لامرتين في حداثته
لامرتين في طريق النضوج
لامرتين في طريق المجد
لامرتين في ذروة المجد
المقاصد الكبرى
لامرتين في عشرين سنة
خاتمة
لامرتين في حداثته
لامرتين في طريق النضوج
لامرتين في طريق المجد
صفحة غير معروفة
لامرتين في ذروة المجد
المقاصد الكبرى
لامرتين في عشرين سنة
خاتمة
لامرتين
لامرتين
تأليف
إلياس أبو شبكة
لامرتين في حداثته
1790-1808
صفحة غير معروفة
قبل أن تنطلق الثورة الكبرى في فرنسا كان الشيفاليه بيير ده لامرتين، والد الشاعر، يتظاهر بميل شديد للفكرة الجديدة التي انبعثت منها جذوة المبدأ الثوري، وكان كمعظم أشراف المقاطعات ميالا إلى التفكير الحر، على أنه لم يفقد من صدره إيمانه بالملك والمبدأ الملكي. وهذا الإيمان بالملكية كان راسخا في نفسه، ففي شهر نوار من العام 1792، اتصل به أن العرش في خطر يتهدده، فأسرع إلى باريس ووضع سيفه تحت تصرف الملك، وما لبث أن راح يدافع عن قصر التويلري، فأصيب بجرح وكاد يقع في قبضة الثوار لو لم يخلع عليه بستاني القصر ثوبه ليحجبه عن الأنظار.
على أن سوء الطالع ما لبث أن هدى إليه الثوار في مدينة ماكون، فقبضوا عليه في 5 تشرين الأول 1793، وبقي يعاني آلام السجن إلى 30 تشرين الأول 1794.
من هذا الفارس ولد شاعرنا الكبير ألفونس ده لامرتين، في العاشر من تشرين الأول 1790. قال الكاتب جورج ليكونت، أحد أعضاء المجمع العلمي الفرنسي، في محاضرة عن لامرتين ألقاها مؤخرا في جامعة الأنال: «إن الشاعر ده لامرتين لم يولد في قصبة ميللي كما شاء هو نفسه أن يقول في إحدى قصائده الجميلة، بل في مدينة ماكون. وقد يكون الشاعر أبى أن يعترف بالحقيقة إيثارا لقصبة ميللي التي كان يحبها ويلقبها «بعش الحمام»، والتي كان يرى فيها إطارا جميلا لشواعره.»
وكانت أمه من النساء التقيات المتعبدات، فعلمته عبادة الخالق من خلال الجمال الذي يمزجه الله بالطبيعة، وكانت ميالة إلى الأدب، وتؤثر من رجاله فنيلون وراسين، ومن روائعه أسفار التوراة، وكثيرا ما كانت تقرأ هذه الأسفار على مسمع أبنائها، ومن هؤلاء ألفونس الذي ما عتم أن أشرب في قلبه الميل إلى الأدب وإلى الشعر بنوع خاص.
فلما بلغ الشاعر الثامنة من عمره، كانت الثورة قد سمحت لبعض الكهنة الذين خضعوا للدستور بأن ينشئوا مدارس في القرى، فدخل ألفونس إلى مدرسة بوسيير التي أنشأها الكاهنان فرنسوى أنطوان ديتر وأنطوان فرنسوى ديمون، وبقي ثلاث سنوات يتردد على هذه المدرسة مع أولاد الفلاحين، فيجتاز كل يوم الطريق المنحدرة من ميللي إلى بوسيير والمغمورة بالثلج طوال أشهر الشتاء. وكأن الأب ديمون شعر بميل خاص إلى الفتى لامرتين، فكان يختصه بعناية كبيرة، فيعلمه الفرنسية واللاتينية بغيرة وإخلاص، ويصحبه معه في نزهاته، حتى أصبح الفتى شديد التعلق بأستاذه الكاهن الشاب، وقد يكون لهذا الأخير على بجوسلين، أو قد يكون هو نفسه جوسلين الذي صوره الشاعر فيما بعد في روايته الشعرية المعروفة بهذا الاسم. قال جورج ليكونت: «لا مشاحة في أن الكاهن ديمون أثر على حداثة لامرتين تأثيرا شديدا، حتى إن سكان ماكون لا يذكرون ذلك الكاهن إلا مرفوقا باسم الشاعر، وحتى إن العابرين في طريق بوسيير إذا سألوا أحد الفتيان عن الطريق المؤدية إلى قبر الأب ديمون في النادر ما لا يجيبهم بسذاجة طبيعية: ضريح جوسلين؟ ...»
وكان ألفونس ده لامرتين كلما كبر تصعب طبعه ومال إلى الاستقلال، حتى لم يجد أهله بدا من إقصائه عن البيت الوالدي وعن أمه التي كانت تغرق في تدليلها إياه؛ ففي شهر آذار من العام 1801 جيء به إلى مأوى لاكاي الذي كان يديره الأستاذ بوبيه وشقيقتاه، إلا أنه لم يستفد كثيرا من تلك المدرسة التي كان يؤمها أبناء الأسر الكبيرة والغنية في ليون، والتي كانت تتقاضى 420 فرنكا كل ثلاثة أشهر، وهو مبلغ كبير إذا قيس بمرتبات المدارس في ذلك العهد. وما هو وقت قصير حتى بدأ لامرتين يشعر بالحنين إلى الطبيعة التي تعشقها في ميللي، ولكنه لم يجد مفيضا من الامتثال لمشيئة أهله، وبقي سنتين متواليتين في ذلك المأوى الموحش، حتى اقتنع أهله أخيرا بأن طريقة الضغط لن تنجح في ولدهم الذي كان ينطوي على أخلاق وطباع مستقلة حرة، فنقلوه إلى مدرسة بيللي. وإنا لننقل هذه الفقرة من مذكرات والدة الشاعر، قالت: «... وضعت هذا الابن العزيز بين أيدي «آباء الإيمان»، فالدير جميل والبلد جميل أيضا. ولقد زرت المدرسة هذا الصباح، واجتمعت بألفونس، فقال لي إنه مسرور جدا ...»
بقي لامرتين في مدرسة بيللي التي يديرها آباء الإيمان من العام 1803 إلى العام 1808، ولقد درس في هذه المدرسة البيان والفلسفة ومبادئ في الحقوق والرياضيات. ويلاحظ من يقرأ لامرتين أن الشاعر يذكر دائما أنه كان تلميذ اليسوعيين، سوى أن أمه كانت أدق منه عندما كتبت في مذكراتها أن بيللي لم تكن مدرسة يسوعية؛ فآباء الإيمان كانوا جمعية مستقلة تأسست أولا في النمسا عام 1799، ثم انتقلت إلى فرنسا في العام 1802 بمساعدة الكردينال فيش، خال نابوليون الأول، فأسست بضعة معاهد علمية سارت فيها على منهاج اليسوعيين.
وفي مدرسة بيللي تعرف لامرتين إلى الكاتب العظيم شاتوبريان الذي استطاع أن يملك الشاعر من جميع أطرافه، ويغرس في نفسه الميل إلى الأدب الرومانطيقي، وهو المذهب الأدبي الجديد الذي اعتنقه أدباء فرنسا في مطلع القرن التاسع عشر. فقد قرأ «روح النصرانية» وروايتي «أتالا» و«رينه»، وهي مؤلفات شعرية من الطراز العالي أسكرت الشاعر بجمالها الجذاب، وأيقظت فيه جذوة الشاعرية، ولقد أبقى لامرتين من القصائد التي نظمها في المدرسة تحت تأثير شاتوبريان ثلاثا هي: البلبل، الوداع، ونشيد.
البلبل
نشر لامرتين هذه القصيدة في كتابه «مذكرات أدبية»، وقدمها بهذه الكلمة: «وجدت صدفة في حقيبة قديمة ملأى بأوراق قضمتها الجراذين أبياتا في البلبل، لا أذكر أني نظمتها في الماضي البعيد، على أن الخط والورقة الصفراء أكدا لي أن هذه الأبيات إنما هي إحدى لعب مخيلتي الأولى، فأرجو صفحا عن القوافي والوزن.»
صفحة غير معروفة
وقال يصف العوامل التي دفعته إلى نظم هذه القصيدة: «كانت النافذة القريبة من سريري في قاعة النوم تطل على وادي بوجاي الأخضر، المحاط بأحراج الصفصاف، والمنتهي بجبال زرقاء، يخفق على أكنافها البخار الأبيض المنتشر من الشلالات البعيدة، وكنت كلما رقد رفاقي وبدت لي الليلة قمراء، نهضت من سريري من غير أن يشعر بي أحد، وتسلقت عضائد الكرسي إلى النافذة، ثم أرسلت نظري في الشفق الهادئ ... أستمع إلى نحيب الهواء، وأناشيد البلبل، وحفيف الورق، وهمس المجاري البعيدة، ورنين أجراس المواشي في الجبال، حتى إذا مليت كل ذلك وذرفت كثيرا من دموع الذكريات، عدت إلى سريري لأستعرض في مخيلتي، في أحلامي المستيقظة، صور تلك الرءوس الجميلة الساحرة.»
نشيد
يصف لامرتين في هذه القصيدة شلالات المياه المتكسرة على صخور وادي بيللي، أما الشعور الذي أوحى إليه قصيدته هذه، فهو أن الطبيعة تحتوي الله وتظهره من غير أن تعرفه، وأن الإنسان يرى الله من خلال الأشياء.
الوداع
ودع لامرتين بهذه القصيدة مدرسة بيللي، التي خرج منها وهو في الثامنة عشرة من عمره. ولقد يرى المعجبون بالشاعر، في هذه القصيدة الجميلة، جذوة الشاعرية التي ستصبح فيما بعد شعلة خالدة تنير طريق الأدب والأدباء.
لامرتين في طريق النضوج
1808-1816
عندما ترك لامرتين مدرسة بيللي كان له من العمر سبع عشرة سنة وثلاثة أشهر، فراح يطمح إلى مركز في العالم؛ والمراكز في ذلك العهد كانت منوطة بنابوليون، ولم يكن نابوليون سوى مختلس في نظر أسرة لامرتين الأريستوقراطية.
ما العمل؟ لم يكن بد من التريث إلى أن يحدث انقلاب ما في الجو السياسي. على أنه لم يكن يرجى انقلاب في ذلك العهد؛ لأن نابوليون كان قابضا على زمام فرنسا بيد من حديد، ولم يكن مر على معاهدة تلسيت سوى بضعة أشهر. وهذه المعاهدة التي جرت بين فرنسا وبروسيا وروسيا، كانت قد سلخت عن بروسيا جميع مقاطعاتها البولونية، فلم يجد لامرتين بدا من ملازمته داره، حيث انصرف إلى المطالعة والكتابة.
ومرت الأيام على عزلته، وكان كلما مر عام أحس بالشاعرية تنضج في روحه على مصابيح الشعراء، رفاقه في عزلته. وكان قد التهم التوراة، وهوميروس، وأفلاطون، وشاتوبريان، ومدام ده ستال، وأوسيان، وروسو، وفولتير، وكثيرا من الشعراء والروائيين الإنكليز، والطليان، واللاتين كفرجيل، ودنتي، وملتون، وأوفيد، وشكسبير وغيرهم. أما الشعراء الألمان فقد أحب منهم غوتي، وتأثر بفرتر التي قرأها مرارا عديدة إلى درجة أنه أوشك أن ينتحر تمثلا ببطلها.
صفحة غير معروفة
غرامه الأول وسفره إلى إيطاليا
ما كاد الشاعر يبلغ العشرين من عمره، حتى تعرف إلى فتاة جذابة تدعى هنرييت بوميه، ولدت في أول نوار عام 1790، فكان عمرها يزيد ستة أشهر عن عمر لامرتين، وكانت تجيد الرقص إجادة تامة؛ إذ إن أمها كانت تود أن تهيئها لتكون «أرتيست» في الأوبرا.
قال لامرتين يتكلم عنها في المذكرات التي كتبها بعد خمسين سنة على ذلك العهد: «إن قامتها النحيفة، ومشيتها الرشيقة، وجمال ذراعيها، وتناسق أعضائها، وسكبة قدميها، ولطافة جيدها، وابتسامتها الجذابة، كانت كلها تدل على أنها ستكون نموذجا للراقصة العصرية.» أجل، ونموذجا لعروس الشعر العاطفي أيضا؛ إذ إن جمالها المفكر الجذاب كان يحمل خيالا من الحزن والألم.
وفي مساء أحد الأيام، بعد أن رقص لامرتين مع هنرييت بوميه، وسمعها تعزف على «البيانة» سقط في شرك غرامها وآلى على نفسه أن يتزوجها، إلا أن ثمة عراقيل كانت تحول بينه وبين تحقيق هذه الرغبة؛ فلامرتين الفارغ الجيب، الذي لا مركز له، لم يكن يستطيع أن يجعل فتاة فقيرة لزاما في عنقه، فهام على وجهه تائها في الحقول مع كلبه، باكيا مع الشعراء أوسيان ويونغ وشكسبير! وما عتم الأمر أن أطلع أهله على رغبته في طلب يد هنرييت، فثار ثائر والده وعمه، ووقفا عثرة في وجهه. عند هذا غضب لامرتين الفتى، وصحت عزيمته على الانخراط في سلك الجندية «فإما أن يقتل، وإما أن يحصل على رتبة عالية تضمن حياته وحياة زوجته.» زوجته؟ هكذا كان الشاعر يدعو الآنسة بوميه؛ لأنه كان يعتقد أن لا قوة في العالم تستطيع أن تفصله عنها.
لا قوة في العالم؟ هذا وهم محض ... فلم يمر شهران حتى عدل لامرتين عن عزمه، وراح يفكر في سفرة إلى إيطاليا، في سفرة طويلة تنسيه هنرييت بوميه.
وصل لامرتين إلى روما في أول تشرين الثاني ليلا، ونزل ضيفا على أحد أقربائه هناك، ولكن الوحدة ما لبثت أن أصبحت ثقلا عليه، فجنح إلى نوادي القمار. وفي الثاني والعشرين من كانون الثاني 1812 كتب إلى صديقه فيريو يقول: «لم أكن أملك فلسا، لو لم أربح أمس أربعين غرشا، ولكن سأخسرها هذا المساء. لعنة الله على كل شيء!»
ولم تمض مدة قصيرة حتى قدم إليه صديقه فيريو؛ ذلك الصديق الذي بقي وفيا له حتى يومه الأخير.
أإلى هذا العهد ترجع هذه القصة التي خلدها لامرتين في روايته «غرازييللا»؟ إذا شئنا أن نصدقه، فنرى أنه صرف أياما عديدة في كوخ أحد الصيادين في جزيرة بروسيدا حيث علقت به فتاة بريئة طاهرة تدعى غرازييللا، ورفضت من أجله أن تتزوج من الصياد بيبو، الذي كان قد خطبها من والديها، ونرى أيضا أن رحيله من الجزيرة أوقع الفتاة في يأس عظيم، فماتت بعد أيام بداء التلاشي والانحلال.
ولكن يغلب على الظن أن غرازييللا هذه فتاة خيالية، تصورتها مخيلة الشاعر في السنة 1830، وذكرها في«مطارحاته» في العام 1849.
العودة إلى باريس وإلى عرائس الشعر
صفحة غير معروفة
ولما عاد لامرتين إلى باريس - وكان صديقه فيريو قد عين قبله كاتم أسرار في السفارة الفرنسية في البرازيل - شعر بثقل الوحدة يضغط على نفسه، ويزداد ضغطا من يوم إلى يوم، فترامى بين أذرع العرائس الشعرية، وراح ينظم القصائد الكئيبة، التي أكد الشاعر فيما بعد أنه أحرقها كلها.
على أن هناك بضعا من القصائد يرجع عهدها إلى ما قبل العام 1816 ترى مدرجة في ديوانيه «التأملات» و«االتأملات الجديدة»، وهي قصائد ملؤها العاطفة الكئيبة، التي لازمت الشاعر إلى آخر حياته، وقد يكون استوحاها من حبه لهنرييت بوميه، التي أيقظت في قلبه أولى جذوات الحب.
ولا بد هنا من القول أن لامرتين لم يستوح جميع القصائد التي نظمها قبل العام 1816 من امرأة واحدة شاء أن يطلق عليها اسم «إلفير»، بل هو قد استوحى كثيرا منها من تذكره جميع النساء اللواتي استطاع أن يحبهن في مراحل شبابه الأول، أو اللواتي حاول أن يحبهن ولم يستطع إلى ذلك سبيلا.
وكان بوده أن ينشر هذه القصائد قبل العام 1816، قال: «سأطبع أربعة دواوين شعرية صغيرة، فإذا نجحت كنت رجلا عظيما، وإلا فتكون فرنسا قد أضافت إلى دجاليها دجالا آخر.»
لامرتين في طريق المجد
1816-1820
بعد أن تأثر لامرتين بمطالعاته وأسفاره، ونضج فيه الميل إلى المطامح الأدبية الكبرى والمطامح السياسية الواسعة، أصبح وهو في السادسة والعشرين من عمره عاجزا عن أن يهيئ له مستقبلا؛ لأنه إنما كان يعف عن أن يحذو حذو هؤلاء المتملقين، الذين استطاعوا بخنوعهم أن يبلغوا إلى المراكز التي طمحوا إليها وهم دونه معارف وذكاء.
إلا أن الأيام لم تلبث أن وفرت له نوبتين أنضجتاه: نوبة عاطفة، ونوبة فكر، فخرج منهما وهو شاعر العصر الكبير ...
أما أساس هاتين النوبتين فكان نفوذ امرأة، هي جوليا بوشو، زوجة العالم الطبيعي الشهير شارل، عضو مجمع العلوم والمعارف، التي ساعدت لامرتين، من حيث لم يقصد، على أن يفتح لنفسه طريق الخلود، والتي خلدتها قصائده الأولى تحت اسم «إلفير».
جوليا بوشو
صفحة غير معروفة
كانت جوليا بوشو في الثانية والثلاثين من العمر عندما أشار عليها الأطباء بأن تصرف أشهر الصيف في قرية إكس لوبان؛ إذ إن داء الصدر في تلك السنة 1812 كان قد بلغ منها أشده.
صادف لامرتين هذه المرأة في هذه القرية نفسها؛ إذ إن الأطباء كانوا قد أشاروا عليه هو أيضا بأن يصرف أشهر الصيف فيها. ففي العاشر من شهر تشرين الأول، كان لامرتين يتنزه على بحيرة بورجه في إكس لوبان، فالتقى زورقه زورقا صغيرا كان يقل جوليا بوشو، وإذا بزوبعة شديدة قلبت الزورق الصغير، وجعلت المرأة في خطر.
أتراها سقطت في الماء فأنقذها لامرتين؟ أم أن لامرتين أدركها قبل أن تسقط وأعانها على ما بها؟ لا نعلم، ولكن الحقيقة هي أن لامرتين كتب إلى صديقه لويس ده فينييت في اليوم التالي يقول له إنه «أنقذ مدام شارل من الغرق.» وزاد على ذلك بقوله: «إن هذه المخلوقة العذبة أصبحت تملأ أيامه، وإنها توشك أن تشفى من مرضها.» ودعا صديقه للحضور إلى القرية ليتحقق ذلك بنفسه.
في الخامس عشر من تشرين الأول، عندما وصل لويس ده فينييت إلى إكس لوبان، كان لامرتين وجوليا بوشو قد نظما حياتهما في القرية، وكانا قد صرفا مساء اليوم العاشر أو الحادي عشر من تشرين الأول في التنزه بعد العشاء على ضوء القمر، وتبادلا الحديث عن ماضيهما، وعن الملل الذي قاسياه والآمال التي ينتظران تحقيقها. وفي ذلك المساء نفسه صحت عزيمة الاثنين على أن يكون كل منهما للآخر، فتحافظ هي على حبه، ويحافظ هو على حبها.
وكانت جوليا بوشو تزيد لامرتين ست سنوات؛ إذ كانت هي في الثانية والثلاثين، وكان هو في السادسة والعشرين، فأكدت له أنها ستحرص عليه كما تحرص الأم على ولدها، وأنها ستساعده على إيجاد مركز له، لما كان لزوجها الشيخ البالغ الحادية والخمسين من النفوذ في فرنسا.
وفي السادس والعشرين من تشرين الأول طوت جوليا بوشو (إلفير) جناحيها الملائكيين لتعود إلى باريس، فشيعها لامرتين إلى ماكون، ورجع إلى ميللي ينتظر الرسالة الأولى التي وعدته بها. وما هي إلا أيام قلائل حتى قدم الشاعر إلى باريس، وظهر في منزل جوليا، حيث بقي أياما عديدة.
كان كل مساء يذهب بها إلى النزهة، فتتكئ على ذراعه نحيلة صفراء، وتستسلم إلى أفكارها السوداء ... أما العابرون فكانوا يخالونهما أخا وأختا، ويظنون أن لامرتين شقيق محب ساهر على نقاهة أخته، إلا أن الفناء كان يقضم ذلك الهيكل الهزيل، فلا تطلع الشمس إلا على جسد أخذت الليلة الفائتة حصتها منه. ولما اضطر لامرتين إلى أن يعود إلى أشغاله تواعدا بلقاء في إكس، وأعطته دفترا صغيرا من «الماروكان» الأحمر ليملأه بما يوحيه إليه فراق «إلفير».
كان لامرتين أمينا على الوعد؛ ففي الحادي والعشرين من شهر آب صعد إلى إكس لينتظر جوليا، إلا أن آماله ذهبت أدراج الرياح؛ فقد تناهى إليه أن الحمى تفتك بها فتكا ذريعا، ولا سبيل إلى وصولها إليه، فهام على نفسه يفكر في «الغائبة»، وفي نفسه ما فيها من الشجون واليأس.
وكان في القرية، أو في المنزل الذي يقيم به، فتاة تدعى ألينور كانوننج، تعرف إليها صدفة، فلم يكتم عنها عذابه ويأسه، ولم يرفض رغبتها إليه في التنزه ساعة على ضفاف البحيرة في إكس.
كان الصيف يذيب عواطفه العذبة على بحيرة بورجه، فاستسلم لامرتين إلى الذكريات، وما هي هنيهة حتى شعر برعشة سرت في جميع مفاصله، فاستأذن الآنسة وانصرف عنها إلى خلوة على الضفة الشمالية من البحيرة، حيث كان يجلس في الصيف الماضي مع تلك التي ملكت عليه مشاعره وقلبه.
صفحة غير معروفة
ولم تأذن الساعة السادسة من المساء حتى كان لامرتين قد أفرغ ما كان في قلبه من الدموع، وكأنه شعر بعاصفة من العواطف تنطلق في صدره، فاختلج فترة، وغارت عيناه في محجريهما، فأخذ من جيبه الدفتر الصغير الذي أعطته إياه جوليا، وكتب على الصفحة التي عرضت له هذه الكلمات: «أنا جالس على صخرة الضفة الشمالية أفكر فيك يا جوليا.» إلا أنه تذكر أن جوليا تحتضر، وأن الكلمات الموجعة لم يتلفظ بها بعد، فكتب: «تذكار الأيام الجميلة التي صرفناها معا على شاطئ البحيرة.» ثم أطبق الدفتر وراح يحلم بعض دقائق، وإذا بأغنية تستفيق في قلبه، ففتح الدفتر وفكر فترة من الوقت ثم كتب:
ذات مساء، أتذكرين؟ كنا نعوم بسكون
على أحشاء أمواجك المفضضة بضوء القمر
وعلى دوي الجذافين الضاربين بإيقاع ...
ثم توقف فضرب على البيت الثاني، واستبدل به هذه الكلمات:
ولم يكن يسمع في الأبعاد، على الماء وتحت السماء
إلا دوي الجذافين الضاربين بإيقاع
أمواجك الموسيقية.
ثم بدأ بمقطع آخر:
إن مركبة الليالي الموسيقية
صفحة غير معروفة
كانت تنير ضآلة شواطئك القفراء ...
وهنا توقف فترة، وكأنه أمسك بأهداب فكرة أخرى، هي أن يدرج في القصيدة «أغنية جوليا»، فكتب: «تابع، تابع مجراك أيها الزورق الشارد.»
ويظهر أن رفاقه في تلك القرية «الصيفية» فاجئوه في تلك الآونة، فأخفى الدفتر في جيبه وعاد معهم إلى المنزل.
وفي اليوم التالي عاد إلى البحيرة من غير أن يشعر به أحد، وأكمل تلك القصيدة الساحرة «البحيرة»، إلا أن لامرتين كان تشبع من روسو وشاتوبريان، فاستعرض في مخيلته «هلويز الجديدة» و«أتالا»، ولكن هذا الاستعراض لم يحل بينه وبين صدقه في عاطفته، وهو ينظم قصيدته على شاطئ البحيرة.
قال لامرتين في قصيدته «البحيرة»: «ذات مساء، أتذكرين؟» وقال روسو قبل سنوات عديدة: «كنا صامتين صمتا عميقا، وكان دوي المجاذيف ذات الإيقاع المتوازن يهيج في قلبي الرغبة في الأحلام!» وقال شاتوبريان في «أتالا»: «كانت أتالا تنشد فلا يقاطع شكاياتها إلا دوي زورقنا فوق المياه ...»
وبعد يومين ترك لامرتين إكس؛ ليلحق بصديقه فيريو فيذرف بين ذراعيه بقايا دموع غادرتها الأيام في قلبه، أما الداء فكان يسير مسيرته في جسد جوليا التي انقطعت إلا عن الماء، عملا بإشارة الطبيب، وكان لامرتين يعرف حق المعرفة أن الموت يتأهب لاختطاف تلك التي أوحت إليه قصائده الخالدة، فكتب إلى الآنسة كانوننج في الرابع والعشرين من تشرين الأول يقول: «إن التي أحبها فوق كل إنسان في هذا العالم تتلوى منذ أسابيع في نزع أليم، وأراني غير قادر أن أكون بالقرب منها.»
وفي الثامن من شهر كانون الأول فاضت روح جوليا بمهل وسكون، وشفتاها لاصقتان بخشب صليب صغير، وكان طيف لامرتين لا يزايل عينيها في تلك الليالي الأخيرة التي صرفتها، على ما بها من الضعف، في قراءة رسائله وترتيبها بحسب تواريخها، ووضعها في غلافين كبيرين كتب عليهما هذه الكلمات: «أوراق تخص السيد فيريو.» وفيريو هذا صديق لامرتين الأكبر - كما علمنا - ومواسيه في ليالي الدموع واليأس.
لامرتين في ذروة المجد
1820-1830
كان على لامرتين أن يخطو بضع خطوات إلى الأمام؛ لينسى آلامه وبؤسه، فالمجد الذي كثيرا ما طمح إليه في حياته المضطربة وعزلته الموحشة كان على وشك أن يخيم عليه بجناحيه الكبيرين؛ ففي الحادي عشر من شهر آذار من العام 1820، نشر لامرتين ديوانه الأول «التأملات» محتويا أربعا وعشرين قصيدة، ذاعت ذيوعا عظيما، حتى بين الذين لا يأبهون للشعر، فالملك نفسه أثنى عليها ثناء طيبا، وراح أقطاب السياسة يقرءونها ويحفظونها عن ظهر قلب.
صفحة غير معروفة
وكانت الأميرة ده تالمون قد بعثت بنسخة من «التأملات» إلى الأسقف ده تالليران، أعظم رجال السياسة في ذلك العهد، فقرأها في ليلة واحدة وكتب إليها يقول: «أعيد إليك أيتها الأميرة، قبل أن أرقد، الكتاب الصغير الذي أعرتني إياه أمس، ويكفيك أن تعلمي أني لم أنم، وأني سهرت إلى الساعة الرابعة من الصباح أقرأ هذا الكتاب وأعيد قراءته. لست نبيا أيتها الأميرة، على أني أؤكد لك أن وراء ذلك الشعور المتدفق من هذه القصائد رجلا رجلا، وسنتحدث عنه بعد.»
وقال تيوفيل غوتيه: «إن التأملات الشعرية هي أعظم أثر شعري ظهر في هذا العصر. إنها لنفس عذب ومحي معا، لا، بل هي خفقان أجنحة تلامس الأرواح! فالشبان والفتيات والنساء هاموا بلامرتين حتى أوشكوا أن يعبدوه! وحتى أصبح اسم الشاعر منطبعا على جميع الشفاه. والباريسيون الذين يميلون إلى الشعر أصبحوا منقادين بفطرة الجمال والإحساس إلى ترديد مقاطع من «البحيرة» في مجالسهم وسهراتهم.»
كان الشعب يجهل لامرتين قبل أن أصدر «التأملات»، غير أن المجتمع الباريسي وأشراف البلاط كانوا يمهدون له الشهرة بكل ما أوتوه من النفوذ العظيم؛ لأن الشاعر كان قد انضم إلى الملكية منذ العام 1816، وتقرب إلى السيدة النبيلة مدام ده ريجكور، الصديقة القديمة للأميرة أليصابات، ومن السيدة مدام ده مونكالم، ومدام ده بروغلي، وتعرف إلى الدوق دورليان والدوق ده مونمورانسي، أعظم رجال فرنسا في ذلك العهد، والدوق ده روهان الذي بقي محافظا على صداقته إلى آخر حياته.
لقد عرفنا أن حب لامرتين لجوليا بوشو أجرى في روحه ينابيع الإحساس، فتدفق الشعر من قلبه كما تدفق من قلب بيترارك يوم أحب لور، ومن قلب دنتي يوم أحب بياتريس؛ فقصائده «البحيرة»، و«الخلود»، و«الهيكل»، و«المصلوب»، و«الرؤيا»، و«الوحدة»، و«اليأس»، و«الإيمان»، هذه القصائد كلها استوحاها الشاعر من حبه لجوليا؛ لإلفير التي كان لها اليد البيضاء في تكوين الشاعر العظيم.
زواج الشاعر
في ربيع العام 1819 تعرف لامرتين إلى الآنسة ماريان إليزا بيرك، وهي فتاة إنكليزية ميالة ميلا شديدا إلى الفنون الجميلة والشعر، فضلا عن أنها موسيقية ورسامة من الطراز الأول، وكانت قد سمعت لويس فينييت، صديق لامرتين، ينشد بعض قصائد للشاعر فأعجبت بها، وأظهرت رغبتها في التعرف إلى ناظمها. وما إن قدر لها ذلك حتى شعرت بميل إليه، ما لبث أن استحال إلى حب، وهكذا مهد الشعر طريق الزواج للشاعر .
على أن لامرتين لم يشعر في الأول بسوى ميل طفيف نحو الآنسة ماريان بيرك، التي لم تكن على قسط من الجمال، بل كانت على كثير من اللطف والثقافة، وهذه الثقافة لم يكتشفها الشاعر في زوجته العتيدة إلا في صيف العام التالي 1820، فكتب إليها يطارحها حبه ويعرض عليها الزواج، فلم ترفض ...
وكان أن علاقتها بالشاعر أثارت غيرة صديقه لويس فينييت، الذي كان مأخوذا بالآنسة بيرك، فراح يدس بين الخطيب وخطيبته رجاء أن يعكر الماء بينهما فلم يفلح؛ لأن خطيبة الشاعر كانت واثقة من جدارة خطيبها، فلم تزعزعها النميمة.
وفي السادس من شهر حزيران 1820 عقد لهما في كنيسة قصر شامبيري، مأوى آل بيرك. وفي الخامس عشر منه، سافر الشاعر وزوجته إلى إيطاليا ليتسلم وظيفته الجديدة في سفارة نابولي.
كانت زوجته غنية؛ فقد أعطتها أمها مهرا قدره عشرة آلاف ليرة إنكليزية، وكان هو غنيا أيضا؛ فقد وهبه والده قصر سان بوان وثمنه مائة ألف فرنك، على أن يعطي كلا من أختيه أربعة وعشرين ألف فرنك، ووهبه عماه وعمتاه قصرا كبيرا في ماكون، ومبلغا قدره مائة وخمسة وعشرون ألف فرنك.
صفحة غير معروفة
المشاريع الأدبية الكبرى
على أن لامرتين لم يرتح إلى الإقامة بنابولي؛ وما هي بضعة أشهر حتى مرض بداء الأعصاب، فطلب مأذونية لم يعين مدتها، وغادر نابولي في العشرين من شهر كانون الثاني 1821، على أن يمكث في روما بضعة أسابيع ثم يوالي سيره إلى فرنسا بعد أن يصرف بضعة أيام في البندقية.
وإذ هو في الطرق، تفتحت روحه لشعاع داخلي، وراح يحلم بقصيدة رحبة واسعة النطاق يضمنها الرقي البشري منذ فجر التاريخ.
قال: «أشعر بأني صرت شاعرا كبيرا، فلقد بدأت أحلم بقصيدة رحبة كالطبيعة، مفيدة كالقلب البشري، رفيعة كالسماء، ولم يبق علي إلا أن أنتظر ريثما تفسح لي السماء في نظمها.»
بقي لامرتين في روما من أواخر كانون الثاني إلى منتصف نيسان، ولقد صرف وقته هذا، تارة في كنيسة القديس بطرس، وطورا في قصر الدوقة ده ديفونشير، وفي منتصف شهر شباط رزق غلاما سماه ألفونس وعمده في كنيسة القديس بطرس بروما ... إلا أن الغلام لم يعش طويلا.
وما إن قدم الصيف حتى كان لامرتين وزوجته في إكس لوبان، في ذلك الوادي الحبيب الطافح بتذكارات الشاعر.
وكانت زوجة لامرتين قد عرفت بذلك الحب العظيم الذي أيقظ جذوة الشاعرية في روح زوجها، فشاطرته حسرته على تلك المرأة التي أوحت إليه قصيدة «البحيرة».
وبعد مرور بضعة أشهر على إقامة الشاعر بقصره في ماكون، رزق ابنة جميلة سميت جوليا؛ تذكارا لمدام جوليا شارل أو «إلفير».
وفي تلك السنة 1822، أصدر لامرتين الطبعة التاسعة من «التأملات» مضافا إليها أربع قصائد جديدة، وباشر إعداد الجزء الثاني من هذا الديوان الشعري. أما الطبعات الثماني من «التأملات» فقد بيع منها عشرون ألف نسخة.
التأملات الجديدة
صفحة غير معروفة
في 15 شباط 1823 كتب لامرتين إلى صديقه فيريو يقول: «لقد بعت ديواني الجديد بمبلغ أربعة عشر ألف فرنك يدفع نقدا في هذا الصيف.» ولما صدر هذا الديوان كتب ألفرد ده فينيي إلى فيكتور هيغو يقول: «إن مجموع قصائد هذا الديوان الجديد لا يوازي مجموع قصائد الديوان الأول، على أن هناك قصيدة «البريلود» وبعض فقرات من قصيدة «بونابرت» لا أظن أن لامرتين سبق له أن نظم مثلها. وعلى كل أرى في شعره قلبا وشعورا يعبد من أجلهما، فهو قد عرف أن يمتزج بجميع القلوب.»
موت سقراط
في السنة 1817 كان الكاتب الفرنسي فيكتور كوزان، الذي عزل من مركزه في جامعة السوربون، قد نقل إلى اللغة الفرنسية جميع مؤلفات أفلاطون مشروحة شرحا وافيا، وكأن تعشق لامرتين للفيلسوف اليوناني أيقظ في مخيلته طيف أستاذه العظيم سقراط؛ ففي 15 شباط 1823 كتب إلى صديقه فيريو يقول: «أشرع اليوم بعمل فكرت فيه منذ ست سنوات، وهو نشيد في موت صديقنا سقراط.» وبعد مرور شهر كتب إلى فيريو يبشره بإنجازه النشيد. أما النشيد هذا فكان يحتوي تسعماية بيت لم يسبق للامرتين أن نظم أروع منها؛ ولقد باع الشاعر قصيدته هذه بستة آلاف فرنك، على أن يعود إليه حق نشرها بعد مرور تسع سنوات.
قال لامرتين في المقدمة التي وضعها لهذا النشيد ما يلي: «لقد حارب سقراط طوال حياته سلطان الحس الذي هدمه المسيح؛ ففلسفته كانت فلسفة دينية وديعة، عذبة، خاضعة، لقد حزرت وحدة الله وخلود النفس.»
آخر أناشيد شيلد هارولد
بعد أن صدر ديوان «التأملات الجديدة» وقصيدة «موت سقراط» اللذان استقبلهما النقاد بفصول قاسية فيها كثير من التحامل، صحت عزيمة لامرتين على أن ينزوي في قصره ويعتزل العالم الأدبي، وأقسم على أن الأوساط الأدبية لن تسمع صوته قبل عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة. وفي شتاء 1823-1824 وجه فكره نحو الملحمة الكبرى التي حلم بها في العام 1821، وانصرف إلى نظم النشيدين اللذين استعرض فيهما أنبياء التوراة وفرسان القرون الوسطى. ولم يخرج من قصره إلا في مطلع الخريف؛ ليرشح نفسه لكرسي المجمع العلمي الذي فرغ بموت بيير لاكروتيل. على أن الشاعر لم ينجح هذه المرة، وإن يكن أتباع المذهب الرومانطيقي قد ناصروه، وناصره شاتوبريان، وفيللمان، وفيكتور هيغو - كان فيكتورهيغو وقتئذ في الثانية والعشرين من العمر - فقنط لامرتين وعاد إلى عزلته وانزوى في قصر سان بوان.
وكان أن الشاعر الإنكليزي بيرون توفي في ميسولونغي (اليونان) حيث كان قد تطوع للدفاع عن اليونان في وجه الترك، فتأثر لامرتين تأثرا شديدا لموت شقيقه في الروح، وصحت عزيمته على أن يحيي شعرا ذلك الشاعر البطل الذي أحبه وأعجب به في حياته وموته. وكانت العاطفة المسيحية قد خمدت في روح الشاعر وبدأت جذوة الشكوك تضطرم فيه، فكتب نشيده «شيلد هارولد» تحت هذا التأثير الفجائي، فكان نشيدا فلسفيا أكثر منه مسيحيا.
جاء في مذكرات والدته ما يلي: «يكتب ألفونس قصيدة عنوانها «شيلد هارولد» يحيي فيها موت اللورد بيرون في سبيل الاستقلال اليوناني. على أن القصيدة هذه تحتوي فقرات لا تروقني، وأخشى أن يكون قد تأثر بالأفكار الفلسفية الحديثة التي ترمي إلى هدم الدين والنظام الملكي.»
وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر شباط 1825 أنجز لامرتين نشيده الكبير، وقد حيا فيه بطولة بيرون وعظمة اليونان الثائرين لأجل الحرية، وحاول أن يثبت أن الشعب اليوناني الحالي إنما هو وارث الشعب الإغريقي القديم، وختم نشيده بتحية هوميروس وأفلاطون والأرض اليونانية، أم جميع الحضارات.
ولم يكد الناشرون يعلمون بأن الشاعر أنجز قصيدته هذه حتى تهافتوا عليه يتبارون في التزامهم إياها، وما هي أن رست على الناشر دونداي دوبري بتسعة آلاف فرنك، وفي الرابع عشر من شهر 1825 صدرت القصيدة في أربع وعشرين صفحة، وبيع منها ستة آلاف نسخة بيومين.
صفحة غير معروفة
لامرتين في فلورانسا
في العام 1825 عين لامرتين كاتم أسرار السفارة الفرنسية في فلورانسا. على أن الطليان لم يكونوا راضين عن الشاعر؛ لأنه كان قد قارن في قصيدته «شيلد هارولد» بين إيطاليا الحاضرة وبين إيطاليا الماضية، ورأى الإيطاليون في هذه المقارنة إهانة لإيطاليا الحالية، فسخطوا عليه وأضمروا له كرها شديدا، وصور لهم أن توظيف لامرتين في بلادهم إنما هو إهانة لهم وللقضية الوطنية معا، فراحوا يشيحون عنه بوجوههم وينبذونه في المجتمعات والنوادي، ويسخرون منه في الصحف والمجلات.
ومما جاء في إحدى المقالات التي وجهت إليه في الصحف: «إن ناظم «شيلد هارولد»، النشيد السخيف، رجل فارغ صورت له مخيلته العقيمة أن ينال الشهرة الكاذبة عن طريق الطعن والقدح.»
ولكن هذه الحملات ما لبثت أن هدأت عقيب مبارزة جرت بين الشاعر وأحد الضباط الإيطاليين، أصيب فيها الأول بجرح في ذراعه، وبقي لامرتين ثلاث سنوات في إيطاليا، كان في نهايتها قد بدأ يحلم بجولة في الشرق وبوضعه يده على زمام السياسة.
على أن إقامته بإيطاليا وأشغاله السياسية لم تنسه الإصغاء إلى البلبل المنشد في صدره؛ فقد نظم في تلك السنوات الثلاث جملة قصائد حملها معه إلى فرنسا لينشرها فيما بعد في ديوان يسميه: «الإيقاعات الشعرية». ولم يكد يرجع إلى فرنسا حتى شعر بميله إلى الأدب يملكه من جميع أقطاره. قال: «إن قلبي طافح شعرا، وبودي أن أترك كل شيء وأتبع روحي، ولكن لا أعلم أي سبيل أسلك لأصل إلى هذه الغاية التي أنشدها؛ على أن خيال دنتي يتراءى لي ويؤنبني، ففي نفسي سفاح شعر يمتص دمي.»
1
لامرتين ينتخب عضوا في المجمع العلمي
في أواخر شهر حزيران من العام 1829 حضر لامرتين، في منتدى مدام ريكاميه، قراءة «موسى»، وهي الرواية التمثيلية الشعرية التي وضعها الكاتب الكبير شاتوبريان. وكان شاتوبريان في ذلك الحين في أوج مجده الأدبي، وأعظم كاتب في أوروبا؛ فراح الشاعر يعمل لتمكين الصداقة بينه وبين شاتوبريان توصلا إلى كرسي في المجمع العلمي.
وما هي أن تم له ما أراد؛ ففي الخامس من شهر تشرين الثاني انتخب لامرتين خلفا للكونت دارو بتسعة عشر صوتا، مقابل أربعة عشر صوتا نالها الكونت فيليب ده سيغور، مؤلف تاريخ حملة روسيا ومرافق نابوليون في موقعة 1812.
على أن وفاة والدته أوقعته في قنوط شديد، وأفقدته يوما بعد يوم معتقداته السياسية والدينية معا؛ إذ إنها كانت الصلة الوحيدة بينه وبين النظام الملكي.
صفحة غير معروفة
لامرتين ينشر ديوانه الثالث
قلنا سابقا إن الشاعر كان قد نظم في إيطاليا قصائد بينها «يهوه» أو فكرة الله، و«الدوحة» وهي تابعة لقصيدة «يهوه»، و«الإنسانية» وهي تابعة لقصيدة «يهوه» أيضا، و«ميللي» أو مسقط الرأس، و«أنشودة المسيح»، و«الحسرة الأولى»، وهي مناجاة تذكر فيها الشاعر طيف غرازييلا، و«أنشودة الصباح» وغيرها. ولقد شاء لامرتين أن يبيع حق نشر هذا الديوان بأربعين ألف فرنك، ولا ننسى أنه كان شديد الرغبة في أن يستثمر مؤلفاته ويهب عروس الشعر الفرنسية ذهبا وفضة. على أنه لم ينجح هذه المرة، فتريث إلى أن نجحت المساومة.
وفي 15 يونيو 1830 ظهر الديوان في جزأين يحتوي كل منهما 350 صفحة. أما ملتزمه، فكان الكتبي الشهير شارل غوسلين المشمول برعاية الدوق ده بوردو، وأما الديوان فقد استقبله الأدباء بكثير من الثناء إلا بعضا منهم حمل عليه حملة شديدة لم يعبأ بها الشاعر.
المقاصد الكبرى
1830-1849
عندما انطلقت ثورة 1830 حولت لامرتين عن طريق الأحلام، وطرحته في طريق العمل حيث كان ينتظره شكل جديد من أشكال المجد. وكان منذ العام 1817 قد بدأ يهتم اهتماما كبيرا بالقضايا السياسية، ولقد كتب إلى صديقه فيريو يقول: «إني لأتوقع في البلاد ثورة تجترف الملك ما كنت لأتوقعها من قبل.»
وفي 27 حزيران 1830 كتب إلى فيريو يقول: «أمريضة فرنسا أم لا؟ أما أنا فأظنها تحتضر؛ وعلى كل، أراني مستعدا للمناضلة ومقاومة الأغبياء والمنافقين.» وكتب إليه أيضا: «إن الجهاد في سبيل الحرية لمن المقدسات عندي؛ على أني أخشى الانتقال من النظام الملكي إلى الفوضى ...»
وبعد مرور ثلاثة أشهر رشح لامرتين نفسه لكرسي في مجلس النواب؛ على أنه لم ينجح؛ لأن الشعب كان ينظر إليه كأحد مناصري الملك كارلوس العاشر وسلالة البوربون. سوى أن الشاعر لم يكن في حاجة ملحة إلى الجلوس على الكرسي النيابي؛ لأن رغبته في زيارة الشرق كانت تملأ روحه، قال: «أود أن أذهب إلى الشرق لأبحث عن تأثيرات شخصية في ذلك الملعب الرحب، حيث وقعت حوادث العالم القديم ومثلت السياسات والأديان. أود أن أقرأ قبل الموت أجمل صفحة من سفر الخليقة، فإذا اهتدى الشعر في ذلك الملعب إلى صور جديدة فلا أتردد عن حملها في زوايا مخيلتي؛ رجاء أن أتوصل بذلك إلى إعارة الآداب ألوانا جديدة.»
ولقد كانت رغبة لامرتين في زيارة الشرق قد بدأت تحرك نفسه منذ العام 1818 أو قبله، فشاتوبريان كان قد شوق الفرنسيين في أحد كتبه إلى زيارة مهبط الأنبياء، وكانت ثورة اليونان على الترك قد نبهت الشباب الرومانطيقي إلى جمال الشرق. ولقد اتصل بالمسيو دوميك رسالة كتبها لامرتين في العام 1818 نأخذ منها ما يلي: «لو استطعت أن أجمع مائة ليرة لذهبت إلى اليونان، فإلى أورشليم، لا أحمل إلا كيسا، ولا آكل إلا خبزا.» وقبل أن يهم بالسفر كتب إلى صديق له يقول: «أود أن أزور في الأول مدينة القسطنطينية فأتفرج على شواطئ البوسفور، ثم أنتقل إلى سوريا فأزور فلسطين ولبنان وتدمر وبعلبك، إذا سمح العرب، فإلى مصر حيث أتفرج على النيل والأهرام.»
ولما حان موعد الرحيل استقل الشاعر مركبا شراعيا محموله مائتان وخمسون طنا، وهو ملك البحري برينو روستان، جد الشاعر إدمون روستان. وعندما وصل لامرتين إلى مرسيليا استقبله رهط من المعجبين به، واحتفى به احتفاء لم يكن الشاعر قد عرف مثله بعد. ولقد شاء المجمع الأدبي في هذه المدينة أن يكرمه فانتخبه عضو شرف، ولما حان موعد السفر ودع الشاعر إخوانه بقصيدة رائعة، نقتطف منها ما يلي: «لم أسافر بعد في أوقيانوس الرمال على مطية مركب الصحراء،
صفحة غير معروفة
1
ولم أبل غليلي في المساء من آبار العبرانيين المظللة بالنخيل، ولم أبسط وشاحي تحت الخيام وأرقد على التراب الذي رقد عليه أيوب، ولم أحلم بعد أحلام يعقوب على حفيف الأردية الخفاقة.
لم يبق علي أن أقرأ من صفحات العالم السبع إلا صفحة واحدة: فأنا لا أعرف كيف تضطرب النجمة في السماء، ولا كيف يخفق القلب في دنوه من الآلهة! ولم أسمع صراخ الأمم صاعدا من الأرز القديم، ولم أبصر من مرتفعات لبنان أسراب النسور النبوية تتلاطم على أبراج صور، ولم ألق رأسي على الأرض التي لم تبق من تدمر إلا صدى اسمها.
لم أسمع بعد أمواج الأردن ترفع صراخها الأليم ناحبة نحيبا أسمى من نحيب إرميا، ولم أمش على آثار إلهية في ذلك الحقل الذي بكى فيه المسيح تحت أشجار الزيتون، ولم أضع جبيني في التراب الذي انطبعت عليه قدم المخلص، ولم ألطم صدري العميق في المكان الذي فتح فيه المسيح ذراعيه ليعانق العالم ثم انحنى ليباركه!»
وفي العاشر من شهر [...] 1832 وصل إلى أثينا، وبعد أن جال جولة بطيئة في جزر الأرخبيل دخل إلى سوريا عن طريق قبرص، ووصل إلى بيروت في اليوم السادس من شهر أيلول.
أما بلاد اليونان فلم ترق لامرتين في شيء. قال في إحدى رسائله: «باطل! لم أقع في بلاد اليونان على جمال إلا في بعض أكمات من جبلي تيجيت ولاكونيا، حتى إن السماء نفسها لا توازي سماء إيطاليا، فهي محجوبة بالضباب وضئيلة العمق.»
وقال في رسالة أخرى: «لقد زرنا أشهر جهات اليونان: أجينا وسلامين وأثينا وغيرها، أما أثينا التي يفرط السواح في مدحها فهي فظيعة، ولا تشوق الزائر إلى العودة إليها، ولولا ماضيها وأسماء رجالها الغابرين لما وجدنا فيها ذرة من الجمال، وهكذا قل عن جميع جزر الأرخبيل التي زرناها، فليست سوى صخور سوداء عارية.»
لامرتين في بيروت
استأجر لامرتين على أبواب المدينة دارا محاطة بالبساتين، وبعد أن استراح من عناء السفر خمسة عشر يوما، غادر زوجته وابنته جوليا في بيروت، ومضى في قافلة من الجياد تحمل حاشية من اللبنانيين والمصريين يزور بلاد الجليل واليهودية وصور وصيدا. ولدى عودته إلى داره في بيروت كتب إلى صديقه فيريو يقول: «لقد طفت مدة خمسة وأربعين يوما فزرت الجليل وفلسطين ولبنان والأردن وبحيرة طبريا والبحر الميت وصور وصيدا، ولدى وصولي إلى أورشليم رأيت الطاعون ضاربا أطنابه فيها؛ على أني لم أتقهقر بل دخلت، وعدت منها سليما معافى، وهكذا عادت معي حاشيتي الكبيرة بفضل الاحتياطات التي اتخذتها على يد إبراهيم باشا.»
2
صفحة غير معروفة
ولنسمعه الآن يصف مأواه في بيروت، قال: «ما من لذة تعدل اللذة التي تذوقناها ساعة استفقنا من الرقاد عقيب الليلة الأولى التي صرفناها في دارنا. لقد تناولنا طعام الصباح على سطح فسيح يشرف على جهات جميلة تفقدناها جميعا بأبصارنا.
تقوم الدار على مسافة عشر دقائق من المدينة، وينفذ إليها من طرق مظللة بأشجار أمن الصبير تدلي ثمارها الشائكة على رءوس العابرين. يجتاز المار بعض جسور قديمة وبرجا كبيرا مربع البناء شيده أمير الدروز فخر الدين، وهذا البرج يحل اليوم محل مستشرف لبعض الخفراء من جيش إبراهيم باشا، ثم ينسل بين جذوع التوت إلى أن يبلغ جمهرة من بيوت منخفضة، تختبئ بين الأشجار ويحيط بها مرج من الليمون، وهذه البيوت يختلف بعضها في بنائه عن البعض الآخر، أما البيت المنتصب في الوسط فيظهر بشكل برج مربع، ويرتفع شامخا على سائر ما يقوم حوله، وأما سطوح هذه البيوت فيتصل أحدها بالآخر ببعض أدراج من الخشب.
نرى البحر على مائة خطوة منا يتقدم في الأرض فيتراءى لنا، من خلال رءوس الليمون والصبير الخضراء، كبحيرة جميلة أو كنهر عريض لا يظهر منه إلا جزء صغير، ونرى بعض زوارق عربية ملقية المراسي تهدهد على تموجاته المرسلة برخاوة وكسل. وإذا صعدنا إلى السطح الأعلى، تستحيل هذه البحيرة الجميلة إلى خليج رحب، يسده قصر بيروت المغربي من ناحية وأسوار شاهقة كالحة لسلسلة الجبال المنحدرة بسرعة نحو مدينة طرابلس من الناحية الأخرى. إلا أن الشفق يمتد أمامنا امتدادا بعيدا، فهو يبدأ بالركض على سهول خصبة غرست فيها شجرات تحجب الأرض عن النظر، وانتشرت فوقها بيوت تشبه بيتنا، ترفع سطوحها في الجو كشرع بيضاء على خضم من الخضرة، ثم ينحصر بين أكمة ملساء مستطيلة يقوم على قمتها دير للروم الأرثوذكس بجدرانه البيضاء وقبابه الزرقاء. ويخيم على قباب هذا الدير بعض رءوس من الصنوبر المستوي على مرتفع هناك.
وتنحدر الأكمة على درجات تدعمها أسوار حجرية، وتحمل أحراجا من الزيتون والتوت، ويجيء البحر فيغسل آخر هذه الدرجات ثم يحيد عنها.
وعلى مقربة منها سهل آخر يستدير وينحفر ليفسح مجالا لنهر ينساب طويلا بين غابات الدوح الأخضر، ويرتمي في الخليج المصفرة مياهه على الشواطئ، ولا ينتهي السهل هذا إلا عند أكتاف الجبال الذهبية.
أما الجبال هذه فلا ترتفع دفعة واحدة، بل تبدأ صعودها بأكمات ضخمة بعضها مستدير، والبعض شبه مربع تغطي قممها المزروعات، وتقل كل واحدة منها إما ديرا وإما قرية ينجلي عليها شعاع الشمس، فيجذب الأنظار. وتعرض درجات لبنان فوق أولى هذه الأكمات، فثمة سهول تراوح مسافتها بين فرسخ أو فرسخين، سهول متباينة بعضها محفور، وبعضها متلم، وبعضها حرثته الأودية والسهول والينابيع العميقة والخلجان المبهمة التي يضيع بها النظر.
وإذ تنتهي الجبال من هذه السهول ترجع فترتفع ارتفاعا شبه مستقيم، وقد تراءت عليها أخيلة الأرز السوداء وبعض أديرة صعبة المسالك، وبعض قرى مجهولة يخالها الناظر منحنية فوق لججها وأودائها.
وهناك على قمة السلسلة الثانية، وهي أكثر تلك القمم نتوءا، تقوم أشجار جبارة كأنما هي شعور نادرة على جبين أصلع، ونستطيع من هنا أن نتبين رءوسها المفرضة التي تشبه النوافذ المرتفعة على أحد الأبراج.
أما لبنان الحقيقي فيقوم وراء هذه السلسلة الثانية، إلا أننا لا نستطيع أن نرى أكنافه بوضوح، فنعلم أعارية هي أم مغطاة بالنبات، لبعد ما بيننا وبينها، ثم إن هذه الأكناف تختلط في شفافة الجو بالجو نفسه، فلا يقع نظرنا إلا على شبهة من أشعة الشمس التي تغلفها، وعلى رءوسها النارية التي تمتزج بغيوم الصباح الأرجوانية، وتحلق في أمواج الجو كجزر لا سبيل إلى بلوغها.
أما إذا انحدرت أبصارنا عن شفق هذه الجبال الجميل، فلا تستطيع أن تنحط إلا على رزم من النخيل غرست هنا وهناك على مقربة من بيوت العرب، وإلا على تموجات رءوس الصنوبر الخضراء المنتشرة في السهل ضمات صغيرة، أو على أديم الأكمات، أو على غراس غير هذه تترامى أوراقها الثقيلة كأوسمة حجرية على الجدران الصغيرة التي تدعم السطوح، وهذه الجدران نفسها ترتدي ثيابا من الزهر واللبلاب الأرضي والكرمة البرية، والأغراس ذات الأزهار المتباينة والعناقيد المختلفة الأشكال، فلا يتاح لك أن تتبين معها الحجارة التي بنيت بها هذه الجدران، فما هي إلا أسوار من الخضرة والأزهار. ويقوم أخيرا على مقربة منا وبمرأى من أبصارنا، بيتان أو ثلاثة تشبه بيوتنا في فرنسا، عليها إزار من قباب البرتقال المزهر والمثمر ... هناك عرب جالسون على البسط في سطوح بيوتهم يدخنون، وبعض نساء يطل من النوافذ ليبصرنا، وإذ ينتبه إلى أننا نمعن النظر فيه يحتجب.
صفحة غير معروفة
وهناك عيلتان عربيتان تتناولان الغذاء في ظلال شجرة تخيم على عتبة دارهما، وعلى مقربة منهما - تحت شجرة أخرى - فتاتان سوريتان لا يقع النظر على أجمل منهما، ترتديان ثيابهما في الهواء الطلق، وتملآن شعورهما أزهارا بيضاء وحمراء؛ إحداهما ذات شعر مستطيل كثيف يوشك أن يغطي جملة جسدها، كأنما هو أغصان صفصافة باكية تتدلى على جذعها فتحجبه من جميع أطرافه، إلا أنها عندما تحرك تلك الشعور الخصبة يبين من تحتها جبينها الجميل، ومقلتاها المتألقتان بغبطة ساذجة، وكأني بها مرتاحة إلى إعجابنا بها.
لقد ألقيت إليها قبضة من الغازي، وهي قطع صغيرة من الذهب تعلقها السوريات بخيط من الحرير فتصنع منها عقودا وسوارات، فجمعت كلتا يديها ورفعتهما إلى رأسها لتشكرني، ثم دخلت إلى الغرفة السفلى لتراها أمها وأختها.»
وقال يصف جبال لبنان: «لم يسبق لي أن تأثرت بروعة جبال في العالم كما تأثرت بروعة جبال لبنان؛ فللبنان طابع لم أقع على مثله ، لا في جبال الألب ولا في جبل طوروس، فهو مزيج من روعة الخطوط والقمم، وجمال التقاطيع وتنوع الألوان.
ولبنان جبل عظيم كاسمه، فهو جبال الألب تحت سماء آسيا التي تغمس قممها الهوائية في صفاء عميق من جمال أزلي.
ويخيل إلي أن الشمس تستريح إلى الأبد في زوايا تلك الهضبات الذهبية، وأن البياض الساحر الذي تنطبع به يختلط ببياض الثلوج التي تبقى إلى منتصف الصيف على القمم المرتفعة.»
وقال يصف في بيروت مآذن الجوامع والقلاع: «عندما انحدرت إلى الجهة المعاكسة للبحر شاهدت مآذن الجوامع العالية، شبيهة بأعمدة مهجورة، تنتصب في أديم الصباح الأزرق المتموج، ووقع نظري على القلاع المغربية التي تخيم على المدينة، والتي تعشش في جدرانها المهجورة أغراس من التين البري والقرنفل وغيره.»
لامرتين ولادي إستانهوب
بينا لامرتين يجول في جبال لبنان استقبلته لادي إستانهوب، وهي امرأة إنكليزية متصوفة، كانت منذ سنوات تقيم في لبنان على أكمة صعبة المسالك، تحف بها بهرجة وأبهة، كأنما هي أميرة خطيرة من أميرات الأساطير! وكانت تزعم أنها تقرأ في الغيب وتعرف حظوظ البشر.
على أن حقيقة هذه المرأة لا تزال مبهمة؛ فمن الناس من يقول إنها ساحرة، ومنهم من يقول إنها عميلة سياسية لدولة إنكلترا ... ولكن الأمر الذي اتفق عليه هو أنها تنبأت للامرتين بأنه سيرقى في السياسة إلى ذروة عالية.
قال لامرتين يتكلم عن زيارته للادي إستير إستانهوب: «نهضت لادي إستانهوب عن مقعدها الشرقي، وتقدمت نحوي بقوامها الفخور، مادة إلي يدها وقالت: لقد جئت من بعيد لترى ناسكة، فمرحبا بك. لست لأستقبل إلا القليل من الغرباء، على أن رسالتك راقتني فوددت أن أتعرف إلى رجل يحب الله والطبيعة والعزلة كما أحبها أنا. فاجلس ولنتكلم، فقد صرنا صديقين.
صفحة غير معروفة
فقلت لها: إنك تتسرعين يا سيدتي، فتمنحين شرف الصداقة لرجل تجهلين اسمه وحياته. أتعرفين من أنا؟ فقالت: صدقت، لست أعرف من أنت ولا ماذا فعلت في الحياة التي عشتها بين البشر، ولكني لا أجهل موقفك من الله، فلا تتخذني امرأة مجنونة كما يتخذني الناس، فثمة علم فقد اليوم من أوروبا، علم ولد في الشرق ولا يزال يعيش فيه، وهذا العلم أملكه أنا بنفسي؛ فإني أقرأ في النجوم. لا مشاحة في أن جميع البشر إنما هم أبناء إحدى هذه النيران السماوية التي أشرفت على ولادتنا، والتي طبعت سطوتها السعيدة أو المحتالة في أعيننا وجباهنا وقسماتنا وخطوط أيدينا وشكل أقدامنا وحركاتنا. أفتريد أن أكشفك لعيني نفسك؟ أتريد أن أتنبأ لك عن حظك؟
فقلت لها باسما: كوني مطمئنة يا سيدتي، فأنا لا أنكر ما أجهل، ولا أؤكد أن في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة، في الطبيعة التي يرتبط بها كل شيء، مخلوقات من طبقات سفلى كالإنسان، ليست قائمة تحت تأثير مخلوقات سامية كالكواكب أو الملائكة؛ على أني لست بحاجة إليها لأعرف نفسي القائمة على الفساد والضعف والبؤس، أما ما يتعلق بأسرار مستقبلي، فأرى أن استفهام الإنسان عنها إنما هو حط من كرامة الله الذي يخفيها، ولست لأتكل في شأن المستقبل إلا على الله والحرية والفضيلة.
فقالت: لا فرق، فاعتقد بمن تريد واتكل على من شئت، أما أنا فأرى أنك ولدت تحت تأثير ثلاث نجوم سعيدة وقوية معا، وأرى أن الله هو الذي قادك إلى هنا لينير نفسك، فهو بحاجة إلى من كان مثلك ينطوي على طموح وسلامة نية؛ ليستخدمه في الأعمال العجيبة التي سيعالج بها البشر قريبا. أتعتقد أن ملكوت المسيح قد أتى؟
فقلت لها: ولدت مسيحيا. فقالت: مسيحي! وأنا مسيحية أيضا، ولكن الذي تسميه المسيح ألم يقل: إني أخاطبكم بالآيات، ولكن الذي سيجيء بعدي يخاطبكم بالروح والحقيقة؟ إذن هو هذا الذي ننتظره! هذا هو المسيح الذي لم يأت بعد، والذي سنراه بأعيننا.»
وقال دوميك: «لم تكن لادي إستانهوب ساحرة أو رمالة، ولم يكن لامرتين مكبث، على أن روح الشاعرية المعجونة بالتصوف والمشتهيات التي كان يضمرها، جعلته يؤمن بنبوءة هذه المرأة.»
أما الإيمان هذا فقد قواه لامرتين بوقوفه على ضريح المسيح في أورشليم. قال ديكونيه: «ماذا ترى لامرتين يجد على ضريح المسيح؟ الإيمان الحي. فهو قد ذهب إلى قبر المسيح ليقوي الإيمان المسيحي الذي تلاشى في نفسه، وهو قد اتجه إلى أرض الأنبياء ليستوحي وحيا جديدا ... وقد خيل إليه في تلك الأرض المقدسة أنه دعي ليصير نبي الفلسفة ومسيحها.»
قال لامرتين يصف زيارته لقبر المسيح: «إن كنيسة القبر المقدس هي أثر جميل من آثار العهد البيزنطي، وهي سرادق نبيل طرحته التقوى البشرية على ضريح ابن البشر. وإذا ما قابلنا هذه الكنيسة بكنائس العهد الذي بنيت فيه، نجدها أفضلها جميعا، فكنيسة القديسة صوفيا هي في شكلها أكثر بربرية وإن تكن أكثر فخامة، فإذا رؤيت من الخارج خيل إلى رائيها أنها جبل ترتفع فيه أكمات من الحجارة.
أما كنيسة القبر المقدس، فهي قبة أثيرية منقوشة يضاف إلى جمال أبوابها ونوافذها المزخرفة دقة في العمل وحذق في الفن؛ فالحجر في هذا الهيكل قد استحال إلى دانتيللا ليصبح جديرا بالدخول في هذا الأثر المشيد لأعظم فكرة بشرية. ولا مشاحة في أن كنيسة القبر المقدس لم تبق اليوم كما كانت في عهد القديسة هيلانة، والدة قسطنطين ومشيدة هذا الهيكل؛ فملوك أورشليم رمموها وجملوها بزخارف الفن المغربي والفن الغربي اللذين اهتدوا إلى قواعدهما في الشرق. إن هذا الأثر غير جدير بالقبر، ولكنه جدير بهؤلاء البشر الذين شاءوا أن يكرموه.
لقد استولى الترك على هذا الهيكل المقدس، استيلاء مكنتهم الحرب منه، إلا أنهم لم يهدموه ولم يشوهوا جهة من جهاته، بل يحرسونه بخشوع واحترام وتقوى تقتضيها العبادة المسيحية. ولقد رأيت حراس هذا الهيكل فلم أقع في وجوههم وحركاتهم وأحاديثهم على شيء من ذلك الاحتقار الذي يتهمهم به البعض. ولولا هؤلاء الترك لكان القبر المقدس الذي يتنازعه الأرثوذكس والكاثوليك من جهة، وسائر الطوائف المسيحية من جهة ثانية، قد استحال مائة مرة إلى موضوع خصام وجدال بين تلك الطوائف المتنازعة. إذن، أي ذنب اقترفه الترك؟ فحيثما يرى المسلم فكرة الله في روح إخوته يحترمها وينحني أمامها.
ألا فليتساءل المسيحيون بصدق ماذا كانوا فعلوا لو سلمتهم مقدرات الحرب مكة والكعبة؟ أكان باستطاعة الترك أن يقبلوا من جميع جهات أوروبا وآسيا ليكرموا بسلام الآثار المحفوظة للإسلام؟
صفحة غير معروفة
وبعد أن جلنا جولة خاشعة في الهيكل المقدس انتهينا إلى الضريح، وهو لا يزال مغطى بشبه تابوت من الرخام الأبيض يحيط إحاطة تامة بالصخر الأول الذي حفر فيه القبر، فشاهدنا مصابيح من الذهب والفضة تنير المعبد بدون انقطاع، ونشقنا فيه عطورا تحترق ليل نهار.
إن هذا القبر - في نظر المسيحي أو في نظر الفيلسوف، في نظر الحكيم أو في نظر المؤرخ - إنما هو الحد الفاصل بين عالمين، بين العالم القديم والعالم الجديد، وهو المركز الأساسي لفكرة جددت العالم، وحضارة بددت كل شيء، وكلمة دوت في الكرة الأرضية من أطرافها إلى أطرافها، وهو ضريح العالم القديم ومهد العالم الجديد. فما من حجر في هذا الملأ الأسفل استطاع أن يكون أساسا لهيكل كهذا الهيكل، وما من ضريح خصب خصبه، وما من مبدأ دفن ثلاثة أيام أو ثلاثة قرون استطاع أن يسحق بمثل هذا الانتصار الصخر الذي أغلقه الإنسان على هذا المبدأ ويكذب الموت بقيامة طلقة مستمرة.»
وكان ثمة حزن عميق ينتظر عودة لامرتين إلى بيروت؛ ففي السابع من شهر كانون الأول ماتت ابنته جوليا البالغة من العمر عشر سنوات على أثر داء في الصدر حملت جرثومته من فرنسا.
ولقد رأينا أن ننقل هنا رسالة ثمينة كتبها ده بارسيفال، صديق لامرتين ورفيقه في رحلته، وهي تتضمن عن مرض جوليا وموتها، تفاصيل لم تكتب في موضع آخر. أما الرسالة هذه فقد وجدت في حوزة الدكتور كابانيس الذي نشرها في جريدة «البحاثون والمتطفلون» في 30 حزيران سنة 1913، وهذا نصها:
سيدتي
كلفني السيد والسيدة ده لامرتين أن أطلعك على الفاجعة الأليمة التي حلت بهما، فالموت قد اختطف ابنتهما الوحيدة، على حين لم يكونا يتوقعان هذه الضربة. فبعد الحمى الخفيفة وتقيوءات الدم التي انتابت جوليا في ماكون، قبيل المجيء إلى سوريا، تحسنت حالة الفتاة وبعد الخطر عنها، وصارت فرحة ضاحكة مشرقة. ولقد عزونا هذا التحسن إلى عذوبة المناخ الذي تمتعنا به، وإلى العناية التي احتيطت بها؛ على أن الفصل الرديء لم يكد يحل حتى اعتادها السعال وتعب الحنجرة والحمى الخفيفة.
ولقد اعتنى بها طبيب كان السيد ده لامرتين قد صحبه معه في الرحلة، وطبيب إنكليزي آخر لا يقل عن الأول خبرة وعلما؛ على أن جميع المساعي ذهبت أدراج الرياح، فماتت جوليا وهي بين ذراعي والدها وأمها المسكينة، من غير أن تقاسي كثيرا من الآلام وبدون نزع ...
ده بارسيفال
بيروت، 15 كانون الأول 1832
كان حزن الشاعر على وحيدته عميقا جدا، حتى خيل إليه أن سعادته قد تحطمت إلى الأبد، وكأنه لم يشأ أن يغادر ذلك الهيكل الميت في أرض لم يولد بها آباؤه، فحنط جوليا ودفنها دفنا موقتا على قدم خروبة مزروعة بالقرب من داره.
صفحة غير معروفة
وكان عليه أن ينتظر قدوم الربيع ليتمكن من العودة إلى فرنسا، فانتظر ثلاثة أشهر كئيبة في بيروت، وفي أحد الأيام شعر بالحزن يملك عليه جميع مشاعره، فكتب إلى صديقه فيريو يقول: «لقد كتبت إليك أطلعك على النكبة التي نزلت بي فهدمت مستقبلي وجهمت في عيني جميع ألوان الحياة. وها أنا اليوم مسمر في مكاني ريثما يسمح لي الربيع القادم بالعودة إلى فرنسا ... أما حياتي في هذا العالم فقد انتهت، وأصبحت أعيش كما تعيش البهيمة ...»
وشاء لامرتين أن يروح عن نفسه، فترك بيروت في الثامن عشر من شهر آذار، وراح يطوف بين خرائب بعلبك ودمشق، في حين كانت زوجته الحزينة تزور الأماكن المقدسة. وفي اليوم الثلاثين من شهر نيسان، سافر الشاعر وزوجته والحاشية إلى يافا، ومنها إلى القسطنطينية، حيث صرفوا شهرين كاملين بعد أن أرسلوا تابوت جوليا إلى مرسيليا؛ على أن طارئا فجائيا طرأ على لامرتين في إحدى قرى البلغار، وفي كوخ قائم على قدم جبل هاموس؛ فقد أصيب بداء ذات الرئة، وهو بعيد عن أصدقائه لا يواسيه ويعتني بأمره، إلا زوجته الثكلى. ولقد كان الدكتور ديلاروايير وده بارسيفال قد تقدما الشاعر وزوجته إلى فرنسا، ولم يبق من الحاشية إلا ده كامبا، وهو رجل عجوز لا يستطيع أمرا. إلا أن العناية شاءت أن يشفى لامرتين من دائه ويواصل سيره إلى فرنسا ؛ ففي منتصف شهر تشرين الأول، في حين كانت زوجته تستريح في تورين مما ألم بها من الأتعاب والمصائب، قصد هو إلى مرسيليا ليجيء بتابوت ابنته، ولقد حمله توا إلى سان بوان ودفن الجثة في الكنيسة الصغيرة التي دفنت فيها بقايا والدته.
قال دارغو، صديق الشاعر، إن لامرتين صرف الليل الذي أعقب دفن الجثة في الكنيسة الصغيرة يتحدث إلى روح وحيدته. وقال دارغو نفسه إن لامرتين أرسل إليه في اليوم التالي كتابا يقول فيه: «لقد وضعت في الليلة الفائتة تابوت وحيدتي على تابوت أمي: كل ماضي وكل مستقبلي، ولقد انسحقت جسديا وروحيا ولم أبق أقوى حتى على الكتابة ...»
وفي العام 1834؛ أي بعد مرور أربعة عشر شهرا على موت جوليا، كتب لامرتين قصيدة لذكرى وحيدته، وقد نشرت هذه القصيدة في كتاب «رحلة إلى الشرق» قبل أن تنشر في صحيفة أو في ديوان، وقبل أن يقرأها لامرتين نفسه على مسمع من أصدقائه. وهذه القصيدة أصبحت اليوم مشهورة ولا تقل ذيوعا عن القصيدة التي نظمها فيكتور هيغو لذكرى ابنته ليوبولدين التي ماتت غرقا، وإنا لننقل هنا بعض فقرات منها:
رضعت الآلام من ثدي أمي، فقلبي لا ينفض إلا دموعا بدل الدم. ولقد اختطف الله مني لذة هذه الدموع فإنه جففها في قلبي. فالحسرة أصبحت عسلي، وأصبح الحزن غبطتي، وصرت أشعر بفطرة أخوية تجذبني إلى أي تابوت كان، وصرت لا أجد طريقا توقفني إلا إذا شاهدت فيها خربة أو حدادا!
كانت جوليا الحطمة الوحيدة من حطم عاصفتي الطويلة، والثمرة الوحيدة من تلك الأزهار التي قطفتها، كانت دمعة في رحيلي وقبلة في عودتي، وعيدا دائما في بيتي الطواف، كانت شعاعا من الشمس على نافذتي، وعصفورا غردا يشرب على فمي، ونفسا موسيقيا يتصاعد في الليل بالقرب من مرقدي.
بل كانت أكثر من ذلك كله، كانت - وا حر قلباه - صورة أمي، وكان يخيل إلي أن نظرات أمي تعود إلي في عينيها. كان صوتها صدى عشر سنوات من الغبطة، وكانت قدمها في البيت تملأ الهواء سحرا وعذوبة، وبصرها يصعد الدموع إلى عيني، وابتسامتها تضيء في قلبي.
ولم تكن نظراتي وقلبي، وهي تسكرني غبطة وصلاة؛ لتنتبه إلى أن جبينها يثقل ذراعي من يوم إلى يوم، وأن قدميها تثلجان يدي كالحجر ... جوليا! جوليا! لماذا تشحبين؟ ... فيم هذا الجبين المبلل؟ وهذا اللون المتبدل؟ تكلمي! ابتسمي لي! وافتحي لي عينيك لأقرأ فيهما! ...
إلا أن زرقة الموت كانت تزنر شفتها الوردية، وكانت الابتسامة تموت عليها حالما تولد، ونفسها المقتضب يزداد سرعة كخفقان جناح يجثم. وعندما حملت روحها في آخر نفس، مات قلبي في صدري كالثمرة التي تحملها المرأة في أحشائها ميتة باردة!
لئن كانت إيطاليا هي التي كشفت للشاعر مغاني النور، فالشرق هو الذي كشف له المدى الذي لا حد له، وجمال الصحراء القاحل. فأمام آثار بعلبك وأمام عظمة أرز لبنان رحبت مخيلة لامرتين، وفي وسط الآلام والوحدة وتجاه مشاهد الطبيعة والماضي اكتسبت مخيلته ذلك النشاط وتلك الرحابة اللذين بقي محافظا عليهما طوال حياته.
صفحة غير معروفة