فقلت له: لست أراك في وحدتك هذه سعيدا.
فاندفع يجيبني متدفقا بالعبارة التي أسلفت بعضها: «لا، إني لا أريد أن أكون سعيدا ...»
وانتهزت لحظة قصيرة وقف فيها تياره الدافق، وقلت: هل لك أن تذكر لي ما حدث لك اليوم حتى أتعقب ثورتك هذه إلى أصولها؟ وسترى عندئذ أنها ثورة مؤقتة مرهونة بأسبابها، حتى إذا ما زالت الأسباب، عاد إلى النفس هدوءها وصفاؤها؛ فالأصل في الإنسان أن يكون هادئا ساكنا سعيدا، والشذوذ أن يضطرب ويشقى.
فقاطعني قائلا: هذا حديث شاعر يسبح في أحلامه الجميلة مغمض العينين، أولى لك أن تصيح بالرياح: أن اسكتي يا رياح حتى يهدأ البحر فلا يموج، أو أن تهتف بالشمس ساعة غروب جميل أن قفي يا شمس حتى لا يغيب عنا هذا الجمال ... إن مثيرات النفس قائمة لنا في كل خطوة من الطريق وفي كل منعطف بها؛ سر هنا فهنا ما يثيرك، وسر هناك فهناك ما يثيرك، ومل نحو اليمين أو مل نحو اليسار، تجد مثيرات النفس تتلقفك يمينا ويسارا، فماذا أنت صانع إذا أردت لنفسك الطمأنينة والهدوء؟ بل ارجع إلى دارك وغلق من دونك بابها ونوافذها كما تراني أفعل الآن، وستلاحقك المثيرات، حين تستعيد بالذاكرة ما رأيت وما سمعت، وحين تضيف إلى كل هذا الذي قد رأيته وسمعته جديدا من عندك تسر به إلى نفسك.
فسألته: ماذا تعني؟
فقال: ألم تلحظ في نفسك كيف تتوهم بخيالك أنك تتحدث إلى فلان أو علان، فيقول لك كذا فتقول له كيت، ويفعل كذا فتفعل كيت، وما تزالان - في خيالك - تتخاصمان بالقول وتتقاتلان بالفعل، حتى تنظر، فإذا أنت قد احتدمت في نفسك الثورة واشتد بك الغضب؟
فقلت: كأنما عداوات العالم الواقع لم تكفنا فنزيدها بخيالنا عداوة، وكأنما مثيرات الدنيا من حولنا لم تشبع نفوسنا، فألهبناها بأوهامنا حرارة وسعيرا.
فقال - وقد هدأ بعض الشيء - نعم ... لكن الخير كل الخير في أن تنكشف للناس هذه الخواطر الدفينة، حتى يعلموا حقائق نفوسهم وما يدور فيها، إنك قد تقاتل خصمك في خيالك قتالا ينتهي بك فعلا إلى غضبة حقيقية تندفع معها إلى الأخذ بالانتقام والثأر ... أليس جديرا بالناس أحيانا أن يضعوا نفوسهم عارية أمامهم لا يحجب مكنونها حجاب، فلعل ذلك يفتح أعينهم على حقائق يجهلونها فيحورون من سلوكهم بعضهم إزاء بعض بما قد يحد من هذه الضغائن والسخائم التي يكتمونها في أنفسهم كارهين.
وصمت صديقي قليلا ثم قال: ولماذا لا أبدأ بنفسي؟ هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية كما وجدتها طوال ساعات العصر - لن أستحي من مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثا، فكل الناس هذا الخبيث - لكنه الرياء يستر ويخفي ...
رأيت ظهر اليوم طفلا أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلف طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنها فوق بلاط الإفريز دورانا شديدا، لكن الطفل يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعذبة سوطه ضربا متلاحقا، حتى تدور ولا تكف عن الدوران. وعدت إلى هنا، فما هو إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة، إذ صورت لنفسي فلانا وقد قذف بي على الأرض قذف الطفل لنحلته، وراح يلهبني بعذبات سياطه حتى أدور ولا أكف عن الدوران لنفعه هو ومتعته، ولا عليه أن أدوخ وأتعب.
صفحة غير معروفة