الْحَد نُقْصَان من الْمَحْدُود، وَأَيْنَ هَذَا الشّرف؟ إِذْ لَا يدْرك بالأماني، وَلَا ينَال بالتهاون والتواني. وَقد يسر الله ذَلِك لأسلافنا الْكِرَام، صُدُور الْأَنَام وبدور الْأَيَّام، حَتَّى صرفُوا جهدهمْ واجتهادهم، وبذلوا أعمارهم وأعصارهم، فبلغوا قاصية الْمَقَاصِد، وملكوا نَاصِيَة المراصد، فألفوا وأجادوا، وصنفوا وأفادوا، فَبَقيَ لَهُم الذّكر الْبَهِي، على مر الدهور وَالْأَيَّام، وَالشُّكْر السّني على كرّ الشُّهُور والأعوام؛ نور الله ضريحهم، وَغفر كنايتهم وصريحهم.
وَلما وفقني الله الْجَمِيل، لهَذَا الْمطلب الْجَلِيل، أدرت أَن أنخرط فِي سلكهم، وأعقد مَعَهم الخناصر، قبل أَن تبلى السرائر وتفنى العناصر، وأكون بِخِدْمَة الْعلم موسوعا، وَفِي حَملته منظوما، وَفِي رياضه راتعا، وَفِي أفقه طالعا، وأستنير فِي ظلم الزَّمَان بِهَذَا الْمِصْبَاح، وأطير فِي دَرك النجاح بِهَذَا الْجنَاح.
لكني كنت فِي عصر عضت فِيهِ أَبنَاء الْعلم نَوَائِب الزَّمن، ونشبت فيهم مخالب المحن، وخصتني من بَينهم بأصعب أَمر وخيم، ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم.
وَلَوْلَا أَن منّ الله سُبْحَانَهُ علينا فِي هَذَا الزَّمَان بِمن أعنه عنايته معطوفة على تربية أهل الْعرْفَان، وأزمة عاطفته مصروفة إِلَى إسعاف مطَالب الْعلمَاء، كُنَّا فِي زَاوِيَة الخمول وبادية الأفول هباء. وَهُوَ الْوَزير الأكرم والدستور الأفخم، الملكي النسم، الْقُدسِي الشيم، الأصدق الأحق الأوفر. الأعدل الأجمل الأوقر سمي النَّبِي الأوفى فِي عَالم الْإِنْشَاء، مصطفى باشا يسر الله لَهُ مَا يَشَاء، وَمَا زَالَت قُلُوب عنيده أكنة أسنة عبيده. وَهُوَ نظام المفاخر والمآثر. غوث الشاكي وغيث الشاكر؛ إِن لفظ فالإصابة تقدم لفظته. وَإِن لحظ فالإجابة تخْدم لحظته؛ تشْتَمل أردية عواطفه مناكب الْآفَاق. وتمتلي من أَوديَة عوارفه مطامح الأحداق. جلب الْقُلُوب فَصَارَ ظَاهرهَا فِي كل بَاطِن، وحنت إِلَيْهِ الْجَوَارِح فحركت كل سَاكن؛ بل ملك الدَّهْر فامتطى لياليه أداهم. وقلد بيض أَيَّامه صوارم؛ ووهب أقماره دَنَانِير ودراهم. وَجعل أوقاته ولائم؛ ينحني الْهلَال لتقبيل أقدامه، ويمتد كف الثريا لاستحداب صوب غمامه. ويتضاءل كل مِنْهُمَا فَيصير هَذَا غرَّة فرسه وَهَذَا حلية لجامه. وَلما تنبه الدَّهْر لمحاسنه وتيقظ. بَعْدَمَا تحرى وتحقد وَتحفظ. كَاد من الخجل يضيق صَدره وَلَا ينْطَلق لِسَانه. حَتَّى عرق بالندى جبين النسيم. والورد قد احمر مِنْهُ وَجهه الوسيم؛ وابتل جنَاح الْهَوَاء. واغرورقت مقلة
1 / 16