وكأن «البائعة» لم تصدق قول «زبونها» فراحت - قبل أن تجمع له «البضاعة» - تدعو له ولأولاده بطول البقاء، ناظرة إلى السماء، باسطة كفيها النحيلتين المعروقتين المرتعشتين.
فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشا كاملا ثمن حلواها - وحقها سبعة مليمات - لا تنسي يا أمي أن تطلبي من رب السماء رحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق قمة الجبل، لقد رأيتهم هناك بعيني رأسي، يتحمسون لك ولا يدخرون من وسعهم وسعا، فقد كانوا يتجادلون في نوع الإصلاح الدستوري الذي يستوردونه لك من فرنسا وبلجيكا، وكانوا يتناقشون في هل يخلق الفنان فنه لنفسه أو يصوغه ويوجهه إليك، ورأيتهم يبحثون كيف يهيئون لك مصيفا تستمعين فيه بهواء عليل حين تشتد الحرارة هنا في يوليو وأغسطس ...
فرفعت المرأة عينيها مرة أخرى نحو السماء، وبسطت كفيها، وقالت: «يا رب بارك لنا فيهم أجمعين.»
نفس عارية1
«لا، إني لا أريد أن أكون سعيدا، لا أريد اطمئنان النفس وراحة البال، وإني لأسعى دءوبا إلى الشقاء والعناء والتعب، وأبحث عن أسباب البؤس والنكد؛ كذب كله هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل عن طلب الإنسان لسعادة نفسه، إنهم لا يعلمون عن النفس الإنسانية شيئا أولئك الذين يحسبون الناس جادين في طلب السعادة وراحة البال، ويظنونهم جادين حقا في التماس الرفاهية والخير.
إني أريد لنفسي الألم، وأريده للناس؛ أريد لها ولهم أن يتعذبوا، ومنافق أنا مع سائر المنافقين حين أدعي بهتانا وزورا أنني كاره حقا للألم ينزل بي، وبالناس، ويشتملني ويشتملهم جسدا وروحا ... إنني لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي رأيته مرة يبكي على لعبة أفسدتها له أخته، فجاءت أمه تمسح له الدموع عن عينيه، وترضيه بحلو كلامها، فقال لها وهو يدفعها عنه بيديه الصغيرتين غاضبا: عني لا تمسحي دموعي؛ لأنني أريد أن أبكي ولا أستطيع البكاء بغير دموع ... لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي أصاب من حقيقة النفس الإنسانية بفطرته الشفافة، ما لم يصبه أصحاب الكتب والمواعظ الذين قد راءوا حتى أفسدهم الرياء، ونافقوا حتى أنساهم النفاق أنهم منافقون. إن الإنسان يريد أن يتألم ويبكي، ويبحث في الخفاء عما يثير فيه ذلك الألم وهذا البكاء، وكذب كله هذا الذي يقولونه ويكتبونه من أن الإنسان ينشد لنفسه وللناس راحة وطمأنينة وسعادة.
أنظر إلى هذه القطعة من الحلوى، قد وضعت لي على المائدة منذ أمس، وهممت أن آكلها مرات عدة في غضون النهار، ثم أمسكت لأنني آثرت لنفسي الحرمان ...»
بمثل هذه الدفعة العجيبة راح صديقي يحدثني عندما زرته فوجدته في داره وحيدا، فلا أمه هناك ولا خادمته، وكانت الدار مغلقة النوافذ، والضوء فيها قبيل الغروب خافتا بين الظلام والنور.
فتح لي الباب ولم يفرح للقائي كعادته؛ لأنه - فيما بدا لي - قد كان يريد الوحدة، بل لم يكفه أن يكون في الدار وحيدا، فانتبذ من داره هذه الخالية ركنا أبعد ما تكون أرجاؤها عن مصادر الضوء والصوت، كان في مستطاعه أن يضيء المصباح وأن يدير المذياع، لكنه لم يفعل.
وجلست إلى جواره فيما هو أشبه بظلام الليل منه إلى ضوء النهار، لا أجرؤ على إضاءة هذا المصباح لأني ضيفه، وليس للضيف أن يغير من أوضاع الدار التي تضيفه، أو أن يلاحظ عليها شيئا إلا أن يكون استحسانا ومدحا. وظل هو إلى جانبي صامتا يفرك يديه، ويطقطق أصابعه، ولم يمنعني خفوت الضوء من رؤية شفتيه الراجفتين وعينيه البارقتين وأطرافه المختلجة.
صفحة غير معروفة