فارتفعت أصوات قائلة: «لا، لا! إن لامرتين محق، أيها الصحاب، فلا نبق للوطنيين هذا العلم المخيف!» وزأرت أصوات قائلة: «بلى، بلى! هذا علمنا، هذا علم الشعب الذي انتصرنا به، ففيم لا نبقي بعد النصر الشعار الذي صبغناه بدمائنا؟»
فأجاب لامرتين: «أيها الوطنيون، تستطيعون أن تسقطوا الحكومة، وأن تأمروها باستبدال علم الأمة واسم فرنسا، وإذا كنتم تريدون أن تتوغلوا في ضلالكم، تستطيعون أيضا أن تفرضوا على الحكومة إنشاء جمهورية حزبية؛ ولكن الحكومة تؤثر الموت على أن تلطخ شرفها بالانصياع لكم. أما أنا فلن توقع يدي على هذا المرسوم! وإني لأدفع حتى الموت هذا العلم الدموي. فهذا العلم الأحمر الذي تحملونه إلينا لم يطف إلا الشان ده مارس مجروفا بدم الشعب في 91 و93، أما العلم المثلث الألوان فقد طاف العالم باسم الوطن ومجده وحريته.»
فارتفعت الأصوات هاتفة للامرتين وللعلم المثلث الألوان. وفي تلك الآونة، تدفق إلى القاعة الكبرى التي كان الشاعر يخطب فيها، جمهور جديد لم يكن قد سمع كلام لامرتين، وعلا الصياح من كل جانب، فكان البعض يهتف للعلم الأحمر، والبعض للعلم المثلث الألوان الذي أنقذه الخطيب، وكانت التجاديف والتهديد والأعلام الحمراء الممزقة والأسلحة النارية الملوحة في الجو فوق الرءوس تمثل مشهدا من أشأم مشاهد الثورة الكبرى، وبينا الجماهير على ما هي عليه، وثب لامرتين إلى ما بين الحزبين، فصرخ الوطنيون الذين سمعوا لامرتين للمرة الأولى قائلين: «هو ذا لامرتين! افسحوا للامرتين! أصغوا إلى لامرتين!» فزأر الهاجمون قائلين: «لا لا! ليسقط لامرتين! الموت للامرتين! لا كلام ولا خطب! المرسوم أو قتل الحكومة الخائنة!»
إلا أن هذا التهديد لم يرجع لامرتين عن عزمه، ولم يستطع سبيلا حتى إلى تغيير لون بشرته، وكانت حراب البعض توشك أن تلامس وجه الخطيب، وفي تلك الآونة الرهيبة شق الصفوف رجل جبار، ممزق الثياب، يقطر الدم من وجهه ومن صدره، وهجم على لامرتين وراح يقبله ويعانقه، فأثر هذا المشهد في الشعب الثائر فسكن، وارتفع صوت الخطيب قائلا بهدوئه الطبيعي: «أيها المواطنون، لقد خاطبتكم منذ هنيهة بصفتي مواطنا مثلكم، فأصغوا إلي الآن أخاطبكم بصفتي وزير شئونكم الخارجية. إذا نزعتم مني العلم المثلث الألوان تنزعون مني نصف القوة الخارجية في فرنسا! فأوروبا لا تعرف إلا علم انكساراتها وانتصاراتنا، علم الجمهورية والإمبراطورية، وإذا هي أبصرت العلم الأحمر يخيل إليها أنها لا تبصر إلا علم حزب! فيجب علينا أن نرفع على عيون أوروبا علم فرنسا، علم جيوشنا المنتصرة!»
عند هذا خفض الجمهور الثائر أسلحته، وهتف الجميع بصوت واحد: «الثقة! الثقة! لتحي الحكومة الموقتة! لتحي الجمهورية! ليحي لامرتين!»
وفي 27 نيسان جرت الانتخابات في اللجنة الدستورية، فانتخب لامرتين في عشر مقاطعات بمليون وستمائة ألف صوت؛ وهذا الإجماع في الأصوات كان كافيا لأن يجعله ديكتاتورا، وما هو أن دعي لتأليف الوزارة فألفها، على أن يصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية التي كانت الحكومة الموقتة تحل محلها، وبقي ثلاثة أشهر يعالج حكمه الديكتاتوري بالبلاغة السامية.
من القمة إلى الهوة
على أن خصوم لامرتين ما لبثوا أن راحوا يعملون لإسقاطه، ولكي يتم لهم ذلك لجئوا إلى وسائل معيبة لم يخجلوا من استعمالها؛ فقد اتهموه بأنه اختلس من الخزينة مليوني فرنك ليفي ديونه، وأنه ابتاع بمال الخزينة أيضا بعض أملاك في فرنسا وعقارات في لندن، واتهموه أيضا بأنه أخر الانتخابات ليمد سلطته الديكتاتورية، وأنه عقد مع الحزب الاشتراكي اتفاقية شائنة. ولدى هذه الاتهامات المتواصلة عقد مجلس للتحقيق رأسه أوديلون بارو، إلا أن هذا المجلس لم يكلف نفسه غسل شيء من هذه الافتراءات التي ذهب لامرتين ضحيتها.
ولكن نفوذ الشاعر بقي كبيرا في المجلس؛ ففي 27 أيلول لفظ خطابا اقترح فيه تأليف لجنة تشريعية؛ وفي السادس من تشرين الأول لفظ خطابا قال عنه بارتو: «إن جلال عباراته يذكر ببوسويه»، نصح فيه أن يعهد بانتخاب رئيس الجمهورية إلى التصويت العام؛ وفي العاشر من كانون الأول 1848 جرت الانتخابات لرئاسة الجمهورية، فنال لويس بونابرت 5434326 صوتا من 7327345، ولم ينل لامرتين سوى 17910 أصوات.
أما دوره السياسي فكان قد انتهى!
صفحة غير معروفة