100

كفاح طيبة

تصانيف

23

وتقدم الجيش في زحفه العظيم لا يجد مقاومة ولا أثرا للعدو، يستقبله أهل القرى والبلدان ذاهلين من الفرح لا يصدقون أن الآلهة رفعت عنهم غضبا بعد ذل قرنين من الزمان، وأن الذي يفتح بلدانهم ويطرد عنها عدوهم ملك منهم يبعث مجد الفراعين من جديد. ووجد أحمس أن الرعاة قد فروا عن المدن تاركين قصورهم وضياعهم، حاملين ما وسعهم حمله من متاعهم وأموالهم؛ وسمع في كل مكان طرقه أن أبوفيس مجد في الهرب بجيشه وقومه إلى الشمال، وهكذا استرد الملك في شهر من الزمان: هبسيل، وليكوبوليس، وكوسي، ثم بلغ أخيرا هرموبوليس، وكان لدخولهم فيها وقع عظيم في نفس أحمس وجنوده، لأن هرموبوليس مسقط رأس الأم المقدسة توتيشيري، وكانت ولادتها قبل عهد الاحتلال في بيتها العتيد، فاحتفل أحمس بتحريرها، واشترك في الاحتفال العظيم رجال الحاشية وقواد البر والبحر والجنود جميعا، ثم كتب الملك إلى جدته رسالة يهنئها باستقلال وطنها الأول هرموبوليس، ويضمنها عواطفه وعواطف جنده وشعبه، وقد أمضاها الملك والقواد والحاشية وكبار الضباط.

ثم تقدم الجيش في زحفه المظفر؛ فدخل تتنوى وسينوبوليس وهبنن ثم أرسنوي، وانحدر بين الأهرام في طريق منف العظيمة غير عابئ بمشاق السفر وطول الطريق، وكان أحمس في أثناء ذلك يحطم الأغلال التي يرسف فيها شعبه البائس، وينفخ فيه من روحه الكبيرة حياة جديدة، حتى قال له حور يوما: إن عظمتك الحربية يا مولاي لا يضارعها شيء في الوجود سوى مقدرتك السياسية وحنكتك الإدارية، لقد غيرت معالم البلدان فمحوت أنظمة وأنشأت أنظمة، ورسمت السبل التي ينبغي انتهاجها والسنن التي يجب اتباعها، ووليت الحكام الوطنيين، فدبت الحياة مرة أخرى في شرايين الوادي، وشاهد الناس أول مرة منذ عهد غابر حكاما مصريين وقضاة مصريين، فارتفعت الرءوس المنكسة، ولم يعد الرجل يعيا بسمرته ويعير بها ، بل صارت موئله ومفخرته .. ألا فليحفظك الرب آمون يا حفيد سيكننرع.

كان الملك يعمل مخلصا مجاهدا لا يعرف اليأس ولا التعب، وكانت غايته التي لا يتحول عنها أن يرد إلى قومه الذين اهتصرهم الذل والجوع والفقر والجهل العزة والشبع والرغد والعلم.

على أن قلبه لم ينج على كده وانهماكه من همومه الخاصة، فعناه الهوى وأعيته الكبرياء، وكان كثيرا ما يضرب الأرض بقدمه ويقول لنفسه: «لقد خدعت .. وما هي إلا امرأة بلا قلب»، وكان يرجو من العمل أن يغمره بالنسيان والعزاء، ولكنه وجد روحه تسري بالرغم منه إلى السفينة التي يعابثها الموج في مؤخرة أسطوله.

24

واطرد زحف الجيش ومضى يدنو من منف الخالدة ذات الذكريات المجيدة، وأخذت تلوح له أسوارها البيض السامقة؛ فظن أحمس أن الرعاة سيدافعون عن عاصمة ملكهم دفاع المستميت. ولكنه أخطأ ظنه ودخلت طلائعه المدينة في سلام، وعلم أن أبوفيس تقهقر بجيشه نحو الشمال الشرقي؛ فدخل أحمس طيبة الشمال في حفل لم يشهد له مثيلا من قبل، واستقبله الأهلون استقبالا حماسيا مهيبا، وسجدوا له ودعوه ابن منفتاح، ومكث الملك في منف عدة أيام زار ربوعها وشاهد أسواقها وأحياءها الصناعية، وطاف بالأهرام الثلاثة، وصلى في معبد أبي الهول، وقدم القرابين، فلم يكن سرور يعادل سرورهم بفتح منف إلا استرداد طيبة، وكان أحمس يعجب كيف لا يدافع الرعاة عن منف، فقال له القائد محب: لن يتعرضوا مختارين لبأس عجلاتنا بعد ما بلوها في هيراكونبوليس وأفروديتوبوليس.

وقال الحاجب حور بثقة: إن السفن لا تفتأ تأتي إلينا محملة بالعجلات والجياد من مقاطعات الجنوب، وليس أمام أبوفيس إلا الاهتمام بأسوار هواريس.

وتشاوروا جميعا في الوجهة التي يولونها بعد أن انبسطت رقعة الغزو أمامهم، فقال القائد ديب: لا شك أن العدو جلا عن الشمال كله وانحصر في الشرق وراء أسوار هواريس، فينبغي أن نقصد إليه بقواتنا كاملة.

على أن أحمس كان شديد الحذر؛ فأرسل جيشا صغيرا إلى الغرب عن طريق لنوبوليس، وسير آخر شمالا في اتجاه أتريبس، وسار بقواته الرئيسية وأسطوله العظيم شرقا في طريق أون، وانطوت الأيام وهم يضربون في الأرض تدفعهم الحماسة والأمل أن يضربوا الضربة الأخيرة بحماسة، ويكللوا كفاحهم الطويل بالنصر الحاسم، ودخلوا أون مدينة رع الخالدة ثم فاكوسة ثم فربيتص وضربوا في الطريق المؤدية إلى هواريس، وكانت أخبار أبوفيس تترامى إليهم فعلموا أن الرعاة ارتدوا من جميع الجهات إلى هواريس يسوقون آلافا من البائسين، وقد أحدثت هذه الأخبار في نفس الملك حزنا شديدا، ورق لحال أولئك الأسرى المستذلين الذين سقطوا في قبضة الرعاة القاسية.

صفحة غير معروفة