الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار
الناشر
مكتبة محمد المليجي الكتبي وأخيه، مصر
سنة النشر
1315 هـ
حتى أتاهم نصرنا " الأنعام: 34. وذلك لأن الكمل لا يخلو أحدهم عن هذين الشهودين، إما أن يشهد الحق تعالى بقلبه، فهو مع الحق لا التفات له إلى عباده، وإما أن يشهد الخلق فيجدهم عبيد الله تعالى، فيكرمهم لسيدهم، وإن كان مصطلما فلا كلام لنا معه لزوال تكليفه حال اصطلامه، فعلم أنه لا بد لمن اقتفى آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأولياء والعلماء أن يؤذي كما أوذوا ويقال فيه البهتان والزور كما قيل فيهم ليصبر كما صبروا، ويتخلق بالرحمة على الخلق رضي الله عنهم أجمعين.
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفا على إطباق الخلق على تصديقهم لكن الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، وقد صدقهم قوم، وهداهم الله بفضله، وحرم آخرون، فأشقاهم الله تعالى بعدله.
ولما كان الأولياء، والعلماء على أقدام الرسل عليهم الصلاة والسلام في مقام التأسي بهم، انقسم الناس فيهم فريقين، فريق معتقد مصدق، وفريق منتقد مكذب، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام ليحقق الله تعالى بذلك ميراثهم، فلا يصدقهم، ويعتقد صحة علومهم، وأسرارهم، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم ولو بعد حين، وأما المكذب لهم المنكر عليهم، فهو مطرود عن حضرتهم لا يزيده الله تعالى بذلك إلا بعدا، وإنما كان المعترف للأولياء، والعلماء بتخصيص الله تعالى لهم، وعنايته بهم، واصطفائه لهم قليلا من الناس لغلبة الجهل بطريقهم، واستيلاء الغفلة، وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد شرف بمنزلة، أو اختصاص حسدا من عند أنفسهم، وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فقال: " ومن أمن وما أمن معه إلا قليل " هود: 40 وقال تعالى: " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " هود: 17، " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " الأعراف: 187، يوسف: 21. وقال الله تعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعم بل هم أضل سبيلا " الفرقان: 44 وغير ذلك من الآيات، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول: ومن أين لعامة الناس أن يعلموا أسرار الحق تعالى في خواص عباده من الأولياء، والعلماء، وشروق نوره في قلوبهم، ولذلك لم يجعلهم إلا مستورين عن غالب خلقه لجلالتهم عنده، ولو كانوا ظاهرين فيما بينهم، وآذاهم إنسان لكان قد بارز الله تعالى بالمحاربة، فأهلكه الله فكان سترهم عن الحق رحمة بالخلق، ومن ظهر من الأولياء للخلق، إنما يظهر لهم من حيث ظاهر علمه ووجود دلالته، وأما من حيث سر ولايته فهو باطن لم يزل، وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول لكل ولي ستر أو أستار نظير السبعين حجابا التي وردت في حق الحق تعالى، حيث إنه تعالى لم يعرف إلا من ورائها فكذلك الولي، فمنهم من يكون ستره بالأسباب، ومنهم من يكون ستره بظهور العزة، والسطوة، والقهر على حسب ما يتجلى الحق تعالى لقلبه، فيقول الناس حاشا أن يكون هذا وليا لله تعالى، وهو في هذه النفس، وذلك لأن الحق تعالى إذا تجلى على قلب العبد بصفة القهر كان قهارا، أو بصفة الانتقام كان منتقما، أو بصفة الرحمة، والشفقة كان مشفقا رحيما.
وهكذا ثم لا يصحب ذلك الولي الذي ظهر بمظهر العز، والسطوة، والانتقام من المريدين، إلا من محق الله تعالى نفسه، وهواه، ولم يزل في كل عصر، وأوان أولياء، وعلماء تذل لهم ملوك الزمان، ويعاملونه بالسمع، والطاعة، والإذعان، ومنهم من يكون ستره بالاشتغال بالعلم بالظاهر، والخمول على ظاهر النقول حتى لا تكاد تخرجه عن آحاد طلبة العلم القاصرين، ومنهم من يكون ستره بالمزاحمة على الدنيا، وتظاهره بحب الرياسة، والملابس الفاخرة، وهو على قدم عظيم في الباطن، ومنهم من يكون ستره كثرة التردد إلى الملوك، والأمراء، والأغنياء، وسؤالهم الدنيا، وطلبه الوظائف من تدريس، وخطابة، وغمامة، وعمالة، ونحو ذلك، فيقوم فيها بالعدل، ويتصرف في ذلك بالمعروف على الوجه الذي لا يهتدي إلى معرفته غيره من الأمراء والعمال، وآحاد الفقهاء، ثم لا يأكل هو من معلومها شيئا، أو يأكل منه سد الرمق لا غير، فيقول القاصر في الفهم والإدراك، لو كان هذا وليا لله عز وجل ما تردد إلى هؤلاء الأمراء، وللجلس في زاويته، أو بيته يشتغل بالعلم، وبعبادة ربه عز وجل ورحم الله تعالى الأولياء الذين كانوا، ونحو ذلك من ألفاظ الجور، ولو استبرأ هذا القائل لدينه، وعرضه لتوقف، وتبصر في أمر هؤلاء الأولياء، والعلماء قبل أن ينتقد عليهم فربما كان يتردد إليهم لكشف ضر، أو خلاص مظلوم من سجن،
صفحة ٧