أوراق قليلة على أشجار الحور،
حسبتها بلدية المدينة،
خريف في البالوعات،
والأسئلة المجابة عن السعادة.
كلمات موجزة وإشارات مقتضبة، لا أقنعة ولا أستار ولا هروب إلى عالم التشبيهات «الشاعرية» البعيدة، بل مشاهد متكررة في حياة كل منا: «أين أنت، عندما تمشين بجواري؟» ولكنها تضعنا على الفور في «الجو» الروحي، الذي تريد القصيدة أن توحي به: المصاعب التي تواجه الحب والمحبين، استحالة الاتصال بين الإنسان والإنسان، بطلان الأمل وزيفه، وكل هذا في لغة طبيعية تجري على سجيتها، وتتحرك قلقة بين لغة الشعر ولغة النثر، تحولت الأنا إلى صوت يتحدث بلسان إنسان آخر، يتحدث لنفسه ولكل من يهمه أن يصل إليه صوته، أو لعله لا يقصد بحديثه أي إنسان، وإنما يبدو كمن يقرأ من تقرير محايد، دون انفعال ولا اهتزاز ولا رغبة في التعبير عن عاطفة أو تجربة خاصة، ولهجته هادئة جافة، ولكنها مرة قاسية، إنها تبدد الأوهام الغالية، وتعري وجه الحياة الباطلة والحب المستحيل، لقد خنق عاطفته بإرادته، وسجن ذاته بيديه فلم يفرج عنها إلا في لحظات خاطفة كالبرق، إنه يعرف سلفا ولا يخدع نفسه، يعرف أن الحب وهو أخص علاقات الناس، شيء يوجهه غيرنا ويرتبونه لنا، من الماضي السحيق إلى الحاضر الراهن، الذي دخل في تخطيط بلدية المدينة! وكل هذا في صور متجاورة وإن كانت لا تجمع بينها علاقة الجوار، هدير خط الترام إلى جانب أزهار شقائق النعمان، أوراق أشجار الحوار إلى جوار بلدية المدينة، كأنما يريد الشاعر أن يضعف ويعترف، ثم لا يلبث أن يتراجع ويعمد إلى الخشونة والمرارة - يحمله على ذلك شكه وزهده وقلقه، وإن شئت حكمته الصينية، وفي النهاية يمنعه الحياء من الظهور بمظهر الشاعر الرومانتيكي المزهو بتعذيب نفسه وعرض جراحه!
هكذا تؤكد «قصيدة الحب» - إن كان من الممكن أن تظل محتفظة بهذا الاسم! - استحالة الاتصال بين الناس، والملل والآلية التي تهيمن على الحياة، وسخف العلاقات والتجارب الإنسانية من حب ولقاء وفراق.
وقريب من هذا العالم الذي عشنا فيه قليلا مع «آيش» نجد عالم «كارل كرولوف» الذي يميل إلى المزيد من التجريد والتجريب، ويكثر من الصور والاستعارات الغريبة على دنيا المنطق والواقع، ويحافظ على موسيقى اللغة وشفافيتها ونقائها، ولن يخفى عليك تأثره الواضح بشاعري الطبيعة الذين تحدثنا عنهما في الصفحات السابقة (ليركه وليمان) من ناحية، وبالسرياليين الفرنسيين وبعض الشعراء الإسبان المعاصرين - خصوصا البرتي وجين - الذين ترجم لهم جميعا، ولن يخفى عليك كذلك الاقتصاد في اللفظ إلى حد الاقتراب من الرموز الرياضية، والصور الرقيقة التي يلتقطها الشاعر كيفما اتفق، وإن كان يزيل بها الأوهام والصور التقليدية في لغة الحب، إلى جانب الحنان الغامر الذي يسري في القصيدة على لسان إنسان حرم الحنان والاتصال بالمحبوب، لنقرأ معا «قصيدة حب»:
بصوت خافت أكلمك،
هل ستسمعينني،
خلف الوجه العشبي المر،
صفحة غير معروفة