؟ أسمعت الناس يقولونه؟
قمر :
قالته الرؤيا.
السلطانة :
سمعت بنفسك يا مولاي؟ من منا يطمع في العرش؟ من يطلبه؟
قمر :
أنا لا أطلبه، هو يطلبني..
السلطانة :
مغرور كذاب.
قمر :
عفوا يا مولاتي، سأصحح قولي.
السلطان :
ماذا ستقول؟
قمر :
لن أقول شيئا، ستقول الأرض.
السلطانة :
العطشى للحرية والنور .. سمعت يا مولاي؟
السلطان :
سمعت سمعت، لكني لم أفهم شيئا ...
السلطانة :
اسأل الوزير الذي سلطه علي
السلطان :
بل أسأل نفسي: من منكم الخائن؟ من أصدق ومن لا أصدق؟ وإذا كان هو الخائن، فكيف يرى الرؤيا؟ وإذا صدقت رؤياه فكيف يخون؟ هل أدعو ابنتي؟ هل يمكنها أن تتعرف عليه؟ وكيف أعرض عليها من يخونني مع زوجتي؟ كيف أزوجها له؟
صوت بدر البدور :
اقطع رأس الحية ...
السلطان :
أم رأس الثعبان؟
صوت بدر البدور :
ابن سفينة نوح ...
السلطان :
أيكون الخائن نوحا؟ أيكون الخائن كالربان؟ لا لا لا .. يا وزير ...
الوزير :
أمرك يا مولانا ...
السلطان (بصوت حاسم) :
اكتب ما أمليه عليك (للسلطانة): سأرسلك إلى أبيك، رجل أثق بعدله، يضع الميزان لأهله، سيحكم فيك العرف، هو أدرى مني بالأحكام، وسيعرف من كان بريئا ممن خان. يا وزير (يختلي بالوزير على انفراد يملي عليه ويكتب الوزير)
الوزير :
هيا يا حراس ...
السلطان :
لا .. ليذهب معهما حارسان آخران ... وليبق هذان تحت الحراسة حتى نعرف الخبر اليقين.
الحارسان (يبكيان) :
مولانا هل يحرسنا الحراس؟ أنقدم إليك رأس الحية فتسلط سيفك على رءوسنا؟
السلطان :
رأس الحية؟ من يدري من منكم رأس الحية ومن السيف المسلط فوق السلطان؟ (للسلطانة): أنت؟
السلطانة :
أنا يا مولاي؟ غدا تدخل عليك براءتي كما دخلت عليك في ليلة الزفاف.
السلطان :
حقا .. كان هذا من زمن طويل ... والزمن لا يثبت على حال (ثم لقمر): أم أنت؟
قمر (مناجيا شخصا لا نراه) :
أعمى العينين بصير القلب .. يا عمي خذ بيدي.
السلطان :
من الذي تخاطبه؟
قمر :
الأعمى يبصر دربي، وسينقذ من سيفك رأسي وينور قلبي.
السلطان :
اختلط الأمر علي، خذوهم يا حراس (يدخل حراس من أفراد الجوقة) أنتما (للسلطانة وقمر) أنتما لكفة الميزان، وأنتما (للحارسين) للسجن والسجان.
الحارسان :
أهذا جزاؤنا؟! (يبكيان)
السلطان :
أتأخذانه مرتين؟ ومن قال إن قمر هو قمر، من يعرف إن كانت الرؤيا هي الرؤيا؟ من؟ من؟ خذوهم يا حراس، خذوهم .. خذوهم (وحده بعد انصراف الجميع)، اختلط الأمر علي فأين الكذب من الصدق؟ اشتبه الحق مع الباطل والتبس الباطل بالحق (السلطان يميل برأسه على مسند الكرسي فلا ندري إن كان يبكي أو أخذته سنة من النوم).
الجوقة :
أين الكذب من الصدق؟
اشتبه الحق مع الباطل
والتبس الباطل بالحق
إن كان السلطان مريضا كالنسر القابع في السفح
فالشعب أسير وكسير
مجروح يدميه الجرح
ينتظر الرؤيا لتحقق وعد الحلم،
ويقاس الظلم ولا يشهد غير الدم
ذلت في الطين نفوس
وتدلت من فوق السور أمام القصر رءوس.
يا نوح الغارق في النوم تعال
ابن سفينتك وعجل قد ساء الحال
بدر في الأسر سجينة
عاقلة أم مجنونة؟
قمر يساق إلى الموت مع السلطانة
مسكين مع مسكينة
أين هما الآن وهل وجد الحق طريقه؟
هل ينتصر على زيف الباطل أم يبدو الباطل كحقيقة؟
يا بحر الزمن ترفق وارحم يا بحر غريقا وغريقة.
فلنسرع في الخطو الآن لندرك قمر مع سلطانة
ولينتبه النائم حين يؤذن ديك الفجر أذانه
يا قمر! يا سلطانة!
يا قمر! يا سلطانة! (يسمع أذان الديك) (يدخل أحد الحراس مسرعا إلى السلطان، يفيق من غفوته وينتبه إلى الحارس).
الحارس :
مولاي! مولاي!
السلطان :
من؟ ماذا تريد؟ ماذا دهاك؟
الحارس :
فتاتان بالباب يا مولاي .. فتاتان من الشعب .
السلطان :
وماذا تريدان؟ من سمح لهما بالدخول؟
الحارس :
حراس البوابة يا مولاي، ألحا في طلب المقابلة حتى تجمع الناس على صياحهما.
السلطان :
أدخلهما .. هيا (تدخل الفتاتان وهما تصيحان).
الفتاة الأولى :
سرقونا يا سلطان .. سرقونا.
السلطان :
من الذين سرقوكما؟ ألا أسمع في هذا اليوم إلا عن سارق أو خائن؟
الفتاة الثانية :
وخانونا أيضا .. سلمناهم الأمانة فضنوا علينا بالأمانة.
السلطان :
فهمت .. تتكلمان عن الأمانة وتقصدان الخيانة .. يبدو أن العدوى انتشرت في كل مكان.
الفتاتان :
المكافأة .. أجرنا يا مولانا السلطان.
السلطان :
أجركما .. على أي شيء؟
الفتاة الأولى :
ألم يعلن المنادي في الصباح، ألم يصح في السوق حتى ضج الحجر وصاح؟
السلطان :
آه .. أأنتما ...
الفتاتان :
نعم نحن ...
السلطان :
الحور العين .. والظبي الحالم.
الفتاتان :
تماما .. كان يحلم حين أمسكنا به.
السلطان (ضاحكا) :
ولا يزال يحلم حتى تثبت براءته أو يقطع رأسه .. اذهبا .. انتظرا أياما وعودا.
الفتاة الأولى :
حتى نرى رأسه على السور!
السلطان :
أو ترياه على العرش .. اذهبا .. اذهبا كيف تقف فتاتان هكذا، كيف تخرجان من بيتكما في هذا الليل؟
الفتاة الأولى :
الليل .. ألا تسمع صياح الديك يا مولانا؟
السلطان :
حقا .. مع أني لم أنم لحظة واحدة .. اذهبا .. اذهبا وعودا بعد أيام.
الفتاتان :
والمكافأة؟ وأجرنا يا سلطان؟
السلطان :
خذوهما يا حراس .. يا حراس (يهجم عليهما الحراس بالقيود والأغلال).
الفتاتان :
لا لا .. سنذهب، سنذهب، الأفضل أن يصيح الديك ونحن في الدور، على أن تتدلى رءوسنا من فوق السور (يسمع الديك ... يقف السلطان لحظة ثم يرتمي على كرسيه، يتثاءب ويغرق في النوم).
الجوقة (تتدخل) :
والآن يؤذن ديك الفجر أذانه.
فلنسرع كيما ندرك قمر وسلطانة.
يا قمر! يا سلطانة!
يا قمر! يا سلطانة!
7
على الطريق (قمر وسلطانة على الطريق، يبدو عليهما الإعياء وغبار السفر، الحارسان يمشيان بجانبهما وفي يد كل منهما قيد مغلول إلى يد أحد السجينين، جبل وعر وطريق قفر ...)
الجوقة :
الشمس تميل إلى الغرب
والقدم تسير على الدرب
هل يفضي الدرب إلى غاية؟
هل يعرف بدءا ونهاية؟
قمر قد تعب وسلطانة
والحارس مكدود مضنى
يتمنى أن يغمض عينا
ويسلم للنوم عنانه
لكن الخوف يؤرقه،
وغبار الرحلة يرهقه
فيميل ويسبل أجفانه
يا حارس رفقا وتأنى
فسجينك في القيد معنى
والجوع تمكن من قمر
والعطش يعذب سلطانة
وسجينك يرثي سجانه
ائو إلى الظل ولا تجزع
وترو قليلا لا تفزع
واسأل من تجد على الدرب
للشرق تروح أم الغرب
قد تجد لديه ما يروي
أو تجد لديه ما يشبع
جلس الأربعة بلا صوت
والموت يحوم في صمت
كغراب أسود يتخبط
في الجو ولكن لا يهبط
حتى يختار ضحيته
فيحط على رأس تسقط
السلطانة :
تعبت.
قمر :
استريحي .. ألا يزال الطريق بعيدا؟ (يتأمل المكان)
السلطانة :
عطشت وجعت.
قمر :
ربما نكون قد ضللنا .. هل أنت متأكدة؟
السلطانة :
ماء .. قلت عطشت.
قمر :
يا حارس .. أنت.
الحارس الأول :
ماذا تريد؟
قمر :
انظر في هذه الناحية .. أو هذه .. ربما تجد إنسانا يسقينا.
الحارس الأول :
لا أستطيع.
قمر :
ولماذا لا تستطيع؟ قد تجد نارا من بعيد .. بيتا أو كوخا.
الحارس الثاني :
لا نستطيع.
قمر :
أنت أيضا؟ السلطانة عطشانة وجائعة.
الحارس الثاني :
لكي أنظر في هذه الناحية لا بد أن أفك قيدك .. ولكي ينظر في تلك الناحية لا بد أن يطلق قيدها .. الأوامر مشددة.
قمر :
بأن تتركونا جائعين ظامئين؟
الحارس الأول :
بألا نترككما أبدا.
قمر :
وإذا متنا؟
الحارس الأول :
أنتما المتهمان لا نحن (يستخرج من جرابه زجاجة) هذا هو الماء.
قمر (ينتزعه منه ويسقي السلطانة) :
أليس معك شيء يؤكل؟
الحارس الثاني (يستخرج لفة من جرابه) :
خذ (يجلسان وينظران كصنمين).
قمر (لا يزال يسقي السلطانة) :
اشربي جرعة أخرى.
السلطانة (تفيق وتتأمله) :
عطشان يسقي عطشانة.
قمر :
خذي هذه اللقمة .. لا بد أن تأكلي شيئا.
السلطانة :
جوعان يطعم جوعانة .. ألا تأكل أنت أو تشرب؟
قمر :
فكري الآن في نفسك .. جرعة أخرى؟
السلطانة (فجأة) :
اقترب مني (تتحسس رأسه بقدر ما يسمح القيد في يدها) ما أجملك!
قمر :
ينظران إلينا كذئبين جائعين.
السلطانة :
قلت اقترب .. ما أبدع هذا الرأس! (يبتعد عنها) ألا تخاف أن يسقط؟
قمر :
لا أبالي أن يسقطه سيف الحق .
السلطانة (ضاحكة) :
والرؤيا؟
قمر :
سيراها إنسان آخر.
السلطانة :
ويتزوج بدر البدور.
قمر :
أو بدرا أخرى.
السلطانة :
ألا يمكن أن يراني؟
قمر :
إن بقيت رأسك فوق كتفك (يضحك).
السلطانة :
ألا تثق في عدالة أبي؟
قمر :
أثق في العدل.
السلطانة :
كأنك واثق من إدانتي .. نسيت أنه أبي.
قمر :
لم أنس ما قالوه عنه .. عادل!
السلطان :
حتى مع ابنته؟
قمر :
الميزان لا يفرق بين أحد، كلهم أبناؤه.
السلطانة :
رجل صارم .. رجل قاس.
قمر :
قلتها بنفسك .. فلماذا تخافين أو أخاف.
السلطانة :
أخاف أن يسقط هذا الرأس الجميل قبل أن أشبع منه.
قمر :
وأخاف من عيون هذين الحارسين وآذانهما .. لقمة أخرى؟
السلطانة :
ليت ذكاءك يعادل شهامتك وكرمك!
قمر :
وماذا تفهمين من الذكاء؟
السلطانة (هامسة) :
أحبك .. أحبك.
قمر :
لا تنسي أننا مراقبان.
السلطانة (هامسة) :
لماذا حرمتني من هذا الشيء الوحيد؟
قمر :
إنهما ينظران إلينا.
السلطانة :
ينظران ولا يريان .. دعك منهما. لماذا؟ لماذا؟
قمر :
الصوت منعني.
السلطانة :
وتصدق هذا الأعمى؟
قمر :
ربما كنت أنا الأعمى ساعتها .. وجاءت الحكمة فأبصرت لي.
السلطانة :
أكنت إذن؟
قمر :
أنا أيضا من لحم ودم.
السلطانة :
لو كنت فعلت لتم كل شيء.
قمر :
أي شيء؟
السلطانة :
الخطة التي دبرتها.
قمر :
تقصدين المؤامرة.
السلطانة :
الاسم لا يهم .. المهم أنك كنت ستجد نفسك على العرش وأنا بجانبك.
قمر :
لم تقل الرؤيا هذا.
السلطانة :
كان يمكنك أن تجعلها تقول ما تريده .. إنها رؤياك.
قمر :
ليست رؤياي.
السلطانة :
ألم ترها أنت؟
قمر :
هي التي رأتني.
السلطانة :
أتريد أن أفقد عقلي .. هي من؟
قمر :
الأرض، روح الأرض .. قلب النبع ونبض القلب.
السلطانة :
أتظل تحلم حتى يقع السيف على رقبتك؟
قمر :
المهم أن نتشبث بالحلم حتى النهاية (يسمع صوت شخير الحارسين).
السلطانة :
هيا .. هيا.
قمر :
ماذا تريدين؟
السلطانة :
دائما يخونك ذكاؤك؟
قمر :
المهم ألا أخون.
السلطانة :
من؟
قمر :
من ائتمنني.
السلطانة :
وإذا كان يريد رأسك.
قمر :
أو رأسك .. سنرى ما يحكم به الحق.
السلطانة :
وإذا كان في يدنا أن نفتح الخطاب ونقرأ ما فيه .. وأن نأخذ مفتاح القيد ونهرب .
قمر :
إلى أين؟ إذا هربت من الرؤيا فلن تهرب مني.
السلطانة :
هذا الرأس الجميل (يتحرك الحارسان)
قمر :
لقد تحركا..
الحارس الأول :
تحلمان بصوت مرتفع.
الحارس الثاني :
وتظنان أن القيود والخطابات تفتح بسهولة.
قمر :
سمعت؟
السلطانة :
أغبياء .. كلكم أغبياء.
الحارس الأول :
هيا!
الحارس الثاني :
هيا! (تنهض السلطانة وقمر في صمت، يتهيأ الجميع للتحرك عندما يسمع صوت الزمر والطبول، قمر يجمد في مكانه).
الحارس الأول :
تحرك.
الحارس الثاني :
هيا هيا .. لا وقت نضيعه .. نريد أن نصل قبل حلول الليل (قمر في مكانه).
الحارس الأول :
أنت.
الحارس الثاني :
أنت .. أنت.
قمر :
ها هو ذا ينادي.
الحارس الأول :
لم أناد فقط .. لقد صحت.
الحارس الثاني :
لا نريد أن نبيت في هذا القفر.
قمر :
إنه هو!
الحارسان :
من؟
السلطانة :
أرأيت أحدا يا قمر؟
قمر :
بل سمعته! سمعته!
الحارس الأول :
عجبا .. هل نادى أحد؟ (يتحرك في اتجاه الصوت الذي لا يسمعه).
السلطانة :
هيه! كدت توقعني على الأرض.
الحارس الأول :
ماذا تنتظر؟
قمر :
ماذا أنتظر؟ حقا .. ها أنا ذا .. ها أنا ذا (يحدقون فيه).
السلطانة :
ماذا يا قمر .. أهي رؤيا جديدة؟
قمر :
بل هو نفس الصوت.
السلطانة :
ماذا يقول؟
قمر :
يقول ما سمعته منه.
السلطانة :
سمعته ممن! أتريد أن نجن؟
قمر :
إن لقيت عرسا فلا يفوتك.
السلطانة :
ماذا تقول؟
قمر :
لم أقل شيئا .. هو الذي قال.
السلطانة :
ومن هو هذا؟ تذكر ...
قمر :
لا حاجة للتذكر .. إنها حكمته الثالثة (يسمع صوت رهيب غامض: إن لقيت عرسا فلا يفوتك).
السلطانة :
الأعمى المخبول؟
قمر :
الحكيم .. المبصر .. يا حراس ...
الحارس الأول :
ماذا تريد؟
قمر :
فكا القيد حالا.
الحارسان :
مجنون أنت؟ نفكه لنقيد به إلى الأبد؟
قمر (بصوت مرعب) :
قلت فكاه.
الحارسان :
وإذا لم نفعل؟
قمر :
أفكه أنا (بحركة مفاجئة يكون قد نزع يديه من القيد الحديدي ووقف أمام الثلاثة حر اليدين).
السلطانة :
قمر! إنك تخيفني.
الحارس الأول :
أتظن أن فك القيد يعني الهرب؟
قمر :
أنا لا أهرب.
السلطانة :
أتتركني وحدي يا قمر؟
قمر :
لن أتركك ولن أهرب.
السلطانة :
ولماذا فعلت هذا ؟
قمر :
إنها الرؤيا!
الحارسان :
الرؤيا فكت قيدك (يضحكان).
قمر :
أمرتني وأطعت.
السلطانة :
أمرتك أن تخون؟
قمر :
مثلي لا يخون .. إنني أتعهد بالعودة.
السلطانة :
وإلى أين تذهب؟
قمر :
إن لقيت عرسا فلا يفوتك .. هكذا قال (تسمع أصوات الطبول والمزامير).
الحارس الأول :
ومن سيتركك تذهب؟ (يجرد سيفه.)
الحارس الثاني :
خل الرؤيا تنفعك (يجرد سيفه.)
قمر (يرفع ذراعه ويصرخ بصوت مخيف) :
والرؤيا ترد سيفيكما إلى صدوركما .. اتركاهما (السيفان يسقطان).
قمر :
أعدكما وأقسم برؤياي .. بالحلم وبدر البدور.
السلطانة :
أن ترجع؟ هيهات أن تسلم رأسك بيديك.
قمر :
سأحقق وعدي .. وأسلمه إن لزم الأمر .. (يسمع وقع الطبول والمزامير والغناء أعلى وأشد) سأعود .. سأعود .. سأعود (قمر يذهب يقف الحارسان مذهولين .. السلطانة تتبعه بنظراتها لحظة ثم تغرق في الضحك ...)
السلطانة :
هيا .. لا وقت لدينا.
الحارسان :
تضحكين يا سلطانة؟
السلطانة :
ولماذا لا أضحك؟
الحارسان :
ألم تفكري في مصيرنا؟ ماذا نقول للقاضي؟ ماذا يقول السلطان؟
السلطانة :
لن تقولا شيئا .. سأتولى كل شيء (لنفسها): سأسلم بنفسي الخطاب لأبي .. هذه فرصتي للنجاة .. (تضحك) هيا .. هيا لقاضي العدل. (يمضي الثلاثة صامتين ... يختفي الجميع من على المسرح، إظلام تام يستمر لحظات ثم تضاء الأنوار، نرى قمرا يجري مسرعا ومن خلفه بدر البدور، وفي يدها حذاء، ترى مربيتها مرجانة التي تحاول اللحاق بها).
مرجانة (تجري وراءها) :
مهلا يا ابنتي.
بدر :
قمر! يا قمر!
مرجانة :
يا ابنتي تقطعت أنفاسي .. يا ويلي من أبيك .. كنت أظن أن العرس سيخفف عنك.
بدر :
أمسكيه يا مرجانة .. أدركيه أدركيه.
مرجانة :
ومن يدركنا نحن؟ آه .. قلبي يسقط في قدمي .. هل رجعت إلى الحلم؟
بدر :
رجع إلي يا مرجانة .. رجع إلي.
مرجانة :
إنه شاب ككل الشباب .. رقصت معه كما رقصت مع غيره.
بدر :
وبحثت عنه ووجدته
مرجانة :
هذا الولد المسكين؟
بدر :
هو يا مرجانة .. وجهه وملامحه .. نظرة عينيه وكلامه .. تعالي نلحق به قبل أن يختفي.
مرجانة :
الجبل وعر يا ابنتي .. ما هذا؟ تمشين وقدمك حافية!
بدر :
هو حذاؤه يا مرجانة .. هو العلامة.
مرجانة :
العلامة .. يا خسارتي فيك!
بدر :
ليس جنونا يا مرجانة .. إنها الرؤيا.
مرجانة :
تعطينه حذاءك ويأخذ حذاءك .. وتبحثين عن القدم المناسبة .. وأموت قبل أن تجديه .. أتظنين نفسك ...
بدر :
وريقة الحنا .. أنسيت؟
مرجانة :
ولكنك ابنة السلطان .. وهو فقير شحاذ.
بدر :
الرؤيا قالت هذا .. يا قمر! يا قمر!
مرجانة :
لن تجديه (يظهر قمر من خلف صخرة).
قمر :
ستجدينه وتفقدينه.
بدر :
قمر! تختفي وراء الصخرة وتتركنا نلهث ونصيح؟
قمر :
وتعرفين اسمي؟
بدر :
نسيت بدر البدور؟! ألم نلتق يا قمر؟! ألم نتواعد؟!
قمر :
ورقصنا حتى طلع الفجر .. وحلمت بأنك ...
بدر :
ولماذا تحلم والحلم حقيقة؟ انظر في وجهي. أنا بدر البدور.
مرجانة :
بنت الملك الغيور .. سلطان الجزائر والبحور والسبعة قصور.
قمر (يتأملها) :
ليتك كنت فقيرة.
بدر :
فقيرة إليك يا قمر.
قمر :
ليتك ما كنت أميرة.
بدر :
نسيت الأميرة الأسيرة؟
قمر :
الأميرة الأسيرة؟
بدر :
في القلعة المهجورة.
قمر :
حقا. الرؤيا قالت هذا ...
بدر :
وأطل عليك من الشرفة .. تتسلق شعري الذهبي.
قمر (مرددا) :
فكي عني الأسر .. فكي عني الأسر.
بدر :
قدمي في الأغلال .. روحي في الأغلال .. حررني من هذا الأسر.
قمر :
أشعر أني مسحور .. فكي عني السحر.
بدر :
بل أنت الفارس .. خلصني من هذا الأسر.
قمر (صائحا) :
لا لا أقدر .. لا أقدر.
بدر :
لم يا قمر .. وجدتك بعد سنين الغربة بعد سنين الهجر .. (يتراجع للوراء) أقدم يا فارس حلمي .. لا تتقهقر.
قمر :
أنا مثلك مغلول اليد .. مشلول الرقبة والصدر.
بدر :
الرؤيا صدقت يا قمري .. والأرض تنادي.
قمر (مرددا) :
ومرارة كل الأيام .. لا لم تصدق يا بدر.
بدر :
بل صدقت يا قمر .. تعال .. تقدم .. سر.
قمر :
مغلول الرقبة والصدر.
بدر :
أنا بجوارك .. مد يديك.
قمر :
يدي في الأسر.
بدر :
زال الأسر وزال السحر .. أنا بجوارك يا قمر.
قمر :
وأنا لا زلت بعيدا (يبتعد شيئا فشيئا).
بدر :
لم تبتعد تعال.
قمر :
أمر السلطان.
بدر :
أبي؟
قمر :
والسيف يحوم على النحر.
بدر :
السيف؟ ماذا حدث؟ تكلم!
قمر :
في الأمر خيانة.
بدر :
الرؤيا لا تكذب أبدا .. قمري ليس بخائن.
قمر :
هل خانتني .. أم أنا خنت السلطانة؟
بدر :
اقطع رأس الحية .. هل نسي كلامي؟
قمر :
القاضي يحكم في الأمر .. وداعا!
بدر :
هل تذهب للسيف بنفسك؟ أتضحي يا قمر برأسك؟
قمر :
وعد يا بدر.
بدر :
وقد يسلمك إلى القبر.
قمر :
أو يفتح لي باب القصر.
قمر :
وداعا يا بدر!
بدر :
خذ هذا معك.
قمر (ضاحكا) :
حذاء؟
بدر :
أنسيت السر؟ أنسيت الرؤيا؟ (قمر صمت ... يتذكر.)
بدر :
خذه .. سلمه لحراس القصر.
مرجانة :
خذه يا ولدي .. اجعله علامة.
قمر :
وعلامتك؟
بدر (تريه حذاءه) :
هذا.
مرجانة :
والعرق المتصبب مني .. وتورم قدمي من هذا الصخر!
قمر (ضاحكا) :
لن أنسى يا مرجانة .. لن أنسى.
بدر :
هل تذهب؟
قمر :
الوعد ينادي.
بدر :
أخاف عليك (تبكي).
قمر :
صوني دمعك يا بدر.
بدر :
وأراك تسارع للقبر؟
قمر :
أو للقصر.
بدر (تبتسم) :
أنتظرك يا قمري ...
قمر :
في هذا القفر؟ لا لا .. عودي .. عودي .. يا مرجانة!
مرجانة :
مرجانة شلت رجلاها .. والنفس انقطع من الصدر!
قمر (ضاحكا وهو يبتعد) :
تلك علامة.
بدر :
لا تنس الأخرى.
قمر :
هي في صدري.
بدر :
لا تنس السر.
قمر :
قد أحمله للقبر.
بدر ومرجانة :
بل للقصر .. بل للقصر.
قمر :
عودا في خير.
بدر :
وتعود سريعا؟
قمر :
من يدري؟
بدر :
الرؤيا أدرى منك ومني.
قمر :
ستذكرني بالوعد
بدر :
أمام القصر
قمر :
أو في القبر
بدر :
قمري قمري
قمر :
ينتظر القاضي يا بدر .. وداعا يا مرجانة!
بدر ومرجانة :
وداعا يا قمر!
قمر (من بعيد) :
وداعا يا بدر!
بدر :
قمر! قمر!
قمر :
بدر! بدر!
بدر :
قمر!
قمر :
بدر! (يتلاشى الصوت بالتدريج، تنسحب بدر ومرجانة ... إظلام).
8
أمام القصر (قمر يتقدم بخطى مسرعة نحو القصر، الوقت قبل الفجر بقليل، يبدو السور من بعيد، تعلوه قضبان علقت عليها رءوس مقطوعة، شبح عجوز يتجول أمام السور، وعلى البعد وقع أحذية حراس وفرسان ترتفع أصواتهم وتنخفض بقدر اقترابهم من السور أو بعدهم عنه ...)
قمر (لاهثا) :
يا سلطان! يا سلطان!
الجوقة :
لا تتهور يا مجنون!
واخفض صوتك فالجدران لها آذان وعيون
والحراس على الأبواب وحول السور يروحون ويغدون
ماذا ينتظرون؟
أن يصل الحرس ومعهم رأس السلطانة
أو رأس غريب يتبوأ أعلى السور مكانه
قمر (مناديا) :
يا سلطان! يا سلطان!
الجوقة :
قلت اخفض صوتك يا مجنون!
قمر :
لا لن أخفضه حتى ألقى السلطان، يا سلطان! يا سلطان!
العجوز (يسرع نحوه) :
ما هذا؟ من أنت؟
قمر :
غريب مسكين.
العجوز :
الكل هنا مساكين (يشير إلى أشباح رءوس مقطوعة) أتريد أن تكون جارهم؟
قمر :
أريد مقابلة السلطان، يا سلطان!
العجوز :
لا ترفع صوتك، لست أصم، ثم إنني لست الحارس الوحيد .. أتسمع وقع أقدامهم هناك؟
قمر :
لا شأن لي بهم، جئت لمقابلة السلطان.
العجوز :
إنهم يراقبون الأبواب ويحصون الأنفاس، من حسن حظك أنهم لم يسمعوك.
قمر :
أريد أن يسمعني السلطان.
العجوز :
ليس قبل أن أسمعك أولا .. تعال .. تعال أخبئك في كوخي. (يشده ليداريه في كوخ حراسته، يقترب منه ويتفرس في وجهه) أشفق على هذا الرأس الجميل.
قمر :
قلت لا بد من مقابلته، لا بد أن يسمعني.
العجوز :
ولا بد أن أسمعك أولا.
قمر :
إنه سر خطير .. لغز خطير.
العجوز :
تريد أن تكشفه؟!
قمر :
لغز خطير.
العجوز :
وتريد أنت أن تحله؟
قمر :
ألم أقل لك؟
العجوز :
غريب مسكين .. أشهد آثار السفر على وجهك وثيابك .. من أين يا ولدي؟
قمر :
من جوف الأرض أتيت.
أمي تحتضر هناك وأهلي يحتضرون.
العجوز :
وتركتهم في هذه الحال؟
قمر :
الرؤيا قالت: سافر سافر.
الحلم دعاني: هاجر! هاجر! هاجر!
شقيت ظمئت وجعت، وها أنا جئت ومعي السر.
العجوز :
الرؤيا .. الحلم .. السر .. كلمات أسمعها منك ولا أسمعها أول مرة.
قمر :
ماذا تعني؟ (يسمع صوت الحراس يقتربون ...)
العجوز :
إن كنت حريصا على رأسك فاختف الآن، اختف في هذا الكوخ.
حارس (من بعيد) :
يا حارس! أنت يا حارس الموتى.
حارس آخر :
أيها العجوز .. أيها السياف على المعاش (يضحكون).
العجوز :
نعم يا سادتي.
حارس :
أردنا أن نطمئن .. حذار أن تغافلك عينك وتنام.
العجوز :
الحارس يحترس من النوم يا سادتي الحراس.
حارس :
ولو كان يحرس النائمين إلى الأبد؟
حارس آخر :
افتح عينيك يا حارس .. الويل إن غافلك فأر أو قط ضال.
اقبض عليه وأبلغنا في الحال ، من يدري إن كان وراءه إنس أو جني محتال (يتضاحكون وتبتعد خطاهم).
قمر (همسا) :
ماذا ينتظرون يا عمي؟ ماذا يحرسون؟
العجوز :
يحرسون الحارس، والحارس يحرس موتى.
قمر :
هل أحزنتك يا عمي؟ أتبكي؟
العجوز :
أبكي؟ لا يا ولدي. لن أستطيع حتى ولو أردت، جمدت عيناي وفات زماني.
قمر :
فات زمانك؟ سمعت أنهم أحالوك للمعاش.
العجوز :
نعم .. نعم .. كنت سياف السلطنة، أريح رءوس القتلة والسفاحين، والآن ما الحاجة إلى سياف والكل سياف؟
قمر :
وهذه الرءوس؟ ألم يقطعها سيفك؟
العجوز :
بل قطعت نفسها بنفسها .. كل غبي مثلك يتصور أنه سيكشف السر.
قمر :
وما هذا السر؟ تكلم يا عمي؟
العجوز :
لماذا أتكلم وأنت تضعه في جيبك أو في صدرك؟
قمر :
هل تقصد الأميرة؟
العجوز :
تعرفه وتسأل عنه؟
قمر :
أميرة مأسورة
في قلعة مهجورة
العجوز :
قالوا من يشفيها يتزوجها
يرث العرش
ويخلصها ويخلصنا من أسر الوحش
قمر :
الوحش؟ هذا ما لا أعرفه .. أي وحش؟
العجوز :
بل تعرفه .. وحش كاسر.
حط على هذا البلد وهاجم كل مقيم ومسافر
كاللص الغادر كالليل الملعون الكافر
نزع القلب من الصدر ومسخ الإنسان
في صورة كلب عاقر
هل تعلم يا ولدي؟
قمر :
أنا لا أعلم بل أحلم.
العجوز :
كل هؤلاء كانوا يحلمون مثلك.
قمر :
ولكل حلمه يا عمي.
العجوز :
وتأويله واحد يا ولدي .. أن توضع رأس صاحبه على السور.
قمر :
سمعت عنهم وأنا الآن أراهم .. أين المنجم والطبيب؟
العجوز :
يصعب أن أميزهم الآن .. ولكنهم سواء .. رأوا الحلم وفاجأهم تأويله .. هل تعرف آخرهم هذا؟
قمر :
سمعت أنه أمير وابن أمير.
العجوز :
ولكنك لم تر جماله .. لم أحزن على رأس كما حزنت على رأسه .. أتعرف ما يتراءى لي الآن يا ولدي؟
قمر :
حلم آخر؟
العجوز :
حلم أو رؤيا .. المهم أنني أراها كل ليلة.
قمر :
من؟ الأميرة؟
العجوز :
رؤياي مختلفة عن رؤياك .. أتظن أنني أجهلها أو أجهل اسمك الذي هتف به المنادي في الأسواق؟
قمر :
ولكنها ستظل رؤياي .. قل ماذا رأيت أنت.
العجوز :
رأيت القلعة مهجورة .. ولم أجد فيها أميرة.
قمر :
لم تجد فيها الأميرة؟ وأين ذهبت؟
العجوز :
اطمئن .. لم يخطفها جني .. لم يتسلق أحد العشاق جدائلها الذهبية.
قمر :
وماذا حدث؟ ألم يبحثوا عنها؟
العجوز :
لم يحدث شيء، ولم يبحثوا عنها، لأنها لم توجد أبدا.
قمر :
ماذا تقول؟!
العجوز :
صدق يا ولدي أو لا تصدق .. إنني أشفق على رأسك.
قمر :
مستحيل .. مستحيل.
العجوز :
أنت وشأنك .. هناك مكان ينتظرك فوق السور.
قمر :
لا أبالي بهذا .. ما دمت سأحرر الأميرة.
العجوز :
تحررها؟ حرر نفسك من حلمك أو رؤياك.
قمر :
سترى بنفسك .. اليوم أو غدا.
العجوز :
قد لا تشهد عيني هذا الغد.
قمر :
ستشهد الأرض، ويشهده الشعب المقتول بفك الوحش.
العجوز :
وتغرز سيفك فيه وأنت على دست العرش (يضحك).
قمر :
وبجانبي الأميرة .. لقد رأيتها بنفسي.
العجوز :
رأيتها؟
قمر :
وراقصتها في العرس.
العجوز :
هذا ما أشاعوه أيضا .. وطاف به المنادي.
قمر :
المنادي؟ وماذا قال؟ (تسمع أصوات الحراس، يقترب وقع أقدامهم).
العجوز :
انتظر .. هيا إلى الداخل.
حارس :
لم تر شيئا يا حارس؟
حارس آخر :
لم تسمع وقع خطاهم؟
العجوز :
لم أر ولم أسمع.
حارس :
انتبه جيدا .. لا بد أن يصلوا الآن .. ارفع صوتك وأبلغنا .. نحن على الباب الآخر.
العجوز :
اطمئنوا .. ومكان الرأس هنا محفوظ.
حارس آخر :
لا بد أن يراه السلطان بنفسه.
حارس :
وبعد ذلك نسلمه لك وللغربان والصقور (يختفون).
قمر :
سر آخر .. ما هذا؟
العجوز :
سر يعرفه كل الناس.
قمر :
هل طاف به المنادي أيضا؟
العجوز :
بالطبع .. المنادون كثيرون.
قمر :
وماذا قال؟
العجوز :
أتصدق ما قال؟
قمر :
أريد أن أسمعه منك.
العجوز :
وإذا كنت ستراه بنفسك.
قمر :
السر؟
العجوز :
بل رأس السلطانة.
قمر :
السلطانة!
العجوز :
أو رأس فتى مسكين مثلك يحتل مكانه.
قمر :
أهذا ما قاله المنادي؟
العجوز :
وقاله الناس أيضا.
قمر :
ماذا قالوا؟
العجوز :
ما قلته الآن.
قمر :
سري لا زال معي .. أنا لم أقل شيئا.
العجوز :
لم تصنه كما لم تصن رأسك.
قمر :
رأسي لا زال على كتفي .. ماذا قالوا؟
العجوز :
أترى هذا العجوز؟ (يشير إلى رأس مدلى على السور) اسأله!
قمر (يقترب منه) :
الساحرة ؟
العجوز :
لقيت جزاءها .. أفشت السر للسلطانة وكتمته عن السلطان.
قمر :
أعرف .. أعرف .. البخيلة الملعونة.
العجوز :
ولهذا أمر السلطان بأن يسوقها لقاضي العدل.
قمر :
وسيق الاثنان في الأغلال ومعهما الحراس.
العجوز :
وهرب المتهم في الطريق.
قمر :
لا لم يهرب .. دعاه الصوت.
العجوز :
صوت حكيم أعمى.
قمر :
تعرف هذا أيضا!
العجوز :
الأسرار على أفواه الناس .. قالوا أيضا.
قمر :
قالوا قالوا .. ماذا قالوا؟
العجوز :
لبى الفتى الدعاء.
قمر :
الرؤيا أمرته بهذا.
العجوز :
وسعى للعرس ورقص هناك.
قمر :
نعم .. نعم .. مع الأميرة.
العجوز :
أو مع وريقة الحنا.
قمر :
مع الأميرة أو وريقة الحنا .. لا يهم.
العجوز :
المهم أن المنادي طاف بالأسواق.
قمر :
ماذا قال؟
العجوز :
أمر شباب البلد بأن يجتمعوا في الساحة.
قمر :
وهل حضروا؟
العجوز :
وحضر السلطان .. أمس مساء في هذه الساحة تحت أضواء المشاعل، تمدد الجميع على الأرض ومدوا سيقانهم .. كان مشهدا عجيبا.
قمر :
مشهد جلد عام؟
العجوز :
بل فضح السر الخافي.
قمر :
أي سر؟
العجوز :
ليتك كنت هنا يا ولدي ورأيت بنفسك؛ آلاف الأقدام يمر عليها الخدم مع الحشم مع الحراس، وحذاء بال في أيديهم يخرج من قدم كي يدخل في قدم آخر، وشباب البلد يئنون ويبكون.
قمر :
ولماذا يبكون؟
العجوز :
لأن الحظ يخون.
قمر :
الحظ يخون؟
العجوز :
نسيت وريقة الحنا؟ نسيت الأميرة المزعومة .. الأميرة المسكينة؟
قمر :
مسكينة نعم .. ولكنها ليست مزعومة .. يا حراس!
العجوز :
اخفض صوتك يا مجنون!
قمر :
مجنون أو مسكين .. هذا لا يعنيني .. الحلم تحقق يا عمي (يخرج فردة حذاء من جيبه ...)
العجوز :
أشفق على رأسك الجميل يا ولدي.
قمر :
يا حراس! يا حراس!
العجوز :
قلت اخفض صوتك .. أخف هذا الحذاء الملعون.
قمر :
صوتي لن أخفضه .. وحذائي ليس بملعون .. انظر.
العجوز :
إنه يلمع في ضوء الفجر.
قمر :
نعم نعم .. فكعبه من ذهب .. ووجهه من لؤلؤ وياقوت .. يا حراس! يا حراس!
العجوز :
ولكنه لن يرحم رأسك.
قمر :
يرحمه أو لا يرحمه .. الحلم تحقق يا عمي.
العجوز :
الأحلام تكذب يا ولدي.
قمر :
الرؤيا لا تكذب أبدا .. يا حراس !
العجوز :
انظر يا ولدي .. انظر .. كانوا مثلك .. لكن رؤاهم كذبت .. قد تكذب أيضا رؤياك.
قمر :
ليست رؤياي وحدي .. يا حراس! يا حراس! خذوني للسلطان!
العجوز :
حذرتك يا مجنون! أنذرتك يا مسكين! (يأتي حارسان مسرعين ... يهبطان الدرج العالي وترتطم أقدامهما بالأرض .. يحيطان بقمر والعجوز ...)
حارس :
ما هذا؟ من أنت؟
حارس آخر :
ماذا تفعل هنا؟ ماذا تريد؟
العجوز :
حلم آخر .. حذرتك يا مجنون!
قمر :
لأكن مجنونا .. هذا الحذاء عاقل.
حارس :
الحذاء؟
حارس آخر :
أيكون هو الحذاء؟!
قمر :
إنه العلامة .. يا سلطان! يا سلطان!
الحارسان :
السلطان في انتظارك .. هيا! هيا!
العجوز :
حذرتك يا مجنون! أنذرتك يا مسكين. بعد قليل ستعلق فوق السور. (يقتاده الحارسان، يختفي الجميع ...) (وبعد قليل يسمع صوت آت من بعيد يتضح شيئا فشيئا. يتبينه العجوز ويرى صاحبيه يقتربان من السور ...)
الحارسان :
يا حراس! إلى السلطان!
العجوز :
أنتما أيضا؟ تريدان مقابلة السلطان؟
الحارسان :
في الحال أيها العجوز .. في الحال أيها العجوز (يسرعان إلى القصر).
العجوز :
ربي! هل تشهد عيني تحقيق الحلم؟
أم تشهد بعد قليل لون الدم؟
آه! فات زماني .. ضاع الأمس وضاع اليوم
عبثا تنتشل النائم من بحر النوم! (يسقط على الأرض. إظلام).
9
في مخدع الأميرة (الأميرة ترقد على أريكة بجوار الحائط، ساقاها ويداها في الأغلال، تشهق من حين إلى حين وترفع رأسها لتطل من نافذة بجانب فراشها، تبكي فتسرع إليها مرجانة وتجفف دموعها).
مرجانة :
إلى متى يا ابنتي تعذبين نفسك؟
بدر :
تعرفين يا مرجانة .. أنت وحدك تعرفين.
مرجانة :
نعم يا حبيبتي، كفي إذن عن البكاء (تجفف دموعها وتحاول أن تقدم لها شيئا من الطعام).
بدر :
تعرفين هذا أيضا، لن أذوقه إلا معه.
مرجانة :
خذي هذه الكأس من يدي .. اشربي يا ابنتي.
بدر :
سأشربها من يده.
مرجانة :
وإذا لم يأت ... أفتموتين من الظمأ والجوع؟
بدر :
إن كان يهتم بحياتي أو موتي فسيعود، لا بد أن يعود يا مرجانة.
مرجانة :
الله وحده يعلم أين هو الآن.
بدر :
انظري من النافذة.
مرجانة :
نظرت كثيرا .. في الغسق وفي الشفق نظرت ...
بدر :
لولا هذا القيد بساقي وكفي!
مرجانة :
لنثرت جدائلك الذهبية حبلا يتدلى له .. تعلمين أن أباك أمر بوضعه شفقة عليك.
بدر :
شفقة علي؟ أنت أيضا يا مرجانة؟
مرجانة :
معاذ الله يا ابنتي .. ولكنها الرؤيا.
بدر :
التي سلبتني عقلي .. هذا ما تظنونه جميعا.
مرجانة :
لا لا يا بدر .. لا أحد يساوره الشك.
بدر :
ولكنك تشكين في عودته .. ألم تريه معي؟
مرجانة :
بالطبع يا ابنتي .. رأيته معك.
بدر :
يضمني إلى صدره وأضمه إلى صدري.
مرجانة :
لا تقولي هذا .. كنتما ترقصان كما يفعل كل الأولاد والبنات.
بدر :
وتلاقينا وتواعدنا .. والرؤيا تمت يا مرجانة.
مرجانة :
ثم تلاشت .. وجرينا في الجبل وراءه.
بدر :
ومع ذلك تشكين.
مرجانة :
لا أدري يا ابنتي .. كأنها كانت حلما أفقت منه.
بدر (مبتسمة) :
كانت حلما؟ اسألي قدميك المتورمتين.
مرجانة :
حلم أم كابوس، المهم أن تضحكي، اضحكي واضحكي يا ابنتي .. أما الآن فالألم يبكيني. (تتأوه ضاحكة .. ترن ضحكة من بدر البدور، ثم لا تلبث أن تغيم سحابة حزن على عينيها حين تسمع أصوات الحراس من بعيد تصل إليها كالأصداء التي تعلو شيئا فشيئا: مولانا السلطان ...)
السلطان (يدخل وحده) :
بدر البدور .. ابنتي .. حبيبتي. (بدر تنظر إليه ولا تتحرك)
السلطان :
استريحي يا ابنتي .. لا تتحركي. (بدر تواصل النظر إليه .. عاجزة عن الحركة).
السلطان :
أعلم أنك غاضبة على أبيك .. ساعديها يا كهرمانة.
مرجانة :
مرجانة يا مولاي .. مرجانة.
السلطان :
مرجانة أو كهرمانة .. هل أتذكر كل شيء؟ ألا ترحمون شيخوختي؟ ألا تحسون لفح الرياح التي تعصف بالسفينة؟ (يقترب من بدر) لست غاضبة علي .. أليس كذلك؟ عيناك تقولان هذا .. أرجوك لا تسخري مني يا ابنتي .. لا تسخري بأبيك العجوز .. فكرت كثيرا فيما قلت.
بدر :
أنا لم أقل شيئا.
السلطان :
بل قلت يا حبيبتي .. ونطقت بالحكمة أيضا .. أنسيت لقاءنا الأخير؟ ابن سفينة نوح .. هذا ما قلته.
بدر :
لم أقله لك يا أبي.
السلطان :
بالطبع يا ابنتي .. أبوك عجوز مريض .. سفينته تغرق في اليم .. والملاحون تخلوا عنه .. كذب العراف .. عجز طبيبك وطبيبي، خرس لسان الشاعر، ورياح تعصف من كل مكان .. معك الحق .. ضلت قطعان الراعي، بار حصاد الفلاح .. حتى المطر يخاصمنا، ويجفو الأرض وينسى الزرع .. ابن سفينة نوح. هذا ما قلت.
بدر :
قمر هو نوح وهو الربان .. هو قمر زمانك وزماني.
السلطان :
سأسلمها له .. سأسلمه السفينة يا ابنتي.
بدر :
هل يبني أخرى؟
السلطان :
يبني ما يشاء .. المهم أن يظهر يا حبيبتي.
بدر :
ظهر يا أبي .. رأيته ورآني.
السلطان :
ورقصت معه أيضا .. والحذاء جربناه على أقدام الآلاف من الشباب .. كان منظرا عجيبا .. والمساكين يتأوهون ويبكون.
بدر :
سيأتي يا أبي .. لا بد أن يأتي.
السلطان :
وتعرفينه إذا رأيته؟
بدر :
ويعرفني حين يراني.
السلطان :
وتصدق الرؤيا يا بدر .. ويسقط المطر.
بدر :
ويستقر الحذاء في القدم .. وتتربع القدم على العرش.
السلطان :
متى يظهر يا ابنتي .. متى يعود؟ (يظهر الوزير ثم يبدو من خلفه حارسان يحيطان بقمر).
الوزير :
ظهر يا مولاي .. عاد يا سلطان.
السلطان :
ظهر وعاد! من؟ من؟
الوزير :
قمر يا مولاي.
بدر (هاتفة) :
قمر! قمر زمانك وزماني .. تعال .. تعال!
السلطان :
لا لا .. كيف أصدق؟ هات دليلك.
الوزير :
سرك في صدرك، هيا أخرجه .. اعرضه على مولانا.
قمر (يمد يده إلى صدره وينتزع الحذاء) :
ها هو ذا سره.
السلطان :
الحذاء؟
مرجانة :
هو يا مولاي السلطان .. كعب ذهبي .. وجه مزدان بالياقوت وباللؤلؤ والمرجان.
بدر (تتقلب في فرشها وتحاول فك قيودها) :
حررني يا قمر سمائي.
قمر (مادا ذراعيه نحوها) :
قمر مثلك يا بدر.
السلطان :
تقدم يا ولدي منها .. جرب هذا الحذاء بقدمها.
قمر :
لا أقدر يا مولاي.
بدر :
الرؤيا صدقت يا قمري.
الوزير (يتقدم من الأميرة ويجرب الحذاء الذي يدخل في قدمها) :
صدقت يا مولاي.
السلطان :
وأين حذاؤه؟ هاتي يا بدر.
بدر :
تكفينا الرؤيا يا أبتي.
مرجانة (تتقدم وتستخرج الحذاء وتجربه على قدم قمر الغارق في تأمل حبيبته) :
الرؤيا صدقت يا مولاي.
بدر :
قمر .. أنت الحب
وأنت الحرية أنت
قمر :
قد حررتك يا بدر فمات الموت! (بدر البدور تنهض من على فراشها، بقوة سحرية تطلق يديها وساقيها من القيد).
الوزير :
الرؤيا حق يا مولاي.
السلطان :
حق .. حق .. لكنني لا أصدق!
الوزير :
أتريد دليلا آخر؟
السلطان :
سأسلمه ابنتي وعرشي .. أريد أن أطمئن يا وزيري.
الوزير :
وإليك دليلا آخر .. يا حراس!
السلطان :
ماذا؟ ما أبشع هذا! (يدخل الحارسان اللذان صاحبا قمر والسلطانة على الطريق وفي يديهما طبق كبير عليه رأس السلطانة).
الوزير :
رأس السلطانة.
السلطان :
اقطع رأس الحية!
بدر :
لم تسمع قولي إلا بعد سنين.
السلطان :
نعم يا ابنتي .. ليتني سمعته من سنين.
الوزير :
خذوه خذوه يا حراس .. إن القتل جزاء الخائن أيا كان .. وضعوه هناك على القضبان طعاما للغربان .. وضعوه جوار الساحرة ليشهد كل الناس.
السلطان :
لا تخن من ائتمنك .. الآن صدقت كلامك يا قمر
قمر :
بل صدق الأعمى يا مولاي.
السلطان :
الأعمى الحكيم؟
قمر :
دعاني للعرس فلبيت نداه.
السلطان :
أمره عجيب .. كيف تعرفت عليه؟
قمر :
حكاية طويلة يا مولاي.
السلطان :
وكيف تركت بلادك؟ من أنت وماذا كنت تريد؟ كيف رأيت الرؤيا؟ كيف تلاقت رؤيا بدر مع رؤياك؟
الوزير :
وتعانق برج السعد وبرج المجد.
السلطان :
هذا ما كنت تقول يا وزير.
الوزير :
ولا زلت أقوله.
السلطان :
لكن كيف تلاقى برج السعد ...
الوزير :
مع برج المجد؟
مرجانة :
المهم أنهما التقيا يا مولاي.
الوزير :
وهذا قمر وهذه بدر.
السلطان :
لا بد لي أن أعرف الحكاية .. لا بد أن أعرفها من البداية.
الوزير :
وهل تهمنا البداية؟ أليس ما يهمنا الختام؟
مرجانة :
فلنعلن الأفراح يا مولاي.
الوزير :
ولنعطه الأختام.
بدر :
هيا يا قمر .. تقدم .. هيا يا أبت!
السلطان :
ماذا يا ابنتي؟
بدر :
سلمه مفتاح القصر.
السلطان :
طبعا يا بدر.
بدر :
ماذا تنتظر؟
السلطان :
الصبر الصبر.
بدر :
سلمه الدفة يا أبت.
السلطان :
آه .. تذكرت .. كي يبني في الحال سفينة نوح.
بدر :
ويبدأ في الحال من الصفر .. لم لا تتكلم يا قمر؟
قمر :
أبوك يريد ...
السلطان :
ذكرني يا ولدي .. ماذا كنت أريد؟ ...
قمر :
أن تعرف الحكاية .. من أول البداية.
السلطان :
وأعرف من أنت .. من أي بلاد جئت .. كيف وصلت إلينا .. ماذا لاقيت وماذا جربت.
مرجانة :
يا مولانا .. ها هو يقف أمامك .. جميل في غابة قبح ودمامة
السلطان :
بريء وجميل .. حقا يا مرجانة
بدر :
أين وعودك يا أبت؟
قمر :
انتظري يا بدر .. هذا حق الأب
السلطان :
وحقك أيضا يا بدر
بدر :
وتؤجل وعدك يا أبتي؟
السلطان :
وعدي حق يا بدر
بدر :
مفتاح القصر
السلطان :
وكرسي العرش، وسيف يغرزه في صدر الوحش .. خذ يا ولدي (يقدم له المفتاح والسيف فيتراجع قمر).
قمر :
لا لا!
بدر :
ترفض يا قمر؟
قمر :
لا أرفض يا بدر .. ولكن أنتظر.
بدر :
ماذا تنتظر .. تكلم.
قمر :
أن نرجع للبدء .. نعود إلى الصفر.
بدر :
ماذا تقصد؟
قمر :
ما تقصده الرؤيا والسلطان.
السلطان :
نعم يا ولدي .. ذكرني ماذا أقصد.
قمر :
أن تعرفني منذ البدء .. ولهذا سنعود إليها.
بدر :
نعود لمن؟
قمر :
نعود لأمي يا بدر!
السلطان :
أحسنت .. الآن تذكرت.
قمر :
أمي تنتظر وتحتضر هناك.
السلطان :
تحتضر هناك؟ وكيف تركت الأم وسافرت؟
قمر :
لأعود إليها .. أمي هي أرضي .. أرضي هي أمي.
بدر :
هذا ما كنت تقول.
قمر :
بل ما قالته الرؤيا.
بدر :
رؤيانا حق يا قمر.
قمر :
ليست رؤيانا يا بدر القلب .. هي رؤيا الأرض ورؤيا الشعب.
الجميع في صوت واحد :
ليست رؤيانا يا بدري .. يا بدر القلب
بل رؤيا الأرض المحزونة .. رؤيا الشعب
الجوقة :
فلنرجع عجلات الزمن إلى الخلف
وندع الزمن يمر
وليبدأ قمر من الصفر ومعه بدر
الأم هنالك تلفظ آخر أنفاس العمر،
فلترجع يا قمر إليها
ولتعد القطرة للبحر
ستبارك رأسك يا بدر وتضع الكف على الصدر
وستعرف أن الولد الخائب عاد ومعه مفتاح القصر
وهنالك أيضا ينتظر الأهل الفقراء وينتظر الفقر
أن نزرع بذرة أمل في صحراء القهر
هيا يا بدر
هيا يا قمر فقد طلع الفجر
يا قمر يا قمر النائم
يا قمر تحرك يا قمر (يتردد نداء الصوت طويلا: يا قمر .. يا قمر تحرك ... إلخ. إظلام .. على الضوء الشاحب نرى قمر يفرك عينيه لحظات، على الجانب الآخر من المكان أفراد الجوقة يتحركون ويفركون عيونهم ...)
قمر :
أمي لا تصدق يا صديق.
صديق (ضاحكا) :
ومن كان يصدق أنها ستعيش حتى الصباح؟
قمر :
لا تصدق أنني عدت .. أن الحلم تحقق.
صديق :
تحلم وأمك تحتضر؟ اخجل من نفسك.
قمر :
قل لها أنت، اسألهم بنفسك .. اسأل السلطان.
صديق :
السلطان؟
قمر :
أمامك .. وبدر البدور أيضا .. والخدم والأتباع .. اسألهم .. اسألهم.
صديق :
اسأل أنت هؤلاء.
قمر :
من؟ من؟ (يسقط الضوء على كومة بشرية بجوار الحائط، شباب ونساء وعجائز وصبي بجوار أعمى ... يتقلبون فوق الحشايا ويفيقون شيئا فشيئا من النوم ...)
صديق :
جيرانك .. سهروا معنا طول الليل.
قمر :
طول الليل؟ لا يمكن .. لا يمكن أبدا!
صديق (يحيي الجيران) :
حيا الله! حيا الله!
الجيران (بصوت واحد) :
حيا الله! حيا الله! صباح الخير!
صديق :
ليلة عصيبة .. حتى الطبيب يئس من الشفاء.
قمر :
قلت مستحيل .. مستحيل (يندفع نحوهم ويتأملهم واحدا واحدا .. بينما يخطو صديق نحو الأم التي تبدو الآن راقدة على الفراش في الركن القصي).
صديق :
حيا الله! حيا الله!
الأم :
حيا الله! لولاك يا ولدي.
صديق :
أستغفر الله .. هذا قمر صحا أخيرا.
الأم :
هل يصحو أبدا يا ولدي؟
قمر :
أفراد الجوقة .. أفراد الجوقة!
صديق :
اخفض صوتك .. أمك متعبة.
الأم :
متعبة! أنا في آخر أنفاسي.
صديق :
شفاك الله!
قمر :
الراعي والفلاح .. الأعمى والنجار .. اسألهم أنت.
صديق :
قلت اخفض صوتك .. أمك عاودها المرض المؤلم.
الأم :
بل أحتضر.
صديق :
شفاك الله!
الأم :
وولدي يحلم.
قمر (وهو يلهث ويترنح بين الجيران وصديق الذي يشده من يده) :
تعال بنفسك واسألهم.
صديق :
أسألهم؟ اسألهم أنت.
قمر (يخاطب أحدهم) :
يا عم!
واحد :
حيا الله!
قمر :
أنت الفلاح (يتلفت الرجل حائرا إلى الجيران) عم القحط .. أليس كذلك؟
الرجل :
تعرف هذا يا ولدي .. منذ سنين ونحن نعاني القحط.
قمر (لصديق) :
أرأيت؟
هلك الزرع وجف الضرع
وضن المطر أو الدهر
وسنابل قمحك ذابلة
وصغارك كجراد القفر
الرجل :
فليرحمنا الله!
فليرحمنا الله!
قمر (إلى رجل آخر بجانبه) :
وأنت الراعي.
الرجل (حائرا) :
هل يمكن أن تنساني؟
قمر (هائجا) :
وقطيعك لا يجد الشوك ولا العلقم
يرفع عينيه الصامتتين إليك
يناجي الخضرة
أين تراك ذهبت وأين؟ ... وأنت؟
رجل :
أنا يا قمر؟
قمر :
أنت النجار!
الرجل :
عمك وحبيب أبيك، ونجرت سريرك لما كنت صغيرا
قمر :
سريري أم نعش الموتى؟
الرجل :
الموتى؟ نحن الجيران أتينا
قمر :
نحن الفقراء
نحن الفقراء
في زمن المحنة
لم أصلح بابي أو عتبة بيتي؟
صديق (يهزه من كتفيه) :
أفق يا قمر! أفق يا قمر!
قمر :
تظن بأني أحلم
الناس سواء في الكرب
ووباء يعصف بقرانا
والأرض تموت من الجدب
من أجل الفقراء حلمت
من أجل الفقراء رجعت
صديق :
لا تتماد يا قمر.
قمر :
اسألهم بنفسك.
صديق :
أسأل من؟
قمر :
قلت لك السلطان وبنت السلطان .. بدر عروسي وحبيبة قلبي.
صديق :
لا أحد هنا يا قمر .. لا أحد.
قمر :
انظر ترهم يا صديق .. لما حررتك يا بدر تحررت .. لما حررتك مات الموت.
صديق :
انظر أنت يا قمر .. افتح عينيك.
قمر :
أتريد دليلا آخر .. اسأل هذا .. أو هذا .. اسال هذي المرأة.
المرأة :
أنا؟ خالتك بهية.
قمر :
لا لا لا .. أنت الساحرة الجنية .. كيف دخلت إلى بيتي؟ كيف أتيت؟
المرأة :
كيف أتيت؟ أرعى أمك في وقت الشدة.
قمر :
غادرة تستبدل بالكذبة كذبة، رأسك فوق السور هناك.
المرأة :
رأسي فوق كتفي يا ولدي.
قمر :
اسألي هذا العجوز.
العجوز :
أنا يا ولدي؟
قمر :
وكأنك لا تعرفني.
العجوز :
من لا يعرف قمر؟ ألم أحملك على صدري؟
قمر :
بل أنت الحارس للموتى
العجوز :
سامحك الله!
قمر :
سياف سلبوه سيفه .. تركوه أمام السور.
العجوز :
أمام السور؟
صديق :
أفق يا قمر ولا تتماد (يحاول أن يهزه من كتفه فيفلت منه).
قمر :
دعني .. دعني .. لماذا تضع رأسك بين رجليك؟ أيها الأعمى البصير .. ألم يبصر قلبك؟ ألم تر أذناك؟
الصبي :
هو يا عمي
الأعمى :
أعرف يا ولدي.
قمر :
لم لا تتكلم بالحكمة؟
الأعمى :
هل أجدت يا ولدي الحكمة؟
قمر :
وهدتني في رحلة عمري للقلعة، قل لهم ماذا أعطتني.
الأعمى :
يعرفون ماذا أخذت منك.
رجل :
تعب أبيك.
امرأة :
دواء الأم.
رجل :
ولهذا جاء يكفر عن ذنبه.
قمر :
ذنبه؟ ماذا قلتم؟ من نجاني من حد السيف؟ أنقذني في وقت الشدة صوته.
الأم (من بعيد) :
ولدي .. ولدي الخائب.
فتاة :
أمك تدعوك .. تحرك.
فتاة أخرى :
ولد خائب .. لا يرعى الشاة ولا البقرة
رجل :
ويضيع الشاة مع البقرة!
فتاة أخرى :
ولكن وجهه المليح
فتاة :
لا يستحق إلا النظر والتسبيح
قمر :
عرفتكما .. أوقعتماني في الفخ.
الفتاتان :
ليتنا استطعنا (تضحكان).
قمر :
تركتماني أكلم الشجرة والنبع، وأناجي الأرض والريح والبحر.
صوت :
البحر .. البحر .. البحر.
صوت :
إن يكن الليل عميقا
فسكوني أعمق
أو يكن الفجر رقيقا
فأنا منه أرق
صوت :
أعمل في صمت
أعمل في صمت
أنسج ثوب الميلاد
وثوب الموت
صديق (يندفع إليه) :
لكنك لا تتعلم.
قمر :
دعني .. دعني أعطها المكافأة.
صديق :
لن أدعك حتى تصحو
قمر :
أصحو! أتظن بأني أحلم؟
صديق :
وتخرف كالقرد الأبكم .. أفلا تسمع أمك؟
الأم :
آه ...
قمر :
أمي تحلم.
صديق :
بل تتألم .. تحتضر وأنت تصيح وتهذي.
الأم :
ولدي التائه في ليل الحلم
صديق :
سمعت؟
قمر :
لا .. لا تكذب. إني عدت إلى الأرض الأم.
صديق :
عد للأم .. حاول أن تسمعها، تقف بجانبها تحمل عنها الهم.
قمر :
صديق .. صديق العمر .. صدقت رؤياي فصدقني.
صديق :
تصدق أو لا تصدق .. ليس يهم .. افتح عينيك وقم.
قمر :
أنا عدت إلى الأرض الأم، أزرع فيها بذرة حلم.
صديق :
لا وقت لتزرع أو تقلع .. عد للأم.
الأم (من بعيد) :
ولدي! (ينتشر الضوء .. يفتح عينيه ويقلبهما في المكان ويهز رأسه .. ينتبه إلى صوت الأم فيجري نحوها ويجثو عند فراشها ...)
قمر :
نعم يا أم .. نعم يا أم (يبكي).
أصوات :
يا ولدي أرضك هي كنزك، هل تملك إلا هذا الكنز؟
في زمن الجوع سألنا، أعطتنا الماء وأعطتنا الخبز.
الأم :
ولدي .. ولدي!
قمر :
أنا بجوارك يا أمي.
أصوات :
أرضك هي أمك يا ولدي، لا تغضب أمك
وضعت فيها عرق العمر فأخصب دمك ولحمك
صديق :
أنت بخير يا عمة.
قمر :
أنت بخير يا أمي.
الأم :
أحمده، أشكر فضله، خذ بيديه يا صديق.
صديق :
لا توصيني بصديق العمر.
الأم :
جرعة ماء يا ولدي .. قد جف الفم.
أصوات :
يا ولدي قد شاب الشعر وجفت أوراق دمي
الأرض تنادي وتنادي لتعيد الطفلة للرحم
الأم :
ولدي ! ولدي! (تدخل في الغيبوبة، صديق يأخذ بيد قمر إلى وسط المسرح).
صديق :
تعال! تعال!
قمر :
إلى أين؟
صديق :
أمك في الغيبوبة فتعال ندبر أمر الدفن.
قمر :
أمي لا زالت حية.
أصوات :
الشجرة ذبلت يا ولدي، والعود تحطم
واصفر الورق على الأغصان
وجف الجذر ولم يسلم
فالقحط شديد يا ولدي
ورياح المحنة لا ترحم
قمر (هاتفا) :
قل يا سلطان!
صديق :
لا أحد هناك .. ألا تفهم؟
صوت :
ستعود الشجرة للخضرة.
قمر :
يا بدر تعالي .. يا بدر!
صوت :
وتعود الخضرة للشجرة.
قمر :
سمعت؟
صديق :
اخجل من نفسك.
قمر :
لن أخجل أبدا من حلمي.
صديق :
تحلم .. تحلم .. أمك تحتضر وتحلم.
قمر :
ولأجل الأم أصر على هذا الحلم. يا جيران!
الجيران :
ماذا تطلب؟
صديق :
دعهم دعهم .. كل منهم يعرف دوره.
قمر :
من يأتي منكم؟ من يصحبني؟
الجيران :
وإلى أين؟
قمر :
نسافر في أرض الحلم يا فلاح.
الفلاح :
دعني .. فصغاري كجراد القفر.
قمر :
يا راع!
الراعي :
الراعي يبحث عن قطرة ماء.
صديق :
أمك تحتضر ولا ترحم
يا قمر توقف لا تحلم
وافتح عينيك.
قمر (صائحا) :
ألا تفهم؟
من أجل الأم المحتضرة
سأسافر كي أحضر بذرة
صديق :
والبذرة تنمو والشجرة
تخضر وتهدينا الثمرة
افتح عينيك
قمر :
على الكرب
ووباء يزحف بالرعب
وكلاب تنهش في قلبي؟
من منكم سيرافق دربي
الجيران :
أتسافر؟ عفوك يا ربي!
قمر :
من منكم سيرافق دربي؟
صديق :
لا أحد.
الجيران :
لا أحد منا لا أحد.
قمر :
يا من تنجر نعش الموتى
يا من تبصر للعميان وأنت الأعمى
النجار والأعمى :
اذهب وحدك.
قمر :
وأنت؟ يا ساحرة الشؤم مع الغدر.
المرأة :
سامحك الله!
قمر :
أغفر ذنبك .. فتعال ندخل في أرض السحر.
المرأة :
يكفينا الله الشر.
قمر (للفتاتين) :
ألم تشتاقا للنبع؟
الفتاتان :
نشتاق ولكن من يدفع؟ (تضحكان).
الجيران :
لا أحد .. لا أحد.
قمر :
هل أذهب وحدي؟
الجيران :
من يذهب معك فلن يرجع.
الأم (من بعيد) :
يا ولدي!
صديق :
أمك تدعوك ألا تسمع!
قمر (يجري نحو الأم) :
من أجلك يا أم أسافر
ولأجلك يا أم أهاجر
الأم :
ولدي ! ولدي!
قمر :
من أجلك يا أم حلمت.
ولأجلك سأواصل حلمي.
صوت بدر :
حررني .. لا زلت أسيرة.
صوت :
ابن سفينة نوح ...
صوت :
وابدأ يا قمر من الصفر ...
صوت :
هذا مفتاح القصر ...
صوت بدر :
يا قمر تعال وخلصني من هذا الأسر ...
صوت :
يا قمر تعال وخذ مني مفتاح القصر ...
صوت :
وابدأ يا قمر من الصفر ...
قمر :
أنا آت .. من يصحبني منكم؟
الجيران :
لا أحد.
قمر :
سأسافر وحدي .. وأعود إليكم.
صديق :
يا قمر تنبه.
قمر :
الصوت ينادي ...
صديق :
والأم تنادي ...
قمر :
من يأتي منكم؟
الجيران :
لا أحد.
الصوت :
يا قمر تعال!
قمر :
الصوت ينادي ...
الجيران :
من يذهب معك فلن يرجع.
قمر :
لن يأتي أحد؟
الجيران :
لا أحد.
قمر :
وأسافر وحدي؟
الجيران :
قدرك يا ولدي .. لا بد ...
قمر (يتجه إلى الجمهور) :
وأنتم؟ هل يأتي أحد منكم ... (لا يرد عليه أحد) من منكم سيمد يديه؟ من؟ من يبدأ معي من الصفر؟ من يبني معي سفينة نوح؟ من؟ من؟
صوت بدر :
يا قمر تعال! يا قمر تعال!
قمر :
يا بدر بدوري لبيك!
صوت بدر :
يا قمري لا زلت أسيرة ...
في القلعة وحدي مهجورة ...
قمر :
سأعود إليك .. سأعود إليك (للجيران ثم للجمهور): وأعود إليكم بالحلم (يمضي مسرعا بينما تتردد الأصوات ...)
صوت :
بدر! بدر!
صوت :
قمر! يا قمر!
صوت :
بدر! يا بدر! (إظلام)
صفحة غير معروفة