الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار
الناشر
مكتبة محمد المليجي الكتبي وأخيه، مصر
سنة النشر
1315 هـ
أو قضاء حاجة لأحد من عباد الله العاجزين الذين لا يستطيعن توصيل حوائجهم إلى تلك الأمراء فيسألون في ذلك من يعتقد فيه من الأولياء، والعلماء فيجب عليهم الدخول لتلك المصالح، ويحرم عليهم التخلف عنهم لا سيما إن رأينا ذلك المتردد من الأولياء، والعلماء زاهدا فيما في أيديهم متعززا بعز الإيمان وقت مجالستهم، آمرا لهم بالمعروف ناهيا لهم عن المنكر، لا يقبل هدية ممن شفع له عندهم، فإن هذا من المحسنين، ولا يجوز لأحد الاعتراض عليه بسبب ذلك.
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول: إذا علم الفقير من أمراء الجور أنهم يقبلون نصحه لهم، وشفاعته عندهم، وجب عليه صحبتهم، والدخول إليهم، وصاحب النور يعرف ما يأتي، وما يذر انتهى.
قلت: ومن الأولياء من يكون ستره قبوله من الخلق ما يعطونه له من الهدايا، والصدقات، ثم يخلط عليه من ماله، ويعلم الناس بأن ذلك كله من صدقات الناس الأجانب، ويمدح الناس الذين أعطوه بالكرم، ويوهم الناس أنه انتقص من ذلك المال لنفسه، وعياله من وراء الفقراء أشياء بنحو قوله من يقدر في هذا الزمان أن يأخذ مالا، ويفرقه على الفقراء، ولا يحدث نفسه بانتقاص شيء منه، ولا يسعنا كلنا إلا العفو، ويكون مأكولا مذموما، وهذا من أكبر أخلاق الرجال الذين أخلصوا في معاملة الله عز وجل، فإنه لا يهتدي أحد إلى كماله الذي هو عليه في باطن الحال مع ظهور احتقاره في أعين الناس، واستهانتهم به، فإن الرجل إذا قبل من الخلق صغر في أعينهم ضرورة، كما أن من رد عليهم كبر في أعينهم، ولعل ذلك الراد إنما رد رياء، وسمعة واستئلافا لقلوب الناس عليه ليتوجهوا إليه بالتعظيم، والتبجيل، ويطلقوا ألسنتهم فيه بالثناء الحسن، وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من طلب الحمد من الناس بتركه الأخذ منهم، فإنما يعبد نفسه، وهواه، وليس من الله في شيء.
قلت ومعنى يعبد: يطيع، وكان يقول أيضا: ينبغي لمن يخاف على نفسه من فتنة الرد أن يأخذ، ثم يعطيه سرا لمن يستحقه، ولا يأخذ هو لنفسه منه شيئا، فإنه بذلك يأمن من الفتنة إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى: ومما يفتح باب قلة الاعتقاد في أولياء الله تعالى وقوع زلة ممن تزيا بزيهم، وانتسب إلى مثل طريقهم، والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عن الله عز وجل وقد قال تعالى: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) . وقال: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) . فمن أين يلزم من إساءة واحد أن يكون جميع أهل حرفته كذلك؟ ما هذا إلا محض عناد وتعصب بباطل كما قال بعضهم في ذلك:
استنار الرجال في كل عصر ... تحت سوء الظنون قدر جليل
ما يضر الهلال في حندس اللي ... ل سواد السحاب وهو جميل
قلت: ومن أشد حجاب عن معرفة أولياء الله عز وجل شهود المماثلة، والمشاكلة، وهو حجاب عظيم، وقد حجب الله به أكثر الأولين، والآخرين كما قال تعالى حاكيا عن قوم: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) . يعني لم نر أحدا يوافقه على ما يدعيه، ويأمرنا به، ونحو ذلك ولكن إذا أراد الله عز وجل أن يعرف عبدا من عبيده بولي من أوليائه، ليأخذ عنه الأدب، ويقتدي به في الأخلاق طوى عنه شهود بشريته، وأشهده وجه الخصوصية فيه، فيعتقده بلا شك، ويحبه أشد المحبة، وأكثر الناس الذين يصحبون الأولياء لا يشهدون منهم إلا وجهه البشرية، فلذلك قل نفعهم، وعاشوا عمرهم كله معهم، ولم ينتفعوا منهم بشيء، وقد اقتضت الحكمة الإلهية عدم اتفاق الخلق كلهم على الاعتقاد في واحد منهم، والإذعان له، وفي ذلك سر خفي لأنه لو كان الخلق كلهم مصدقين لذلك الولي لفاته أجر الصبر على تكذيب المكذبين له، ولو كانوا كلهم مكذبين له لفاته الشكر على تصديق المصدقين له، والمقتفين لآثاره، فأراد الحق تعالى بحسن اختياره لأوليائه أن يجعل الناس فيهم قسمين، كما تقدم معتقد مصدق ومنتقد مكذب ليعبدوا الله عز وجل فيمن صدقهم بالشكر، وفيمن كذبهم بالصبر إذ الإيمان نصفان نصف صبر، ونصف شكر.
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول: النفس إذا مدحت اتسخت، وإذا ذمت نظفت، وكان رضي الله عنه يقول: إياك أن تصغي لقول منكر على
صفحة ٨