ضرورة الإتقان في العلوم الحياتية وغيرها
الدليل الثامن: ربنا ﷾ أمر بالإتقان في كل شيء، كما قال ﷺ: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، فكما أنك مأمور أن تتقن الذبح فمن المؤكد أنك مأمور أن تتقن العلم الذي أنت متخصص فيه، لا شك في ذلك، وكان ﷺ يحترم الذين يتصفون بالعلم احترامًا قد لا نفهمه إلا بعد فهم قيمة العلم في الإسلام.
فالرسول الله ﷺ ولى عمرو بن العاص ﵁ وأرضاه وهو حديث الإسلام على سرية فيها وجوه المهاجرين والأنصار، قد نستغرب ونقول: عمرو بن العاص ﵁ وأرضاه أسلم من خمسة شهور يتولى على سرية فيها مائتان من وجوه المهاجرين والأنصار، بل أتبع هذه السرية بمدد فيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ﵃ أجمعين فكانوا تحت إمرته، فاستغربت الناس هذه التولية وسألت الرسول ﵊، فقال: (إني لأولي الرجل وفي الجيش من هو خير منه؛ لأنه أبصر بالحرب).
ويقول ﷺ: (من تطبب وهو لا يعلم عن الطب فآذى نفسًا أو ما دونها فهو ضامن)، يعني: لو أن شخصًا اشتغل بمهنة الطب وهو ليس بطبيب أو لم يكن ماهرًا في هذا المجال الذي عمل به، كما -وللأسف الشديد- تجدون دكاترة في تخصص مختلف جدًا يعالجون أمراضًا أخرى في تخصص آخر، فعندهم عيب في حقه لما يقول: لا أعلم، بل يعالج، فلو عالج غير متخصص مريضًا فآذاه في نفسه أو ما دون ذلك فهو ضامن، يعني: يدفع له دية الشيء الذي أخطأه، سواء كانت في النفس أو في العضو الذي أصيب بالعلاج الخطأ هذا.
أما الطبيب الماهر فليس ضامنًا، يعني: الطبيب الماهر إن حصل منه خطأ ولم يكن هذا الخطأ عن إهمال ليس ضامنًا؛ لأنا لسنا مطالبين بأننا نعالج المرضى (١٠٠%)؛ لأن هناك أمراضًا لا يعلم شفاءها إلا الله ﷿، وهناك أخطاء مقبولة في حق الأطباء علميًا وموجودة في الكتب، لكن الأخطاء من غير الماهر أو من غير الطبيب المتخصص غير مقبولة بالمرة، قيل هذا الكلام من أكثر من (١٤٠٠) سنة.
انظروا إلى الدقة! وانظروا إلى حياته ﷺ كيف كانت ثرية بأسس العلم في كل الفروع!! عندما أصيب سعد بن معاذ ﵁ وأرضاه من الذي عالجه؟ عالجته رفيدة ﵂ وأرضاها وهذه امرأة، هذا الكلام لأخواتنا، هذه امرأة تعالج رجلًا وفي هذه البيئة، يعني: الآن قد نفهم الكلام قليلًا، لكن في الماضي صعب، فقد كانت هي الماهرة في هذا العلم، فقدم لها الرجل المريض لتعالجه ﵂ وأرضاها؛ لأنها كانت متمكنة من العلاج للجرحى.
كذلك قضية تأبير النخل فهي قضية في منتهى الأهمية، فالصحابة استشاروا الرسول ﵊ في تأبير النخل فأشار برأي ليس من آرائه الشرعية، بل رأي غلب على ظنه أنه يصلح، فقال رأيه في هذه القضية، فامتثل الصحابة لكلامه وهو مخالف لعلومهم، لكن هم توقعوا أن رأي الرسول ﵊ أفضل من رأيهم، فلم تنتج النخيل مثل ما كانت تنتج، وجاء التمر رديئًا، فذهبوا إليه فقال لهم كلمة رائعة ﷺ -وكل كلامه رائع ﷺ قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، يعني: أنا أقول وأبلغ عن ربي العلوم الشرعية، أما العلوم الحياتية فأنتم أعلم بها، لا بد أن تبدعوا فيها، استشرتموني ولست متخصصًا فيها وقلت رأيي، وأنتم أعلم بها مني، مع أنه من الرسول ﷺ.
هذا الكلام يحتاج إلى فقه، وهذا الفقه تحتاج إليه الأمة؛ حتى تتحرك بهذه الحماسة في هذه العلوم الحياتية إلى جوار العلوم الشرعية.
4 / 11